أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - داود تلحمي - هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة؟!















المزيد.....


هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة؟!


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 2622 - 2009 / 4 / 20 - 10:48
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


قد يثير العنوان أعلاه بعض الإستغراب، خاصةًً في المناخات التي تسود الأجواء العالمية حالياً، بعد إنتهاء ولاية جورج بوش الإبن في الولايات المتحدة الأميركية، ومجيء إدارة باراك أوباما، التي تبدو أقل عدوانية وأكثر عقلانية وانفتاحاً واستعداداً للحوار والإستماع الى الأطراف العالمية الأخرى، كما كرر أوباما نفسه في تصريحاته خلال جولته الأوروبية والشرق متوسطية الأخيرة.

الأزمة الأكبر منذ أزمة الثلاثينيات الطاحنة

لكن واقع الأزمة الإقتصادية الحالية، التي انفجرت بشكل فاقع في أيلول/سبتمبر من العام الماضي 2008 مع انهيار مؤسسة ليمان براذرز المالية والمصرفية في نيويورك، بعد أن كانت مؤشرات قوية أولى قد برزت على السطح منذ بدايات العام السابق 2007، واقع هذه الأزمة قد يكون أصعب بكثير مما يستطيع إصلاحه أسلوب أوباما السلس وإجراءات إدارته الجديدة.
فالأزمة كبيرة وعميقة، وربما لا زالت في بداياتها. ولا أحد يستطيع أن يتوقع منذ الآن متى ستنتهي، أو إذا ما كانت ستنتهي أصلاً... بدون أن تترك آثاراً عميقة في الواقع الإقتصادي، وبالتالي السياسي، العالمي.
فبعد أن كانت هناك نغمات كثيرة في بدايات اندلاع الأزمة تحاول أن تعطيها طابعاً محدوداً، وتقارنها بأزمات الركود المتعددة التي شهدتها الولايات المتحدة وبلدان ومناطق أخرى من العالم بشكل متواتر في العقود الأخيرة، وخاصة منذ السبعينيات الماضية، بات الجميع يقرّ الآن بأنها الأزمة الأعمق والأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وعملياً منذ الأزمة الكبرى التي اندلعت في أواخر العام 1929، من الولايات المتحدة أيضاً، ومن "وول ستريت" تحديداً كذلك. وهي الأزمة التي استمرت طوال الثلاثينيات، وانتشرت لتشمل العالم كله تقريباً، باستثناء الإتحاد السوفييتي، الحديث العمر آنذاك. والإستثناء السوفييتي له تفسيره: فالنظام الجديد هناك أحدث قطيعةً، بعد ثورة العام 1917، في العلاقة مع النظام الإقتصادي (الرأسمالي) السائد عالمياً.
وأحدثت تلك الأزمة، بتفاعلاتها، خضات كبيرة في أنحاء العالم. ومن بين إفرازاتها صعود نجم نماذج الحكم الفاشية، وخاصة بعد وصول الحزب النازي الى الحكم في ألمانيا في أوائل العام 1933... وهو تطور قاد، في نهاية المطاف، الى اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي كلفت البشرية أكثر من 60 مليون ضحية من مختلف القارات والجنسيات، ودماراً هائلاً في البنى التحتية وفي عمران وإنجازات بلدان العالم المختلفة. وهذا الدمار كان له استثناء كبير أيضاً: الولايات المتحدة، التي لم تدُر فصول الحرب على أرضها، إلا في يوم الهجوم الياباني الأول على أسطولها الحربي في ميناء بيرل هاربر، في جزر هاواي، في الشهر الأخير من العام 1941. بالمقابل، شهد العديد من بلدان أوروبا وآسيا الشرقية والجنوبية الشرقية دماراً هائلاً، أوصله الأميركيون أنفسهم الى أوجه في نهاية الحرب مع اليابان في أول استخدام للسلاح النووي، بقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي في آب/أغسطس 1945.

مسؤول أميركي كبير: الأزمة الإقتصادية التهديد الأكبر للأمن القومي الأميركي

وليس غريباً، في هذا السياق، أن يعتبر المسؤول الأول لجهاز الإستخبارات في إدارة أوباما الأميركية، الأدميرال المتقاعد دينيس بلير، أن الأزمة الإقتصادية العالمية هي "التهديد الأمني الأكبر على الأمد المباشر" للولايات المتحدة، حيث يمكن أن يقود استمرارها وتفاقمها الى زعزعة الإستقرار السياسي في أنحاء العالم، والإضرار بحلفاء الولايات المتحدة، وإضعاف التقبل العالمي للتجارة الحرة، التي تدعو لها الولايات المتحدة، على حد تعبيره أثناء شهادة له أمام لجنة الإستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي في شهر شباط/فبراير الماضي. ويضيف دينيس بلير في شهادته هذه: "إن الزمن هو ربما التهديد الأكبر لنا... فكلما تأخر زمن استعادة عافية (الوضع الإقتصادي) كلما تزايدت احتمالات الضرر الجدي بالمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة".
ويلفت الإنتباه هنا أن الولايات المتحدة في عهد أوباما لم تعد تعتبر أن التهديدات والمخاطر على أمنها تقتصر على الجانبين العسكري و"الإرهابي"، كما كان متعارفاً عليه في عهد بوش، بل وسّعت هذا الإطار ليشمل الجانب الإقتصادي، وجوانب أخرى، لسنا بصدد معالجتها هنا.
ومن الواضح تماماً أن استمرار الأزمة الإقتصادية الرأسمالية في الولايات المتحدة، كما في بلدان العالم الأخرى، قد يقود، ربما ليس في الأمد القريب وإنما في أمد متوسط، الى وضع حلول أخرى على بساط البحث غير الحلول "التصحيحية" الجزئية التي اتبعت حتى الآن، والتي تسعى الى إنقاذ بعض المؤسسات الكبرى للنظام المصرفي والمالي في البلدان المتطورة إقتصادياً، وتنشيط الإستهلاك الداخلي في هذه البلدان، والحد من الإنعكاسات الدرامية المتوقعة للأزمة على بلدان العالم الفقيرة وقليلة الموارد. وهذه الإعتبارات هي التي حكمت الإجراءات المالية الأولى لإدارة أوباما بعد توليه مسؤولياته في مطلع العام الحالي، كما وإجراءات الحكومات الأوروبية والآسيوية الأخرى، والى حد كبير، تلك القمم العالمية التي حاولت الخروج بحلول جماعية للأزمة، وخاصة قمة العشرين (ج 20) التي انعقدت في لندن في مطلع شهر نيسان/أبريل، وشاركت فيها، الى جانب الدول الصناعية المتطورة (ج7) وروسيا (ج8)، دول صناعية أخرى، مثل إسبانيا وكوريا الجنوبية وأستراليا، ودول صاعدة، مثل الصين والهند والبرازيل، أو دول ذات احتياطات نقدية وقدرات استثمارية عالية، مثل المملكة السعودية، الدولة العربية الوحيدة الممثلة في هذا المجمع.
والمخاطر التي عبّر عنها المسؤول الأميركي الأمني الكبير في شهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ الأميركي تبدأ، أولاً، باحتمال انفضاض متزايد لبلدان العالم عن نظام "التجارة الحرة" التي دعت لها الإدارات الأميركية المتعاقبة، خاصة منذ انتشار مدرسة "الليبرالية الجديدة" في سياق العملية التي أُُطلق عليها تعبير العولمة، بدءً يإدارة رونالد ريغن (1981- 1989)، التي تبنت هذه المدرسة، ودفعت باتجاه تعميمها عالمياً. والأدهى، طبعاً، بالنسبة لأصحاب النفوذ والقرار في الولايات المتحدة، هو احتمال الإنفضاض ليس فقط عن "الليبرالية الجديدة" و"التجارة الحرة"، وإنما عن النظام الإقتصادي الرأسمالي بمجمله. وهو خطر لا يبدو حتى الآن داهماً، ولكنه حاضر في أذهان أصحاب القرار ومحلليهم. وتُوفِّر تجارب بعض بلدان أميركا اللاتينية هنا صورة عن النموذج البديل المقترح، وعن الطريق الذي يمكن أن يقود الى الخروج من نفق هذه "الليبرالية الجديدة" وتحكُّم مؤسساتها المالية بأنظمة العالم، وخاصة "العالم الثالث"، الأفقر والأقل حيلةً.
***
عودة الى العنوان: قد يبدو الحديث عن الحروب في الأشهر الأولى لإدارة أوباما تجنياً عليه، وعلى الوعود المطمئِنة التي جاء بها بالتخلي عن سياسات التفرد وسياسات الحروب الإستباقية العزيزة على قلب سلفه، والتي قادت الى ما قادت إليه من مآسٍ ومآزق في العراق وأفغانستان ومن نزف كبير في لبنان وفلسطين، وهي مآسٍ كان يمكن أن تمتد الى بلدان ومناطق أخرى.
ولا بد من الإقرار بأن باراك أوباما، نصف الإفريقي، يتميز، من جهة، على الصعيد الشخصي، بمستوى عالٍ من الذكاء والثقافة والكياسة مقارنة بسلفه الأهوج والمتعجرف، والجاهل الى حد كبير، وهو يسعى في هذه الأشهر الأولى من ولايته الى الحد من الخسائر وإصلاح ما يمكن إصلاحه بعد الدمار الكبير الذي حدث في عهد سلفه في مجالات عدة، بما في ذلك في المجال الإقتصادي، ومن جهة أخرى، يتمتع أوباما بفترة سماح وتساهل أولية داخل الولايات المتحدة تجاهه، خاصةً بسبب الوضع الإقتصادي المتردي لغالبية المواطنين.
فعلى الصعيد الإقتصادي الداخلي، وعدت إدارة أوباما بسلسلة من الإجراءات التي هي مزيج من عمليات إنقاذ للمؤسسات الرأسمالية الكبرى وعمليات تنشيط للإستهلاك الشعبي ولمشاريع التطوير التي تفتح مجالات جديدة للوظائف والأشغال، بما في ذلك، مثلاً، تطوير البنى التحتية في أنحاء الولايات المتحدة، من طرق ومنشآت عامة، وتطوير مجالي التعليم والصحة وغيرها. وهي مشاريع تُذكّر بما قام به رئيس أميركي سابق هو فرانكلين روزفيلت في الثلاثينيات الماضية في محاولة للخروج من الأزمة الإقتصادية الكبرى التي كانت سائدة عندما تم انتخابه للمرة الأولى في أواخر العام 1932، وهي المشاريع التي أُطلق عليها تعبير "ذي نيو ديل"، أي "الصفقة الجديدة"، أو "العقد الجديد"، والتي استهدفت إعادة تشغيل عجلة الإقتصاد الأميركي، المأزوم آنذاك.
ومع أن مشاريع إدارة روزفيلت هذه حققت في ذلك الحين بعض النجاح في بث الروح في الإقتصاد الأميركي، إلا ان الخروج الفعلي من الأزمة الإقتصادية الطاحنة لم يتم إلا بعد الحرب العالمية، التي دخلتها الولايات المتحدة في أواخر العام 1941. وهو أمر بات الخبراء الإقتصاديون يسلّمون به. فالحرب أفسحت المجال أمام الصناعات العسكرية الأميركية والصناعات الأخرى المساندة لها، وهي قطاع واسع من الإقتصاد الصناعي الأميركي، للإزدهار والتطور والنمو، الى جانب تلك الصناعات وقطاعات الإنتاج الأخرى التي كانت تمدّ الدول الحليفة بالدعم أثناء الحرب وبعدها.
وهذا التطور لم يقد الى خروج الولايات المتحدة من الأزمة فحسب، بل الى تحولها، بعد الحرب، الى الدولة العظمى الأولى، بالأساس على حساب حليفاتها الأوروبيات، وأولاً بريطانيا، التي كانت حتى قبل عقود قليلة صاحبة النفوذ الأولى في العالم. فهي، أي بريطانيا، خرجت من الحرب العالمية الثانية مدماة ومنهكة إقتصادياً ومالياً، واضطرت بعد ذلك الى التخلي التدريجي، ولكن السريع نسبياً، عن معظم مستعمراتها، وخاصة الهند، "دُرة التاج"، في العام 1947، وعن مناطق النفوذ الواسعة الأخرى، بما في ذلك عن معظم منطقتنا الشرق متوسطية، خاصة بعد أزمة وحرب السويس في العام 1956، وهو التخلي الذي شمل لاحقاً حتى منطقة الخليج النفطية الإستراتيجية، التي حلّ فيها النفوذ الأميركي، شيئاً فشيئاً، محل نفوذ بريطانيا التاريخي.
***
وهكذا نرى أن الإقتصاد الرأسمالي، وهنا نتحدث عن الحالة الأميركية في هذا الظرف، قد يحقق الإنتعاش في فترات الحروب. وليس ذلك الحال دائماً. فحروب بريطانيا المتتالية في أواخر القرن التاسع عشر (حربا الـ"بووير" في جنوب إفريقيا) وأوائل القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية) هي التي قادت، الى حد كبير، الى تدهور وضعها الإقتصادي، وبالتالي السياسي.
وجدير بالتذكير هنا أن مستشار ألمانيا الذي تولى زمام الحكم فيها في مطلع العام 1933، أدولف هتلر، اتبع سياسة تنمية داخلية سريعة شبيهة الى حد ما بما قام به روزفيلت في الولايات المتحدة، من خلال تحديث وتطوير البنى التحتية في ألمانيا، الى جانب تطوير الصناعة، بما في ذلك الصناعات العسكرية، التي تم توظيفها في سياق مشاريعه للتوسع العسكري، التي حاول من خلالها تحويل بلده الى دولة عظمى، فانتهت الأمور الى ما انتهت اليه بالهزيمة المعروفة في العام 1945.
***

رئيس أميركي يحذّر من مخاطر "المجمع العسكري الصناعي" في الولايات المتحدة!

ولا بد هنا من التذكير، في سياق الحديث عن العلاقة بين الصناعات العسكرية والحروب، بإشارة مثيرة قام بها رئيس أميركي آخر، هو دوايت أيزنهاور (1953-1961)، في خطاب وداعي له قبل ثلاثة أيام من تسليم دفة الحكم الى خلفه، في مطلع العام 1961، حين تحدث عن قلقه من تنامي دور ما أسماه هو نفسه "المجمع العسكري الصناعي" في الحياة السياسية الأميركية بعد الحرب العالمية، وما يمكن أن يجلبه ذلك من خطر على الديمقراطية في الولايات المتحدة.
وأهمية حديث أيزنهاور الشهير هذا ترتكز الى انه لم يكن، بالأساس، رجلاً مسالماً وليبرالياً (بالمعنى السياسي للكلمة). فهو كان، أصلاً، قائداً عسكرياً: فهو كان أحد كبار قادة الجيش الأميركي في أوروبا ابان الحرب العالمية الثانية، وهو كان القائد العسكري لقوات الحلفاء في عملية الإنزال الشهيرة في مقاطعة نورماندي في فرنسا في حزيران/يونيو 1944، والتي كانت آنذاك واقعة تحت الإحتلال الألماني النازي، وهي العملية التي لعبت دوراً هاماً في الإطباق على القوات الألمانية والتقدم من الجنوب الغربي نحو ألمانيا، بعد أن كانت القوات السوفييتية قد وجّهت منذ مطلع العام 1943 سلسلة من الضربات للجيش الألماني الذي كان قد غزا أراضيها، فطردته منها وطاردته، من الشرق، الى أن انتهت بدخول ألمانيا وعاصمتها برلين في مطلع العام 1945.
وخلال ولايتيه الرئاسيتين، اللتين جاءتا في حُمّى "الحرب الباردة" مع الإتحاد السوفييتي، ترك أيزنهاور سجلاً حافلاً بعمليات التورط في الحروب العدوانية في أنحاء العالم، بما في ذلك بداية التورط الأميركي في فييتنام، بعد هزيمة فرنسا هناك، حيث عملت واشنطن على منع إعادة توحيد البلد في العام 1956، عملاً باتفاقية جنيف للعام 1954. كما جرى في عهده التدخل في إيران للإطاحة بحكومة محمد مصدّق الوطنية الإستقلالية عام 1953، وكذلك جرت الإطاحة بنظام هاكوبو أربينس اليساري في غواتيمالا (أميركا الوسطى) في العام 1954، والعديد من "الإنجازات" الشبيهة الأخرى، ومن بين أشهرها المشاركة مع بلجيكا في تصفية رئيس حكومة الكونغو المستقل حديثاً، آنذاك، الوطني الإستقلالي باتريس لومومبا، في مطلع العام 1961.
ومن هذا الموقع، يأتي تحذير أيزنهاور من تنامي نفوذ المجمع العسكري الصناعي كشهادة شاهد من أهل البيت على واقع بات بالنسبة له مرئياً وملموساً، ليس فقط على المسرح العالمي، حيث كان هذا التنامي جزءً من الإستراتيجية الرسمية المعتمدة، وإنما داخل الولايات المتحدة نفسها.
***
والسؤال الذي يطرح نفسه في سياق الأزمة الإقتصادية العالمية الراهنة هو إذا ما كانت الوسائل التقنية والمالية "الهادئة" التي تتبعها الآن حكومات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وغيرها من دول العالم المتطورة صناعياً ستكون كفيلة بإخراج كل هذه الدول، والعالم بمجمله، من الأزمة الطاحنة، التي لا يرى أحدٌ حتى الآن متى يمكن أن تنتهي.
فهذه الأزمة الإقتصادية الكبرى، التي انطلقت من الولايات المتحدة، كما ذكرنا، هي أزمة عميقة وشاملة وواسعة النطاق وغير سهلة التجاوز. ومع أن الكلمة المستخدمة حتى الآن في وصف الأزمة الحالية هي كلمة "ركود"، ريسيشن بالإنكليزية، فإن بعض الإقتصاديين لم يعد يتردد في التشبيه مع أزمة الثلاثينيات الماضية، التي أُطلق عليها تعبير أقوى هو الـ"كساد"، ديبريشن بالإنكليزية، أو "الكساد الكبير"، "ذي غريت ديبريشن". وقد ذهب رئيس صندوق النقد الدولي الحالي، دومينيك ستروسكان، وهو فرنسي (وعضو قيادي في الحزب الإشتراكي الفرنسي)، في مجال تظهير خطورة الأزمة الراهنة، الى إطلاق تعبير "الركود الكبير"، "ذي غريت ريسيشن" بالإنكليزية، في وصفٍ لحجمها، وذلك في تصريح له في آذار/مارس الماضي.
وفي كل الأحوال، فإن التفاؤل الحذر للرئيس الأميركي أوباما بإمكانية تجاوز الأزمة في وقت قريب نسبياً لا يشاطره إياه العديد من الإقتصاديين الذين يرون أن حجم الدين المتراكم على الدولة الأميركية، حوالي 11 تريليون دولار، أي 11000 مليار دولار، تصعب تغطيته في أي أمد منظور، خاصة وأن النظام الأميركي دأب خلال العقود الثلاثة الماضية على جعل الولايات المتحدة والأميركيين يعيشون على الدين، وينفقون أكثر مما ينتجون، كما ذكر أحد هؤلاء المحللين،.
وجدير بالإشارة أن أوباما تقدم الى الكونغرس بموازنة فيدرالية للعام المالي 2010 تحمل عجزاً عالياً يتجاوز التريليون دولار، أي الألف مليار دولار، وهو ما يقترب من نسبة الـ 10 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي السنوي للبلد، وذلك في سياق سعي إدارته لتغطية تكاليف محاولة الخروج من الأزمة. وقد لقيت هذه الموازنة معارضة من أولئك الذين تخوفوا من أن هذه الموازنة ستفاقم الدين العام، ولن تسهّل الخروج من عنق زجاجته خلال سنوات طويلة. مع العلم بأن العجز الفعلي في موازنة العام الحالي مرشح أن يقترب من التريليوني دولار في نهاية العام المالي 2009، ويشكّل بذلك نسبة قياسية من الناتج القومي الإجمالي (أكثر من 12 بالمئة) في تاريخ الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
طبعاً، كل الجهود تنصب الآن من قبل أصحاب القرار في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا وبلدان أخرى متطورة اقتصادياً باتجاه تجاوز الأزمة الإقتصادية بشتى الوسائل "الهادئة"، إذا صح التعبير. وربما كان مجيء باراك اوباما الى سدة الحكم في الولايات المتحدة توجهاً من قبل قطاعات واسعة من أصحاب القرار والنفوذ الإقتصادي في البلد لسلوك هذا الطريق "الهادئ" لإنقاذ النظام الإقتصادي الرأسمالي وتجاوز أزمته الحالية الطاحنة، وإنقاذ النفوذ الأميركي الكوني طبعاً.
وهنا ترد المقارنة مع المجيء، في انتخابات العام 1976، بالرئيس الأسبق جيمي كارتر الى الحكم، في زمن كانت فيه الولايات المتحدة خارجة لتوها من صدمتين كبيرتين، الهزيمة الصعبة في فييتنام عام 1975، وفضيحة ووترغيت التي أدّت الى سقوط الرئيس ريتشارد نيكسون في العام الذي سبقه. وجاء اختيار كارتر، بسماته الشخصية المعروفة، لإعادة الاعتبار الى مؤسسة سياسية أُصيبت بانهيار كبير في أعين قطاعات واسعة من الجمهور الأميركي. وبما أن الرئيس في الولايات المتحدة ليس الآمر الناهي، وهو في الغالب واجهة لمجموعة كبيرة من مراكز النفوذ والسلطة الإقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، فلم يدم عهد كارتر طويلاً، وأُطيح به، عملياً، في انتخابات العام 1980، أي انه لم يتمكن من الإستمرار لولاية ثانية. والرئيس الذي خلفه هو الذي جاء بـ"الليبرالية الجديدة" وبـ"المحافظين الجدد" وبالسياسات العدوانية الكونية المتجددة، وهو بالتالي الأب الروحي للسياسات الإقتصادية التي نرى الآن نتائجها على الولايات المتحدة والعالم.
***
ومن الخطأ الإعتقاد بأن انتخاب أوباما هو تحول ثابت في السياسات الأميركية باتجاه أكثر ليبرالية (بالمفهوم السياسي، وليس الإقتصادي، للكلمة) وأكثر انفتاحاً على دول العالم. فالمجمع الصناعي العسكري، وقطاعات اليمين الإمبراطوري المتشدد لم تختفِ، ونفوذها لا زال كبيراً، وبإمكانها العودة الى الواجهة إذا لم تحقق سياسات أوباما الحالية النتائج المرجوة على صعيد إنقاذ الإقتصاد الأميركي والإقتصاد الرأسمالي العالمي عامةً، وإعادة الإعتبار لدور الولايات المتحدة الكوني.
فإذا كان طريق إنقاذ النظام الإقتصادي يتطلب حرباً، على طريقة الأربعينيات، وإن كان بأشكال وأحجام مختلفة، فأصحاب القرار الإقتصادي الكبار لن يترددوا في الإختيار، إذا ما فشلت الطرق الأخرى، وإذا ما كان الوضع العالمي مهدداً باضطرابات واسعة تفتح آفاقاً مخيفة بالنسبة لهؤلاء.
لكن مصلحة العالم وشعوبه ألاّ تصل الأمور الى هذا الحد.
ولكن كيف يمكن تفادي الإحتمالات الأسوأ؟ وما هي المخارج الأخرى الممكنة من هذه الأزمة؟ وهل النظام الإقتصادي السائد قابلٌ للإصلاح المستدام؟ أسئلة تحتاج الى مجال آخر للإجابة عليها.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است ...
- الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال ...
- بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما ...
- نهاية نهاية التاريخ..!
- حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
- حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-
- في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا ...
- -اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتما ...
- 90 عاماً على الثورة البلشفية في روسيا.... هل كان بالإمكان تف ...
- حروب النفط والصراعات على منابعه وممراته مرشّحة للإتساع
- القرن 21 سيكون قرناً آسيوياً؟
- صعود الصين وتنامي استقلالية روسيا...يؤشران لتوازنات عالمية ج ...
- ملاحظات على هامش إنتخابات الرئاسة في فرنسا
- اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل
- تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية
- اليسار الجذري والديمقراطية التعددية هل يلتقيان؟ فنزويلا قالت ...
- الأيديولوجيا والسياسة... إستقلال نسبي، وضوابط ضرورية
- إنتصارات اليسار في أميركا اللاتينية -الخلفيات والآفاق
- داود تلحمي في حوار مع العربية ضمن برنامج السلطة الرابعة
- المؤرخ والعالم الاجتماعي مكسيم رودنسون... نموذج مختلف للإستش ...


المزيد.....




- مؤلف -آيات شيطانية- سلمان رشدي يكشف لـCNN عن منام رآه قبل مه ...
- -أهل واحة الضباب-..ما حكاية سكان هذه المحمية المنعزلة بمصر؟ ...
- يخت فائق غائص..شركة تطمح لبناء مخبأ الأحلام لأصحاب المليارات ...
- سيناريو المستقبل: 61 مليار دولار لدفن الجيش الأوكراني
- سيف المنشطات مسلط على عنق الصين
- أوكرانيا تخسر جيلا كاملا بلا رجعة
- البابا: السلام عبر التفاوض أفضل من حرب بلا نهاية
- قيادي في -حماس- يعرب عن استعداد الحركة للتخلي عن السلاح بشرو ...
- ترامب يتقدم على بايدن في الولايات الحاسمة
- رجل صيني مشلول يتمكن من كتابة الحروف الهيروغليفية باستخدام غ ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - داود تلحمي - هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة؟!