أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عدنان عاكف - لماذا الاشتراكية ؟ - 1 -















المزيد.....


لماذا الاشتراكية ؟ - 1 -


عدنان عاكف

الحوار المتمدن-العدد: 2588 - 2009 / 3 / 17 - 09:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ألبيرت آينشتاين
ترجمة : عدنان عاكف

في آيار من عام 1949 صدر العدد الأول من المجلة الأمريكية Monthly Review ، وهي مجلة يسارية اشتراكية. وقد تضمن هذا العدد مقالة لعالم الفيزياء الشهير ألبيرت آينشتاين عبر فيها عن معارضته الشديدة للنظام الرأسمالي، واعتبره المسؤول عن الشرور التي يعاني منها العالم، في حين أعلن صراحة عن موقفه المؤيد للاشتراكية. لقد أثارت تلك المقالة دهشة الكثيرين في ذلك الوقت. علينا أن نتذكر بان المجلة صدرت في مرحلة كانت فيها الحرب الباردة في أوجها، ورافقتها حملة معادية للشيوعية والسوفيت، بحيث ان الحملة المكارثية ضد الشيوعيين واليساريين تحولت ال كابوس يطارد اليسار الأمريكي في كل مكان، وفي تلك السنة بالذات أصدر مكارثي بيانه الشهير الذي أعلن فيه عن وجود قائمة بأسماء 250 موضف في وزارة الخارجية لوحدها من المتهمين بعلاقتهم بالحزب الشيوعي أو من عملاء الاتحاد السوفيتي. وقد جرت العادة أن تعيد المجلة نشر المقالة في كل عام في عدد شهر آيار. وفي عام 2000، السنة التي ودع فيها العالم القرن العشرين واستقبل القرن الجديد، نـُشرتْ المقالة مع تعليق لهيئة التحرير. وقد ارتأينا ترجمة النص القصير التالي، الذي قدمت به هيئة تحرير المجلة مقالة " لماذا الاشتراكية " ؟، بالنظر لحيويته وحداثته، لكونه يدل على ان الحلم الطوباوي الذي كان يحلم به رجل اختارته مجلة " التايم " المعبرة الرسمية عن النظام الرأسمالي الليبرالي، وأشهر مجلات أمريكا في آخر أعدداها الصادرة في القرن العشرين ليكون " شخصية القرن "، هذا الحلم ما زال حيا، يسعى من أجل بلوغه ملايين الناس فوق هذه المعمورة، وهو حلم مليارات البشر الذين تسحقهم طاحونة النظام الرأسمالي الجشع.

المترجم


نعيد في هذا العدد نشر مقالة ألبرت آينشتاين " لماذا الاشتراكية " التي نشرت في العدد الأول من المجلة ( أيار-1949 ). وقد جرت العادة منذ ذلك الحين أن تعيد المجلة نشر المقالة في عدد أيار من كل عام، بدون أي تعليق. لكننا وجدنا ان الضرورة تستدعي نشر التعليق التالي في هذا العام، وذلك لوجود مناسبتين : المناسبة الأولى- ان مجلة " التايم " قد تطرقت في عددها الصادر في 31/12/1999 إلى آراء آينشتاين السياسية في مقالتها " البيرت آينشتاين: شخصية القرن " . أما الثانية فهي ظهور ملف آينشتاين على الانترنيت على موقع مكتب التحقيقات الفدرالية،الذي أصبح في متناول الجمهور.
كان على مجلة " التايم " بعد أن اختارت آينشتاين " شخصية القرن " أن تقول شيئا ما بشأن آراءه السياسية. وقد شكل ذلك إحراجا كبيرا لها، إذ اضطرت الى الاعتراف بأن مجلة " لايف – LIFE " ، التي تعتبر شقيقتها الإعلامية ، كانت قد نشرت آنذاك صورة آينشتاين، شبيهة بالبوسترات من سلسلة " مطلوب "و أدرجته ضمن قائمة ضمت خمسين شخصية اعتبرتهم من أشهر " المغفلين الشيوعيين في البلاد ".
مثل هذا الهجوم الخبيث على رجل اختارته التايم " شخصية القرن " ومن قبل مجلة تنتمي الى نفس العائلة المشتركة ( وتعبر عن نفس الآراء التي كانت تعبر عنها " التايم " في تلك المرحلة )، يمكن أن يشكل احراجا للتايم. لذلك استبدلته بعبارة ان آينشتاين كان " حسن النية، لكنه كان ساذجا ". وهي طريقة أكثر كياسة من الإشارة اليه بكونه كان " مغفل ".
وارتأت مجلة " التايم " ان تنهي الجزء الأول من مقالتها عن " شخصية القرن " بفقرة اقتبستها عن جيرالد هولتن، الفيزيائي المعروف ومؤرخ العلوم في جامعة هارفرد: " اذا كانت أفكار آينشتاين ساذجة حقا فان العالم مركب بشكل رديء ". ويضيف : " ان غريزة آينشتاين الإنسانية والديمقراطية تشكل المثل الأعلى للنموذج السياسي في القرن الواحد والعشرين، وهو يجسد أفضل ما في هذا القرن وأسمى آمالنا عن المستقبل. ماذا يمكن أن نطلب من المرء أكثر من هذا كي يجسد ( يمثل ) المائة سنة الأخيرة ؟
في الوقت الذي نعبر فيه عن اتفاقنا مع التقييم الأخير، علينا أن نشير الى ان " التايم " غضت نظرها كليا عن ذلك الشيء " الإنساني والديمقراطي " الذي كان يكمن في قلب آينشتاين. ونعتقد ان هذا الشيء هو بالذات دفاعه عن الاشتراكية. وان موقفه المعارض للمكارثية هو الذي دفع بمجلة " لايف " الى نعته بالشيوعي " المغفل ".
بالفعل! لقد تجنبت " التايم " بحيرة وإحراج شديدين ان تخبر قرائها ان " شخصية القرن " كان هدفا لملاحقات مكارثي، و منذ عام 1949 كان يخضع للمراقبة المشددة من قبل مكتب التحقيقات ، وتحت الإشراف المباشر لرئيسه يدغار هوفر . وقد شكل نشر مقالة " لماذا الاشتراكية" " أمرا في غاية الأهمية لمكتب التحقيقات الفدرالية. لقد ورد في ملف آينشتاين (بلغ عدد صفحات الملف أكثر من 1800 صفحة – المترجم ) مثل هذه البيانات :
1- نعلم ان دورية وزعت في شهر نيسان 1949 في منطقة.... وهي عبارة عن مجلة جديدة تحمل اسم Monthly Review ، بكونها مجلة اشتراكية مستقلة. وقد تضمن العدد الأول مجموعة من المقالات، كان من بينها: " لماذا الاشتراكية ؟" بقلم البيرت آينشتاين ؛ ومقالة " التطورات الحالية في الرأسمالية الأمريكية " ، لباول سوبرغ؛" التحول نحو الاشتراكية في بولونيا " بقلم اوتو نوثان؛ " الاشتراكية والعامل الأمريكي " بقلم ليو هويرمن .
2- علمنا من مكتب نيويورك ان مجلة " Monthly Review " في مدينة نيويورك قد أعلنت عن نفسها بكونها " مجلة اشتراكية مستقلة ". وقد حدد شهر آيار 1949 لصدور العدد الأول. ويتضمن هذا العدد مقالة لآينشتاين وغيره من الكتاب. وأشار التقرير الى ضرورة أن تخضع هذه المقالات للدراسة، والتحقق من خلفية المحررين والناشرين. وقد اتضح ان هذه المجلة ملهمة بالأفكار الشيوعية وتتبع الخط الذي يتبناه الحزب الشيوعي. و كان تقرير مكتب نيويورك يحمل تاريخ 30/1/1950 .
عند تقييمها لشخصية القرن لم تتطرق مجلة " التايم " الى أي من هذين الموضوعين – لا للموضوع المتعلق بدفاع آينشتاين عن الاشتراكية، ولا لموضوع تشديد الرقابة عليه من قبل مكتب التحقيقات الفدرالية في المرحلة المكارثية ( ولم تشر الى دور مجلة Monthly Review ). ونحن واثقون بأن مثل هذا الصمت والتشويه الذي تقوم به المؤسسة الإعلامية ما كان ليدهش آينشتاين. فقد كتب في " لماذا الاشتراكية ":
" يضاف الى كل هذا، في ظل الظروف القائمة، تحكم الرأسماليين المباشر وغير المباشر بأهم وسائل المعلومات ( الصحافة، الراديو والتعليم ). لهذا يصبح من الصعب جدا ( وفي واقع الأمر من المستحيل ) على المواطن ان يتوصل الى استنتاجات موضوعية، وان يتمكن من الاستخدام العقلاني لحرياته السياسية ".
وحسب رأينا ان هذا بالذات ما يجعل مجلةMonthly Review مهمة في أيامنا هذه – بعد مرور أكثر من نصف قرن. نحن فخورون بأن آينشتاين قد اختار الكلمات التالية ليختتم بها مقالته:
" إن الوصول الى الوضوح حول أهداف الاشتراكية ومشاكلها يشكل أهمية كبرى لعصرنا، عصر التحولات. لذا فقد حان الوقت في الظروف الحالية للبدء بحوار مفتوح غير مقيد حول جميع القضايا. لذلك أعتقد بأنه سيكون لتأسيس هذه المجلة منافع جماهيرية مهمة ، في ظل " التابو " الجبار القائم حاليا..."

هيئة التحرير- آيار 2000

لماذا الاشتراكية ؟

هل من الصواب أن يبدي المرء وجهة نظره في موضوع مهم مثل الاشتراكية، إن لم يكن خبيرا في الاقتصاد والقضايا الاجتماعية؟ أعتقد، ولأسباب عديدة انه يمكن أن يقوم بذلك.
دعونا في البداية أن نتناول الأمر من وجهة نظر المعرفة العلمية. قد يبدو في الظاهر عدم وجود اختلافات منهجية جوهرية بين علم الفلك وعلم الاقتصاد. يسعى العلماء في كلا المجالين الى اكتشاف القوانين العامة لمجموعة معينة من الظواهر، ولتحديد العلاقات الداخلية التي تربط بين هذه الظواهر... لكن واقع الأمر يؤكد على وجود مثل تلك الاختلافات المنهجية في المجالين المشار إليهما.
يصبح اكتشاف القوانين العامة في مجال الاقتصاد صعبا ومعقدا، وذلك بحكم الظروف التي تتواجد فيها الظاهرة الاقتصادية الملحوظة، وذلك لكونها تخضع، في العادة، لتأثير الكثير من العوامل التي يصعب تقييمها كل على انفراد. إضافة الى ذلك ان التجربة المتراكمة، منذ بداية ما يعرف بالعصر الحضاري من التاريخ الإنساني، قد تأثرت وتحددت، الى درجة كبيرة، بفعل عوامل محددة، ومعظمها عوامل اقتصادية بطبيعتها. فعلى سبيل المثال ان معظم الطبقات الكبرى في التاريخ مدينة بظهورها الى الفتوحات. فالفاتحون الجدد يسعون الى ترسيخ وجودهم، قانونيا واقتصاديا، بكونهم الطبقة المهيمنة في البلاد التي تم فتحها. ويتم ذلك من خلال الاستحواذ على الأراضي الزراعية واحتكار ملكيتها وبسط السيطرة على المؤسسة الدينية بواسطة مجموعة من المستخدمين الذين يتم اختيارهم من الدوائر الموالية لهم، واختيار الكهنة التابعين للتحكم بالتعليم، والسعي الى ترسيخ التمايز الطبقي في المجتمع وتحويله الى مؤسسة دائمة، والعمل على خلق منظومة من القيم، التي ستصبح من الآن وصاعدا هي القيم السائدة التي يتمسك بها الناس ويسترشدون بها في سلوكهم الاجتماعي، وعلى الأكثر بدون وعي منهم.
لكن العرف التاريخي، كما يقال، يتحدث عن الأمس؛ لم يحصل حتى الآن أن تجاوزنا مرحلة Predatory phase في تطور المجتمع البشري، حسب تحليل عالم الاقتصاد الأمريكي Thorstein Veblen (1857-1929). ان الحقائق الاقتصادية المعروفة، التي تعود الى هذه المرحلة، والقوانين التي يمكن أن نستخلصها من تلك الحقائق غير ملائمة للمراحل التالية الأخرى. وبما ان المهمة الحقيقية للاشتراكية هي التغلب على Predatory phase وتجاوزها، فان علم الاقتصاد، وكما هو عليه في العصر الراهن، غير قادر على تسليط الكثير من الضوء على المجتمع الاشتراكي في المستقبل.
ثانيا- الاشتراكية موجهة من أجل تحقيق هدف اقتصادي أخلاقي. غير ان العلم، من ناحية أخرى ، لا يستطيع ان يزودنا بالأهداف ، لكنه يستطيع ان يغرسها في نفوس الناس؛ وعلى الأكثر يستطيع العلم ان يزودنا بالوسائل التي يمكن بواسطتها بلوغ تلك الأهداف. ولكن الأهداف ذاتها قد تم إدراكها من قبل أشخاص يؤمنون بقيم ومثل أخلاقية نبيلة... وهذه الأهداف لم تولد ميتة، بل ولدت قوية وحيوية...وقد يتم قبولها من قبل من سوف يحملها وهو يحث الخطى نحو الأمام. وهؤلاء هم الذين يقررون التطور البطيء للمجتمع.
لهذه الأسباب علينا أن نكون حذرين وألا نبالغ في تقييم دور العلم والطرق العلمية عندما يتعلق الأمر بالقضايا الإنسانية. لذا لا نعتقد بان ذوي الاختصاص لوحدهم يملكون الحق في التعبير عن وجهات نظرهم في القضايا التي تؤثر على تنظيم المجتمع.
تتعالى الكثير من الأصوات لتؤكد على ان المجتمع البشري يعاني منذ فترة من أزمة، وان استقراره تعرض الى هزات عنيفة. وما يميز هذه الحالة هو ان الأفراد لم يعودوا مكترثين تجاه المجموعات الصغيرة أو الكبيرة التي ينتمون اليها. لا بل وأكثر من ذلك انهم يكنون مشاعر العداء تجاه هذه المجموعات. ولكي أوضح الصورة اسمحوا لي ان أسوق المثل التالي. كنت قد تبادلت أطراف الحديث مع رجل مثقف وموثوق بشأن تهديدات حرب عالمية محتملة قد تقع في المستقبل، والتي، حسب رأيي، سوف تشكل تهديدا حقيقيا للوجود البشري. وأشرت الى ان الحل الوحيد لتفادي حدوث مثل هذا الأمر يكمن في تشكيل منظمة دولية، تكون قادرة على تفادي الخطر. وقد عقب ضيفي على ذلك بكل هدوء وبرودة دم:
" ولماذا تعارض زوال الجنس البشري بمثل هذه القوة ؟ "
أنا على يقين بأنه ما كان بوسعك أن تعثر قبل قرن من الزمن على إنسان قادر ان يقول شيئا كهذا بمثل هذه البساطة. مثل هذا التصريح يصدر عن إنسان كان قد سعى جاهدا في الفراغ من أجل بلوغ حالة التوازن مع نفسه، لكنه، بهذه الدرجة أو تلك، كان قد فقد الأمل في النجاح. انه تعبير عن الغربة الموحشة والعزلة التي يعاني منها الكثيرون في هذه الأيام. ما هو سبب ذلك ؟ وهل هناك من مخرج ؟
من السهل طرح مثل هذه الأسئلة ولكن من الصعب الإجابة عليها بثقة. مع ذلك سأحاول القيام بذلك وبقدر ما أستطيع، مع اني أدرك حقيقة ان مشاعرنا ومساعينا غالبا ما تكون متضاربة وغامضة ولا يمكن أن تتجلى من خلال معادلات بسيطة وسهلة.
الإنسان وكما هو معروف كائن فرد وكائن اجتماعي في الوقت ذاته. بكونه كائن فرد يسعى للدفاع عن كيانه الذاتي وعن وجود الناس الذين يحيطون به، ويسعى الى تلبية رغباته وتطوير قدراته الفطرية. وبكونه كائن اجتماعي يسعى للحصول على اعتراف وتعاطف زملائه، ليشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ومن أجل تحسين ظروف الحياة. وفي ظل وجود مثل هذه القيم المتغيرة والمتعارضة على الدوام، والمتناقضة أحيانا مع طبيعة الإنسان، ومن خلال تركيبتها النوعية يتحدد الى أي مدى يمكن للفرد ان يصل الى حالة التوازن الداخلي، وقدرته على الإسهام في ما هو خير للمجتمع ولصالح أفراده. وليس من المستبعد أن يكون التناسب في قوة كل من هذين العاملين مثبت وراثيا. لكن شخصية الفرد غالبا ما تبرز وتتشكل من خلال البيئة التي يجد نفسه فيها خلال عملية تطوره، وذلك تحت تأثير بنية المجتمع الذي يترعرع في داخله، وتحت تأثير تقاليد وعادات ذلك المجتمع وبواسطة أنماط السلوك المميزة.
ان المفهوم المجرد للمجتمع يعني بالنسبة للفرد المجموع الكلي لعلاقاته المباشرة وغير المباشرة مع معاصريه ومع جميع الأفراد الذين ينتمون الى الجيل الأسبق. والفرد قادر على أن يفكر، يحس ويشعر بالتعب والإجهاد ويعمل بنفسه؛ ولكنه يظل يعتمد على المجتمع في الكثير من الأمور – في وجوده الفيزيائي والفكري والروحي. ولذلك يصبح من المستحيل التفكير به أو فهمه خارج نسيج المجتمع. المجتمع هو الذي يزود المرء بالغذاء والملبس والسكن وأدوات العمل واللغة ونمط التفكير ومعظم محتويات الفكر؛ وتصبح حياته ممكنة من خلال العمل وعبر المكتسبات التي حققتها الملايين في الماضي والحاضر، والذين يقفون وراء الكلمة الصغيرة " المجتمع ".
من الواضح ان اعتماد الفرد على المجتمع يشكل حقيقة من حقائق الطبيعة التي لا يمكن نفيها حتى في حالة النحل والنمل. ومهما يكن الأمر، اذا كانت عملية الحياة عند النحل والنمل مدونة بأكملها وبأدق تفاصيلها بصرامة ودقة متناهية، من خلال الغرائز الوراثية، فان اللوحة الاجتماعية والعلاقات المتشابكة بين الأفراد مختلفة جدا ومعرضة للتغيير. الذكريات، المقدرة على تأسيس تركيبات جديدة، وموهبة التواصل الشفاهي ( الكلام ) جعلت التطور لدى الكائنات البشرية ممكنا. هذا التطور لم يكن مقررا لضرورات بيولوجية. ومثل هذه التطورات تعبر عن نفسها من خلال العادات والتقاليد والمؤسسات والمنظمات، وفي منجزات العلم والأدب والعمل المعماري والنشاط الفني. وهذا يفسر لنا كيف ان الإنسان في جوانب معينة يستطيع أن يؤثر على مسار حياته من خلال سلوكه الشخصي. ويمكن للتفكير الواعي والإرادة الذاتية أن تلعب دورها.
يكتسب الإنسان منذ ولادته مكونات بيولوجية موروثة، والتي يفترض ان تكون مثبتة وغير قابلة للتغيير. ومن بين هذه الموروثات الحوافز التي تعتبر من السمات المميزة للجنس البشري. إضافة الى ذلك فهو يكتسب خلال حياته مكونات حضارية، حصل عليها من المجتمع، من خلال علاقاته وعبر الكثير من المؤثرات الأخرى. والمكونات الحضارية هذه، والتي تتعرض الى التغيير المتواصل عبر الزمن، تعتمد، والى درجة كبيرة على العلاقة بين الفرد والمجتمع. ويعلمنا علم الأنتربولوجيا الحديث - الدراسة المقارنة للـ" الثقافات البدائية " ان السلوك الاجتماعي للناس يمكن أن يكون متباين جدا، ويتوقف على الأنماط الاجتماعية السائدة ونوع المؤسسات القائمة في المجتمع... يستطيع أولئك الذين يناضلون من أجل تحسين مصير الإنسان ان يبنوا آمالهم على الفكرة التالية: ليس محكوم على البشر، وبسبب طبيعتهم البيولوجية، أن يبيد بعضهم البعض ، أو أن يكونوا تحت رحمة قدر متوحش متأصل في النفس البشرية ذاتها .
لو سألنا أنفسنا كيف يمكن لبنية المجتمع وموقف الإنسان الحضاري ان يتغيرا كي تصبح الحياة مقبولة قدر المستطاع، فاننا سوف ندرك جيدا حقيقة وجود بعض الظروف التي سوف نجد فيها أنفسنا بالفعل عاجزين عن تغييرها. والطبيعة البيولوجية للإنسان، كما سبق الإشارة إليه، ليست قابلة للتغيير. إضافة الى ذلك ان التطورات الديموغرافية والتكنولوجية، التي حصلت خلال القرون القلائل الماضية قد وجدت من أجل ان تبقى. فالتجمعات السكانية ، ذات الكثافة العالية مع الضرورات الأساسية لاستمرار الحياة، والتقسيم المفرط للعمل ووسائل الإنتاج ذات المركزية المشددة هي ضرورة مطلقة. ولو نظرنا الى الخلف سنجد بأن ذلك الزمن الرغيد الذي كان فيه الأفراد أو مجموعات صغيرة نسبيا تستطيع أن تتكيف ذاتيا بشكل كامل قد ولى والى الأبد. وسيكون مجرد مبالغة طفيفة، ليس أكثر، لو قلنا بان التجمعات البشرية ومنذ الآن قد أصبحت تشكل مجموعات كونية للإنتاج والاستهلاك.
وصلت الآن الى النقطة التي سبق أن أشرت اليها، ألا وهي : علي أن أحدد جوهر الأزمة في عصرنا. انها تتعلق بعلاقة الفرد بالمجتمع. لقد أصبح الإنسان مدركا أكثر من أي وقت مضى مدى اعتماده على المجتمع. لكنه لم يحصل ان جرب هذا الترابط بشكل ملموس، كشيء ثمين له قيمته الإيجابية، كصلة عضوية، كقوة واقية، لا بل والأكثر من كل هذا انه يعيش تحت إحساس متواصل بأن كيانه الاقتصادي و حقوقه الطبيعية مهددة باستمرار.
يضاف الى ذلك ان وضعه الحالي في المجتمع يتميز بان دوافعه الأنانية تتعزز وتشتد باستمرار، في حين ان دوافعه الاجتماعية ، والتي هي أضعف بالطبيعة، في حالة تدهور مستمرة. ان جميع الكائنات البشرية، ومهما كان موقعها في المجتمع، مهددة بهذا التدهور. والناس، بحكم وقوعهم أسرى لأنانيتهم، وبدون وعي منهم، يشعرون بعدم الأمان، ويشعرون بالعزلة، وأنهم محرومين من أبسط المتع الأولية والبدائية للحياة. ولا يستطيع الإنسان أن يجد معنى لحياته القصيرة والمهمة إلا في حالة واحدة: عندما يكرس نفسه من أجل المجتمع.
برأيي ان الفوضى الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي ، وكما تتجلى اليوم، هي المصدر الحقيقي للشر. ها نحن نرى أمام أعيننا هذا المجتمع الضخم من المنتجين، والذي يسعى أعضاءه باستمرار الى تجريد بعضهم البعض من ثمار عملهم الاجتماعي، ليس عن طريق القوة، ولكن بشكل عام بالإذعان المسالم لشرعية القوانين السائدة. وفي هذا السياق علينا، وبالضرورة ، أن ندرك بأن وسائل الإنتاج – ونعني بذلك القدرة الكلية للإنتاج، والضرورية لإنتاج السلع الاستهلاكية، إضافة الى السلع الكمالية.. يمكن أن تكون ( وغالبا ما تكون هكذا ) ملكية خاصة للأفراد.
من أجل تبسيط النقاش سوف أطلق كلمة " عامل " على كل من لا يشارك في ملكية وسائل الإنتاج... مع ان ذلك يتوافق مع الاستخدام المألوف للمصطلح. من يملك وسائل الإنتاج يكون في وضع يسمح له بشراء قوة عمل العمال. وباستخدام وسائل الإنتاج يقوم العمال بإنتاج سلع جديدة، ستصبح من ملكية الرأسمالي. والنقطة الجوهرية في هذه العملية هي العلاقة بين ما أنتجه العامل والأجر الذي يتقاضاه لقاء ذلك. وكلاهما يقاس باستخدام مصطلح القيمة الفعلية ( الثمن الحقيقي ). الى هذا الحد وعقد العامل هو " عقد اختياري ". وان ما يحصل عليه العامل لا يحدد بالقيمة الفعلية للسلع التي أنتجها، بل بحاجياته الضرورية الدنيا ( بحدها الأدنى ) ووفق حاجة الرأسمالي الى قوة العمل،والتي تتحدد بعدد العمال الذين يتنافسون للحصول على العمل. ويبقى من الضروري أن ندرك بأن أجر العامل لا يحدد حسب قيمة ما ينتجه، حتى من الناحية النظرية.
يسعى رأس المال الخاص ليتركز في أيد محدودة، وذلك نتيجة المنافسة بين الرأسماليين من ناحية ونتيجة التطور التكنولوجي والزيادة المطردة في تقسيم العمل، مما يؤدي الى تشكيل مجموعات إنتاجية أكبر على حساب المنتجين الصغار. والنتيجة الحتمية لهذه التطورات هي " اوليغاركية " رأس المال الخاص، القوة الجبارة التي لا يمكن أن تخضع للمراقبة حتى في المجتمع السياسي المنظم ديمقراطيا. هذه حقيقة، ما دام أعضاء الهيئات التشريعية يختارون من قبل الأحزاب السياسية، وفي الغالب يمولون من قبل الرأسماليين الخواص أو على الأقل يكونون تحت تأثيرهم، وهذا ما يؤدي في النتيجة الى عزل جمهور الناخبين عن الهيئة التشريعية... ونتيجة لكل ذلك نجد ان ممثلي الشعب في حقيقة الأمر لا يدافعون كما ينبغي عن مصالح الفئات الفقيرة من السكان. " يضاف الى كل هذا، في ظل الظروف القائمة، تحكم الرأسماليين المباشر وغير المباشر بأهم وسائل المعلومات ( الصحافة، الراديو والتعليم ). لهذا يصبح من الصعب جدا ( وفي واقع الأمر من المستحيل ) على المواطن ان يتوصل الى استنتاجات موضوعية، وان يتمكن من الاستخدام العقلاني لحرياته السياسية ".
ما يميز الوضع السائد في الاقتصاد القائم على الملكية الخاصة هي المبادئ التالية: أولا- وسائل الإنتاج ( رأس المال ) ملكية خاصة، والرأسماليون يستغلونها بالشكل الذي يروه مناسبا؛ ثانيا- عقد العمل اختياري. وبالطبع لا وجود لهذا الشيء الذي نسميه " المجتمع الرأسمالي البحت "، و بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح. علينا ان نشير الى ان العمال، وعبر معارك طويلة ومريرة قد نجحوا في تحقيق بعض الصيغ المحسنة من " عقد العمل الاختياري "، والخاصة ببعض المهن. ولكن لو أخذنا الأمر بشكل عام سنجد بأن الاقتصاد السائد اليوم لا يختلف كثيرا عن الرأسمالية " البحتة ".
الاقتصاد اليوم موجه من أجل الربح، وليس من أجل الاستعمال. ولا تتوفر أية ضمانة بأن جميع القادرين والراغبين بالعمل سوف يكونوا في وضع يسمح لهم بالعثور على العمل بشكل دائم؛ سوف يبقى العامل باستمرار تحت وطأة الخوف من فقدانه لعمله. لذلك سوف لن يجد المستخدمون والعمال من ذوي الدخول المنخفضة السوق المربحة، وسوف يتقلص إنتاج السلع للمستهلكين. ونتيجة لكل هذا : الفاقة والحرمان. ان التقدم التكنولوجي يؤدي بشكل متواصل الى مزيد من البطالة، بدل من أن يقود الى التسهيل والتخفيف من أعباء العمل لدى الجميع. ان دوافع الربح مع المنافسة القائمة بين الرأسماليين مسؤولان عن عدم الاستقرار في تراكم رأس المال والاستفادة منه، وهذا ما يؤدي في النتيجة الى حالات متزايدة وخطيرة من الركود الاقتصادي. ان المنافسة غير المحدودة تؤدي الى خسارة كبيرة في العمل، وشلل في الوعي الاجتماعي عند الأفراد، والذي سبق أن أشرت اليه... وشلل الأفراد هذا أعتبره شر الرأسمالية الأكثر سوء. ان منظومتنا التعليمية بآسرها تعاني من هذا الشر . انهم يغرسون لدى التلاميذ نزعة المبالغة في المواقف التنافسية، ويجري التركيز على توجيههم كليا نحو هدف واحد، وهو تحقيق النجاح الشخصي في تبؤ المناصب في المستقبل.
أنا على يقين بأن ثمة طريقة واحدة فقط للحد من هذه الشرور المتجذرة، ألا وهي بناء اقتصاد اشتراكي، ترافقه منظومة تربوية موجهة نحو تحقيق أهداف اجتماعية . في مثل هذا الاقتصاد تكون أدوات الإنتاج من ملكية المجتمع ذاته وفي نمط مخطط. ان الاقتصاد المخطط، والذي ينظم الإنتاج وفق احتياجات المجتمع يوزع فرص العمل بين جميع القادرين على العمل، والذي ينبغي أن يضمن وسائل العيش لكل رجل، وامرأة وطفل. ان تعليم الفرد وتعزيز قدراته الفطرية سوف ينميان لديه الشعور بالمسؤولية نحو زملائه بدلا من النزعة لتمجيد القوة والنجاح الفردي في مجتمعنا الحالي.
ومع كل ذلك علينا أن نتذكر بأن الاقتصاد المخطط ليس هو الاشتراكية. إن اقتصادا موجها كهذا قد يرافقه استعباد تام للفرد. إن إنجاز الاشتراكية يتطلب حل بعض المعضلات الاجتماعية السياسية، والتي هي في غاية التعقيد.
هل يمكن من حيث المبدأ وفي ظل المركزية المتشددة للقدرات السياسية والاقتصادية الحيلولة دون تحول البيروقراطية الى قوة سائدة ومهيمنة؟ كيف يمكن صيانة حقوق الفرد؟ وبعد كل ذلك كيف يمكن لنا أن نكون واثقين من توفر ضمانة أكيدة على قدرة قوى الديمقراطية على مجابهة البيروقراطية ؟
" إن الوصول الى الوضوح حول أهداف الاشتراكية ومشاكلها يشكل أهمية كبرى لعصرنا، عصر التحولات. لذا فقد حان الوقت في الظروف الحالية للبدء بحوار مفتوح غير مقيد حول جميع القضايا. لذلك أعتقد بأنه سيكون لتأسيس هذه المجلة منافع جماهيرية مهمة ، في ظل " التابو " الجبار القائم حاليا...

1/5/1949 -



#عدنان_عاكف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اشتراكيون وليبراليون
- الحزب الشيوعي العراقي والقضية الفلسطينية
- عبد الناصر بين أضراس شامل عبد العزيز
- الأوربيون تعلموا الغزل من أسلافنا! أيعقل هذا ؟
- لماذا تراجعت قضية المرأة في العالم العربي ؟؟
- في الاشتراكية العلمية : الاشتراكية والبرمجة الوراثية
- - والقلب ما طاب جرحه - !
- في الاشتراكية العلمية : الطبيعة الإنسانية وكيف تتغير
- نانسي عجرم الرئيس الجديد لمجلس النواب
- أول الغيث مظاهرة البصرة
- حول الإعجاز العلمي مرة أخرى
- نأخذ العلم من عشاي وزغلول ! اعزف الناي ودق الطبول
- هل سيفعلها المالكي ؟؟
- الكندي رائد علم المعادن
- مجرد وجهة نظر في نتائج الانتخابات
- - أهون الشرين - ! والانتخابات
- إناث وذكور في عالم المعادن والأحجار
- من ينتقد اللاموضوعية في النقد عليه ان يكون موضوعيا في نقده
- رحلة مع الجماهرالى عالم الجواهر - 5 -
- رحلة مع - الجماهر - الى عالم الجواهر - 3 -


المزيد.....




- الرئيس الجزائري يستقبل زعيم جبهة البوليساريو (فيديو)
- طريق الشعب.. الفلاح العراقي وعيده الاغر
- تراجع 2000 جنيه.. سعر الارز اليوم الثلاثاء 16 أبريل 2024 في ...
- عيدنا بانتصار المقاومة.. ومازال الحراك الشعبي الأردني مستمرً ...
- قول في الثقافة والمثقف
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 550
- بيان اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- نظرة مختلفة للشيوعية: حديث مع الخبير الاقتصادي الياباني سايت ...
- هكذا علقت الفصائل الفلسطينية في لبنان على مهاجمة إيران إسرائ ...
- طريق الشعب.. تحديات جمة.. والحل بالتخلي عن المحاصصة


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عدنان عاكف - لماذا الاشتراكية ؟ - 1 -