أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - وليد مهدي - ماذا أعد - الله - للعراق ؟















المزيد.....



ماذا أعد - الله - للعراق ؟


وليد مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 2620 - 2009 / 4 / 18 - 06:47
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


العــراق والمشروع الغربــي الجديد
" عراق ما بعد الإنسحاب الأمريكي "

يقع هذا البلد اليوم تحت نير مشروع ٍ إمبرطوري أورو- أمريكي كبير ، تحاك خيوطه في الخفاء بعدما فشلت المشاريع الأمريكية السابقة في الشرق الأوسط التي كانت تذاع في العلن ..
لقد غيرت تحولات " تموز " 2006 ..بوصلة السياسة الغربية في الشرق الأوسط ، وإسرائيل التي كانت حامية وقلعة منيعة للمصالح الأمريكية الغربية في الشرق الأوسط أصبحت اليوم " عاله " على المصالح القومية للشعوب الغربية ... !
السلام والتسوية التي يجري الحديث عنها في المحافل السياسية اليوم غايتها حماية إسرائيل من الزوال بعدما كانت المشاريع في السابق( مثل الشرق الأوسط الكبير وإتحاد الدول المتوسطية ) تهدف إلى زيادة قوة ونفوذ الدولة العبرية .. !
هذه هي أهم المعطيات الأولية التي وضعت نصب عيني إدارة أوباما ..
فإسرائيل العظمى التي كانت المشاريع السابقة ترسم من أجلها كان من المفروض أن تدخل في شراكة وحلف إستراتيجي مع دولة كردية كبيرة في شمال العراق وجنوب تركيا ...
لكن الإخفاق في حرب تموز ... وأخيراً في غزة .. بدد كل الأحلام العبرية والكردية .. وعادت إلى الساحــة الإسلامية فجأة ... " تركيـــــا " ..
أسند الناتو إلى تركيــا اليوم إبتداءاً أن تكون نواة جديدة للشرق الأوسط ، وبدأت أولى علامات هذا التحرك بتحرك تركي واسع وبعيد المدى على الحدود الشمالية للعراق بالحرب على حزب العمال الكردي ..
وبعد ..
بدأت بوصلة السياسة العراقية ( المحركــة أمريكيا ) تتجه للتحالف مع الأتراك ولكن بالتدريج ..
ما هو الهدف النهائي للمشروع ..؟
على تركيا أن تقود الشرق الأوسط وتحمي المصالح الغربية بدلاً من إسرائيل ، من ثم تحد من التمدد الإيراني في المنطقة .. ومن غير المستبعد أن تدفع تركيا إلى دخول مغامرة " كبرى "مع الإيرانيين على المدى البعيد ..
ومثل هذا السيناريو حدث منذ عهد ٍ ليس بالبعيد ..
فمنذ الأشهر الأولى لثورة روح الله الخميني في إيران أسندت إلى حكومة البعث في العراق هذه المهمــة من قبل الإدراة الأمريكية في عهد ريجان ، وكانت النتيجة ثمان سنوات من الحرب الطاحنــة دفع ثمنها شعب العراق غالياً ، وقامت كل دول الجوار العراقي الأخرى عدا سوريا بمساندة هذه الحرب ضد إيران بدفع من أميركا ..
هذه الدول هذه المرة .. والعراق يتم تأهيلهم رويداً لفكرة إن " تركيا " هي التي ستقود العالم الإسلامي في القرن الحادي والعشرين .. فهي عضو في حلف الناتو .. وربما ستنضم للإتحاد الأوربي إذا اقتضت المصالح الغربية ذلك ..؟


إلى متى يبقى مصير شعب العراق مرهونــا بتخطيط الدوائر الغربية و العربيــة ؟

هناك قاعدة سيكولوجية بسيطة تقول :
إذا لم تكن لديك خطـــة ... فمهما تكن قوتك .. فأنت جزء ٌ من مخططات الآخرين ... !
والعراق منذ أكثر من ألفي سنــة لا يمتلك أي خطة سياسية " خالصة " تمثل آمال وتطلعات " مشتركة " للساكنين على أرضه ..
منذ سقوط بابل " 539 قبل الميلاد " وشعب ما بين النهرين مرتهن بالخطط الفارسية ..
والرومانية ..
والتركية ..
والعربية – القومية
لم تظهر للشعب العراقي أي خطط إستراتيجية وطنية " خالصة " عدا التي جاء بها عبد الكريم قاسم في العام 1958 ... لم يكن قومياً .. ولا شيوعياً ... بل كانت وطنيته .." فوق الميول و الإتجاهات " ..
لكن تموز أغتيل .. بالخنجر الناصري البعثي " القومي " على مرآى ومسمع العالم الإشتراكي آنذاك .. دون أن يتحرك .. فكيف يكون شيوعيا ً كما يشار إليه أحيانا ً ..!
العراق بحاجة إلى إعادة " إنتاج " فكري ..
العراق بحاجة إلى أن نعيد كتابة تأريخه من جديد ..
علينا أن نمزق كل ما كتبته الصحائف القومية .. والطائفية المذهبية عن ماضيه وحاضره
العراق ... ليس عربيا ً ، فعمره يزيد على عمر العروبة .. بل هو أقدم من ظهور لسان العرب في الجزيرة ..
العراق ليس فارسياً .. بل إن الحضارات التي قامت في فارس كانت تستعمل حروف الكتابة العراقية القديمة
وكذلك الحضارات التركية القديمة ..
كانت لغــة العالم الدبلوماسية هي " البابلية " مثل الإنكليزية اليوم حتى في عهد الفراعنة ..
العراق بحاجة إلى " أتاتورك " تموزي .. و" غاندي " مثل عبد الكريم الذي إغتالته القومية بتحريض من الغرب .. كل الغرب ..!

العراق بحاجة ٍ إلى بطل ٍ تموزي جديد ... !
هل في العراقيين سياسي واحد " تموزي " مثل عبد الكريم ..؟

سياسيي العراق يتحدثون وكأن هذا الأمر مقضي من قبل الله وملائكته .
أمر الهيمنة الغربية ... وتشابك العراق في علاقات قومية مع دول الجوار .. سواء من الذين في السلطة الفوضوية الحاكمة اليوم أم من المعارضة " المأجورة " الموجودة في الداخل و الخارج ..
نحن ندرك إن مثل هذا " التعميم " خطير وغير منطقي ..
لكننا نسير على وقع :

" مالم تكن للبلاد خطة .. فكل سياسي عراقي عبارة عن عميل ولو كان نبياً "

" واقع حال " .. هكذا و ببساطة هذه الكلمات يبرر سياسيو العراق تخاذلهم ، ثم يتحدثون عن التسامح والتلاحم والمصالحة الوطنية وكأن كل شيء يجري في معزل عن المتغيرات الجيو- سياسية في العالم ، يريدون تأسيس فكر ٍ وطني جديد للعراق دون أن تكون هناك دراسة منهجية واضحة لمستقبل العراق الذي تريده أمريكا و الإتحاد الأوربي بعد إنسحابها ، أمريكا بآلاتها الإعلامية الضخمة ، ومخابراتها النافذة في كل العالم ستتركهم يبنون العراق وفق ما يدعون بكل سهولة !
إنهم يتمثلون في السياسةِ الكلام فقط ، ولعل هذا هو السبب الذي يجعلهم غير مؤهلين لإدارة البلد ماداموا يقولون مالا يعملون وكل الأحداث التي تحدث في عراق اليوم هي خارجة عن دائرة الفهم لديهم ، فمقاليد العراق بيد المحتل الأمريكي اليوم ، وستسند إلى محتل خفي آخر غدا ً ..
وإذا كانت النخبة السياسية الحاكمة في العراق لا تقول الحقيقة ، وقد لا تدري ما هي الحقيقة بعد أن أغرتها الكراسي والأرصدة الكبيرة في بنوك الغرب ، نقول لهؤلاء.إذا كنتم تجهلون ما هي تبعات رهن العراق بيد القوى الإستعمارية ، عراق الستة آلاف عام ، فها نحن نخبركم ، وبسياق جديد في كتابة التأريخ .. ما هو الغرب .. وما هي أميركا وما هو موقع العراق في المشروع الأمريكي ، وما هو الموقع الطبيعي للعراق ومكانته في التأريخ الإنساني وكيف بالإمكان بناء الوطن وتحرير عقل الجيل الجديد من مخلفات وأدران الطائفية والقومية ، برؤية نظرية لا تفرض نفسها حتمية مقدسة مثل الفكر الإسلاموي و الفكر القومي المتهالك، وإنما رؤية علمية قابلة للنقاش والأخذ أو الرد ، وليعلموا إن الله الكبير العظيم لن يغفر تخاذلهم ، وإن الشعب العراقي نفسه ، ما أن يستفيق من غفوته بعد تعب قرن ٍ مرهق ٍ ثقيل يفعل بكم فعلته .. وما حدث لنوري باشا السعيد منكم ببعيد ...

كيف نقرأ التأريخ من جديد ؟

إن تقسيمنا للمراحل التي تطور فيها التأريخ العراقي سيعتمد على قراءتين :

الأولى : القراءة الإستاتيكية " الثابتة " وهي تعتمد على المعطيات التأريخية كمؤثرات آنية مرحلية

الثانية : القراءة الديناميكية " المتحركة " وهي التي تحاول أن ترسم العلاقة التي تجمع كل هذه المعطيات معاً

في الحقيقة فإن القراءة الأولى هي قراءة إعتيادية نقلية للتأريخ تستعمل معطيات التأريخ كما وردت في فجواتها العصرية ، أي الفجوة العصرية الإسلامية ، وهي منقولة عن أقلام إسلامية قديمة وحديثة ، والفجوة المندثرة القديمة وهي منقولة عن أقلام الباحثين و الآثاريين الغربيين لتأريخ العراق والمنطقة وهي رؤى حديثة صدرت معظمها في القرن العشرين
أما القراءة الثانية ، فهي تحاول تجميع كل القراءات في صورة واحدة مركبة تصل ختام القصة التأريخية بالمطلع .. وهي قياس " كلاني " أو " منظوماتي " كامل لكل أحداث التأريخ مجتمعة مع العوامل الثقافية ، وتأريخ صيرورة هذه العوامل والمؤثرة بكل تأكيد على الفكر العراقي والإسلامي الذي كان يقود دفة التأريخ يوما.
لقد غادرت عقلية " النقل " و " الرواية" الفكر الأوربي منذ قرون ، وتحول العالم إلى عصر ٍ جديد ٍ من الأفكار ، وهاهنا سنحاول " عصرنة " التأريخ ما نستطيع عبر موضوع ثورة تموز ودورها في الفكر السياسي في العراق وما تمثله من نقطة تحول ٍ في العراق ليس في مجال السياسة ِ فحسب ، وإنما على صعيد الثقافة العامة أيضا ً، ففي تأريخ العراق ، وكما سنكشفه عبر هذا الموضوع ، إتجاه معين يدفع " القدر " العراق نحوه ، هذا القدر هو الذي يجعل من العراق أساساً في كل مشاكل التأريخ ، وكل تفجرات الإبداع في الوقت عينه ، لما يلعبه من دور ٍ محوري في ثقافة الشرق والعالم .. ، فالإرث العراقي الثقافي هو الذي يصنع التأريخ ..


العراق .. هذا البلد العتيق

إننا اليوم بحق ، بحاجة إلى إعادة " إنتاج " جديدة للتأريخ تجاري التطورات الحاصلة في الذهنية العلمية العالمية ، وتمحور في نفس الوقت :
خطــة جديدة للإنسان العراقي ..

تموز .. والمستقبل الأمثل

لا يزال من يعمل في الفكر السياسي في العراق يعتمد مبدأ النقل والرواية عن (فلان) في محاولة التعلم من عبر التأريخ ، فالقراءة التقليدية للتأريخ لدى غالبية مثقفينا تعتمد أسلوب المعرفة ذات الإمتداد النقلي " المنغلق " في فجوة المرحلة الزمنية ، ويتعدى هذا إطار المثقفين ليشمل كبار المفكرين والباحثين من أمثال المرحوم علي الوردي ..
يتساءل علي الوردي في كتابه " وعاظ السلاطين " وهو يستشهد بآراء َ لأحمد أمين مفادها الإستفهام الذي يدور حول " تأليه " علي بن أبي طالب من قبل بعض العراقيين والبعض من أهل الشام دون سواه في الإسلام ؟؟
يتساءل أيضاً لماذا لم يؤله النبي " محمد " وهو الأقرب للتأليه من غيره ، لماذا علي ؟
الذهنية التي يصنع به مفكرونا تأويل التأريخ كأمين والوردي ، هي من طراز العقلية المعرفية ذات التحليل المعرفي المنغلق في فجوة " العصر " قيد البحث الذي تقوم به ، مع إن هذه العقليات كبيرة ، لكنها ليست موسوعية بما يكفي، فهي بحثت العصر الإسلامي حصراً ، وضاعت منها حقيقة أسباب هذا التأليه ، فيما لو إن الوردي وهو المفكر الكبير إمتلك ذهنية " قافزة" قادرة على عبور العصر الإسلامي وربط التحليل بالعصور الشرقية قبل الإسلامية وطبيعة الفكر العراقي القديم وفكر سوريا وفينيقيا ومصر لكانت الإجابة سهلة وواضحة كل الوضوح ، ففي عراق " كلكامش " و " أتراحيس " و " زيوسيدرا-أتونابشتم" ليست هي المرة الأولى التي يتم فيها تحويل شخصية بشرية ... واقعية ... حقيقية إلى صورة أسطورية خيالية ، فكلكامش كان ملكاً حقيقيا ً موجودة سيرته في ثبت الملوك السومري ، وتحول بفعل مواقف معينة في فترة حكمه إلى أسطورة ، فأصبح ثلثاه إله وثلثه بشر في سومر ، وأصبح إلهاً كاملا ً مطلقا ً في بابل ..!
كذلك هو " نوح " بطل الطوفان المعروف بأتونابشتم أو زيوسيدرا ، فهو من ملوك العراق القدماء الذين نزلت عليهم الملوكية من السماء لهم ولذريتهم من بعدهم في عرف وثقافة وادي الرافدين و إمتدادها السوري الفينيقي ، وهذه الشروط إنطبقت على علي بن أبي طالب ، الملك العادل الذي حكم العراق ..

محمد ٌ النبي .. ببساطة ... لم يحكم العراق ولم يكن ملكاً عليه يوماً لذا لم يؤله ..!

شعب ُ أوروك ..أو شعب ُ " عروق " حسب التسمية السومرية هو صانع الآلهة والملاحم ، وهذه القراءة للتأريخ ، ليست تمنيات دوغمائية مشحونة بشعور ٍ وطني موجه وإنما هي تحليل علمي واقعي إنثروبولوجي نفصل فيه التحليل في فصل لاحق .
وفي موضوعنا هذا ، سنكسر التقليد المعتمد على سجية المعرفة " النقلية " المنغلقة في عصر بذاته في كتابة التأريخ ، وسنجري على هدي ما يرشدنا إليه علم الإنثروبولوجيا في قراءة صيرورة التحول الفكري الثقافي والسياسي لشعب الرافدين عبر التأريخ الطويل الممتد لأكثر من ستة آلاف عام ، وكذلك الإقتداء بما يعرف حديثا ً بالمفهوم الأكاديمي للتاريخ : الدراسة التأريخية التاملية .. أو " التأريخانية " أو النزعة التأريخية التي تدرس التأريخ بكلية عوامله الدينية والثقافية و الإقتصادية والسياسية ..
سنقدم في هذا الموضوع نظرية في تحولات التاريخ العراقي، والدور الذي تحتله ثورة تموز في هذا التحول ، بأمل الخروج عن المألوفات " الحتمية " والوصول إلى تفكير منهجي علمي إجرائي في الطريق نحو معالجة الأوضاع السياسية والثقافية بما يتعلق بالعراق ..
وبالرغم من عدم إتضاح أي أيديولوجيا لها من هذا التأريخ ، فإن إيديولوجيا تموز هي " حضارة العراق " والدور الذي يلعبه العراق دائماً وأبداً كدولة إشعاع ٍ مركزية في التأريخ لكونها الثورة الوحيدة التي حملت شعار الوطنية وتعالت منذ اللحظة الأولى عن الميول و الإتجاهات ، سواء على الصعيد الثقافي أم السياسي ، و سنتاول هذا الرأي في سياق الموضوع لاحقاً بالتحليل والمناقشة .

ثورة تموز 1958

وفي معرض حديثنا عن ثورة تموز (1958) سنجد إنها لم تكن مجرد حركة عسكرية أو حتى إعلان نظام جمهوري في ضوء " ديناميكية " تأريخية مدفوعة بما قبلها ، نقصد ثورة العشرين وما تلاها من إنتفاضات شكلت الروح الثورية للجيش العراقي ونخبة الشعب من الطبقة الوسطى والكادحين والفلاحين، ودافعة في نفس الوقت لما تلاها من تغيير في خريطة الشرق الأوسط السياسية ، كان " تموز " نقطة تحول في مصير الأمة العراقية والإسلامية تجري ببطءٍ غير محسوس ، كانت بداية ً لولادة عراق جديد يختلف عن العراق الذي أرادته بريطانيا والحلفاء بعد إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتحويل تركيا إلى " أتاتوركية " موالية للغرب مطلع القرن العشرين وتحويل إيران إلى محمية كبرى للمصالح الغربية بعد مؤتمر طهران 1943، فالعراق المطلوب كان " العراق الهاشمي " على غرار النظام في الأردن ، كذلك فإن ثورة تموز أرست أولى الأسس لولادة العراق الذي لم تكن تريده القومية العربية أيضاً ، ما دفع الغرب لإستخدام القوميين لإجهاض هذه الولادة في ردة الثامن من شباط 1963 ، رغم ذلك ، بقيت لعنة تموز تطارد الغرب ومن آزروه لإغتيال الثورة .
ويعود العراق اليوم إلى نفس النقطة ، اللاقومية ، و اللاشرقية ، و اللاغربية ... في إستشراف المرحلة التأريخية القادمة .. والتي أرادها رمز الثقافة التموزية والملك البابلي التموزي "عبد الكريم " ... إنها العراقية !
لقد أضطرت الولايات المتحدة وبعد نصف قرن ٍ في 2003 إلى العودة إلى نقطة البداية الأولى التي أسقط فيها الغرب النظام العثماني ، ويمهد السبيل " بنفسه " لولادة عراق ٍ تموزي جديد ، وللتذكير فقط ، فإن مفهوم موت تموز وولادته مرة أخرى قائم ٌ منذ أكثر من ستة آلاف عام في فلسفة الأمة العراقية، فتكرار نفس السيناريو في العراق تماماً بعد ما يقارب المئة عام ولو بلغة تكنولوجيا عسكرية جديدة أكثر من التي كانت عليها القوات البريطانية يوم بدأت بإحتلال العراق في العام 1914 من الفاو ...صعوداً للبصرة نحو بغداد ، إنما يشير إلى حقيقة وحتمية " تجدد " الإنبعاث التموزي مرة ً أخرى ، لتعيد أميركا في العام 2003 نفس السيناريو بهذا المسلك البريطاني تماماً نحو إحتلال بغداد عبر الفاو والناصرية و الكوت وكربلاء والحلة وصولا ً إلى بغداد، وكذلك تكرر سيناريو ثورة العشرين ، وتقول : جئناكم محررين لا فاتحين ...!
إن العبث الذي تمارسه النخب السياسية المحتلة أو التابعة وحتى المعارضة في العراق يتبدى في عدم الرؤية لتكرار هذه السيناريوهات في التأريخ ، ولن نبالغ إذا قلنا ، في ضوء تكامل حركة العجلة التأريخية وتكرار سيناريوهات المشهد ، إن العراق اليوم في إنتظار " تموز " جديد ...
فأميركا اليوم ، تعيد بناء ما تهدم من المشروع الإستعماري الذي جاء به " الغرب " بقيادة بريطانيا العظمى ( كما كانت تسمى ) للمنطقة بعد سايكس بيكو 1917، هذا المشروع الذي تعثر بالعوامل المتسلسلة حسب الزمن ضمن مرحلتين ، الأولى في مواجهة النازية والفاشية ، والثانية في مواجهة الشيوعية بما عرف فيما بعد بالحرب الباردة ، والتي نعتبرها في هذا البحث الحرب العالمية الثالثة ، وثورة تموز جائت صاعقة مفاجئة في العراق على وقع وسياق تحولي طبيعي " حضاري " منسجم مع التأريخ العراقي في المرحلة الثانية من تعثر المشروع الغربي في العالم ، في فترة الحرب الباردة ، فالعراق يتمثل بنسبة الثلثين من الشيعة والأكراد ، أما العرب السنة فهم النسبة القليلة المتبقية ، وقد حاولت ثلة قليلة ممن يحسبون عليهم الإستئثار بالسلطة في ظل العهود التي تلت إعدام الزعيم عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط من العام 1963 معتمدة على الغرب ودعم القوميين العرب ، لم يـُـقدِّر " عبد الناصر " وتابعه " عبد السلام عارف " العراق حق قدره ، وظنوا إن الفكرة القومية فعالة بما يكفي لتؤدي إلى " بعث " روح الأمة من جديد ، لم يكونوا يفهموا من حقيقة التأريخ إلا الملقن المنقول ، لم تكن لدى الزعماء " الكبار" أدنى عملية وعي لحقيقة ما يشكله العراق بتعدد أطيافه و تلوناته من جذر ٍ أساسي راسخ حاولت ثورة الرابع عشر من تموز إعادة تأسيسه على أسس " طبيعية " صحيحة لا تقوم على الإقصاء والنزعة القومية المذهبية المتعالية التي لم تحصد الأمة منها إلا الرزايا و الإنتكاسات المتكررة المتلاحقة .. المشكلة كانت ، إن الرؤية الطبيعية لبناء عراق ٍ تأريخي طبيعي لم تكن إلا في ذهن عبد الكريم قاسم .. فقط ، لذا فإن إعدامه كان إعداماً للهوية الوطنية ، و إغتيالاً للتأريخ !
طبقة الفقراء في العراق وحدها كانت تمجد الزعيم ، الطبقة الشيعية في الغالب ، مع إن الزعيم كان من السنة ، فيما الطبقات الأرستقراطية المستفيدة من النظم الحاكمة ، وغالبيتها من السنة كانت تبحث في حياته عن سلبيات ، وتسميه بإسم أمه " كيفية " لأنها كانت من الشيعة ، ولا يوجد إنسان يخلو من السلبيات ، لكن زعيم الأمة العراقية كان أفضل من حكم العراق في تأريخه كله برأي فقراء الشعب البسطاء الذين أحبوه ، لا برأي عبيد الجنيه والدولار والذين لم يتمكنوا إلا من الإعتراف بنزاهته في النهاية !

العراق نواة الغرب والشرق

كانت الفكرة التي تسيطر على ذهن " عبد السلام عارف " و" صدام حسين " على إختلاف الظروف التي حكموا فيها بواقع الزمان ومتغيراته السياسية العالمية، وكذلك باقي البعثيين والناصريين بما فيهم عبد الناصر نفسه هي إن الأكراد والشيعة والشيوعيين هم أعداء الوطن والأمة شأنهم شأن " الصهاينة " ، وقد تمت تعبئة الذهنية القومية في العراق وسوريا ومصر خصوصاً والعالم العربي بعامة بهذه المشاعر ورغم الشعارات البراقة في نبذ الفرقة والطائفية ، إلا إن سياسات النخبة الحاكمة كانت إنتقائية تستبطن العداء لشيعة العراق والأكراد، وعبد الكريم قاسم ورغم حقيقة إنحداره من عائلة سنية إلا إنه ولمواقفه من الشيعة وكل أطياف الشعب العراقي الأخرى أعتبر عدوا ً للقومية موالياً للشيعة والشيوعية ، مع إن الشيعة والشيوعيين لم يكونوا راضين عنه في وقتها ومعروف موقف الحوزة الدينية في النجف من إعدام عبد الكريم ..
وكذلك الأكراد الذين أعلنوا التمرد عليه بعد عام ٍ من الثورة في الشمال ، وتحت مختلف الذرائع والحجج أعدم القوميون عبد الكريم قاسم بعد إنقلابهم على ثورة العراق الوطنية ، ووضعوا ثلاث " نجمات " في العلم تعبيراً عن الوحدة مع مصر وسوريا ، والأيام أثبتت إنهم كانوا ضد هذه الوحدة المزعومة ، كانت ثورتهم مجرد رعونة سياسية وحماقة فردية مندفعة ومزايدة لا أكثر تحت شعارات القومية المبنية على الرمال والتي لم تبني للعرب حضارة يوماً أبداً ...
العراق أكبر من أن يكون مجرد " جناح " للأمـــة العربيـــة أو الإسلامـــية ...
العراق أكبر من هذا بكثير ..
العراق نواة الثقافة العالمية القديمة ، وهو جذر التأريخ الأول ..
ولقد طمست هويته التأريخية بفعل تعاقب الإمبراطوريات المحتلة على أرضه ، وكانت هذه التغييرات على شعبه وأرضه سببا ً في محنته الحالية المتشظية بين الماضي والحاضــر ..

هل العراق عروبي .. ؟

لو إفترضنا إن سكان العراق جميعاً هم من الذين يتكلمون العربية .. أو العرب ..
هل هذا يعني إن العراق .. بتأريخه وعمقه تابع للعروبــة .. وتأريخها المجيد ..؟
هل العروبة هي التي خلقت العراق أم العراق هو الذي خلق العروبـــة ؟
من الأعمق برصيد الحضارة ... العروبة أم العراق ؟



يشكل الشيعة والأكراد أكثر من ثلثي الشعب العراقي ، ويمكننا أن نتصور حماقة " القوميين " وهم يحاربون أكثر من نصف الشعب العراقي ، وكيف يكون مصير ُ أمة ٍ يحاربها حكامها ، وكيف إن التركة ثقيلة إلى حدٍ كبير ٍ في عراق اليوم بسبب السياسة القومية الخرقاء ...
فعلى الرغم من عروبة الشيعة .. لكنهم مذهبيا ً مختلفون .. ولهذا السبب تم إستعدائهم ..
أعدموا عبد الكريم ، وأعدموا معه أي فرصة للبناء السياسي والثقافي و الإجتماعي المنسجم مع طبيعة تلون المجتمع العراقي عرقياً ومذهبياً ، أعدموا البناء السليم للأمة الذي يجعلها تتقدم وتبدع وتشارك في التأريخ ، لم يعلو خلال فترة التيه في صحراء القومية العربية التي إمتدت لأربعين سنة من العام 1963 وحتى العام 2003 من صوت سوى نشيج المقهورين والمضطهدين في سجون البعثيين في العراق..
حتى جائت أميركا .. و برعونة ٍ لا تختلف عن رعونة القوميين لتزيح الدكتاتور الذي سرق الثورة من اللصوص ، فعبد السلام سرقها من الشعب العراقي يوم الثامن من شباط وصدام سرقها من صحبه الذين سرقوها من عبد السلام ورهطه في السابع عشر من تموز لتبقى الثورة مستباحة وليبقى الوطن مرهوناً بعصابة ٍ يرأسها صدام حتى جاءهم "رعاة البقر" في العراق مطلع القرن الحادي والعشرين ..
إن المتابع لتكرار النموذج القومي في إدارة الدولة الإسلامية أيام الأمويين يدرك المدى الضحل والسطحية التي تغلب عليها الرؤية الضيقة للإنسان والقيم الإنسانية التي تتميز بها النزعة القومية المغلقة سواء في العهد الأموي أو الناصري أو البعثي ، أو حتى النزعة الإنفصالية لدى القوميين الأكراد ، ولنا أن ننتقل إلى نموذج الحكم العباسي وكيف تمكن من " العراق " من بناء أقوى وأينع وأغنى حضارة عرفها التأريخ في كافة المجالات ، فمن زاوية نظر " إنسانية " أو إنثروبولوجية علمية ، فإن الإنفتاح وقبول التعدد والتلون القومي والمذهبي يساعد في تنويع أدوات التحظر المعرفية وكان هذا هو الحال أيام العباسيين ، وقضية بناء " صميم " الثقافة الحضارية للإسلام إنما تمت في العراق في العصور العباسية إعتماداً على العمق التأريخي لهذا الإقليم المركزي من الجسد الإسلامي ..
فأي حضارة عالمية تحتاج إلى " نواة " أو " صميم" لها ، مثل بريطانيا التي شكلت صميم النهضة الأوربية والولايات المتحدة التي هي اليوم صميم الحضارة الغربية العصرية ... والعراق ، وعلى مر تأريخه هو " صميم " الحضارات الشرقية الأولى والحضارة الإسلامية ..

وكما يرى شبنغلر (فلسفة التأريخ ص 329 ) فإن الحضارة تولد في رقعة جغرافية معينة وتلتصق بهذه الرقعة مثل إلتصاق النبات ، وهي تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح ٌ عظيمة ، لذا فإن العراق هو أساس الحضارة الباطنية الشرقية. و روح ُ تموز ستستيقظ عاجلا أو آجلا.لتبعث حياة حضارة جديدة ..

وعلى الرغم من أن ثورة العباسيين كانت موالية للفكر السياسي لأهل بيت الرسول و تتفق مع توجه وميول أهل العراق ، إلا إنها عادت وغيرت المنهج بعد وصول العباسيين للسلطة ، حيث تحول التشيع العباسي إلى تشيع ٍ مقبول قريب للمذهب السني المعروف اليوم وذاب فيه إلى درجة إنه لم يعد مذهباً شيعياً بعرفنا الحاضر عن التشيع الإمامي ، إن التخلي عن تكفير عمر وأبو بكر ( على سبيل المثال ) من قبل العباسيين ومؤيديهم " الشيعة " هو الذي أسهم في دمج " العراق " في الفضاء الثقافي الإسلامي ، هذا الإندماج الذي أحل العراق محل الشام والحجاز ليكون نواة للحضارة الإسلامية ، لربما يصلح الحجاز والشام لمركزية الدولة الإسلامية ، لكن مركزية الدولة و" الحضارة " فهو عبئ لا يقوى على إحتماله مثل العراق .

عمد العباسيون إلى تعميم التشيع المحب لآل البيت بما فيهم جد العباسيين عم الرسول دون مغالاة ، وفي تلك المرحلة كان العراق نواة ً للحضارة الإسلامية ومنه وفي مدارسه إنبثقت أكثر المذاهب الفكرية والدينية في الإسلام ، مع ذلك ، فإن قوام الثقافة العراقية ، نواة الحضارة الإسلامية ، لا يعدو أن يكون قائماً على أسس معرفية يونانية وفارسية أقتبست في الإسلام ..
فالحضارة الإسلامية ترجمت ما تحتاج من فكر اليونان برأي آرنولد توينبي ، فيما أهملت الحضارة الإسلامية فكر وتأريخ مصر والعراق القديم ، والأسباب كثيرة ولعل أبرزها إختلاف " المنطق " المؤسس لفكر تلك الحضارات ، وهو المنطق التموزي كما نسميه في هذا الكتاب .

والعراق يوم فتحه من قبل المسلمين كان مليئاً بالسريان و الكلدان والصابئة ، وكان من الممكن أن تحدث ترجمة للتراث العراقي على غرار ما حصل مع فكر اليونان ، لربما طبيعة الفكر السياسي الراشدي حالت دون ذلك ، خصوصا ً وإن طبيعة الرسالة الإسلامية .. الجدلية .. التفكرية ..كانت إلى فكر اليونان وفلسفته اقرب ، فيما الفكر السومري – الأكادي – البابلي فكر ٌ من طبيعة ٍ أخرى ومنطق " لاهوتي" أقرب منه للمسيحية في العصر الهيليني منه للإسلام لما يتميز به من إعتماد على " الإستبطان " والذي ظهر بتجلياته القوية في الإسلام ، وبتأثير ثقافة العراق ، في الحركات والمذاهب الفكرية الصوفية " الباطنية " في مراحل التدهور والتراجع الإسلامي ..
والمنطق العراقي اللاهوتي هو المؤثر الأساس في فكر حضارات اليونان والشرق الأقصى قبل أن تتخذ اليونان مساراً ثقافيا ً خاصا ً وكذلك الشرق الأقصى ، هذا المنطق " التموزي " ، الذي سنحاول إخراجه من جدث التأريخ ، هو الذي بنى حضارات سومر وأكد وبابل و آشور ، وسنقدم الإثبات على إن منطق أرسطو إنما تأسس ليكون " نقيضاً " لمنطق ٍ ونظام ٍ فكري قديم أسيء إستخدامه من قبل " السوفسطائيين " وكان هو منطق ولاهوت العالم القديم وقد من إنطلق من بلاد ما بين النهرين .

إعادة صياغة الهويــة للأمــة العراقيــــــة

وإحياء " منطق تموز " من جديد سيسهم بكل تأكيد بإعادة العراق كنواة أساسية " عالمية " كما هو عهده في السابق ، وإحياء تموز يعني .. إحياء العراق بما يشكله من صميمية وعراقة في التأريخ ماضيه وحاضره ومستقبله .
لا نعجب إننا إنتظرنا أكثر من ألف سنة لتأتي البعثات الأثرية الغربية لتفتح لنا أسرار التأريخ في سومر وبابل وأكد و آشور ، ولكن ، لم تستغل الفرصة في القرن العشرين لإعادة تكوين الهوية الوطنية الأصيلة للأمة العراقية لتبتنى على أسس طبيعية تأريخية مثل كل الأمم التأريخية في العالم كالصين واليابان والهند وإنما عادت القومية لتغتال التأريخ وللمرة الثانية وتعاود إنزال " تموز " إلى العالم السفلي من جديد !
وثورة تموز كانت فرصة لإعادة بناء " النواة " المركزية ليس للأمة الإسلامية والشرق الأوسط في العراق فحسب ، وإنما إعادة وصل العراق ليكون نواة ً تأريخية لكل الأمم الشرقية إذا ما تمت العودة و الإنطلاقة في بناء الهوية من " ألواح الطين " السومرية البابلية ، فثورة تموز كانت وطنية ، و لولا الإغتيال القومي للتأريخ لكنا اليوم قادرين على دخول هذا القرن كأمة ٍ متحضرة .. مثل كوريا أو اليابان ..

لولا محاولة الدمج القسري للعراق ضمن المنظومة القومية العروبية لكنا الآن أكثر نفعاً للعروبة نفسها والإسلام ونحن نحتل موقع " الصميم " في حضارات الشرق الأوسط ، ونؤكد من جديد ، لن تقود السعودية الأمة ولو أثرت العالمين ذهباً بقدر ما تمتلكه من بترول.. ولن تقودها مصر .. و لن تكون " إسرائيل " ولو إمتلكت كل أسلحة الدنيا.. العراق ..
ولن تستطيع تركيا إلى ريادة هذا الدور ولو كان الناتو لها ظهيرا ً ..

بلاد بابل هي المحور الذي يدور عليه الفلك الأوسع ، لأن فيها تموز الذي يؤسس لثقافة علمية " إرتجاعية " خارقة للزمان والمكان ومبشرة بعهد ٍ جديد ٍ من عهود المعرفة والفكر !

هذا هو التأريخ ، وهي ذي قوانينه ، فلا بد أن يبعث مرة ً أخرى متجدداً كإنبعاث تموز في أسفار سومر ..
لا يمكن قراءة الحقيقة التأريخية إلا من هذه الزاوية ، الحضارة ُ تأريخ ، والتأريخ ُ " حضارة " ومفهوم الحضارة دائماً يتساوق معه مفهوم " النواة " أو المنطلق أو الأساس الحضاري ، وقدر العراق التأريخي أن يكون الأصل والأساس المتجذر كل عصر ٍ ليدفع في كل ليلة ٍ من وهن التاريخ نحو فجر ٍ جديد مشرق ..
كانت ثورة الرابع عشـــر من تموز فرصة " تأريخية " كبيرة لبناء حضارة جديدة قائمة على تحرر ثقافي وعلمي يحترم كل الألوان التي يتكون منها نسيج الأمة العراقية دون تعصب قومي أو مذهبي، لينطلق من التأريخ العراقي الذي ترجمته الحضارة الحديثة ليعيد للأمة الإسلامية وللأمم الشرقية مكانتها وبهائها بتعاليها فوق الطائفية و الأقوامية التي لا تورث إلا الإنغلاق والجهل والعصبية ..
ما نحتاجه حقاً ... هو تموز ٌ آخر ...

أزمة الفكر السياسي للنخب العراقية ما بعد صدام حسين

مهما يكن من حال ،، فإن الموضوع يطول في هذا الشأن ويحتاج إلى بحث وتقصي نتناوله لاحقاً ، وفي موضوع ثورة تموز و إستغلال الغرب للخلافات بينها وبين القوميين قد أوصل البعثيين والناصريين للسلطة في فترة الحرب الباردة في العراق وسوريا ومصر، ولا نقصد إن أميركا جائت بهم ، مع إنه إحتمال ٌ وارد ، لكن الغرب بصورة عامة حاول الإستفادة من الفكر القومي في إحتواء الشيوعية في العالم العربي ، كما حاولت بريطانيا من قبل في دعم الحركات الإشتراكية القومية في أوربا بعد الثورة الشيوعية في موسكو ..
وقد حاول الغرب من جديد في دعمه للقوميين في أهم ثلاثة أقطار عربية ، مصر وسوريا والعراق ، مع ذلك ، فلعنة تموز باقية تطارد الغرب ، وهم اليوم بتخبطهم في العراق لا يزالون يخشون تموز وإمكانية أن يقوم الجيش العراقي بتغيير المعادلة الدولية في أية لحظة كما فعلها في تموز ، فالولايات المتحدة متخوفة من بناء جيش ٍ في العراق ، كي لا تحدث دراما إنهيار " حلف بغداد " القديمة ..
النخبة السياسية العراقية سلمت بما يشاع إصطلاحاً لديها اليوم " واقع الحال " ، وهذا واقع الحال لا يتعض بمصير السلطة الهاشمية وما حدث بعد تموز 1958 ، ولا يبني رؤيته على بصيرة موضوعية وعقلانية تأخذ على نفسها مسؤولية الحفاظ على مستقبل الأجيال القادمة في العراق ، فهي نخب إنتهازية في الغالب تميل إلى كسب آني بشتى الطرق ولو على حساب رهن المستقبل والأجيال بيد القوى العالمية المتنفذة ..

مشاكل الإيديولوجيا و الإنتماء المحيطة بالعراق

العراق من البلدان التأريخية القديمة كما نعرف ، وفي واديه تربت الحضارة ... وتفجر التأريخ ، ومنه تعلمت الأمم أن تكون أمما ً ، وكما يقول الشاعر العربي : فلما إشتد ساعده رماني .
فالأمم المجاورة للعراق ... والتي تدين للعراق بكل ثقافتها وتحضرها بما فيها الأمة الإسلامية والعربية هي اليوم السبب في تمزيقه بصراعات الإنتماء والهوية التي تنخره ..
وكي لا يطول الموضوع ، وأملاً في تحقيق أكبر قدر من الفائدة في فهم المشكلات الفكرية الأساسية التي تحيط بالهوية العراقية من كل جانب ، عمدنا إلى تلخيصها بسبعة نقاط يجري عليها عموم البحث في التحليل والدراسة والمناقشة ، وهي مرتبة حسب الأولوية والتأثير في مصير العراق :

1. النزعة الإنفصالية

الأكراد
في الحقيقة ، هناك إهمال متعمد من قبل المراقبين والباحثين في شؤون القضية الكردية في العراق خصوصا ً إن لدى عموم الشعب الكردي نزعة إنفصالية مشحونة بالنزعة القومية مأخوذة بأصداء الآرية الألمانية ، شأنها شأن النزعة الآرية المستبطنة ( حالياً) في إيران الثورة الإسلامية ، هذه النزعة تتكرس يوماً بعد يوم نتيجة تراكمات طويلة الأمد ونتيجة الشعور القومي الكردي العام بظرورة تحقيق هذا الحلم القومي الكبير .
هذا التعمد سببه الميل إلى تعميم صورة النزوع الإنفصالي الكردي و كأنه مطلب فئوي عشائري للعوائل الكردية الممسكة بالسلطة هناك ومحاولة إظهار الشعب الكردي وكأنه مغلوب على أمره مع هؤلاء المتسلطين ، مجانبة للحقيقة التي تخفي جوهر المشكلة الأساس : قوة الشعور القومي الكردي .


الشيعة والسنة

نفس الحال تنسحب على الشيعة والسنة ، ضعف الشعور بالإنتماء إلى الهوية الوطنية العراقية لدى عموم شعب العراق ، هذه الهوية المتشظية بين القومية الكردية والمذهبية الشيعية و العروبية السنية !
فالشيعة مطمئنين لما يمتلكوه من بترول في حدود أراضيهم " القومية " في الوسط والجنوب ، أما السنة فيما لو إمتلكوا بترولاً كالذي لدى الشيعة فإن النزعة الإنفصالية لدى من يمثلهم من الساسة تتعالى كما هي لدى نخب الشيعة المنتخبة " ديمقراطياً "
وعلى العموم ، فإن رؤية السنة للعراق هي رؤية قومية عروبية ، وهم لا يستطيعون تخيل " عراق " غير عربي ، ولهذا السبب ، فإن فكر النخب السنية هو أشد فتكاً بهوية الأمة العراقية ، فهي تستغل العروبة في التأثير على الشيعة ، الذين لا يعرفون حقيقة التأريخ ، لأن مناهج الحوزة العلمية في النجف لا تدرس التأريخ كما يقول أحمد الكاتب .


فلو عرف الشيعة التأريخ ، لأيقنوا إن السنة في العراق هم الإمتداد الطبيعي للنخبة العسكرية الحاكمة العربية منذ الفتح الإسلامي على يد عمر بن الخطاب ، ومثلما إغتصب اليهود فلسطين " بأمر الله " مرتين ... مرة من " العمالقة " الجبارين ، ومرة من العرب المساكين " المغفلين " 1948 ، فإن العرب إغتصبوا العراق و بأمر الله مرتين .. مرة أيام عمر بإسم الله ، ومرة أخرى بإغتيال عبد الكريم قاسم 1963 .

2. موقع العراق في المشروع الغربي – الأمريكي

هذا الموقع يحدد عراقاً رأسماليا ً يمثل جزءاً من حظيرة البترول الخليجية ، شبيه إلى حد ٍ بعيد بعراق نوري باشا السعيد ، رجل المهمات البريطانية الكبرى كما يسميه حامد الحمداني في كتابه الموسوم بنفس التسمية ، والولايات المتحدة تحذو حذو بريطانيا في العراق بمحاولة إيجاد رجل للمهمات الكبرى متمثلا ً بإياد علاوي لكنها لم تفلح و أضطرت بأن تأتي بـــ"نوري الجديد" ، ويبدو من خلال سلوك الإدارة الأمريكية إنه عراق مجزأ إلى دويلات صغيرة ، وهي دويلات تلعب دوراً أساسيا ً في الإقتصاد الغربي لما فيها من ثروات بترولية بالدرجة الأساس . هذا المشروع ينسف الوجود والهوية العراقية !

3. موقع العراق في المشروع القومي – المذهبي الإيراني

في هذا الموقع ، العراق جزء من الحدود الفارسية القديمة ، وكما مر سابقا ً ، فالسياسة الإيرانية مبنية على فلسفة قومية- مذهبية متأثرة إلى حد ٍ بعيد بالقومية الألمانية منذ القرن الماضي تعتبر العراق الجنوبي والأضرحة المقدسة فيه جزءاً من حدودها القومية . وكما سنأتي لاحقا ً ، فإن إيران من الخارج هي إيران الخميني والثورة الإسلامية ، لكنها من الداخل ... إيران " الآرية " القومية التي أرساها رضا شاه ، والتي هي فوق الكل !

4. موقع العراق في المشروع القومي – المذهبي للجزيرة العربية

يتمثل هذا الموقع في طبيعة العلاقة بين عرب الجزيرة السنة والعراق والميول السلفية لدى الفكر القبلي – المذهبي لعرب الجزيرة ، فالشيعة .. كفرة ..روافض ... مختلفون .. وهم ذوي ولاءات للفرس ، أعداء العرب التقليديين حسب الصورة النمطية المأخوذة عن الشيعة في الوعي العربي الجزري ، أي العراق يشكل بشيعته طابوراً خامساً يسعى إلى تدمير القيم العربية- الإسلامية ، هناك أزمة قبول لشيعة العراق في هذا الموقع .
هذا الخطر واضح في سياسات حكومات السعودية وقطر والإمارات تجاه العراق وتعاملها مع ألازمة العراقية منذ إحتلال العراق عام 2003 ... والتدخل السافر والواضح الذي كشفته الأجهزة العراقية الأمنية لتدخلات مخابرات هذه الدول.. بمساعدة خفية من الموساد الإسرائيلي .


5. موقع العراق في الأجندة التركية الطموحة

العسكرية العثمانية لا تزال مستترة في المؤسسة العسكرية التركية ، وهي تعتبر العراق آخر قلاعها ومحمياتها المتهاوية في القرن الماضي ، وبسبب المشاكل مع الأكراد ، فإن تركيا من الممكن أن تلعب دوراً إيجابيا ً في حفظ الوحدة العراقية حتى حين ، مع ذلك فهي الأخرى لديها أطماعها في البترول العراقي !
حلف الناتو .. والولايات المتحدة يسعيان إلى جعل تركيا هي " الصميم " في الحضارة الإسلامية الشرق أوسطية المقبلة ، بعدما كانت " إسرائيل " تحتل هذه المكانة في مشروع " المتوسطية " والتي فقدتها بإنهيارات دراماتيكية بعد حرب تموز مع حزب الله ..

إن المحاور التي تمثلها المشاكل " الإيديولوجية " السابقة لم نذكر فيها الدور الإسرائيلي رغم قوته وفاعليته لأنه يقع ضمن المشروع الغربي الكبير في العالم والذي سنفصل فيه لاحقاً برؤية كلانية جامعة لسير تطورات التأريخ وما يمكن إستشفافه منها مستقبلاً .




الجيش العراقي .. هو الأمـــــــــل

أما المشكلة الكبرى ، والتي يجب على النخبة العراقية مواجهتها والإقرار بها هي " ضعف " الشعور بالهوية ، ونحتاج إلى بناء الهوية العراقية الوطنية من جديد و بأسس قوية ٍ جديدة تعيد إنتاج التأريخ العراقي متزامناً مع ثورة عسكرية كتلك التي حدثت في الرابع عشر من تموز في العام 1958 .
فالشعب العراقي عاجز عن القيام بأي ثورة لسبب بسيط :
عدم وجود هوية وخطة إستراتيجية ... أو أهداف مشتركة لعموم فئاته و تكويناته الملونة.

كيف السبيل للأمة العراقية ؟

الإجابة على هذا التساؤل هي محور وهدف الفكرة من هذا الكتاب ، وتتلخص ببناء العراق على أسس ثقافية تأريخية عابرة للأطر القومية والمذهبية و " الدينية " بكل تعقداتها و تشعباتها ، وهذا يحتاج إلى إعادة قراءة التأريخ العراقي ما قبل الإسلام ...
وكمثال قريب عن التغيير الجذري في إعادة صياغة الهوية .. ما فعله رضا شاه بإيران التي حول إسمها من بلاد فارس ( وهو إسم سامي ) إلى " إيران " في الثلاثينيات وهو إسم آري مشحونة بالنزعة الآرية الألمانية التي تأثر بها الأخير مع عموم مثقفي إيران كثيراً .. وكانت النتيجة إن لدى شعوب إيران اليوم برمتها ولاءٌ للهوية الكبرى الجامعة رغم تعدد الإثنيات والمذاهب ورغم كرههم لنظام الملالي الحاكم ... !

الإنطلاقة الحثيثة لبناء الفكر القومي العراقي بدءاً من الرقم الطينية السومرية والعمل بمنهاج ثقافي موسع طويل الأمد ، لأجل إرساء هوية وطنية قومية راسخة قادرة على الإطاحة بكل الإنتماءآت الأخرى التي حلت على العراق فيما بعد خصوصاً ... الشعور القومي العربي والشعور القومي الكردي ، والنزعة المذهبية الشيعية و إسم البلد إبتداءاً بحاجـــة إلى تغيير ..
هذه الأرض بحاجة إلى تسمية " جديدة تستفيق من التأريخ ...مثل " بابل " أو " سومر " .. أو
بلاد ما بين النهرين ..
تأكيد هوية " العراقية " بدل العربية والكردية والتركية .. و الإنسحاب رسمياً من الجامعة العربية .
تأكيد وجود ثقافة رافدينية أصيلة أقدم من كل ديانات العالم في العراق تعتبر الجذر الرابط لكل شعب الرافدين بإختلاف مذاهبهم ودياناتهم ..

بهذه الشروط .. يمكن بعد ذلك الحديث عن بداية نهوض ثقافي و إجتماعي في العراق ، وإلا فإن الصراعات تبقى إلى يوم القيامة بسبب التجاذبات وصراع الهويات الإقليمية على أرض النهرين ..
ونجاة العراق وعودته إلى واجهــة الحضــارة .. يعني بداية شفــاء الأمـــة
المشاريع الإسلامية والقومية أفلست على كل الأصعدة ..
العراق والعالم الإسلامي برمتــه بحاجــة إلى بعث حضاري متكامل .. إدارياً .. و إقتصاديــا .. و تكنولجياً
ولكي يحدث ذلك لابد من وجود " صميم " تتمركز عليه الأمـــة ... ولا بديل سوى العراق ليحتل هذا الموقع ..
هناك من يسعى جاهداً لإسناد هذا الدور لـــ" تركيــا" ..
هم يخافون من يقظة تموز كثيراً ... !



#وليد_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تستفيق ُ آسيا - 2
- عندما تستفيق ُ آسيا - 1
- نهاية الإنكلوسكسونية ... والدخول في عصر التنين ( الفصل الراب ...
- نهاية الإنكلوسكسونية ... و الدخول في عصر التنين ( الفصل الثا ...
- نهاية الإنكلوسكسونية ... والدخول في عصر التنين ( الفصل الثان ...
- هل تفرض الصين نفسها بديلاً إقتصادياً وثقافياً عندما ينهار ال ...
- نهاية الإنلكوسكسونية .. والدخول في عصر التنين ( الفصل الأول ...
- أميركا .. و كلمة الوداع الأخير
- بين يدي الله .... في ذكرى تسونامي آسيا
- المعرفة النفسية العربية ... الفلسفة والمنهج
- إغتيال تموز ... إغتيال ٌ للأمة ، في ذكرى الثامن من شباط الأل ...
- الشرق والغرب .. بين الثقافة والسياسة
- وجهة نظر في : جغرافيّة الفكر لريتشارد نيسيت ، ورسالة إلى الل ...
- المعرفة ُ الشرقية (1)
- المعرفة ُ في الشرق ... هل لها مستقبل ؟ ((4))
- المعرفة ُ في الشرق ...هل لها مستقبل ؟ ((3))
- المعرفة ُ في الشرق ... هل لها مستقبل ؟ ((2))
- المعرفة ُ في الشرق ....... هل لها مستقبل ؟ ((1))
- النظرية ُ الإسلامية ِ...سوء ُ تطبيق ٍ ..أم سوءُ تخطيطٍ رباني ...
- المجتمع كما رآه الرسول محمد....العلاقة بين الديمقراطية والعل ...


المزيد.....




- Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
- خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت ...
- رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد ...
- مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
- عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة ...
- وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب ...
- مخاطر تقلبات الضغط الجوي
- -حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف ...
- محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته ...
- -شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - وليد مهدي - ماذا أعد - الله - للعراق ؟