أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - داود تلحمي - نحن والإنتخابات الأميركية: -إزاحة- اليمين المتطرف... وبلورة كتل ضغط عربية مؤثرة















المزيد.....



نحن والإنتخابات الأميركية: -إزاحة- اليمين المتطرف... وبلورة كتل ضغط عربية مؤثرة


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 783 - 2004 / 3 / 24 - 06:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ما من شك أن الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة (2 تشرين الثاني/نوفمبر القادم) تكتسي أهمية غير عادية، ليس لمنطقتنا العربية وقضية شعبنا الفلسطيني فقط، وإنما بالنسبة للعالم كله.
ولا يعود هذا التقدير لكوننا نعوّل على هذا المرشح الرئاسي أو ذاك، أو ننتظر الفرج من البوابة الأميركية، كما كان حال بعض الأوساط النافذة في منطقتنا على أبواب كل عملية انتخابية في أميركا، خاصة منذ العدوان الإسرائيلي في العام 1967، بما في ذلك على أبواب الحملة الرئاسية السابقة في العام 2000 التي جاءت بالإدارة الأميركية الحالية. وهي الإدارة التي راهن هذا البعض على مزايا علاقات رموزها الرئيسية بالاحتكارات النفطية الأميركية الكبرى أملاً بتعديل في المواقف الأميركية لصالح العرب... وواضح الآن كم كان هذا الرهان خاطئاً.
أهمية هذه الانتخابات تعود لكون اليمين المتطرف المسيطر على سياسات الإدارة الأميركية الحالية، الخارجية والعسكرية خاصة، أدخل العالم كله في أوضاع بالغة الخطورة، في ظل مشاريعه المحمومة لإحكام السيطرة على الكون وثرواته الاستراتيجية (وفي المقدمة مصادر الطاقة الرئيسة، من نفط وغاز)، وفي سياق مخططاته المغامرة لاستباق نمو أية قوة عالمية أخرى منافسة للولايات المتحدة (أو حتى ساعية للتطور باتجاه التحول الى قوة كبرى) في المستقبل القريب والمتوسط.

سياسات استفزت العالم... واستهانت بالعرب وأذلّتهم

وإذا كان الوجه الأكثر استفزازاً لمنطقتنا وللعالم كله في السياسات الخارجية لهذه الإدارة هو الحرب الاجتياحية للعراق، التي خيضت بدون غطاء شرعي دولي وبدون مسوغ مقبول عالمياً (خاصة وأن حجة أسلحة الدمار الشامل سقطت بشكل فاضح، حتى على أيدي الفرق التفتيشية التي شكّلتها الإدارة الأميركية بعد الاحتلال)، فإن وجوهاً عديدة لهذه السياسات، كما ولبعض السياسات الداخلية في الولايات المتحدة نفسها، خاصة بعد هجمات 11/9/2001، استفزت عدداً كبيراً من دول العالم، بما فيها تلك التي كانت تقليدياً حليفة للولايات المتحدة. والأهم من ذلك، استفزت رأياً عالمياً واسعاً وكاسحاً، عبّر عن نفسه بالمظاهرات الضخمة والصاخبة التي شارك فيها الملايين من البشر في أنحاء العالم ضد الحرب ومجمل سياسات الإدارة الأميركية، وهي تحركات شملت حتى البلدان التي تحالفت حكوماتها مع الإدارة الاميركية في خوض هذه الحرب، كبريطانيا... كما بدا جلياً في التظاهرات الغاضبة الحاشدة التي استقبلت جورج بوش ابان زيارته الأخيرة للعاصمة البريطانية (تشرين الثاني/نوفمبر الماضي2003).
وبالنسبة لنا، كفلسطينيين وعرب، كان يكفي أن يقول رئيس الإدارة الأميركية عن مجرم الحرب اريئيل شارون (المدان حتى من قبل محكمة رسمية اسرائيلية... في العام 1983) بأنه "رجل سلام"، في الوقت الذي كان يمارس فيه ضد شعب بأكمله إحدى أقذر الحروب العنصرية الإستعمارية في تاريخ العالم المعاصر، لكي يرى المواطن الفلسطيني في هذه الإدارة اليمينية شريكاً متواطئاً وحليفاً مشاركاً، شكّل غطاء وحماية لليمين المتطرف الاسرائيلي الحاكم من غضب العالم وإدانات الهيئات الدولية.
وفي حين لا يزال هذا اليمين المتطرف الاسرائيلي، حتى في الوقت الذي يتحدث فيه بعض أطرافه عن الإقرار بمبدأ وجود دولة فلسطينية، يعمل على إخضاع الشعب الفلسطيني لإرادته وهيمنته وسيطرته الأبدية، من خلال تفريغ أي كيان فلسطيني مستقبلي من أي مضمون استقلالي فعلي، ناهيك عن إفراغ الأرض من سكانها بالتدريج من خلال التضييقات والحصارات وعملية التدمير المنهجي لمقومات الحياة وموارد العيش للمواطن الفلسطيني، ومن خلال مواصلة بناء وتوسيع المستوطنات والطرق المكرسة لها وإقامة الجدار الاستعماري العنصري، تواصل الإدارة الأميركية الحالية تركيز إداناتها وضغوطها واستنكاراتها على الشعب الفلسطيني ومؤسساته ومقاومته، معتبرة كل الممارسات الإسرائيلية الدموية والقمعية والإذلالية للمواطنين الفلسطينيين... "دفاعاً عن النفس" من جانب إسرائيل!!
والحديث عن الإدارة الأميركية الحالية لا يعني، طبعاً، تبرئة الإدارات التي سبقتها في مجال الدعم اللامحدود للدولة الصهيونية ولسياساتها العدائية تجاه الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية الأخرى. كما ان هذا الحديث لا يعني أن آمالاً كبيرة يمكن أن تعلّق على أية إدارة جديدة محتملة في واشنطن.
لكن ينبغي القول بوضوح بأن الدعم الرسمي الأميركي لإسرائيل، ويمينها المتطرف الحاكم، وصل هنا، وفي هذه المرحلة، الى مستوى من الابتذال في التواطؤ مع أشد الممارسات الاسرائيلية عدوانية ودموية، بما في ذلك عبر تغطية ودعم الحرب الإسرائيلية القذرة التي استهدفت إعادة السيطرة المباشرة على كافة مناطق الحكم الذاتي في الضفة الغربية في العام 2002، وتغطية وتبرير الحروب الأخرى المستمرة والهادفة الى تدمير البنى التحتية ومقومات الحياة في الضفة وقطاع غزة، طوال السنوات الأربع الماضية خاصة، بحيث لم يعد المواطن الفلسطيني والعربي يرى فروقات تذكر بين سياستي الحليفين اليمينيين، الأميركي والإسرائيلي، تجاه الشعب الفلسطيني وقضايا العرب الأخرى.
حتى أن الحرب على العراق واحتلاله من قبل هذه الإدارة تم النظر اليهما من قبل الشعب الفلسطيني وقطاعات واسعة من شعوب المنطقة، وفي أوساط عالمية ذات شأن، من زاوية كونهما يهدفان في ما يهدفان الى تدعيم وضع إسرائيل في المنطقة عبر تخليصها من أحد الأنظمة العربية الذي كانت تعتبره مصدر تهديد لها. وهو لا شك هدف من بين أهداف هذه الحرب كان واضحاً وحاضراً، وأحياناً معبّراً عنه من قبل بعض رموز ومنظّري اليمين المتطرف المسيطر على السياسة الخارجية الأميركية (ونواته الصلبة المعروفة باسم كتلة "المحافظين الجدد").

تنامي المعارضة داخل الولايات المتحدة للحرب على العراق

والمهم في الوضع الآن، خاصة بعد بدء العام الإنتخابي في الولايات المتحدة، أن جديداً هاماً فرض نفسه في الأشهر الأخيرة داخل البلد، وهو الارتفاع المتزايد للأصوات المعارضة للحرب على العراق ولمجمل السياسات الكونية الانفرادية للادارة الحالية، كما ولسياساتها الداخلية البوليسية، ليس فقط من قبل تلك الأوساط اليسارية والمستنيرة والمناهضة تاريخياً للحروب وللنزعات التوسعية والمغامرات الخارجية، وإنما من قبل قطاعات متزايدة من الجسم السياسي الأميركي الرئيسي، ممثلاً خاصة بجمهور الحزب الديمقراطي وعدد بارز من مرشحيه للرئاسة، وحتى بعض عناصر وتيارات اليمين الجمهوري المحافظ المعتدل.
وهنا، ينبغي أن نسجل باهتمام صعود اتجاه يساري صاحب مواقف متقدمة نسبياً خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، مع إن هذا الاتجاه ما زال يبدو ضعيفاً ومحدود التأثير (خاصة بسبب قوة المال في العمليات الانتخابية الأميركية، وفي أي عمل سياسي على نطاق واسع في البلد). وهو اتجاه تمثّل بشكل خاص في الحملة الحالية لعضو مجلس النواب والمرشح للرئاسة دينيس كوسينيتش، الذي اقتربت مواقفه أو تطابقت في مختلف القضايا الداخلية والخارجية مع برامج اليسار الأميركي التاريخي (الذي جرت محاصرته وتهميشه في المجتمع الأميركي الى حد كبير منذ بدايات ما سمي بـ"الحرب الباردة" في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي – فترة "المكارثية" الشهيرة -، بعد أن كان يتمتع بنفوذ غير قليل في الشارع الأميركي في العشرينيات والثلاثينيات السابقة)، وكذلك يتقاطع مع برامج اليسار الجديد بتشكيلاته المختلفة، بما في ذلك تيارات المدافعين عن البيئة – "الخضر".
والتيار الأخير ( وتحديداً حزب "الخضر") كان قد قدّم في الانتخابات الرئاسية الماضية في العام 2000 مرشحاً خاصاً به الى جانب مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، آل غور وجورج ووكر بوش (وغيرهما من المرشحين الأقل بروزاً)، وهو المحامي المعروف عن حقوق المستهلك في أميركا، اللبناني الأصل، رالف نادر، الذي لم يكن عضواً في حزب الخضر ولكنه لقي دعماً منه ومن أوساط يسارية وتقدمية متنوعة في حملة العام 2000، مما مكّنه من تحقيق نتيجة تعتبر مشرّفة بالمعايير الأميركية، خاصة على ضوء محدودية إمكانياته التمويلية، وذلك من خلال الحصول على حوالي ثلاثة بالمئة من الأصوات على مستوى البلد ككل في الإنتخابات الرئاسية التي جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2000.
وإذا كان المرشح الديمقراطي اليساري كوسينيتش لم يحقق، في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي التي جرت حتى الآن في عدد من الولايات الأميركية، سوى نتائج متواضعة، بحيث كانت نسبة الأصوات التي حصل عليها في معظم الحالات بحدود الواحد بالمئة (باستثناءات قليلة، في الولايات الشمالية الشرقية مثلاً، حيث وصل في إحداها – ولاية مين – الى زهاء 14 % من أصوات المقترعين في الإنتخابات التمهيدية، كما في ولاية هاواي، حيث حصل على زهاء 27 بالمئة من أصوات الناخبين، وهي نسبة مشرّفة بدون شك)... واذا كان من المستبعد تماماً أن يحقق هذا المرشح اليساري معجزة بحيث يجد نفسه فجأة مقبولاً من غالبية الناخبين الديمقراطيين، إلا أن حضوره وعزمه المعلن على البقاء في المعركة الانتخابية التمهيدية حتى نهايتها في الصيف القادم سيتركان، بلا شك، بصمات على قطاعات من جمهور الحزب الديمقراطي ومن الجمهور الأميركي الأوسع، وربما يساهمان في المستقبل في بلورة صيغة من صيغ التيار اليساري المؤثر في هذا البلد الكبير، بالرغم من دور المال الهائل والحاسم، كما ذكرنا، في النظام السياسي الأميركي.
والى جانب المرشح اليساري المذكور، برز في المعركة التمهيدية للحزب الديمقراطي مرشح آخر لفت الانتباه، حيث تبنى بعض المواقف المتقدمة، وهو الحاكم السابق لولاية فيرمونت الشمالية الشرقية، الطبيب هيوارد دين، الذي كانت استطلاعات الرأي في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام المنصرم والأيام الأولى من هذا العام تعطيه الأسبقية على كافة مرشحي الحزب الآخرين. ومن ميزات المرشح دين أنه أبدى معارضة حازمة وقوية للحرب الأميركية على العراق، حتى قبل أن تقع (وهو ما فعله كوسينيتش أيضاً)، وحافظ على هذا الموقف بعد ذلك، واتبع لهجة هجومية حادة تجاه إدارة الجمهوريين الحالية في شتى المجالات، كما اتبع أسلوباً جديداً في جمع الأموال لدعم حملته الإنتخابية من خلال اعتماد التبرع عبر الانترنت ولو بمبالغ متواضعة، مما جعل قطاعات واسعة من الفئات الأقل ثراء في جمهور الحزب الديمقراطي تبدي اهتماماً بحملته وتقدم دعماً سخياً لها، في مواجهة دعم كبار الأثرياء لحملة الرئيس الأميركي الحالي بوش لتجديد ولايته، ولحملات عدد من المرشحين الديمقراطيين الآخرين.
لكن الحملات المضادة التي تعرض لها هيوارد دين من قبل منافسيه على الترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي، ومن الأوساط النافذة والمهيمنة في قيادة الحزب، كما من غالبية وسائل الإعلام، بالإضافة الى بعض السمات الشخصية لدى المرشح دين وبعض تقلباته وتناقضات مواقفه في عدد من القضايا، أضعفته كثيراً مع بدء الحملات الانتخابية التمهيدية في الحزب الديمقراطي في النصف الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، بحيث لم يحقق النتائج التي كانت تعطيه إياها الاستطلاعات قبل ذلك. لا بل كانت نتائجه هزيلة وضعيفة، ليس فقط مقارنة بالمرشح الذي بات الآن المرشح شبه المؤكد للحزب، عضو مجلس الشيوخ جون كيري، وإنما أيضاً تجاه مرشح آخر هو عضو مجلس الشيوخ جون إدواردز (الذي انسحب في مطلع آذار/مارس، بعد أن حقق نتائج مشرّفة في عدد من الولايات)، والى حد أقل تجاه المرشح الآخر الجنرال المتقاعد ويسلي كلارك، القائد السابق لقوات حلف شمال الأطلسي (الذي انسحب منذ مطلع شباط/فبراير من المنافسة).
وإذا لم تحدث تطورات دراماتيكية، غير مرئية حالياً، يبدو المرشح جون كيري، بعد فوزه الكاسح في معظم الانتخابات التمهيدية، المرشح المضمون للحزب لرئاسة الولايات المتحدة في مؤتمر الحزب الديمقراطي الذي سينعقد في تموز/يوليو القادم، والذي يشهد ترسيم ما تكون قد حسمته الانتخابات التمهيدية.


جون كيري... الديمقراطي الوسطي الحذر

وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت بعد فوز كيري في عدد من الانتخابات التمهيدية بأنه الأقدرعلى هزيمة المرشح الجمهوري جورج بوش في انتخابات أواخر العام الحالي. وإن كانت الأشهر القادمة يمكن أن تحمل متغيرات يصعب توقعها، نظراً للحراك الواسع في الوضع الداخلي الأميركي، خاصة في الشأن الاقتصادي، الذي يعتبر الهاجس الأول للناخب الأميركي المتوسط، من زاوية انعكاسه على مستوى المعيشة وفرص العمل، ، وكذلك بسبب الإحتمالات المفتوحة لتطورات الوضع العراقي، وحتى تطورات أفغانستان، وانعكاساتها الأكيدة على الوضع الداخلي (نقل على لسان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت، في حديث جانبي لم تكن تتوقع وصوله الى وسائل الإعلام، قولها أن جورج بوش سيعمل على إلقاء القبض على أسامة بن لادن وإبراز هذ "الإنجاز" عشية الإنتخابات، بما يعزز من فرص نجاحه فيها. وقد تكررت الإشارة الى مثل هذا الاحتمال في الصحافة الأميركية مؤخراً، حيث جرى الحديث عن تكثيف حملات البحث عن بن لادن في المناطق الحدودية الأفغانية- الباكستانية وتخصيص موازنة أكبر لمحاولة الإمساك به قبل موعد الإنتخابات). وهو ما يعني أنه من الصعب الحسم من الآن بأن الرئيس القادم للولايات المتحدة سيكون كيري، وأن جورج بوش الإبن لن يتمكن من استغلال مخاوف المواطن الأميركي على الصعيد الأمني وميله للإحتماء بالسياسات "الصقرية"، الداخلية والخارجية، للادارة الحالية. أي أن الاحتمالات تبقى مفتوحة حتى يوم الإقتراع، بحيث يمكن أن يكون الرئيس الأميركي القادم أياً من الاثنين، كيري وبوش الإبن.
***
ويمكن اعتبار جون كيري وسطياً في مواقفه من مختلف القضايا الأميركية، الداخلية والخارجية، وهو أقرب الى المزاج الوسطي التقليدي السائد في قيادة الحزب الديمقراطي. وكان في شبابه قد شارك في القتال الميداني أبان الحرب الأميركية على فييتنام في أواخر ستينيات القرن المنصرم، وأصيب خلالها بجروح، ومنحت له عدة ميداليات عسكرية. لكنه، عندما أنهى خدمته العسكرية، تحوّل الى مناهض نشط للحرب، مركّزاً علىعدم صواب خوضها وعدم جدواها وعدم قدرة أميركا على كسبها. ويبدو أن هذه التجربة الشخصية تركت أثراُ قوياً عليه، بحيث بات ينظر بحذر الى التورط الأميركي في حروب خارجية.
ومع أنه، كعضو في مجلس الشيوخ، كان قد صوّت الى جانب منح الرئيس بوش صلاحيات إعلان الحرب على العراق في أواخر العام 2002، إلا انه الآن أصبح ناقداً للحرب وللخداع الذي مارسته إدارة بوش عشية الحرب عبر التهويل والكذب بشأن مخاطر مزعومة للنظام العراقي ولأسلحة الدمار الشامل التي قيل أنه يمتلكهاعلى أمن الولايات المتحدة، كما وأصبح ناقداً لسياسات إدارة بوش الحالية في العراق ولمجمل سياساته الكونية التفردية.
هذا المناخ النقدي الحاد لدى كيري، وأوساط الديمقراطيين عامة، تشكّل، ضمن عناصر تأثير متعددة، تحت ضغط الحملة الشديدة التي شنّها المرشحان الديمقراطيان المعارضان للحرب، دين وكوسينيتش، وخاصة المرشح هيوارد دين، الذي كانت حملته المدعومة بأموال وفيرة من أنصاره تلقى اهتماماً إعلامياً وسياسياً أوسع، في العام الماضي خاصة، وكانت لغته النقدية حادة وحازمة تجاه حرب إدارة بوش، وسياساتها عامة، مما جعله يحظى بشعبية كبيرة في استطلاعات الرأي في أوساط الناخبين الديمقراطيين منذ منتصف العام 2003 وحتى مطلع العام الحالي، كما ذكرنا. وساهم في الدفع بهذا الاتجاه النقدي تعثر المشروع الاحتلالي الأميركي للعراق، وتراجع التأييد للحرب ولسياسات إدارة بوش، في قواعد الحزب الديمقراطي خاصة، كما في الشارع الأميركي بشكل عام...خاصة مع تنامي الخسائر البشرية الأميركية في هذه الحرب، بفعل ضربات المقاومة للإحتلال، ومع تزايد التعقيدات في الوضع العراقي الناجمة عن الحرب وانعكاساتها، وسوء تصرف قوات الإحتلال وتخبط سياساتها هناك.
ومن المرجح أن أية إدارة ديمقراطية جديدة، بعد انتخابات أواخر العام، ستجري مراجعة جدية للسياسات الخارجية الأميركية، سواء تجاه العراق أو تجاه القضايا الدولية الأخرى، وخاصة السياسات تجاه الحلفاء الأوروبيين وتجاه منظمة الأمم المتحدة، دون أن يعني ذلك، بالطبع، تحولاً دراماتيكياً في السياسات التقليدية للحزب الديمقراطي الأميركي، حزب الرؤساء ترومان وكينيدي وجونسون وكارتر وكلينتون.
وقد تكون هناك عودة الى سياسات خارجية قريبة من تلك التي اعتمدها الرئيس السابق كلينتون، بما في ذلك وخاصة تجاه الصراع الفلسطيني والعربي-الإسرائيلي. وهو ما يكرره المرشح الديمقراطي كيري في برامجه المعلنة وفي تصريحاته في الأشهر الأخيرة، حيث أكّد عزمه على الاهتمام المباشر بمعالجة الصراع الفلسطيني والعربي- الاسرائيلي، منتقداً إهمال إدارة بوش في التعاطي مع هذا الصراع. وتحدث كيري في هذا المجال عن عزمه في حال انتخابه رئيساً إيفاد ممثل شخصي عنه الى المنطقة. وأورد في هذا السياق أسماء الرؤساء السابقين كلينتون وكارتر وحتى بوش الأب، الى جانب وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، مهندس مؤتمر مدريد عام 1991... لكنه، وفي محاولة لإرضاء أنصار إسرائيل الذين لا يكنون وداً لهؤلاء المسؤولين السابقين، عاد واقترح أسماء مثل صمويل بيرغر، مستشار الأمن القومي السابق، ودينيس روس، المبعوث السابق للشرق الأوسط!
وعلى صعيد أوسع من ذلك، أظهرت التناقضات والتأرجحات المتكررة في تصريحات كيري بشأن العديد من القضايا أنه رجل حسابات أكثر منه صاحب مواقف واضحة وقوية في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، نقلت على لسانه في الأسابيع الأخيرة تصريحات تؤيد، مثلاً، بناء إسرائيل للجدار العازل في الضفة الغربية، في حين كان صرّح في خطاب موجه لمؤتمر الجالية العربية في مدينة ديربورن (ولاية ميتشيغن) في تشرين الأول/أكتوبر الماضي بأن هذا الجدار عقبة أمام السلام والمفاوضات في المنطقة.

قوة المال وأولوية المصالح الإقتصادية والإستراتيجية

ومعروف، كما أشرنا أعلاه، أن النظام الأميركي السياسي، وتحديداً في الانتخابات العامة، يقوم بالأساس على قوة المال ونفوذ أصحابه، أي المؤسسات الاقتصادية الضخمة، التي هي قاطرة الاقتصاد الرأسمالي الأميركي، وبالتالي قاطرة سياسات أية سلطة سياسية. والفروقات بين الحزبين الكبيرين لا تخرج عادة عن هذا الإطار، حيث يدافع كلا الحزبين أولاً عن مصالح الرأسمالية الأميركية وشركاتها العملاقة، مع بعض التلاوين والتباينات التي لها علاقة بطبيعة جمهور كل حزب وشبكة علاقاته الداخلية ورؤيته للمعطيات والظروف الدولية.
ويجدر التذكير، مثلاً، بموقف الرئيس الأسبق دوايت ايزنهاور (وهو من الحزب الجمهوري) في الخمسينيات الماضية، حيث عارض الحرب البريطانية- الفرنسية – الإسرائيلية على مصر في العام 1956 بعد تأميم رئيسها، آنذاك، جمال عبد الناصر، لقناة السويس، ومارست إدارته (أي إدارة أيزنهاور) ضغوطاً على فرنسا وبريطانيا للإنسحاب من قناة السويس، كما على حكومة اسرائيل (برئاسة دافيد بن غوريون، آنذاك)، لدفعها للانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها في تلك الحرب (سيناء وقطاع غزة). وهذه المواقف أظهرت الجمهوريين الأميركيين، في حينه، وكأنهم أقل اقتراباً ودعماً لإسرائيل من الديمقراطيين (الذين تصوّت لصالحهم غالبية الأميركيين اليهود تقليدياً).
وهكذا انتشرت في منطقتنا مقولة مفادها أن الجمهوريين، بفعل ارتباطاتهم بالشركات النفطية الكبرى، هم أقرب الى العرب منهم الى إسرائيل (وهو ما ليس، بالطبع، صحيحاً، وما تراجعت مصداقيته أكثر وأكثر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، لأسباب عدة منها التحولات الهامة التي طرأت على بنية الإقتصاد الأميركي، علماً بأن هذا الإقتصاد هو في الواقع أكبر وأضخم من أن تحدد ملامح سياسته كتلة واحدة من الاحتكارات، على إفتراض أن المدافعين عن هذه الكتلة يرون تأمين مصالحها في النفط الشرق الأوسطي من خلال مراضاة العرب أو حكامهم، وهو أمر ليس صحيحاً أيضاً، كما تظهر ذلك سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عدوان العام 1967).
فالرئيس الأسبق ايزنهاور انطلق، في موقفه من حرب السويس، من حسابات التنافس مع الإتحاد السوفييتي في خضم "الحرب الباردة" كما في سياق التطلع لوراثة نفوذ الدول الإستعمارية القديمة (بريطانيا وفرنسا) في الشرق الأوسط. علماً بأن إدارته اتبعت سياسات أخرى معادية للمصالح العربية، مثل دعم تشكيل حلف بغداد في أواسط الخمسينيات لمواجهة المد الوطني والاستقلالي في البلدان العربية والإسلامية المجاورة، خاصة بعد رعاية وتنظيم المخابرات الأميركية للإنقلاب على حكومة محمد مصدّق الوطنية في إيران في العام 1953 لكونها كانت تسعى لتأميم صناعة النفط في البلد، الخ...
وبعد أيزنهاور، جاء من الجمهوريين الرئيس ريتشارد نيكسون (1969-1974)، الذي كان نائباً للرئيس أيزنهاور طوال ولايته (1953-1961) ، والذي، رغم ما قيل عن مشاعره الشخصية الكارهة لليهود، عيّن أميركياً يهودياً منحازاً لإسرائيل في أخطر المواقع في إدارته (رئاسة مجلس الأمن القومي، ثم وزارة الخارجية)، وهو هنري كيسنجر، الذي تكشفت مواقفه المتواطئة مع اسرائيل بشكل فاقع في الوثائق الداخلية التي تم الإفراج عنها في الآونة الأخيرة، خاصة عن فترة حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973 وما بعدها.
وبعد أيزنهاور ونيكسون، جاء جيرالد فورد إثر إقصاء نيكسون بسبب فضيحة ووترغيت، فأبقى كيسنجر يصول ويجول ويحدد السياسات الخارجية طوال العامين وبضعة أشهر التي قضاها في الحكم. وبعد ذلك، جاء الجمهوري رونالد ريغن في الثمانينيات، ليكرّس ويعمّق مع طاقمه تحولاً جوهرياً في السياسات والإقتصاد الأميركي باتجاه ما عرف باسم الليبرالية الجديدة، في عصر العولمة المتزايدة لرأس المال... وهو تحوّل جاء في الواقع انعكاساً لما حدث من تحولات على الأرض في الإقتصاد الأميركي نفسه منذ عقد ونيّف. كما دعمت إدارة ريغن، في المجال الخارجي، حرب أريئيل شارون الإسرائيلية على لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1982، وأرست قواعد تحالف استراتيجي أكثر وثوقاً مع إسرائيل.

صعود اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري

وكانت فترة ريغن (1981-1989) فترة صعود اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري وتبلور الكتلة التي سميت باسم "المحافظين الجدد"، وهم من الأعضاء السابقين في الحزب الديمقراطي الذين تحولوا نحو دعم الجمهوريين وسياسات ريغن اليمينية والصدامية مع الاتحاد السوفييتي وقوى اليسار وحركات التحرر في أنحاء العالم.
وربما كان جورج بوش الأب (1989-1993) مرحلة انتقالية في مسار الرئاسات الجمهورية كرجل له ارتباطات ومصالح في المشاريع النفطية الأميركية، من زاوية اهتمامه بشيء من مراضاة الحكام العرب المحسوبين على التيار المحافظ أو "الصديق" لأميركا، وخاصة حكام الدول النفطية العربية في الخليج (ما عدا العراق، طبعاً، الذي خاض بوش ضده حرباً واسعة تحت يافطة "تحرير الكويت"، وبهدف حماية الدول النفطية المحافظة، التي كان الاجتياح العراقي للكويت يبدو تهديداً لوجودها ودورها في اللعبة النفطية العالمية، وبالتالي مساساً وتهديداً لنفوذ حلفائها الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة).
وكان بوش الأب، من جانب آخر، قد سعى، بعد حربه الخليجية، لبناء عملية تسوية للصراع العربي - الإسرائيلي يراد لها أن تحقق الإستقرار لأميركا ومصالحها وأصدقائها في المنطقة، وتوحي لـ"الأصدقاء" العرب بأن واشنطن مهتمة بمعالجة القضايا الأخرى في المنطقة التي تقض مضاجعهم، وفي المقدمة قضية هذا الصراع العربي- الإسرائيلي. وبوش الأب كان، بالتالي، يحمل بعض سمات جمهوريي الخمسينيات من جهة، كما شكّل محطة إنتقالية قصيرة في مسار الإدارات الجمهورية باتجاه هيمنة اليمين المتطرف على الحزب، وسيادة سياساته، سياسات استكمال وتعميق سياسات مرحلة ريغن، واستغلال فرصة انهيار الإتحاد السوفييتي لتحصين وإدامة التفرد الأميركي بالقوة الكونية. الى أن انتهى الأمر مع بوش الإبن، منذ بدء ولايته في مطلع العام 2001، بتطويب هذا اليمين المتطرف قيّماً على السياسات الأميركية الكونية، حتى قبل أن تمنح أحداث 11/9/2001 الغطاء التبريري للسياسات التي سبق وأن صيغت بشكلها الأكثر وضوحاً منذ الأشهر الأولى التي تلت إنهيار الإتحاد السوفييتي ( وثيقة وولوفويتز الشهيرة التي تسربت عن البنتاغون-وزارة الدفاع- في العام 1992).

تخوم أوضح بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي

وربما ساهمت هذه التطورات في مزيد من بلورة بعض الفروقات بين الحزبين الأميركيين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي. ففي الماضي، كان يمكن أن يكون داعية "الحرب الباردة" و"احتواء الخطر الشيوعي" وداعم قيام دولة اسرائيل وصاحب قرار الحرب على كوريا، في مطلع الخمسينيات الماضية، من الحزب الديمقراطي (هاري ترومان)، وأن يكون صاحب التورط الدموي في الحرب على فييتنام وتوطيد الدعم الأميركي لاسرائيل بعد حربها على العرب في العام 1967 من الحزب الديمقراطي أيضاً (ليندون جونسون)، وأن يكون رئيس ديمقراطي آخر (جيمي كارتر) صاحب السياسة الداعية لاعتبار منطقة الخليج "منطقة مصالح حيوية" للولايات المتحدة، وأن يعمل رئيس ديمقراطي في التسعينيات (ويليام كلينتون) على الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، وفي تحدي الدعوات الدولية لحماية البيئة وغلاف الأرض من الصناعات الملوثة، وفي الدفاع عن مصالح الاحتكارات الكبرى في مرحلة العولمة المتصاعدة.
ولا شك أن طبيعة النظام الحزبي الأميركي، الذي يجعل الساحة عملياً حكراً على الحزبين الكبيرين، المرتبطين كليهما، بالدرجة الأولى، بمصالح المؤسسات الإقتصادية الكبرى في البلد، يجعل بعض الديمقراطيين أحياناً أقرب الى سياسات وأفكار اليمين الجمهوري، وهو ما كان عليه، مثلاً، حال المرشح المنسحب من الانتخابات التمهيدية للرئاسة جوزف ليبرمان، اليهودي المتدين المدافع عن اسرائيل وعن الحرب على العراق.
ولكن الأمور يمكن أن تتبلور الآن بشكل أوضح، بحيث يبرز الحزب الجمهوري كحزب يميني، في القضايا الداخلية والخارجية، مدافع بالأساس عن مصالح كبار الرأسماليين والأثرياء وعن المشروع الإمبراطوري الكوني لليمين المتطرف الأميركي، والحزب الديمقراطي كحزب أقل يمينية يستند، الى جانب علاقاته المتينة مع قطاعات أخرى من رأس المال الكبير أيضاً، الى دعم قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى وكذلك النقابات الرسمية والأقليات العرقية والاثنية، وفي المقدمة السود (الأفريقيين- الأميركيين).
وإن كان تهميش المرشح كوسينيتش، من جهة، بالرغم من كون برنامجه إصلاحياً وغير ثوري، وهزيمة المرشح هيوارد دين، من جهة أخرى، بالرغم من أن طموحاته لنشر تقاليد شعبوية وليبرالية (بالمعنى السياسي) ومساعيه لنفخ الروح في قطاع واسع كان محبطاً ومنكفئاً في الحزب الديمقراطي لم تكن متعارضة مع اهتمامه وعلاقاته مع الأوساط النافذة في الإقتصاد الأميركي، كلا التطورين يؤشران الى صعوبة التغيير في الخارطة السياسية الأميركية في ظل نظام انتخابي يعطي للمال وأصحابه نفوذاً هائلاً، ويحجّم بالتالي نفوذ ودور قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي.
فهزيمة هيوارد دين في الانتخابات التمهيدية جرت أولاً على يد النواة المسيطرة على جهاز الحزب الديمقراطي والتي يجسدها ما يسمى بـمجلس القيادة الديمقراطية، وهي النواة التي كانت وراء الرئيس السابق ويليام كلينتون، كما هي الآن داعمة للمرشح الوسطي جون كيري (أحد المعلقين الأميركيين تحدث عن "اغتيال هيوارد دين" من قبل هذه الكتلة النافذة في حزبه، تعليقاً على خسائر دين في الانتخابات التمهيدية، بعد أن تحدى هذه الكتلة المتنفذة في الحزب بشكل علني وحاد خلال حملته الانتخابية).
ومعروف أن المرشح الديمقراطي المرجّح للرئاسة، جون كيري، هو من أصحاب الملايين، حيث تقدّر ثروته الشخصية وثروة زوجته، وريثة أصحاب مصانع هاينز الشهيرة لـ"الكيتشوب"، بحوالي سبعمئة مليون دولار. ويمكن أن يكون، وفق وسائل الإعلام الأميركية، الرجل الأكثر ثراء بين أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي.
وفي الواقع، وباستثناء المرشحين قليلي الحظ في النجاح (مثل المرشح اليساري كوسينيتش ومرشحين اثنين آخرين من السود، الأفارقة الأميركيين)، فإن كافة المرشحين الديمقراطيين الرئيسيين في بداية الحملة في خريف العام الماضي، كانوا من أصحاب الملايين، بما في ذلك المرشح هيوارد دين.
وهكذا، فإنه يبدو جلياً أنه في ظل ما رأيناه من سياسات يمينية امبراطورية توسعية، بمعنى الهيمنة والسيطرة وليس بالضرورة الاحتلال الدائم والمباشر على طريقة الإستعمار القديم، للإدارة الأميركية الحالية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، فإن أي بديل للإدارة الأميركية الحالية وتيار "المحافظين الجدد" اليميني المتطرف المسيطر على سياستها الخارجية والعسكرية هو أفضل لسكان العالم، ولنا كفلسطينيين وعرب.
ليس بمعنى أن الإدارة البديلة، إذا ما نجحت في الانتخابات، ستغير بشكل جوهري سياسات أميركا في منطقتنا لتصبح فجأة سياسة متوازنة، ولكنها ستحد من غلواء عدوانية هذه السياسة ودعمها المطلق لليمين الصهيوني المتطرف في اسرائيل. فكافة المرشحين الرئيسيين من الحزب الديمقراطي أبدوا في برامجهم الانتخابية ومداخلاتهم المختلفة دعماً تقليدياً لإسرائيل و"أمنها" وعلاقة الولايات المتحدة الخاصة معها... وإن كانت اللهجات تتباين بعض الشيء بين مرشح وآخر. واذا استثنينا المرشح اليساري كوسينيتش، الذي لم يكن له منذ بدء الحملة الإنتخابية أي حظ في النجاح كمرشح للحزب في انتخابات الرئاسة القادمة، كما ذكرنا، والذي تحدث في برامجه بوضوح عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعن حل منصف ومتوازن للصراع في الشرق الأوسط... وإذا استثنينا بعض الإشارات العابرة للمرشح هيوارد دين حول ضرورة إتباع سياسة أكثر توازناً بين طرفي النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي، فإن بقية المرشحين الديمقراطيين الرئيسيين هم من حملة المواقف التقليدية للحزب الديمقراطي، وإن كان جون ادواردز، عضو مجلس الشيوخ، والأصغر سناً بين المرشحين الرئيسيين (50 عاماً)، يعتبر، بعد ليبرمان، الأكثر ميلاً لدعم استمرار السياسة العسكرية الأميركية في العراق، مثلاً(بعض التقديرات الصحافية تتحدث عن احتمال إختياره من قبل كيري لموقع نائب الرئيس في قائمته، بحيث يكمّل ادواردز، الجنوبي -من ولاية نورث كارولاينا-، كيري، الشمالي -من ولاية ماساتشوسيتس، التي كان ينتمي اليها أيضاً الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي-. لكن اختيار نائب الرئيس يعود عادة الى المرشح الفائز في الانتخابات التمهيدية والمكرّس في مؤتمر الحزب في الصيف القادم، وهو المؤتمر الذي يتم فيه عادة الإعلان عن اسم المرشح لنائب الرئيس. وبالتالي، ما زال مبكراً الحديث عن مرشح لهذا الموقع من الآن، وإن كانت بعض الأسماء متداولة في بورصة الإعلام الأميركي).
وللمفارقة، فإن ما يمكن أن يزيد من فرص كيري في النجاح كونه وكون زوجته ينتميان الى الطائفة الكاثوليكية، التي يشكّل المنتمون إليها زهاء ربع المواطنين في الولايات المتحدة. وهذه الطائفة، التي كان الرئيس الأسبق كينيدي (1961-1963) أول رئيس أميركي ينتمي إليها (حيث كان الرؤساء السابقون كلهم، تقليدياً، من الطوائف البروتستانتية)، لها فعلياً ثقل يتجاوز ثقل من يسمون أنفسهم بالإنجيليين المسيحيين، والمعروفين أكثر بالأصولية والنزعات اليمينية والمناصرة العمياء لاسرائيل، وهم الآن قاعدة من القواعد الشعبية والإقتصادية الأهم للرئيس الحالي بوش وإدارته الجمهورية. وبالرغم من أن الإنتماء الديني ليس وحده حاسماً بالنسبة للعديد من الناخبين الإميركيين، إلا ان تنامي وزن ذوي الإصول الأميركية اللاتينية في الولايات المتحدة، وهم في غالبيتهم الساحقة من الكاثوليك، يصب هنا أيضاً لصالح المرشح كيري. ويشار الى أن أحد الذين يتم تداول أسمائهم لشغل موقع المرشح لنائب الرئيس في قائمة كيري هو حاكم ولاية نيو مكسيكو الحالي بيل روبرتسون، الذي هو من أصول أميركية لاتينية، كما هو جنوبي أيضاً.

أبواب يفتحها تعثر المشاريع الأميركية في منطقتنا

ولا شك أن تنامي المقاومة في العراق وتعثر المشروع الأميركي للسيطرة على هذا البلد ذي الثروة النفطية الاستراتيجية، وكذلك صمود الشعب الفلسطيني في وجه محاولات أريئيل شارون لإخضاعه بالقوة وبالإذلال الجماعي والتجويع، وتعثر مشاريعه لتكريس تأبيد الإحتلال لأرضه، كل هذه العوامل تفتح الآفاق لتغيّر في السياسات الأميركية تجاه المنطقة والعالم، خاصة اذا ما تم إقصاء أو "إزاحة" – وهو التعبير الذي استخدمته حكومة شارون تجاه الرئيس الفلسطيني ياسرعرفات- اليمين المتطرف المسيطر على القرار بشأن المسائل الخارجية والعسكرية في الولايات المتحدة. وهو ما لن يعني، طبعاً، نهاية الطموحات الإمبراطورية الأميركية في منطقتنا والعالم، والتي ستستمر طالما هذا النظام السياسي- الإقتصادي الرأسمالي التوسعي قائم هناك، وطالما لم يتحقق شيء من التوازن على صعيد الخارطة الدولية من خلال تعددية في مراكز النفوذ العالمي، ومن خلال تشكّل نظام عالمي أكثر إنصافاً وحرصاً على أخذ مصالح شعوب العالم كله بعين الاعتبار.
لكن انكفاء المشروع اليميني المتطرف، الذي يجسّده "المحافظون الجدد" وبعض رؤوس الإدارة الأميركية الحالية الأخرى من المحافظين القدماء، مثل نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رمسفيلد، سيحدّ، على الأغلب وفي حدود معينة، من الطابع العدواني المغامر للسياسة الأميركية في منطقتنا والعالم. وهو ما يشكل مكسباً في كل الأحوال لشعوب العالم، التي راعها استهتار الإدارة الحالية بالقانون الدولي وبمنظمة الأمم المتحدة والهيئات الدولية، وروّعها الاستخدام الفج للتفوق العسكري الأميركي لإعادة رسم خارطة العالم ومناطقه الاستراتيجية لخدمة مصالح الولايات المتحدة ورأسمالها الكبير وحدها، بمعزل عن مصالح شعوب ودول العالم الأخرى، لا بل وبالضرورة على حسابها.

من أجل كتل ضغط عربية دائمة وفاعلة

وهنا لا بد من التأكيد أن تشكّل كتلة ضغط عربية (وإسلامية، حيث أمكن) داخل الولايات المتحدة من أبناء الجاليات العربية والمسلمة غير العربية، بتنسيق جاد وحيوي مع التيارات اليسارية والمستنيرة وأنصار العدل والسلام خارج الحزبين الكبيرين أو لدى الشرائح المتقدمة داخلهما، وخاصة في الحزب الديمقراطي، وهو ما بدأ يتبلور بشكل متزايد في الأشهر الماضية، خاصة على ضوء الاضطهاد الذي تعرض له ذوو الأصول العربية والمسلمة منذ تفجيرات 11/9/2001، هذا التشكّل سيكون تطوراً مهماً في التأثير على أية إدارة أميركية وسياساتها في منطقتنا بشكل خاص.
وسيكون مهماً جداً في هذا السياق أن تتوفر شروط دعم من شعوب منطقتنا وحكوماتها لمثل هذا الضغط. وهو ما ليس، للأسف، متحققاً حتى الآن، لا بل إن الآية معكوسة، حيث تقوم الإدارات الأميركية هي بالضغط على الأنظمة العربية وبممارسة الترهيب والابتزاز تجاهها، مواصلة الاستفادة من العصا الإسرائيلية لدعم هذه العملية، استمراراً للخدمات الجلى التي قدمتها إسرائيل طوال العقود الماضية للمصالح والسياسات الأميركية.
وفي هذا السياق، ومع دعم العديد من الناخبين العرب الأميركيين المحسوبين على الحزب الديمقراطي للمرشح اليساري كوسينيتش، الذي لن يستطيع إلا أن يسجّل مواقفه تجاهه مختلف القضايا الداخلية والخارجية، ولكن في غياب أي حظ له في ترجمة هذه المواقف من خلال مكسب انتخابي ملموس أواخر هذه السنة (اللهم إلا في إطار الانتخابات التشريعية، وهي مسألة مهمة في كل الأحوال)، لا بد من الحديث السريع عن قيام رالف نادر بتسجيل نفسه كمرشح مستقل لانتخابات الرئاسة، وهو الترشيح الذي أزعج بعض أوساط الحزب الديمقراطي النافذة التي كانت قد حمّلت نادر مسؤولية فشل المرشح الديمقراطي آل غور في انتخابات العام 2000 من خلال سحب أصوات من قاعدته الانتخابية.
ففي واقع الحال، يشكّل حضور مرشح متقدم في مواقفه السياسية، الداخلية والخارجية، مثل رالف نادر، بحد ذاته، ضغطاً على المرشح الديمقراطي بشكل خاص، أي جون كيري، لدفعه لأخذ مواقف التيار الذي يعبّر عنه نادر (وكوسينيتش) بعين الاعتبار، ولو بحدود معينة، خاصة في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني والعربي- الإسرائيلي، في مواجهة نزعات وحسابات كيري الواضحة لإرضاء اللوبي الصهيوني وأنصار إسرائيل في الولايات المتحدة في تصريحاته الأخيرة، كما أشرنا.
فمن الواضح أن المعركة من أجل احتواء النزعات العدوانية للسياسة الأميركية في منطقتنا هي معركة طويلة نسبياً وتحتاج لجهود متعددة وتحالفات واسعة، داخل الولايات المتحدة وعلى الصعيد العالمي، وذلك بهدف تقصير معاناة شعوب منطقتنا، وخاصة الشعبين الفلسطيني والعراقي، وبهدف المساهمة في رسم معالم نظام عالمي أكثر توازناً وأكثر حرصاً على مصالح شعوب العالم بمجملها، وليس مصالح دولة واحدة أو مجموعة صغيرة من الدول وعلى حساب الغالبية الساحقة من شعوب العالم وبلدانها، الخاضعة للانتهاكات لسيادتها وحقوقها في السيطرة على ثرواتها ومقدراتها كما ولشتى أشكال الاستغلال على يد الأغنى والأقوى في عالم تسوده، في حالات كثيرة، قوانين الغاب.
رام الله- فلسطين
آذار/مارس 2004



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد صدور القرار 1515 لمجلس الأمن حول -خارطة الطريق
- في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد ...


المزيد.....




- زيارة إلى ديربورن أول مدينة ذات أغلبية عربية في الولايات الم ...
- الرئيس الصيني يزور فرنسا في أول جولة أوروبية منذ جائحة كورون ...
- مطالبات لنيويورك تايمز بسحب تقرير يتهم حماس بالعنف الجنسي
- 3 بيانات توضح ما بحثه بايدن مع السيسي وأمير قطر بشأن غزة
- عالم أزهري: حديث زاهي حواس بشأن عدم تواجد الأنبياء موسى وإبر ...
- مفاجآت في اعترافات مضيفة ارتكبت جريمة مروعة في مصر
- الجيش الإسرائيلي: إما قرار حول صفقة مع حماس أو عملية عسكرية ...
- زاهي حواس ردا على تصريحات عالم أزهري: لا دليل على تواجد الأن ...
- بايدن يتصل بالشيخ تميم ويؤكد: واشنطن والدوحة والقاهرة تضمن ا ...
- تقارير إعلامية: بايدن يخاطر بخسارة دعم كبير بين الناخبين الش ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - داود تلحمي - نحن والإنتخابات الأميركية: -إزاحة- اليمين المتطرف... وبلورة كتل ضغط عربية مؤثرة