أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أنور نجم الدين - التناقض بين المادية التاريخية و الفلسفة الماركسية - 1- الماركسية: مادية القرن السابع عشر!















المزيد.....


التناقض بين المادية التاريخية و الفلسفة الماركسية - 1- الماركسية: مادية القرن السابع عشر!


أنور نجم الدين

الحوار المتمدن-العدد: 2715 - 2009 / 7 / 22 - 06:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مدخل:

إنّ ((الإنجليز والفرنسيون قد قاموا بالمحاولات الأولى من أجل إعطاء كتابة التاريخ أساساً مادياً، و ذلك حين كانوا السباقين إلى كتابة تواريخ المجتمع المدني، والتجارة، والصناعة - كارل ماركس)).

و هكذا، إنَّ الأبحاث التاريخية والاقتصادية، هي حجر الأساس للمادية التاريخية، تماماً كما أنَّ الأبحاث الفيزيائية، هي حجر الأساس للمادية الطبيعية. وبقدر ما هو مستحيل أن ننسب العلوم الطبيعية إلى شخص واحد في التاريخ، بقدر ما هو مستحيل أن ننسب المادية التاريخية إلى شخص كارل ماركس، رغم إسهامه الكبير في تطوير المنهج المادي للتاريخ.

ويجب القول إنَّ المادية التاريخية، هي طريقة أو منهج لتفسير العالم، وليس مخطط فلسفي لتغير المجتمع، و((إنَّها لا تقدم في حال من الأحوال، مثل الفلسفة، وصفة أو مخططاً يمكن وفقاً له تكييف العصور التأريخية – كارل ماركس)).

أمَّا إذا أردنا أنْ نحدد التناقض بين المادية التاريخية والفلسفة الماركسية، فعلينا أنْ ننظر إلى هذه الفلسفة من خلال صلتها التاريخية بالفلسفة على العموم، وتبعيتها للنظام الفلسفي الألماني على الأخص من جهة، وإلى التناقض الكلي بين منهجي المادية التاريخية والفلسفة من جهة أخرى، وهذا هو بالتحديد غرض هذه الدراسة.

1- الماركسية: مادية القرن السابع عشر!

لابد من الإشارة أولاً إلى أنَّ مبشر الفلسفة الماركسية، هو الأممية الثانية، لذلك ليس من المستغرب ان نرى منذ الوهلة الاولى بان الماركسية خليط من المذاهب السياسية، والأيديولوجية المختلفة لهذه الأممية. ومع ذلك، يمكننا القول بأنَّ موطن الماركسية في شكلها الحديث، هو روسيا التي كانت ما تزال تفتقر إلى القدرة على التصور المادي للتاريخ إلاَّ بالمعنى الفيورباخي، وهذا على العكس من المادية التاريخية، التي تعود جذورها إلى أوروبا الصناعية، التي كانت تقدم المواد الوافية لإجراء العمل التجريبي التاريخي، وأول اختلاف بين هذين المنهجين للعالم المادي، يتمثل في طريقة البحث في الأشياء، فالمادية التاريخية طريقة تبحث الأشياء ما وراء العالم العيني، بينما الفلسفة الماركسية تنطلق دائماً من المادية العينية في تفسير الأشياء، فالأولى، أي المادية التاريخية، تبحث المجتمع البشري خلال النظر إلى الحركة المتصلة للتاريخ الإنساني من حيث هو حصيلة تطور التجارة، والصناعة، والمبادلة العالمية، بينما الثانية، أي الفلسفة الماركسية، لا تتحقق من الأشياء بناءاً على شكل الماديين العينيين، أو التجريبيين التجريديين فقط، وإنَّما تنظر إليها بالمنظار الفلسفي الذي يؤمن بهيمنة الأفكار على العالم أيضا. وإذا اقتربنا من جوهر الفلسفة الماركسية، نرى أنَّها خليط من الفلسفة الإغريقية القديمة، والفلسفة الهيغلية الألمانية، وطفولة المادية التاريخية، أما جذورها الأصلية فتعود بالتحديد إلى مادية القرن السابع عشر، فمادية الماركسية في كمال تطورها إلى التاريخ، ترجع إلى المادية الميكانيكية التي تندمج في آخر تحليل مع العلوم الطبيعية، وبالأخص مع مدرسة نيوتن الفيزيائية، ومادية ديكارت، و سبينوزا (الذرة، والحواس، والمغنطيس). وكما هو معلوم، فقد كانت المادية الفرنسية على الأخص، ترتبط برابطة وثيقة مع المادية الإغريقية القديمة، تماماً كما كانَ المنهج الفلسفي الهيغلي، يشتق روحه الدياليكتيكي من الفلسفة الإغريقية القديمة. ولكن الدياليكتيك الهيغلي في علاقته بعصر المادية الميكانيكية، كان ينخرط شيئاً فشيئاً في التناقض مع ميتافيزياء القرن السابع عشر، الأمر الذي كان يقرب دياليكتيك هيغل من المادية الميكانيكية. وفي واقع الأمر، فإنَّ تعارض الفلسفة الماركسية مع الميتافيزياء بالذات، تعبر عن هذا الاندماج التاريخي بين المادية االميكانيكية، ودياليكتيك هيغل، بالإضافة إلى تأمل فيورباخ الدنيوي الذي حل محل التأمل اللاهوتي والفلسفة التأملية، حيث أنَّ فيورباخ بقي أسيراً للتأملات الفلسفية على الدوام، أو بالأصح لم ينقطع قط عن الفلسفة.

((إنَّ تصور العالم الحسي لدى فيورباخ يقتصر، من جهة واحدة على مجرد تأمل هذا العالم، ومن جهة أخرى على العاطفة المجردة. إنَّه يقول (الإنسان) بدلاً من أن يقول (البشر التاريخيين الفعليين) .. إنَّه ملزم بالالتجاء إلى أسلوب مزدوج في النظر، ، فهو يتأرجح بين اسلوب في النظر عامي لا يدرك إلاَّ (ما هو مرئي بالعيون المجردة) وأسلوب في النظر أرفع، فلسفي .. و لا تقوم خطيئة فيورباخ في انه يخضع ما هو مرئي بالعين المجردة، المظهر الحسي، للواقع الحسي المقرر بفضل دراسة أعمق للأوضاع المشخصة، بل تقوم على العكس من ذلك، في انه لا يستطيع في آخر تحليل ان يتغلب على المادية دون ان يعتبرها (بالعينيين)، يعني من خلال (منظار) الفيلسوف - كارل ماركس)).

وهكذا، نرى أنَّ الاختلاف بين النظرة المادية للتاريخ والفلسفة المعاصرة عامة، بما فيها فلسفة فيورباخ، ثمَّ الفلسفة الماركسية التي اشتقت أهم عناصرها من هذه الأخيرة، هو بالضبط اختلاف بين العيون التجريبية لفيزيائي، وعيوننا المجردة في النظر إلى العالم الطبيعي، هذا إذا ما تركنا جانباً العالم الميتافيزيائي الذي قدمت الفلسفة خلاله أول تخيلها عنه، فالتاريخ المادي ليس فقط الصناعة، والتجارة، والزراعة، والمنتجات، والتبادل، أو الأشياء التي لا علاقة لها ببعضها البعض، بل هو العلاقات العالمية، المتشابكة لهذه الأشياء، لذا من المستحيل حتى، فهم العالم الحسي كما هو موجود في الواقع، دون النزول إلى التداخل المادي لهذه الأشياء التاريخية، فالسمة المميزة للفلسفة الماركسية، هي هذه العينية التي تتميز بها فلسفة فيورباخ على الأخص. وإذا ما بدأنا من بليخانوف (1856 - 1918) مؤسس الفلسفة الماركسية الروسية، نجد أنَّ الماركسية ليست سوى سبينوزية - فيورباخية، أمَّا إذا بدأنا من لينين (1870 - 1924) تلميذ بليخانوف ومطبق الماركسية القومية الروسية، فنجد أنَّ الماركسية هي الفيورباخية - الهيغلية للعصر الحديث، وعلى حد تعبير لينين، فكتابات بليخانوف، وعلى الأخص (الماركسية: قضايا أساسية) هي أفضل شرح لفلسفة الماركسية. وهكذا، وفي كلتا الحالتين، تعود جذور الفلسفة الماركسية ومختلف مذاهبها المعروفة اليوم بالماركسية، والماركسية – اللينينية، والتروتسكية، إلى بليخانوف ليس بوصفه أول ماركسي في تاريخ روسيا فحسب، بل وبوصفه أول مادي في تاريخ روسيا حتى بالمعنى الفرنسي أيضاً، ويقول هذا العملاق الماركسي:

((الماركسية فلسفة شاملة. إنَّها بإيجاز، المادية المعاصرة التي تمثل حالياً أرقى درجات تطور تلك النظرة إلى العالم، والتي كانت أسسها قد أرسيت في اليونان القديمة من قبل ديموكريتس، وجزئياً من قبل المفكريين الأيونيين))، ((فهو يرينا، أي ماركس وإنجلس، وهما يخطوان خطوات هامة في مواصلة تطوير فلسفة فورباخ))، ((ومن بين الأسباب الرئيسية، ما نراه اليوم من ضيق رقعة الانتشار أولا: معرفة فلسفة هيغل التي يصعب بدونها استيعاب منهج ماركس – بليخانوف)).

هذه هي طفولة الفلسفة الماركسية، الفلسفة التي نعرفها اليوم باعتبارها فلسفة حديثة ليس لتفسير العالم، بل لتغييره، حسب الماركسيين، فالماركسية ظهرت منذ نشأتها كأيديولوجية فلسفية، وهذا على العكس من المادية التاريخية التي نشأت على أنقاض الأيديولوجية الفلسفية، وكلِّ الفلسفة و الفلاسفة من أبيقور إلى فيورباخ.

وهكذا، وكما نرى فإنَّ شجرة نسب الفلسفة الماركسية تعود إلى الألمان، بينما تعود الجذور التاريخية للمادية التاريخية، إلى الإنجليز بالتحديد، فعدما قام الألمان بتصوير العالم من خلال الذهن الفلسفي الألماني، قام الإنجليز بمحاولاتهم الأولى من أجل تصوير العالم كما هو موجود، وهذا من خلال إعطاء كتابة التاريخ أساساً مادياً.

إنَّ الفلسفة تأتي على أنقاض الميثولوجيا، ولكنَّها لا تتخطى التأمل حتى في كمال تصورها للتاريخ (فيورباخ مثلاً). وإذا كان المصدر التأملي للفلسفة هو العالم القديم، ثمَّ أول تقسيم للعمل الجسدي والعمل الذهني، فالمصدر التجريبي للمادية التاريخية، هو العالم الصناعي الحديث، والذي يستمد العلم مضمونه منه، وطريقته التجريبية في تحري الأشياء.

((كما أنَّ الشعوب القديمة عاشت ما قبل تاريخها في تخيلات في المثيولوجيا، فكذلك نحن الألمان عشنا تاريخنا المقبل في الفكر، في الفلسفة – كارل ماركس)).

وبما أنَّ الفلسفة لها شروط وجودها التأريخية الخاصة، فإنَّنا نجدها محقة في تكوين الأوهام عن العالم ليس في شروط وجودها المحلية فقط، بل و حتى في استعارة التأملات الفلسفية من الأمم الأخرى أيضاً، وباعتبارها مسألة حق بالنسبة لواقعها الحسي (هيغل من افلاطون، وبليخانوف من فيورباخ). ولكن تجب الإشارة إلى أنَّ الفلسفة القديمة قد ظهرت إبان انحلال عالم الميثولوجيا، أمَّا الفلسفة الماركسية، فقد ظهرت إبان اكتمال العالم الحديث، رغم أنَّها لم تجد بذورها في روسيا بالمعنى الفرنسي حتى، فالمخيلة الفلسفية الروسية تغوص دون جدوى إلى أعماق الفلسفة الأوروبية، ولكن لا تجد بذورها إلاَّ في فرنسا القرن السابع عشر، وألمانيا القرن التاسع عشر، أي البلد الذي افتقر كلياً إلى المواد التاريخية، من أجل إعطاء كتابة التاريخ أساساً مادياً، كما يقول كارل ماركس.

إنَّ الأيديولوجية الفلسفية ترى أنَّ العالم تسوده الأفكار، والأفكار والمفاهيم هي المبادئ المقررة، والأفكار المقررة هي لغز العالم المادي الذي هو في متناول الفلاسفة. هكذا انتقد ماديِّ القرن التاسع عشر، العالم الخيالي الذي ينتسب إليه الفيلسوف (محب الحكمةPhilosopher )، العالم الذي تستطيع فيه الفلاسفة التحرر من كلِّ قيود العالم المادي، والانصراف إلى تكوين النظريات و المذاهب الفلسفية المختلفة عن العالم بما يفوق التصورات المادية عن التاريخ، وكأنَّهم ليس لهم أساس أرضي لتخيلاتهم الفلسفية، أو كما ينتقد ماركس الألمان: كأنَّه لم يكن لهم قط أساس أرضي من أجل التاريخ، التاريخ الذي لا يدرس ولا يعالج إلاَّ في علاقته بالصناعة والمبادلة، ((بيد أنَّه من المحال في ألمانيا كتابة مثل هذا التاريخ، لأنَّ الألمان لا يفتقرون إلى القدرة على تصوره، وإلى المواد فحسب، بل يفتقرون أيضاً إلى (اليقين الحسي)، ذلك أنَّه لا يمكن إجراء التجارب على هذه الأمور من الجانب الآخر من الراين - كارل ماركس)).

لم تكن محاولات الماركسيين الروس أحسنَ من محاولات الألمان في إعطاء كتابة التاريخ أساساً ماديا إلاَّ قليلاَّ، ولم تقدم الحياة الواقعية في روسيا بذرة المادية، إلاَّ على صورة شبحية لسبينوزا، أي مادية القرن السابع عشر، وأول مادي نعرفه في تاريخ روسيا هو بليخانوف، الذي لم يتبع المادية إلاَّ باعتبارها سلسلة من الأفكار و المفاهيم تبدأ من اليونان القديمة وتنتهي في ألمانيا. ولم يدرك الماركسيون الروس قط الفرق بين (الفلسفة) و(المادية) ولا بين (العلم) و(المادية التاريخية)، لذلك ليس من المستغرب أن يحول الماركسيون المادية إلى فلسفة، وماركس إلى فيلسوف، والشيوعية (المشاعة – الكومونة) إلى علم أو تعاليم كارل ماركس، وأن يعبر عن المادية على الشكل التالي:

((لقد دافع ماركس وإنجلس بكل حزم عن المادية الفلسفية، وبيّنا مراراً عديدة ما في جميع الانحرافات عن هذا الأساس من أخطاء عميقة، ووجهات نظرهم معروضة بأكثر ما يكون من الوضوح والتفصيل في مؤلفي أنجلس: (لودفيغ فورباخ) و (دحض دوهرينغ) وهما على غرار (البيان الشيوعي) الكتابان المفضلان لدى كلِّ عاملٍ واعٍ، ولكن ماركس لم يتوقف عند مادية القرن الثامن عشر، بل دفع الفلسفة خطوات إلى الأمام، فأغناها بمكتسبات الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ولاسيما بمكتسبات مذهب هيغل، الذي قاد بدوره إلى مادية فيورباخ – لينين)).

كما نرى هنا، فإنَّ ماركسية لينين هي نسخة مطابقة لماركسية بليخانوف، هذا العملاق الذي أنشأ مدرسة فلسفية خاصة بروسيا، لكن على عكس لينين و بليخانوف، والعكس هنا هو الصحيح، فالمادية التاريخية لم تصل إلى حد النضج في تصوراتها عن العالم المادي، دون دحض مسبق للفلسفة الألمانية بالذات، وفي شخص ممثليها هيغل وفيورباخ على الأخص. ويستعير لينين فكرته عمَّا يسمى بالمادية الفلسفية من بليخانوف بالذات. ولكن هل هناك في الواقع شيءٌ يُسمى المادية الفلسفية؟ إنَّ المادية التاريخية قد ظهرت في الأساس لتدحض أطروحات فلسفية عن التاريخ البشري، وفي أعماله، أسهم كارل ماركس بعمق في دحض الفلسفة والعالم الذي يتصوره الفلاسفة من خلال تأملاتهم الفلسفية، فلا المادية فلسفة ولا كارل ماركس فيلسوف. ))إنَّ الأفكار والصور والمفاهيم، وفقاً للنظام الهيغلي، قد أنتجت، وقررت، وسادت حياة البشر الواقعية، وعالمهم المادي، وعلاقتهم الفعلية – كارل ماركس)). أمَّا المادية التاريخية، فتبحث التاريخ بطريقة مادية وليست فلسفية، أي خيالية.

وهكذا، نرى أنَّ الفلسفة الماركسية، لا تعبر سوى عن الأوهام الفلسفية الروسية الخاصة عن التاريخ، وفي أحسن الأحوال، فالماركسية الروسية، هي مادية محاطة بالأوهام القومية الروسية على الأخص. لذلك سيكون من المستحيل في الواقع التجريبي حتى، التمييز بين المادية الطبيعية والمادية التاريخية، فماركسية بليخانوف تبحث في الأساس العلاقة بين (الفكر والوجود) بدل التاريخ، وهذا نظراً لنقص المواد التاريخية في روسيا، لتجارب مثل هذه الأمور، لذلك وكأي فلسفة أخرى، بقيت الفلسفة الماركسية، أسيرةً للأوهام الأيديولوجية:

((إنَّ أحدث اكتشافات العلوم الطبيعية، كالراديوم، والإلكترونات، وتحوّل العناصر- قد أثبتت بشكل رائع صحة مادية ماركس الديالكتيكية – لينين)).

ولا يعبر هذا التفهم للمادية التاريخية، سوى عن العالم الطبيعي الذي لا ينعكس في الدماغ الفلسفي إلاَّ في صورته المرئية، العالم الذي يفتقر بالفعل إلى التصور المادي عن التاريخ، فالمادية التاريخية، لا تشغل البال بالذرة، والحواس، والمغناطيس، وأصل الأنواع، والفكر، والمادة، بل بالطريقة التي تعتمد عليها هذه العلوم التجريبية، أو كما يقول كارل ماركس، إنَّ التصور بأنَّ المادة هي اللب والمضمون الفعلي لنظرة الماديين إلى العالم، خطأ من الأساس. و أنَّ الاختلاف الفعلي بين المادية التاريخية والعلم، يتجسد في كون العلم بحكم طبيعته، مضطر إلى تجريد الأشياء في أعماله التجريبية، الأمر الذي يعتبر أساس الماديين التجريبيين التجريديين (المادية العينية) التي تنتمي إليها الفلسفة الماركسية بمختلف مذاهبها: الماركسية، والماركسية – اللينينية، والتروتسكية، والماوية. أمَّا المادية التاريخية، فتبحث العلاقة بين البشر وتاريخهم العالمي كشرط مسبق لكل نشاطات الفرد التجريبية، وترى المادية التاريخية:

((أنَّ وجود البشر التجريبي الفعلي يجري على صعيد التاريخ العالمي بدلاً من أن يجري على صعيد الحياة المحلية – كارل ماركس))، فالتاريخ العالمي، هو الأساس التجريبي المشخص لنظرة الماديين إلى كلِّ ما يحيط بالأفراد من ظواهر: الإنتاج كالمبادلة، ورأس المال كالعمل، والمنافسة العالمية، وتقسيم العمل العالمي، البروليتاريا والشيوعية، والأفكار والأيديولوجيا، إلخ...

أمَّا الفلسفة الماركسية، فتلخص تصوراتها عن التاريخ من خلال ما تشاهده العيون المجردة، وهذا هو بالتحديد الأساس الفعلي لكلِّ الثقافة السائدة في المجتمع المعاصر، أي الثقافة البرجوازية بالتحديد، فهذه الثقافة هي ثقافة سياسية سطحية ناتجة عن الحركة اليومية المتصاعدة للرأسمالية نفسها (الاستعمار، والاستقلالية الوطنية، والعولمة، وبرنامج الحد الأدنى، إلخ...)، وفي نفس الوقت، تجابه هذه الثقافة، التخلف بالمدنية، والاحتكار بالوطنية، والدكتاتورية بالديمقراطية، والفساد بالأخلاق، إلخ... علمً بأنَّ المدنية، والوطنية، والديمقراطية، تشكلُ البؤرة الواقعية لجميع التناقضات الإنسانية، وتنافس الأمم فيما بينها على مسرح التاريخ العالمي.
وقد حاولت الفلسفة الماركسية – اللينينية على الأخص، تقديم هذه الأفكار، في صورة ضبابية عن العالم الواقعي، لذلك ليس من المستغرب أن تخيب كلُّ آمال الماركسيين المعاصرين أنفسهم، بصدد إنهاء علاقات العبودية المأجورة، هذا ومادامت الفلسفة الماركسية، تفسد كلَّ يوم مرة، تقديرات الماركسيين بخصوص نهاية تاريخ الرأسمالية، لأَّنَّ هذه الفلسفة وككلِّ الفلسفة، تضع أفكاراً فلسفية محل التصور المادي عن العالم القائم، والشروط الواقعية لإنهائها، فالفلسفة الماركسية، تضع في الأخير، إنتاج الفلسفة عن العالم، بدل الإنتاج الفكري الناتج عن العمل التجريبي، أو التاريخ الفعلي. لذلك فالماركسيون، يحلون دائماً التحرر الفلسفي (الخيالي)، محل التحرر المادي (الواقعي). ولكن ((التحرير فعل تأريخي و ليس فعلاً ذهنياً، وهو يتحقق بفضل شروط تأريخية .. ان هذه التطورات الخاصة بالافكار، هذه الحقارات المؤمثلة و العاجزة، تحل مكان التطورات التأريخية الغائبة – كارل ماركس)).

الخلاصة:

ليست الماركسية سوى خليط من الفلسفة الإغريقية القديمة (أفلاطون، وهيراكليتس، وأبيقور) والدياليكتيك الألماني (هيغل) ومادية القرن السابع عشر (نيوتن، و ديكارت، و سبينوزا) وجزئياً مادية القرن التاسع عشر (فيورباخ)، بالاضافة إلى ذلك، فإنَّ مصدر الماركسية، هو مادية إنجلس القريبة من المادية الطبيعية. وليس التعارض بين لينين و بليخانوف، وستالين وتروتسكي، وماوتسي تونغ وخروتشوف، سوى تعارضٍ عقائدي بين المذاهب المختلفة للفلسفة الماركسية نفسها. إنَّ العناصر الأساسية التي تتمسك بها كلٌّ هذه المذاهب، هي نفس العناصر السبينوزية، والفيورباخية، والهيغلية التي تتكون منها العناصر الأساسية للفلسفة الماركسية، وفي مشاجراته مع بليخانوف، لا يقدم لينين شيئاً جديداً عن الفلسفة عموماً، والفلسفة الماركسية خاصة، سوى أوهام روسية جديدة عن العالم القائم وقوانينه الاقتصادية، فهو يقف وراء نفس المفاهيم الفلسفية التي ابتكرها بليخانوف، ويحارب بها بليخانوف على أنَّه مرتد عن الفلسفة التي خلقها بنفسه، ففي مجابهة بليخانوف، لا يفعل لينين شيئاً، سوى تكرار ما قاله الأول عن الهيغلية و الفيورباخية، مع بعض الإضافات من أقوال كارل ماركس، التي ليست لها علاقة إطلاقاً بالماركسية التي خلقها تاريخها الروسي الخاص، وماركسية لينين ليست سوى تطوير خلاق لسبينوزية بليخانوف. والكتاب المقدس للماركسيين الروس، هو كتاب (الماركسية: قضايا أساسية) لبليخاوف، والذي أصبح إنجيلاً جديداً للماركسيين الشيوخ كالماركسيين الشباب، ومصدراً أكثر حيوية لكلِّ الثقافة المعروفة بالثقافة الماركسية، منذ بداية القرن العشرين وإلى يومنا هذا.

في الجزء الثاني، نتطرق الى (الماركسية: أفلاطونية القرن العشرين!)

يتبع



#أنور_نجم_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التروتسكية: نظرية الثورة الدائمة - )مقتطفات من: التروتسكية ث ...
- الهوبسنية – اللينينية و الحركة الكومونية العالمية - التناقض ...
- المادية التأريخية و اسطورة الماركسية – جوابا لانتقادات المار ...
- تصحيح خطأ!
- الشيوعية وأسطورة الماركسية – ماركس ولينين ((1))
- هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد وثورة أممية جديدة؟ 6 أزمة ...
- هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد وثورة أممية جديدة؟ 5) أزم ...
- الهوبسنية – اللينينية و الحركة الكومونية العالمية: التناقض ب ...
- هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد و ثورة أممية جديدة؟ 4) لن ...
- هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد، وثورة أممية جديدة؟ 3) أز ...
- هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد و ثورة أممية جديدة؟ 2) لم ...
- هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد و ثورة أممية جديدة؟ 1) أز ...
- المجاعة الكبرى في الاتحاد السوفياتي: موت الملايين من الجوع ف ...
- الاتحاد السوفياتي: اسطورة اشتراكية القرن العشرين – المجاعة: ...
- الاتحاد السوفيتي: اسطورة اشتراكية القرن العشرين – القسم الرا ...
- الاتحاد السوفيتي: اسطورة اشتراكية القرن العشرين – القسم الثا ...
- الاتحاد السوفيتي: أسطورة اشتراكية القرن العشرين – القسم الثا ...
- الاتحاد السوفياتي: إسطورة إشتراكية القرن العشرين!
- أمريكا، بؤرة الأزمات و الحروب


المزيد.....




- نيويورك.. الناجون من حصار لينينغراد يدينون توجه واشنطن لإحيا ...
- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أنور نجم الدين - التناقض بين المادية التاريخية و الفلسفة الماركسية - 1- الماركسية: مادية القرن السابع عشر!