أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعيد مضيه - ماركسية بلا زيوف 1















المزيد.....


ماركسية بلا زيوف 1


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2491 - 2008 / 12 / 10 - 09:50
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


عرض وتعليق سعيد مضيه
زيوف جمع زيف على وزن "ضيف" و"جيش" و" بيت" و...
كدس ماركس خبرته في المجال الاجتماعي والسياسي من خلال النشاط العملي،ليطرح نظرياته بصدد علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان في سياق العملية الإنتاجية. لم ينطلق بفكره من معارفه الفلسفية متأملا أو ناقدا من برج مطل على الواقع الاجتماعي. إن أهم مآثر هذا الثوري تتمثل في منهجيته التي تجدل الفكر بالممارسة في ضفيرة ثقافية حيوية تغير الواقع وتتغير وتتطور مع تغير الواقع. وهو إذ يجمل وظيفة الفكر في عملية التغيير، فإنه لا يرى من وسيلة للتغيير غير المعرفة الموضوعية. المعرفة الزائفة، او ما بات يسمى الوعي الزائف، يوظف لتكريس المحافظة وتكلس الواقع. وفي جدل الفكر والتغيير التقدمي تكمن القيمة الإنسانية والديمقراطية للفكر الماركسي.
هذا وغيره نجده مبسطا في كتاب " ماركس والديمقراطية " تأليف مازن الحسيني وإصدار "المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية"، رام الله 2008. وفي الكتاب مقتطفات من المواد المنشورة بالحوار المتمدن. والمؤلف كاتب ومفكر. ترجم إلى العربية عدة مؤلفات منها كتاب الصحفي الأمريكي "دانييل ستنجر", "الصراع في العالم في الألفية الجديدة" وكتاب عالم الاقتصاد البريطلني،ستيفان لازاروش"أبعاد التطورات الجارية القرن القادم قرن اشتراكية ام بربرية ؟"، ثم كتاب روبرت بيل " الامبريالية الجديدة". وقدم دراسة مكثفة عن المناضلة روزا لوكسمبرغ التي اغتالتها الشرطة الألمانية وهي في أوج العطاء.
أقدم ف يهذه الحلقة الجزء الول من العرض ؛ وأود الإشارة إلى أن الأرقام بين هلالين تشير إلى رقم الصفحة في كتاب " ماركس والديمقرطية"

1- الديمقراطية كما رآها ماركس

شرع ماركس نشاطه العملي صحافيا ورئيس تحرير لصحيفة يومية( راينشي تسايتونغ) التي عطلت فأصدر خلفها ( نيو راينشي تسايتونغ). واكب ماركس في عمله الصحفي بالجريدتين نهوض جماهير الشغيلة دفاعا عن مصالحهم. أدرك الدور المركزي في تحقيق العدالة الاجتماعية الذي يمكن أن تضطلع به الصحافة الحرة. ومن ثم لاحظ من ممارسته العملية أن أنصار الاستغلال والقهر الطبقيين يتلاعبون بحرية الصحافة بأكثر من وسيلة. أبرز ماركس الفرق بين الديمقراطية والليبرالية، وفضح نفاق الليبراليين ورعبهم من الحرية المتضمنة في الديمقراطية، وذلك خلال نشاطه المواكب لتصاعد الصراع الاجتماعي في الولاية الأكثر تقدما اجتماعيا في ألمانيا- ولاية كولونيا- التي رأى فيها ماركس " مركز إقليم الراين الذي عاش الثورة الفرنسية ، واستوعب الوعي الحقوقي المعاصر بواسطة مجموعة قوانين نابليون ، وطور في أراضيه أكبر صناعة ، وكان على العموم آنذاك من جميع النواحي القسم الأكثر تقدما في ألمانيا"(136). اتضح لماركس أن الديمقراطية لا تستقيم إلا بالتعاطف مع قضايا الجماهير وتبنيها؛ الأمر الذي تحجم الليبرالية عنه؛ فاستخلص ماركس مفهوما للديمقراطية يضمن تدفق المعلومات بحرية وصدق موضوعي يفتح أعين الجماهير على جوهر الواقع وعوامل الجور فيه( معرفة الواقع من أجل تغييره). ولا تستقيم النظرة للديمقراطية إلا بشمولها المجال الاجتماعي، خاصة مجال إدارة الإنتاج. ففي الأنظمة البرلمانية الغربية في العصر الحديث تظل "السلطة الحقيقية بأيدي القوى السائدة اقتصاديا، وهي الأقلية الغنية"(130). أما عملية الاقتراع فهي " عملية يتخلى الناخب بموجبها للأقلية الغنية، أو لمن تختارهم تلك الأقلية"(130). تتجلى هذه الحقيقة، التي اكتشفها ماركس بالممارسة، صارخة في عصرنا الراهن حيث تتبين المساواة بين المواطنين في المجتمعات الطبقية عن خدعة فاجرة. بممارسة النشاط الصحفي اكتشف ماركس خطل الفكرة الهيغلية حول وحدة الدولة والشعب. ومن مؤلف ماركس [نقد "فلسفة الحق" لهيغل] ينقل الكاتب قول ماركس " فالإنسان ( في المجتمع الطبقي) هو أساس الدولة الحقيقي؛ ولكنه إنسان غير حر؛ وبالتالي فإنها ديمقراطية اللاحرية ، أي الاغتراب حتى النهاية"(132). وينقل عن إنجلز تأكيده لفكرة ماركس من أن البشر يصنعون تاريخهم ، لكن في ظروف مفروضة عليهم؛ فلا يصنعون التاريخ حسبما يشتهون ؛ إنما من خلال إدراك الضرورة: " نحن نصنع تاريخنا بأنفسنا، لكننا أولا نصنعه في ظل ظروف ومقدمات محددة جدا، الاقتصادية منها هي الحاسمة في آخر المطاف، ولكن الظروف السياسية وغيرها، وحتى التقاليد التي تعشش في رؤوس الناس تلعب هي أيضا دورا معينا، وإن لم يكن الدور الحاسم" (25). بناء عليه فلا بد للعمال من الظفر بتلك الحقوق الضرورية لكي ينتظموا بصورة حرة في حزب طبقي يوفر لهم حرية الطبع والنشر والجمعيات والاجتماعات .
رأى ماركس في نضال العمال من أجل ألمانيا موحدة وديمقراطية أحد شرطين لإنجاز تحررهم؛ أما الشرط الثاني فهو تأييد الشعوب الثورية. تجلى التزام ماركس بالثورة في "ضرورة توفير المعلومات للشعب وإعداده لدعم الأهداف الثورية. الحقيقة تكتسب طابعا ثوريا وحق الجماهير في المعرفة يختزل الطابع الثوري للديمقراطية في بعدها الاجتماعي. وبالتالي كانت صحيفة "نيو راينشي تسايتونج صحيفة ثورية تدعم الحركات الديمقراطية، بما في ذلك الثورات في الداخل والخارج، وتدعو إلى التغيير .."(137). المضمون الثوري للفكر والأدب يكمن في نقل الحقيقة؛ وعندما أصدرت السلطات الرجعية الحاكمة أمرها بتعطيل الصحيفة " كان عدد المشتركين فيها ستة آلف مشترك. ويضيف إنجلز بأنه "لم يحدث أن وجدت صحيفة في ألمانيا في ذلك الوقت ، ولسنوات بعد ذلك ، تتمتع بالسلطة والنفوذ اللذين يمكنانها من تحريك جماهير البروليتاريا مثل نيو راينشي تسايتونغ "(140). هذا، بينما الصحف الأخرى تنضح بالبلادة وتعتم على المظالم والفضائح. إن حرية الصحافة تتجلى في حرية المعارضة ، وحسب تعبير إنجلز ،" حرية تنافس الأفكار، هي إطلاق الصراع الطبقي على أرضية الصحافة ... بينما [فرض] النظام( عن طريق الرقابة على الصحف، أو بأي وسيلة أخرى) يعني خنق الصراع الطبقي وتقييد الطبقات المقموعة"(141)
إذن ليس من حياد في العمل الصحفي. الصحافة إما أن تكون مع الحقيقة وحرية الوصول إلى المعرفة، أو أن تكون مع المحافظة من خلال التزييف والتخدير والتضليل. البرجوازية تلح في العصر الراهن على "حرية العبور" وتغيب تماما المضمون في ومطابقته للواقع والحقيقة. فالعلاقة بين الصحافة والشعب في التجربة الماركسية تمثل "الصلة الحاسمة بين المجالات الروحية والمادية في الحياة اليومية. فكون الصحافة الحرة جزء لا يتجزأ من المجتمع يجعلها أيضا لا تمثل أفكار الشعب وإيديولوجياته فقط، بل تعكس أيضا الالتزام والمساهمة. وهذا يعني أيضا أن الصحافة مؤسسة تنمو، وهي متحدة مع الشعب، تفكر وتشعر كالشعب. وبالتالي فإن الصحافة مثلها مثل الحياة، دائبة التوسع، لا تكتمل أبدا. إنها توجد بين الناس، تشعر حقا بآمالهم ومخاوفهم، وبما يحبون ويكرهون، وبمسراتهم وآلامهم" (145). وفي المجتمعات المعاصرة غدت الصحافة وهيئات الإعلام مؤسسات تجارية ضخمة، احتكارات عابرة للجنسيات والقارات. وهذا انحطاط بالرسالة الفكرية المتضمنة في النشاط الصحفي، بهذه الكيفية يتماهى الإعلام مع بقية الاحتكارات والمؤسسات الاقتصادية والسياسية للعولمة، وتقتصر رسالتها على تكريس الواقع والحفاظ عليه، من خلال كل ما من شأنه تشتيت اهتمام الشعب عن محنته . دحض ماركس فكرة برجوازية تزعم ان الصحافة نشاط تجاري، وحريته تتماهى مع حرية التجارة. حيال هذا الانحراف أكد ماركس على الدوام أن الصحافة " عمل ذهني وفكري ومهمتها تختلف كليا عن مهمة الأعمال التجارية ... يصر ماركس على فصل مناقشة الحريات التي تتعلق بمختلف الأنشطة البشرية، ويقول بأن لكل مجال حريته الخاصة، ولا يمكن اعتبار الحرية مجالا واحدا...ويخلص إلى الإصرار على أن أول حرية بالنسبة للصحافة هي أن لا تعتبر أو تكون عملا تجاريا"(147). وكذلك العمل الصحفي ينبغي أن لا يتمحور حول الكسب المادي،"بكل تأكيد يجب على الكاتب أن يكسب المال ليتمكن من العيش والكتابة، ولكن لا يجب عليه تحت أية ظروف أن يكتب من اجل أن يكسب المال فقط"(149).
لم يتنكر ماركس في لاحق نشاطه الثوري للإيمان بأهمية الحرية والديمقراطية. وهذا يسفه القول بتباين أفكار ماركس الشاب عن أفكار ماركس الناضج، وهي أحد الافتراءات ضد ماركس والماركسية، يوحي بأن تحزب ماركس لحرية الصحافة كمظهر للديمقراطية الأصيلة لم يكن مظهر نضج فكري وسياسي. يورد كتاب " ماركس والديمقراطية" أقوال فلاسفة من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا تؤكد الانسجام والتناسق في أفكار ماركس عبر مختلف مراحل حياته. فيقول الفيلسوف البريطاني جون لويس أن ماركس اعتبر كتاباته الأولى " الرحم الذي ولدت منه نظرياته المتطورة التي أخذت شكلها النهائي في كتابه رأس المال وفي مجمل سلسلة أعماله اللاحقة"(152).
كان ماركس في أحيان كثيرة يستخدم كلمتي الحرية والديمقراطية بصورة متبادلة، كما ساوى في كتاباته بين الديمقراطية والسيادة الشعبية. وحول جدل الديمقراطية والاشتراكية، الموضوعة التي شدد عليها لينين وعاد إليها مرارا قبل ثورة أكتوبر وبعدها، عبر إنجلز عن ذلك بالقول " ان الديمقراطية تعتبر طريقنا إلى الاشتراكية في العصر الراهن كما أن ماركس نفسه أكد مرارا بأن الشرط الأساسي لإنجاز الثورة الاشتراكية هو تحقيق الثورة الديمقراطية. ويورد الكتاب قول البروفيسور البريطاني تيريل كارفر من جامعة بريستول بأن ماركس قد أيد السيادة الشعبية الراديكالية وعمل على توسيعها من المجالات السياسية المعتادة إلى المجالات الاقتصادية الخاصة بالاستهلاك والإنتاج." وأضاف كارفر بأن " مهمة ماركس الرئيسية في الحركة الديمقراطية كانت حمل الحركة على قبول إدراج القضايا الاقتصادية في رأس أجندة الحركات الديمقراطية والحكومات المنتخبة"(155).
إذن، فالمفهوم الماركسي للديمقراطية لم يتشكل نتيجة تأمل فلسفي، أو تعبير رغبي؛ إنما عبر نشاط عملي ودراسات ميدانية تستشرف أفق تحرر البروليتاريا، ومن ثم تحر المجتمع كله. لا تقتصر الديمقراطية في نظر ماركس على التعددية وصناديق الاقتراع، ولا حتى على استقلالية القضاء والحد من نفوذ البيروقراطية وأجهزتها القمعية؛ بل تجاوزت ذلك إلى نمط حياة ومساواة حقيقية وعدالة اجتماعية. ونقل الكاتب عن الباحث الأمريكي في الماركسية ، أوغست نيميتس، أن ماركس أدرك منذ البداية حدود " الانعتاق السياسي" أو الديمقراطية السياسية ، في ظل قيود المِلْكية الخاصة . وقد أكد انه ما دامت عدم المساواة في الثروة موجودة – وكذلك عدم المساواة في التعليم والعمل – فستوجد عدم المساواة في المشاركة بالعملية الانتخابية، بما في ذلك الحق في أن ينتخب المرء"(165)
في ضوء هذا الفهم للديمقراطية تتحقق إنسانية الفرد. عبر المشاركة الواعية في الحياة الاجتماعية، وليس من خلال الابتعاد عن المجتمع. رأى ماركس إن إنسانية الفرد وحريته وخلاصه لا تتحقق إلا عبر انخراطه في حياة مجتمعه. ولكن هذا لا يعني فرض القيود على المشاركة الاجتماعية. ثقة ماركس لا حدود لها بالجماهير الواعية والممسكة بمصيرها. فهي تمسك بالنظام وتحافظ على الأمن أكثر من أي إجراءات زجرية تقدم عليها البيروقراطية المتحصنة في مواقع القيادة. ويبدو أن أوساطا من الرجعية المعاصرة تؤمن بهذه الحقيقة، ولذلك تمنع الوعي والحرية عن الجماهير الشعبية. برر رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين توقيعه على اتفاق ميونيخ مع هتلر، بما قرأه عن الماركسية. تؤمن الماركسية أن الحرية والنظام والأمن لا يضمنها سوى نظام اجتماعي يقوم على الملكية الجماعية. وقال ماركس أن حرية الناس إن كانت تعرض الحكومة للخطر فذلك من سوء حظ الحكومة. "ليس من واجب الناس التضحية بحقوقهم من أجل أن يخففوا من عبء الحكومة ومشاكلها"(167). وفي كتاباته بعد فشل ثورات1848 أكد أن " السمة الرئيسة لأي دستور ديمقراطي حقيقي هي درجة تقييده لاستقلالية السلطة التنفيذية والحد من مدى تصرفاتها بشكل منفرد دون حسيب أو رقيب. ويعود رأي ماركس هذا إلى قناعته بأن الديمقراطية تحمل جوهرها بقدر كونها رقابة وإشرافا شعبيا من أسفل"(168) .
إن هذا ما راود ذهن ماركس وإنجلز وهما يطرحان مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا. أولا طرح ماركس المفهوم عام 1850، ولم يكن مفهوم " الديكتاتورية" يحمل مضمون الاستبداد. صاغ المفهوم بعبارة ديكتاتورية الحركة الديمقراطية (187)، وقصد به السيادة الشعبية. وثانيا لم يضمّن ماركس ولا إنجلز المفهوم ممارسة القمع والاضطهاد. فلم يقصد ماركس تجريد البرجوازية من حقوقها المدنية ، أو من حقوق المواطنة أو قمع المعارضين والمنتقدين. وعرف ديكتاتورية البروليتاريا بأنها تركيز السلطة كلها في يد التمثيل الشعبي"(190).
وكانت روزا لوكسمبورغ قد انتقدت كلا من لينين وتروتسكي في أسلوبهما لتطبيق ديكتاتورية البروليتاريا، وقالت أن هذه الديكتاتورية تتكون من أسلوب تطبيق الديمقراطية وليس إلغاءها والقضاء عليها. هذه الديمقراطية من عمل الطبقة وليس عمل أقلية قيادية باسم الطبقة ـ أي أنها تنطلق خطوة بخطوة من مشاركة نشطة للجماهير؛ يجب أن تكون تحت التأثير المباشر للجماهير ، خاضعة لتأثير النشاط العام كلية ؛ يجب أن تنبع من التدريب السياسي المتنامي لجماهير الشعب"(195). حذر ماركس وإنجلز من اللجوء إلى أي إجراء يعتبر جزءا من النظام الشمولي ، مثل حرمان معارضي الثورة من حقوقهم السياسية وتقييد حرية التنظيم والرأي والاجتماع والاقتراع (196).
إن الإخلاص لروح الماركسية يقتضي في الوقت الراهن العدول نهائيا عن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا والعودة إلى النبع الأول، كما قصده ماركس ورفيقه: رقابة وإشراف شعبي من أسفل". فقد تبلور مفهوم مغاير للديكتاتورية مورس في الواقع مخلفا ذكريات مريرة. كما أن تجربة ديكتاتورية البروليتاريا في التطبيق تمخضت عن ديكتاتورية فرد باسم الحزب والطبقة انتهك خلالها قيم العدالة والإنسانية والتحرر الاجتماعي. وأسفرت التجربة عن إفشال التجربة الأولى لبناء الاشتراكية .
كان التزام ماركس بالديمقراطية فكرا وممارسة يتضح من مجمل فكره وكتاباته. وقد اعترف بذلك معارضوه قبل مؤيديه، وأشادوا بمواقفه وإن لم يشاطروه آراءه(204).
تلك هي أفكار ماركس المستخلصة من التجربة العملية. وفيما بعد استند إليها في صياغة مفاهيمه السياسية والفلسفية.
* * *

بعد الابتعاد القسري عن التفرغ الصحفي واصل ماركس نقده الحاد للحريات المزيفة في أوروبا الرأسمالية والمتمثلة في الليبرالية. قارب مجموعة القوانين الدستورية الفرنسية في حينه، والتي تتطابق معها القوانين المعمول بها في الأقطار العربية في الوقت الراهن: " كل فقرة في الدستور كانت تحتوي على نقيضها "(170). كل شيء مباح ولكن ضمن القانون!! الدساتير تطلق حرية الفكر والتعبير والقوانين تقيدها. " أعيد فرض الرقابة حتى على المسرح، مما حدا بماركس إلى التعليق: وهكذا تم إلغاء حرية الرأي في ملجئها الأدبي الأخير". وأشار ماركس إلى قيام الحكومة الفرنسية بتقييد حق الانتخاب بعد فشل ثورة 1848- 1849، فأصدرت قانونا يجرد " كل من اقترف جرائم سياسية " من حق الاقتراع.
قارب إنجلز في منتصف القرن التاسع عشر وضعا في ألمانيا يشبه الأوضاع الراهنة في عالمنا العربي وتراثنا العربي -الإسلامي، حيث لم تزل الجماهير أسيرة فكرة القداسة الوهمية للدولة وبيروقراطيتها، موروثة عن فقه العصر الوسيط. ففي مقدمة كتاب ماركس "الحرب الأهلية في فرنسا" قدم إنجلز شرحا لنشوء الدولة وطبيعتها، توقف عند الهالة الوهمية التي يحملها للدولة الإنسان العادي، فيقول:
"الاعتقاد الخرافي بالدولة قد انتقل من الفلسفة إلى الوعي العام للبرجوازية الألمانية وحتى لكثير من العمال. فالدولة، وفق تعاليم الفلاسفة، هي "تحقيق الفكرة"، أو هي، مترجمة إلى لغة الفلاسفة، مملكة الله على الأرض. الدولة هي المجال الذي تتحقق فيه الحقيقة والعدالة السرمديتان. ومن هنا ينبثق الاحترام الخرافي للدولة ولكل ما يتصل بها. وهو احترام خرافي يرسخ بسهولة أكبر لأن الناس معتادون منذ الطفولة أن يتصوروا أن الشؤون والمصالح التي تعود إلى المجتمع بأسره لا يمكن تحقيقها والحفاظ عليها إلا بالطريقة المتبعة في الماضي، أي بواسطة الدولة وموظفيها الذين يمنحون المناصب الرابحة. ويتصور الناس أنهم يخطون إلى الأمام خطوة خارقة في جرأتها إذا حرروا أنفسهم من الاعتقاد بالملكية الوراثية وأصبحوا من أنصار الجمهورية الديمقراطية. ولكن في الحقيقة فإن الدولة ليست إلا جهازا لقمع طبقة من قبل طبقة أخرى. وهذا ما يصدق على الجمهورية الديمقراطية بدرجة لا تقل إطلاقا عن صدقه على الملكية. والدولة في أحسن الحالات شر ترثه البروليتاريا المنتصرة في الكفاح من اجل السيطرة الطبقية"(88).

ومن ترسانة السيطرة الطبقية يذكر ماركس وإنجلز الإيديولوجيا كذلك. فالدولة، في نظر ماركس، "تبدو لنا كأول قوة إيديولوجية فوق الإنسان". وهي ليست مجرد جماعة مسلحة من الرجال تمارس الإكراه." فلو كانت كذلك لسهل فهمها والإطاحة بها؛ لكن الأمر،كما أثبتت التجربة هو في الواقع أكثر تعقيدا . فالدولة مضطرة بشكل عام ولصالحها أن لا تبقي رجالها المسلحين في الواجهة، بل أن تحتفظ بهم في "الخلف"، وأن تعطي الصدارة لوسائل السيطرة الإيديولوجية ( الأخلاقية والروحية والفكرية الخ)، للسيطرة على التناحر الطبقي. فالدولة، بما في ذلك الدولة الأشد استبدادا، معرضة للخطر ومكلفة. ومع أن الدولة لا تستطيع نفي استخدام القوة كلية؛ إلا أنها تحاول قدر الإمكان إيجاد بدائل تقلل من الاعتماد على القوة، وتجعل من اللجوء إلى القوة الملاذ الأخير في تسوية الأمور. والأمثلة على ذلك عديدة في تجارب الدول البرجوازية وهي نشر اللامبالاة والتبعية الأخلاقية وتزييف الحقائق والتضليل وشراء الذمم ونشر روح المساومة والتنازلات اللامبدئية والفساد والتعصب وتطبيق مبدأ فرق تسد، وإلى غير ذلك مما كان يمارس في الماضي وما زال يمارس في يومنا هذا، وعلى نطاق واسع(89).
جمعت البرجوازية بين إشاعة أحط الأخلاق والاختلالات الاجتماعية وقرنتها بمفهوم مزيف للدين يحث على الخضوع والطاعة. وقدم إنجلز ممارسات الدولة الأمريكية والأساليب التي تلجأ إليها كمثال حي على ما تذهب إليه الدولة البرجوازية لخدمة مصالحها الطبقية بدلا من خدمة مصالح المجتمع لإحكام سيطرتها؛ فعرى حتى النخاع ديكتاتورية السيطرة البرجوازية في النظام الجمهوري للولايات المتحدة الأمريكية. كتب يقول في مقدمة كتاب ماركس " الحرب الأهلية في فرنسا ": " ليس هناك مكان يشكل فيه الساسة قسما من الأمة الأشد نفوذا وانعزالا مما في أمريكا الشمالية على وجه التحديد. فإن كلا من الحزبين الكبيرين اللذين يتناوبان السلطة هناك يديره النواب في الجمعيات التشريعية للاتحاد، أو يتعيشون من القيام بالتحريض لمصلحة حزبهم ، وعندما ينجح الحزب يكافأون بالمناصب... يغرق الأمريكيون في مستنقع الارتشاء ؛ وفي أمريكا على وجه التحديد يتجلى على أفضل وجه كيف يتطور انعزال سلطة الدولة عن المجتمع ... نحن نجد هناك عصابتين كبيرتين من المضاربين السياسيين تستوليان بالتناوب على سلطة الدولة وتستغلانها بأكثر الطرق فسادا ولأكثر الغايات فسادا والأمة عاجزة إزاء هذين الاتحادين الكبيرين من الساسة الذين هم في الظاهر خدامها، لكنهم في الواقع يسيطرون عليها وينهبونها"(90). وهذا ما يتجلى ساطعا في زمننا الراهن في ممارسات العولمة بأجلى ظواهرها. فثورة المعرفة والاتصالات الجماهيرية تسخر بأقصى طاقتها لنشر الوعي المزيف وترويج الأضاليل وفبركة الأحداث مستغلة احتكار الإعلام البرجوازي للميديا المعولمة. وزيفت ميديا العولمة الدين ، وقدمته ممسوخا في خدمة الهيمنة الكونية والحروب العدوانية في نموذج السلفية المسيحية ولاهوت " ما قبل الألفية". يكتب إنجلز" ومن أهم الوسائل الأخلاقية للسيطرة على الجماهير هو الدين، وسيظل كذلك. وبالتالي فإن غالبية مجالس إدارة المدارس هم من القساوسة. ويفسر هذا الأسلوب أيضا قيام البرجوازية لزيادة الضرائب على نفسها من أجل دعم كافة أنواع إيقاظ المشاعر الدينية.."(90). ويواصل القول:" يعتقد حتى الآن بأن تطور الأساطير المسيحية في ظل الامبراطورية الرومانية كان ممكنا فقط لأن الطباعة لم تكن قد اخترعت بعد...ولكن على ما يبدو فالأمر ليس كذلك . الصحافة اليومية والتلغراف الذي ينشر ما يكتشفه خلال لحظات في العالم بأسره يخترعان في يوم واحد من الأساطير ( تؤمن بها قطعان البرجوازية وتنشرها ) أكثر مما كان يتم اختراعه في الماضي خلال قرن من الزمن" (91). ومما لا شك فيه أن الميديا المعاصرة قد طورت قدرة نشر الأكاذيب المؤسطرة آلف المرات.
وقبل تفجر فضائح لوكهيد في نشر الفساد بين الرسميين في سبعينات القرن الماضي ، تحدث ماركس وإنجلز عن هذه الخاصية لدى الرأسمال محولا كل شيء إلى تراكم مالي ومشددا القبضة الاقتصادية وبالتالي السيطرة السياسية والإيديولوجية. فمن أساليب التخريب الإيديولوجي بحوزة الرأسمالية نشر الفساد من خلال إغراء الثروة. الثروة تمارس سلطتها بصورة غير مباشرة عن طريق الرشوة المباشرة للموظفين...تزييف الحقائق أسلوب آخر لجأت إليه الدولة البرجوازية على نطاق واسع في الماضي لتحقيق أغراضها كما هو الحال في العصر الحديث. ومن أهم مظاهر التزييف هي إعادة كتابة التاريخ وتجاهل الأحداث التي لا تروق للدولة وتشكل خطرا على سيطرة الطبقة الحاكمة..التمييز العنصري والطائفي لتمزيق وحدة الجماهير(92).

بهذه الأساليب ، وبما توفر للبرجوازية الأمريكية من ثراء هائل غدت الولايات المتحدة هي البلد النموذجي للاحتيال الديمقراطي، ليس لكونها أكثر ديمقراطية من الآخرين؛ بل على العكس فهي في نظر ماركس قد طورت بنية جمهورية شكلية ذات شكل ديمقراطي عال، الأمر الذي يعني ان البرجوازية الأمريكية قد طورت أيضا إلى أعلى المستويات فن احتواء تعبير الجماهير والقوى القاعدية عن آرائها ضمن إطار يتناسب مع مصالحها الطبقية والأداة الفعالة التي كانت (وما زالت) توظفها البرجوازية الأمريكية في ذلك هي نشر الفساد ما يسهل شراء الذمم والحيلولة دون وقوع انفجار اجتماعي. فللمجتمع الأمريكي خصوصيته المتميزة.

الحلقة التالية تفضح الزيوف المقحمة على الماركسية كأحد وسائل محاربتها وعرقلة تغلغلها في النشاط العملي للجماهير.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحية للحوار المتمدن في عيده السابع
- وخرج القمر عن مداره
- أكتوبر و عثرات البناء الاشتراكي
- أكتوبر في حياة البشرية
- هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم الحلقة الأخيرة
- هل يخمد عطر الدين عفونة فساد الحكم-3 .... السيف والكتاب
- فرقة ناجية واحدة أم اكثر؟
- هل يذهب عطر الدين عفونة فساد الحكم؟
- يجدفون وسط دوامة العولمة
- نتظر من عام القدس الثقافي
- النزاهة وحرية التجمع في فلسطين
- كبق نستثمر البنية الثقافية لمحمود درويش
- تصعيد المقاومة مسئولية قوى الديمقرطية
- الثقافة العربية في فسطين البدايات والإعاقات (4من 4)
- رفيقنا الذي رحل عنا
- الثقافة العربية في فلسطين البدايات والإعاقات 3من4)
- الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد ال ...
- -الثقافة العربية في فلسطين ( 1من 4حلقات) البدايات والإعاقات
- خنق الماركسية من خلال احتضانها
- نكبة تفرخ نكبات وكوارث


المزيد.....




- الشرطة تعتقل متظاهرين مناهضين للحرب الإسرائيلية على غزة في ج ...
- العدد 555 من جريدة النهج الديمقراطي
- الجيش التركي -يحيد- 17 مسلحا من حزب العمال الكردستاني
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تدعو إلى الاستنف ...
- اتحاد النقابات العالمي (WFTU – FSM)”، يُدين استمرار المحاكما ...
- شاهد ما قاله السيناتور ساندرز لـCNN عن تعليق أمريكا شحنات أس ...
- م.م.ن.ص// يوم 9 ماي عيد النصر على النازية.. يوم الانتصار الع ...
- آلاف المتظاهرين احتجاجا على مشاركة إسرائيل في -يوروفيجن-
- من جهينة عن خيمة طريق الشعب في مهرجان اللومانيتيه (1)
- السويد.. آلاف المتظاهرين يحتجون على مشاركة إسرائيل في مسابقة ...


المزيد.....

- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعيد مضيه - ماركسية بلا زيوف 1