أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - داود تلحمي - تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية















المزيد.....


تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 1784 - 2007 / 1 / 3 - 12:07
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


شهدت الأشهر الأخيرة تغيرات نوعية في واقع المواجهات المستمرة في منطقتنا منذ سنوات وعقود طويلة، يمكن الإشارة الى بعض أهمها:
1- فشل الجيش الإسرائيلي في حربه العدوانية على لبنان إزاء الكفاءة العالية للمقاومة اللبنانية وإزاء صمود شعب لبنان في وجه الآلة الهمجية القاتلة والمدمِّرة لهذا الجيش والغطاء العسكري والسياسي الموفر له من قبل الإدارة الأميركية اليمينية المتطرفة.
2- تعثر المشروع الإحتلالي الأميركي- البريطاني في العراق وتعالي الأصوات الداعية في الولايات المتحدة وبريطانيا الى الإنسحاب من هذا البلد في أقرب وقت، وهي الأصوات التي عبّرت عنها بجلاء نتائج الإنتخابات النصفية الأميركية الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والتي كرّست فشل سياسة عدوانية كونية بأشكالها الأكثر فجاجة ودموية، ليتم البحث، بعد الإنتخابات، عن سياسة بديلة لمحاولة إخراج واشنطن من وحول حروبها المجنونة وخسائرها الباهظة البشرية والإقتصادية والعداء الشعبي العالمي المتزايد لها في كل القارات.
3- كل ذلك، والشعب الفلسطيني يواصل مواجهة الحرب الجهنمية الإجرامية التي تشنها إسرائيل بلا انقطاع لمحاولة فرض اليأس والإستسلام عليه، ومحاولة إغراق حركته التحررية في أتون الإصطراع الداخلي.
فهل تثمر إنجازات شعوب منطقتنا العربية وقواها المقاومة هذه وإخفاقات التحالف الأميركي - الإسرائيلي، وهل تخرج كل هذه المحطات المضيئة بآفاق جديدة تفتحها هذه الإنجازات الموقعية المتحققة على الأرض للإرتقاء بالوضع العربي وتجاوز حالة التبعية والتشرذم والتهميش على المستوى الكوني؟ أم يستمر التحالف الأميركي- الإسرائيلي، عبر شتى الألاعيب والضغوط والمناورات، في تفريغ الإنجازات العربية، حتى الجزئية منها، من مضمونها العملي، بحيث تتحول الإنتصارات في النهاية الى ما هو أقرب الى الهزيمة أو الى تكريس وتعميق هزيمة العام 1967، كما حصل مثلاً بعد نصف النصر الذي تحقق في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973؟!
***
قرنان من محاولات النهوض وكسر قيود التبعية

منذ نهاية السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن الماضي، ونشأة الكيانات العربية بالشكل الذي نعرفه اليوم، مع بعض التغييرات التي جرت لاحقاً... ومنذ قيام جامعة الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، وثم تجاوز مرحلة الإستعمار الإحتلالي المباشر في غالبية الكيانات العربية (باستثناء فلسطين)، واجهت البلدان العربية تحديات كبيرة، وبالمقابل، جرت محاولات وطنية عدة لتجاوز حالة الضعف والإنقسام والتبعية لبلدان المركز الرأسمالي، والتخلف الإقتصادي والاجتماعي والعلمي، بالإضافة، طبعاً، الى الإحتلالات وعمليات النهب الاستيطاني المستمرة في فلسطين وأراضٍ عربية أخرى مجاورة.
وكانت أبرز محاولات تجاوز حالة الضعف هذه، خلال القرن المنصرم، محاولة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات لإنجاز تطور إقتصادي مكثف وغير تابع، والعمل على توحيد المنطقة العربية ومواجهة العدوانية التوسعية الإسرائيلية. لكن تكالب الإسرائيليين، ومن ورائهم الولايات المتحدة ودول إستعمارية أخرى، أفشل محاولته، مثلما كانت الدول الأوروبية قد أفشلت في القرن التاسع عشر محاولة محمد علي وابنه إبراهيم باشا، كما وكل رواد التجديد والتطور من التنويريين الإصلاحيين والمثقفين الطامحين للتطوير والإرتقاء، لتحقيق نهضة فعلية وتطوير جاد في تماسك وقوة المنطقة العربية.
ولم تنفك هذه المنطقة، منذ حرب العام 1967 ورحيل جمال عبد الناصر بعد أعوام ثلاثة منها، تواجه سلسلة من الهجمات والضغوط الخارجية العنيفة، والأقل عنفاً، ومن الإعاقات الداخلية المرتبطة في العديد من الحالات بالعامل الخارجي، حالت كلها دون تحقيق تقدم كبير في مجال التطوير والإستقلال الإقتصادي والسياسي الناجز، الذي لا يمكن أن يتم بدون توفير عناصر قوة في البنية الداخلية، الإقتصادية والمجتمعية والثقافية- العلمية والعسكرية، ما زالت، في غالب الحالات، غير متوفرة أو هشة وضعيفة حتى الآن.
وجاءت مرحلة العولمة في التطور الرأسمالي العالمي، والتي بدأت بالتمدد والإنتشار الواسعين منذ سبعينيات القرن العشرين، لتفرض تحديات إضافية على البلدان العربية، بحكم سعي الدول الرأسمالية المتطورة، وفي المقدمة الولايات المتحدة الأميركية، لتجاوز أزماتها الإقتصادية البنيوية بكسر كل الحواجز الحمائية أمام سلعها ومنتجاتها ورساميلها وتدخلاتها المتزايدة في الأوضاع الداخلية لبلدان العالم، بما يوفر لها مزيداً من الإختراقات والتمدد على قاعدة عدم التكافؤ، بحيث تتحقق لها ولشركاتها الكبرى مكاسب وأرباح إضافية هائلة. في وقت ازدادت فيه الإقتصادات الضعيفة، كما هو الحال مع بلدان منطقتنا العربية عامة، ضعفاً وتبعيةً، مما فاقم الوضع وزاد من حدة التحديات التي تواجه المساحة العربية الواسعة من المحيط الى الخليج. كما تراكمت المصاعب والتعثرات أمام عمليات التطور الإقتصادي والمجتمعي في هذه المساحة، وذلك بالرغم من الثروات الهائلة، خاصة في مجال مصادر الطاقة، النفط والغاز الطبيعي، التي تحتويها أرض هذه المنطقة.
ولعل هذه الثروات هي التي تفسر، الى حد كبير، هذا التكالب من قبل القوى الرأسمالية الكبرى على هذه المنطقة، منذ أن تم إكتشاف الكم الهائل من مصادر الطاقة في المنطقة العربية، والخليجية بشكل خاص.
لقد كانت المنطقة العربية المشرقية في القرن التاسع عشر وقبله هي المعبر والممر للقوافل التجارية والمواصلات البرية نحو الهند والشرق الأقصى، ثم، بعد شق قناة السويس في أواخر ستينيات القرن ذاته، المعبر المائي الرئيس نحو هذه المناطق الحيوية بالنسبة للدول الإستعمارية الأوروبية، وخاصة بريطانيا، التي كانت تستعمر الهند، الى جانب فرنسا التي كانت تستعمر بلدان ما سمي بالهند الصينية (حالياً فييتنام وكامبوديا ولاوس)، ودول أوروبية إستعمارية أخرى، مثل هولندا وألمانيا وإسبانيا والبرتغال، كان لها وجود في الشرق الأقصى، بما في ذلك محميات ومستعمرات في أنحاء الصين وفي جزر المحيط الهندي.
وجاء إكتشاف كميات كبيرة من النفط في المنطقة العربية في مطلع القرن العشرين، مع تطور استخدام النفط في وسائل المواصلات وفي الصناعات وفي تسيير الآليات العسكرية البرية والبحرية، ولاحقاً الجوية، وخاصة خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، ليزيد من الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة في نظر الدول الإستعمارية. مما نتج عنه سباق محموم، وأحياناً تواطؤات وصفقات بينها، للسيطرة على هذه المنطقة أولاً، ومن ثم لاقتسامها وتقاسم النفوذ فيها (إتفاقية سايكس- بيكو بين بريطانيا وفرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وإتفاق بريطانيا والولايات المتحدة لتقاسم الحصص في النفط العراقي في نهاية العشرينيات من القرن العشرين بعد سنوات من الشد والتجاذب منذ نهاية الحرب، الخ...).
وبعد الحرب العالمية الثانية، تكثف السعي الأميركي لتعزيز النفوذ في هذه المنطقة الى حد محاولة الإستئثار وإبعاد الأطراف المنافسة، الإستعمارية القديمة أولاً، فرنسا وبريطانيا تحديداً، ومن ثم الحؤول دون تمدد حضور الإتحاد السوفييتي وعلاقاته مع بلدان المنطقة، وهو الذي أقام منذ الخمسينيات الماضية علاقات تعاون، توثقت وتطورت لاحقاً، مع عدد من الدول العربية.
وقد رافق كل ذلك عمل متواصل من قبل الولايات المتحدة، خاصة، لإحباط كل محاولات التحرر ونزعات استعادة السيطرة الوطنية لكل بلد على ثرواته الطبيعية. وهو ما رأيناه جلياً، مثلاً، في عملية الإنقلاب التي دبرتها المخابرات الأميركية والبريطانية على حكومة محمد مصدق في إيران في العام 1953، فقط لكون هذه الحكومة الوطنية سعت الى السيطرة على ثروة البلد النفطية وعملت على تأميمها. كما رأيناه في السعي البريطاني لشرذمة المناطق الخليجية الغنية بالنفط التي كانت تحتلها، وتقسيمها الى إمارات صغيرة لا يمكنها أن تحمي نفسها، بحيث تحتاج الى الحماية الدائمة من الخارج (كان ونستون تشرتشيل، قد تحدث، عندما كان وزيراً للمستعمرات في أوائل القرن الماضي، عن أنه يعتزم أن يبني دولة فوق كل بئر نفط في الخليج، المحتل آنذاك من قبلها، لضمان استمرار السيطرة البريطانية على هذه الثروة هناك). كما رأيناه في الشراسة التي واجهت بها فرنسا ثورة الشعب الجزائري التحررية في أواسط القرن، خاصة في اكتشاف النفط والغاز في جنوب الجزائر الصحراوي، ثم تقديمها (أي فرنسا)، في بدايات التفاوض مع جبهة التحرير الجزائرية في مطلع الستينيات، عرضاً بمنح الإستقلال للشمال المأهول من الجزائر وإبقاء الجنوب الصحراوي تحت السيطرة الفرنسية، وهو ما رفضته جبهة التحرير الجزائرية طبعاً. كما رأيناه في مواجهة الدول الرأسمالية الكبرى لمساعي مصر الناصرية، ولاحقاً العراق، من أجل بناء إقتصادات متطورة والسيطرة على ثرواتها الطبيعية.
***
تحديات أساسية راهنة

1- ولذلك، فإن التحدي الأول أمام المنطقة العربية ما زال العمل من أجل التخلص من التبعية لبلدان المركز الرأسمالي، وخاصة الآن الولايات المتحدة، وإستعادة السيطرة الكاملة على ثرواتها الطبيعية وعلى أراضيها، بما يشمل ليس فقط الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل، وإنما أيضاً تلك التي تتواجد فيها قوات وقواعد أميركية أو أطلسية. خاصة وأن السنوات الثلاثين ونيف الأخيرة، منذ قرار الدول العربية النفطية استخدام سلاح النفط لدعم المجهود العسكري لمصر وسوريا في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ثم بعد الثورة الإيرانية في العام 1979 التي غيّرت خارطة النفوذ الدولي في الخليج الغني بالنفط بشكل درامي، هذه السنوات شهدت مساعي مكثفة من قبل الدول الرأسمالية القوية إقتصادياً، بقيادة الولايات المتحدة، لسيطرة أكبر وأكثر مباشرة على المنطقة العربية والخليجية ومصادر الطاقة فيها، عملاً بما سمّي "مبدأ كارتر" الذي اعتبر منطقة الخليج منطقة "مصالح حيوية" للولايات المتحدة وحلفائها، وهو توجه انتهى بدخول كثيف للقوات الأميركية والبريطانية الى بلدان المنطقة، بدء من القواعد التي كانت موجودة وتمددت وتدعمت في البلدان الخليجية العربية خلال الثمانينيات، ومروراً بالإنزالات الكثيفة في هذه المنطقة بعد سيطرة القوات العراقية على الكويت في أواسط العام 1990، وإنتهاءً بحرب احتلال العراق نفسه من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا بعد التاسع عشر من آذار/مارس 2003.
2- وفي هذا السياق، يبرز دور الدولة الإسرائيلية ليس فقط في الإقتلاع والقهر والتوسع على حساب الشعب الفلسطيني وجيرانه العرب الآخرين، وإنما في خدمة المخططات الإستعمارية الجديدة، وخاصة الأميركية، في عموم المنطقة العربية والخليجية، عبر المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في هذه المخططات لضرب محاولات التحرر والتطور في المنطقة العربية. وقد أبرز ذلك بجلاء عدوان العام 1967 على مصر الناصرية وسوريا المتحالفة معها والنواتات الأولى للمقاومة الفلسطينية المتجددة آنذاك، وأظهرته عمليات التخريب المتعددة ضد بلدان عربية أخرى، كالتدخل في لبنان لضرب قواه الوطنية وحركة المقاومة الفلسطينية ثم اللبنانية فيه، وضرب إسرائيل لمفاعل تموز النووي في العراق في العام 1981، وأشكال التنسيق الإسرائيلية المتنوعة مع الهجمات الأميركية والأوروبية الغربية (وكان أكثرها وضوحاً، في مرحلة سابقة، ذلك العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وبناء مفاعل ديمونا النووي وتطوير قدرات إسرائيل النووية والعسكرية عامة بمساعدة فرنسا في الخمسينيات ومطلع الستينيات، الخ...). وهو ما يعني أن المواجهة مع الطرفين المتحالفين، الدولة الإسرائيلية والإستعمار الحديث، الأميركي خاصة، هي مواجهة غير قابلة للفصل في أي أمد منظور. أي إن من الوهم التفكير بالفصل بين طرفي التحالف في ظل غياب تصليب الأوضاع والبنى الداخلية في الأقطار العربية وبينها، بما يؤمن حضوراً عربياً قوياً على الخارطة العالمية مترافقة مع إرادة سياسية إستقلالية صلبة (هنا من المفيد النظر الى الدور الصيني منذ أواسط القرن الماضي، والذي أرغم الولايات المتحدة في السبعينيات الماضية على تحجيم دور تايواىن، التي كانت تدّعي قبل ذلك أنها تمثل كل الصين، واستمرت، بالفعل، تحتل مقعد الصين الدائم في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها حتى بعد قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949 وحتى أواسط السبعينيات الماضية، دون أن يعني هذا التهميش، أو التحجيم، تخلياً أميركياً نهائياً عن حماية تايوان باعتبارها حليفاً مهماً ووفياً للولايات المتحدة في الشرق الأقصى). ومن هذه الزاوية، يمكن النظر الى تعقيد معركة التحرر الفلسطينية باعتبارها لا تواجه إسرائيل وحدها، بل من ورائها الولايات المتحدة ومشاريعها للهيمنة على هذه المنطقة الغنية بمصادر الطاقة. وهو تحدٍ كبير ليس للشعب الفلسطيني وحده، بل لكل شعوب الأمة العربية المستهدف مشروعها النهضوي الإستقلالي كله من قبل هذا التحالف الإستعماري.
3- وترتبط بهذا التحدي أهمية مواصلة العمل على تطوير العلاقات البينية، خاصة على الصعيد الإقتصادي، بين الدول العربية، سعياً للوصول الى تجمع أو تجمعات إقتصادية - سياسية ذات قدرة على مواجهة ومنافسة الإقتصادات القوية في العالم، ولو بحد أدنى، خاصة في مرحلة العولمة والإجتياحات الإقتصادية التجارية لمختلف مناطق العالم من قبل الكيانات الأقوى إقتصادياً. وفي ظل فشل محاولات الوحدة السياسية في أواسط القرن العشرين، وغياب الإندفاع الجاد لتجارب وحدوية جادة بعد ذلك، باستثناء التجربة الوحدوية اليمنية في مطلع التسعينيات الماضية، فإن مدخل العمل على تطوير العلاقات الداخلية هو استحداث شكل من أشكال السوق المشتركة، على غرار ما يجري العمل عليه حالياً في أميركا اللاتينية في مواجهة إتفاقات "التجارة الحرة" التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية فرضها على بلدان هذه المنطقة، كل على حدة، لتكريس هيمنتها الإقتصادية، وبالتالي السياسية، عليها. وهو ما تقاومه بشكل متصاعد مجموعة متزايدة من بلدان أميركا اللاتينية، في مقدمتها فنزويلا وبوليفيا والأرجنتين والبرازيل، الى جانب كوبا طبعاً.
ويمكن التفكير، في هذا السياق، بالتحضير لإيجاد عملة عربية موحدة، حتى ولو اقتصر الأمر في البداية على عدد محدود من الدول، بما يعزز من الإستقلالية الإقتصادية والنقدية، ويقلص التبعية والإعتماد على العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأميركي. لكن هذه الخطوة بحاجة طبعاً الى جملة من الشروط والتحضيرات وقرار سياسي حازم من قيادات الدول المعنية، حيث لا يمكن أن يتحقق ذلك ويستمر بمجرد إصدار قرارات إدارية فوقية شكلية، لا تلبث أن يتلاشى فعلها في الواقع. والحديث عن التجربة الجارية حالياً في أميركا اللاتينية أقرب الى واقعنا في هذا المجال من الحديث عن تجربة السوق الأوروبية المشتركة، نظراً لمستوى التطور المتشابه.
ومن الطبيعي أن يبقى شعار الوحدة العربية، أو أي وحدة لبلدين أو أكثر من البلدان العربية، شعاراً وحلماً يستحق التفكير فيه والعمل المستقبلي من أجله. إلا إن المدخل الذي أشرنا إليه يبدو أكثر واقعية، وأكثر جدوى بالتالي، في المرحلة الحالية، في ظل المحاولات المسعورة من قبل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الرأسمالية القوية لوضع اليد على المنطقة العربية، وإدامة تشرذم هذه المنطقة وضعفها تجاه الدول المتطورة إقتصادياً، بما يحول دون تطورها المستقبلي، على غرار التطور الذي جرى في السنوات الأخيرة في الصين، والى حد ما في الهند. وإن كانت الممارسات القائمة والعلاقات البينية المتواضعة بين الدول العربية، والضغوط الممارسة على العديد من هذه الدول للتعامل التجاري بالإساس مع دول المركز الرأسمالي (الولايات المتحدة، دول أوروبا الغربية، اليابان،...)، بما في ذلك في مجال التسلح، كلها لا تبشر بأن المهمة المطروحة ستكون سهلة. ولكنها، رغم ذلك، تستحق أن تكون في موقع متقدم على جدول أعمال القوى الوطنية الإستقلالية في العالم العربي.
4- وحتى تتحقق هذه المهمات الكبرى، لا بد من بناء مؤسسات وطنية وأجهزة دولة منزهة الى أكبر مدى ممكن عن مساوئ التبعية والإستبداد والفساد، وهي المساوئ التي ستقف دائماً عقبة أمام تطوير كل بلد وتأمين إستقلاله الفعلي. وهو أمر يفترض رقابة شعبية دائمة على مؤسسات الدولة، وبالتالي ضمان تواصل عمليات الإنتخاب النزيه على كل المستويات الوطنية والمحلية والقطاعية، وضمان المحاسبة الشعبية المتواصلة بالتالي، كما وحرية التعبير وازدهار وسائل إعلام حرة ومنفتحة على كل التيارات الشعبية ومستقلة عن السلطة التنفيذية والنفوذ الأجنبي. ويمكن أن يطلق على ذلك كله تعبيرالديمقراطية أو أي إسم آخر... فليست التسمية هي المهمة، وإنما حقيقة المشاركة الشعبية الواسعة في القرارات المصيرية والرقابة الدائمة على السلطة التنفيذية ومختلف مفاصل الحياة الإقتصادية والإجتماعية، عبر تدعيم ما تم التعارف على تسميته بمؤسسات المجتمع المدني، أي الأحزاب والنقابات الحرة والجمعيات والتشكيلات الشعبية، الخ... وفي الوقت ذاته، ينبغي الحرص على تفادي المطبّات المتضمنة في الدعوات الخارجية الخبيثة والمنافقة لبناء أنظمة تسمى ديمقراطية، لكنها في الواقع أنظمة تابعة وخاضعة للنفوذ الخارجي. فلا ديمقراطية ذات شأن بدون الإستقلال الكامل عن النفوذ الخارجي، وبدون الإلتزام الصارم بتطلعات وإرادة الشعب المعني، من خلال آليات ديمقراطية مصانة ومضمونة في القانون وفي الممارسة. وجدير بالذكر أن الكثير من مظاهر الفساد في بلداننا، كما في العديد من بلدان "العالم الثالث"، يجري تشجيعها من قبل الدول الرأسمالية القوية لربط النخب الحاكمة في هذه البلدان بهذه الدول، وعزلها عن شعوبها وإبعادها عن مهمة الدفاع عن المصالح الحقيقية لهذه الشعوب. وهو ما نراه بوضوح، كما ذكرنا، في مناطق مختلفة من العالم، في إفريقيا السوداء – مثلاً - على نطاق واسع، وهو ما أدى هناك الى إفلاسات وإنهيارات وحروب داخلية في بلدان إفريقية عدة، بعضها يتمتع بثروات طبيعية هامة، مثل دولة الكونغو الديمقراطية، التي كان اسمها زائير بين العامين 1971 و1997، وساحل العاج، وغيرهما.
5- وبما إن أية عملية تطوير تتطلب إهتماماً خاصاً بالتطور التعليمي والثقافي، فمن التحديات التي تواجه العالم العربي ضرورة العمل الجاد والمستمر على محو الأمية وتوفير شروط تعليم شعبي واسع ودراسات عليا متطورة ومفتوحة لكل قطاعات الشعب، تسندها بنية علمية دائمة المواكبة والتطور، بحيث تتوفر الطاقات البشرية الضرورية لعملية النهوض، ويتوقف النزف في العقول والحالات العلمية المتطورة وهجرتها الى بلدان متطورة إقتصادياً وعلمياً. وذلك كله مرتبط طبعاً بوجود بنية سليمة في الدولة ومؤسساتها، معنية بالحفاظ على الثروة البشرية، وليس مجرد الإكتفاء بدور السوق الإستهلاكية للإنتاج الخارجي ودور مصدّر المواد الأولية والزراعية للخارج، وخاصة النفط والغاز في العديد من الحالات، دون أية مساهمة جدية لهذه البلدان في عملية التطور الإنساني في مجالات العلم والمعرفة والتطور التكنولوجي. وما من شك أن هذا الجانب الأخير له شروط صعبة وصارمة، ولكنه ضروري في الأمد المتوسط لتطوير بلداننا والحفاظ على كفاءاتها العلمية والإبداعية.
6- وما ينطبق على المجال التعليمي والعلمي يسحب نفسه على توفير المناخات الثقافية الدافعة باتجاه التطور والطموح لتجاوز حالة الضعف والتخلف والتبعية، وليس المناخات التي تكرس الخنوع واليأس والركون الى واقع (أو وهم) التفوق الأبدي للبلدان المتطورة إقتصادياً في شتى المجالات. وقد رأينا في العقود الأخيرة عدة بلدان من مناطق العالم المختلفة تتمكن من تحقيق مثل هذه التنمية الواسعة والسريعة نسبياً، من كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وفنلندا وإيرلندا، الى الصين وبلدان أخرى في طريقها الى الخروج من نفق الفقر والتخلف الإقتصادي. وهو ما يؤكد إمكانية تحقيق ذلك بالنسبة للدول العربية، وما يقتضي إشاعة أجواء ثقافية وفكرية تدفع بهذا الاتجاه بديلاً عن الأجواء التي تروج لها وسائل تعميم الثقافات الإستهلاكية ذات المضمون العنصري الإستعلائي، التي تكرس عقدة الشعور بالنقص وتدفع الى الهروب من مهمة النهضة الضرورية بأوضاع بلداننا.
***
ولا شك أن المواجهة مع العولمة الرأسمالية والعدوانية الأميركية التي تسّيرها تتطلب، الى جانب تصليب الأوضاع الداخلية العربية وضمان توجهها التكاملي والوحدوي، إلتقاء على مستوى العالم كله مع القوى الداعية الى عولمة بديلة، عولمة مناهضة للإستعمار المعولم الجديد ونظامه الإقتصادي الإستغلالي والعدواني، عولمة تتعاضد فيها جهود كل القوى والشعوب والبلدان الساعية الى نظام عالمي منصف ومتكافئ يحترم كل إنسان ويتفاعل مع كل الثقافات والإسهامات البشرية في بناء عالم آخر، عالم العدالة والحرية الحقيقية والإزدهار الكامل لطاقات وإمكانيات كل الشعوب وكل مواطنيها.
***
هذه المادة هي ملخص لمداخلة تم تقديمها في مؤتمر فكري حول آفاق المنطقة العربية في مرحلة العولمة، نظمته جامعة جنين العربية- الأميركية، وعقدته مؤخراً في** مدينة رام الله بالضفة الفلسطينية المحتلة.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار الجذري والديمقراطية التعددية هل يلتقيان؟ فنزويلا قالت ...
- الأيديولوجيا والسياسة... إستقلال نسبي، وضوابط ضرورية
- إنتصارات اليسار في أميركا اللاتينية -الخلفيات والآفاق
- داود تلحمي في حوار مع العربية ضمن برنامج السلطة الرابعة
- المؤرخ والعالم الاجتماعي مكسيم رودنسون... نموذج مختلف للإستش ...
- بعد خمسين عاماً من الانتصار التاريخي في - ديان بيان فو
- نحن والإنتخابات الأميركية: -إزاحة- اليمين المتطرف... وبلورة ...
- بعد صدور القرار 1515 لمجلس الأمن حول -خارطة الطريق
- في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد ...


المزيد.....




- مصر.. صورة دبابة ميركافا إسرائيلية بزيارة السيسي الكلية العس ...
- ماذا سيناقش بلينكن في السعودية خلال زيارته الاثنين؟.. الخارج ...
- الدفاعات الروسية تسقط 17 مسيرة أوكرانية جنوب غربي روسيا
- مسؤولون في الخارجية الأمريكية يقولون إن إسرائيل قد تكون انته ...
- صحيفة هندية تلقي الضوء على انسحاب -أبرامز- الأمريكية من أمام ...
- غارات إسرائيلية ليلا على بلدتي الزوايدة والمغراقة وسط قطاع غ ...
- قتلى وجرحى جراء إعصار عنيف اجتاح جنوب الصين وتساقط حبات برد ...
- نصيحة من ذهب: إغلاق -البلوتوث- و-الواي فاي- أحيانا يجنبك الو ...
- 2024.. عام مزدحم بالانتخابات في أفريقيا
- الأردن.. عيد ميلاد الأميرة رجوة وكم بلغت من العمر يثير تفاعل ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - داود تلحمي - تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية