أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسين الداغستاني - قحطان الهرمزي ومحنة المدينة العصية ! *















المزيد.....

قحطان الهرمزي ومحنة المدينة العصية ! *


محمد حسين الداغستاني
صحفي وشاعر وناقد


الحوار المتمدن-العدد: 2674 - 2009 / 6 / 11 - 04:32
المحور: الادب والفن
    


كتبت ونشرت عن الأديب العراقي المعروف قحطان الهرمزي عددا من الدراسات النقدية حول إبداعه الأدبي الثر ، ولعلة ربما مردها النسيان لا ادري كيف لم أتطرق الى واحدة من ابرز القضايا التي كانت تستثيره في حياته تلك هي مدينته التي عاش فيها وعشقها وأصر على البقاء فيها رغم كل المغريات التي كان يمكن لها ان تحثه على هجرها ، كركوك ،عالم قحطان الهرمزي الفريد والأثير على نفسه ، وقد تكون للجغرافيا شأن بالموضوع ، لكن الأزمة التي خلقتها هذه المدينة في ذاته تجاوزت الحسابات التقليدية على الأرض ، كانت أشبه ما تكون بمتوالية زاخرة من العصف ، وهاجس أرّق حياته المتعبة والمنهكة ، في محاولة يائسة لإختراق اللغز وإماطة اللثام عن مجهول غير مرئي و غادر .
يقول الهرمزي مختصراً مأساة كينونته الضائعة المنكوبة ( يوماً بعد يوم رأيتني أتضاءل ، ولما وجدوا ضخامة مخدعي لم تعد تتلائم وجسمي الضامر المنكمش على نفسه بفعل عمليات تقطيع الأوصال التي مارسوها ضدي ، طعنوني الطعنة الأخيرة ، وألغوا إسمي من سجلات الأحياء ، وكتبوا على إضبارتي ، ليس له حق الحياة ) (1)
ورغم أن مآل لعبته الأثيرة في محاولة تثبيت إسمه كما الصخرة السيزيفية على القمة التي تطل في جانبها الآخر على المدينة المفعمة بالأحلام والأساطير والحضارات البائدة قد باء بالفشل ، إلاّ أنها كانت عادة ولع بها حد اللاتصديق ، فكلما كان المد يقترب من سويداء المدينة ، كانت الضفاف تبدو عسيرة المنال ، ومصيدة تقتنص أحلامه الوردية نحو الجزيرة الموعودة ، لقد كان دائب المواجهة مع ذلك السؤال السرمدي ، المبهم المستحيل : لما لا تكون لي ، كالآخرين ، بقعتي الساحرة الآمنة ؟
الشاب 1 : هل إنتهى الأمر .. هل القارب جاهز ؟
الشاب 2 : ضاعت فرصتك .. ضاعت فرصتك !
الشاب 1 : ويعني أننا لن نستطيع الإبحار الى جزيرتنا الموعودة ؟ (2)

ومن أجل ناس المدينة ذاتها ونهرها اليابس العطشان ، أسقطوا إسمه ، دون سهو ، من قائمة من أطلق عليهم أهل بغداد من مرتادي جمعية الكتاب والمؤلفين ومقاهي البرلمان والبلدية وياسين وعارف آغا وغيرها التي إكتظت بها بغداد ( جماعة كركوك) هذه التسمية التي لم يكن لجليل القيسي او انور الغساني او سركون بولص او فاضل العزاوي او جان دمو او يوسف الحيدري علاقة مباشرة بها ، لأنهم لم يختاروها أصلاً (3) ولم يؤطروها ببيان أو إعلان أو إرادة مسبقة ، ولم يشي بمحتوى فكري او موقف أدبي متفق عليه كما في (جماعة بغداد) التي القى خطابها التأسيسي جواد سليم في المعرض الأول للجماعة عام 1951 ، لقد كانت لفناني ورسامي بغداد هنا هاجس تمثل بالتأكيد على الربط بين المعاصرة والمحلية وتصوير ما في العصر من مأساة وتمزق ، فيما كان الشعراء الستينيون كلهم ، يبحثون عن أطر ٍ تضمن تجاوز وتهشيم البنى الكلاسيكية التي كانت قائمة ومهيمنة على الأدب لعدة قرون مضت ، وإحلال أشكال ومضامين بديلة تتفق مع توقهم العارم الى التغيير .
قحطان الهرمزي هو الذي أشاح ببصره الى الطرف الآخرعن الجماعة التي كانت تضم أيضاً الأب يوسف سعيد وصلاح فائق وزهدي الداودي والتي لم يختاروا الرحيل الى بغداد أيضا ً ، لقد أعلن رفضه الواضح والصريح على التواصل مع بعضهم لأنه أدانهم في موقفهم الصامت من مأساة مدينته التي خنقتها شلالات النجيع خلال احداث عام 1959 المؤسفة . فأقصاهم من حياته كما يحلو له وصف الموقف ، وحده تعاطف معه جليل القيسي الذي يقول عنه (لقد كان رافضا لما جرى لذا دامت صداقتي معه .. لقد شعرت باليتم لأنني بعد وفاته لم أكن أستطيع أن اتواجد في مكان لا يتواجد هو فيه )(4) ، لكن القيسي إختار الرحيل الى بغداد ايضاً مع زملائه ليكتسب صفة الجماعة ثم هاجر الوطن ليعود فيما بعد الى أحضان مدينته ثانية .

لم يكن إحساس الهرمزي بعزلته ووحدانيته في مدينته نابعاً من فراغ ، كانت مأساته كما في محنة بطل سارتر في الجلسة العلنية (الاخرون هم الجحيم ) تكمن في من حوله من الغرباء ، فاللغة المشتركة المفتقدة مع الدخلاء والطارئين والمستبيحين لداره ، وطمأنينته ، المتسمة افعالهم بالقسوة والرفض لأي شكل ٍ من أشكال التلاؤم والمعايشة ، كانت تزيد من تفاقم حالته ، إنه يستعين بزخم من المعقولية والتفهم العميق لأبعاد المشكلة التي فجروها فيئن ، وبوجع رهيب يتسائل : ( من الذي منح إنساناً لا مرئياً الحق في أن يعامل إنساناً مرئياً بكل هذه القسوة .. من أعطاه حق ترويعي وسلب راحتي .. ) (5)
لقد حفل كتابات الهرمزي بالمناغاة المشبوبة بالسحر والألق والتغزل الى مستويات متدرجة من التكرار والإلحاح ، لكنه كرس جل زخم هذا الإبداع المتدفق للمدينة المهددة بكل أنواع المخاطر ، ورغم أنها كانت حزينة ، مستباحة دوما ، في مشهده الملتاع ، وكانت آيلة للتلاشي والذوبان في أي حين ، إلاّ أنه لم يفقد الأمل في إقتناص ملكة الصبر المفجع ، بحيث خلق المزيد من التساؤلات في رحم تجربته الرصينة ، السلسة والبسيطة المعقدة ، المعبرة في النهاية عن الإحتدام والشغف بأصغر الجزيئات التي تتدفق في تلافيف ذكرياته في الحارات والأزقة الملفعة بالألم المعصور ، إنها قرطبتي ، يصفها ، التي لا تضاهيها مدن الآخرين :
( قرطبته وحيدة وبعيدة
وقرطبتي وحيدة وقريبة
ولكن !! ) (6)
أين تكمن العلة المستعصية إذا ً ؟ إنها دون شك في هذه الـ (لكن ) التي ترمز لكل انواع التعسف والمنع والإبعاد ، هذه المفردة الجانحة من سرب اللغة ، التي تومئ بالقصد الصريح ودون مواربة ، لمفهوم الضد و التناقض ، وتحمل معها ايضا قارة من الوجع والأحزان ، مفردة تحمل رؤوى لنواة عالمه المترع بالشفافية والتخيل المديد .
ومثل أية معادلة معقولة ، فإن طيور النهايات تبني اعشاشها على الأرض التي إختارتها بإصرار المستميت لمن يصر على البقاء المستديم في مكمنه ، إلاّ وحده ، قحطان الهرمزي ، حمل معه عشقه الأزلي لمدينته ، وتأبط حقيبته المغلقة على الأسرار والمفارقات ، في رحلة قصيرة ، إنتزع نفسه إنتزاعاً من مكتبته المكتظة بالفوضى ، وسريره الخافق بالأوجاع ، ليبتعد عن مدينته المغروسة في خاصرته كخنجر ابدي ، هناك بعيد اً عن كركوك ، وفي غفلة من الزمن الخؤون ، قاربه الموت في لحظة إنتشاء ، ها انك بعيد ، بت لا تملك من تلك التي عشقتها سوى إسمها ، استفردُ بك واجعلك تغمض عينيك كما العشاق على اوطانهم :
(لقد إعتدت الأمر وأصبحت لدي قناعة كافية بأن النجوم والأقمار في الليل ، والشمس في النهار لا تشع للبؤساء ، ولكي أبرهن لكم على أن الوهم ليس هو الذي قادني الى هذا الظن ، فيكفي أن اقول أن الوهم نفسه تخلى عني ، لم أعد أتوهم بأن الأرصفة والشوارع والجبال والوديان وقلعة كركوك كانت لي يوما ً )(6)
ربما يعزيك أيها الصديق الموارب عن الأنظار فحسب ، أن تعرف بأن جسدك المشحون بالمحبة الدافقة للمدينة التي منحتها محبتك الأزلية ، قد وجد في النهاية مرقد ه في تلافيف تربتها المضمخة بإسمك الذي لا يغيب عن ذاكرتها ابداً .
الهوامش
(*) قرأ المقال في الحفل التأبيني الذي أقامه الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بمدينة كركوك
مسقط رأس الراحل فقيد الأدب العراقي قحطان الهرمزي .
(1) قصة الإنسان / كسيح أمام المرقص ـ مجموعة قصص قصيرة / كركوك 2005
(2) مسرحية القميص الخانق / قارب في الصحراء ـ اربع مسرحيات جادة / كانون الثاني 2005
(3) سامي مهدي / الموجة الصاخبة / بغداد 200 / ص 80
(4) حوار مع قحطان الهرمزى ( أنا مؤسس جماعة كركوك اواسط الخمسينيات ) مصطاف عباس /أسبوعية الأديب البغدادية / العدد 153 / تشرين الأول 2007
(5) مسرحية (ما الذي جرى ؟ ) / قارب في الصحراء / مصدر سابق .
(6) الغلاف الأخير / قارب في الصحراء / مصدر سابق



#محمد_حسين_الداغستاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رائحة الأهل !
- طائر الوسن
- كيف أجدك ؟؟
- نحو إستراتيجية للأمن الإجتماعي في العراق
- دعيني أفترض !
- الجذور تستطيل باسقات !! (*)
- عصف السنين
- متى تتوقف الحرب على غزة ؟
- غبش إستيقظ تواً !
- أين ندفن جثمان الشهيد كامل عصام الداغستاني ؟
- محنة الشيشان في ديالى .. الى متى ؟
- بيادر الريح
- سجال آخر المشوار - قراءة موجزة في قصص جليل القيسي القصيرة جد ...
- أنظر خلفك !
- اللهيب البارد
- شكل إمتدادا لجيل السبعينات
- بت أخاف على نفسي !!
- مكابدات فعل الأمر في نصوص سلمان داود سلمان
- شهادة في زمن الوجع
- مالم يتناوله المحللون والخبراء.. العامل القوقازي في زيارة سا ...


المزيد.....




- “فرحي أولادك وارتاحي من زنهم”.. التقط تردد قناة توم وجيري TO ...
- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...
- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسين الداغستاني - قحطان الهرمزي ومحنة المدينة العصية ! *