صلاح الدين محسن
كاتب مصري - كندي
(Salah El Din Mohssein)
الحوار المتمدن-العدد: 2487 - 2008 / 12 / 6 - 05:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اسم " طارق حجي " الذي لا اعرفه شخصيا . يذكرني علي الفور بالمسلة الفرعونية . فقد عشت عدة سنوات قريبا من منطقة المسلة الأثرية الفرعونية المنتصبة في ضاحيتها الشهيرة المعروفة باسمها بحي المطرية بالقاهرة . وكثيرا ما كنت أمر عليها لقربها من محطة الأتوبيس العام . فاعرج اليها وادور حولها متأملا بذهول طولها وسموقها الشامخ ووزنها الضخم الذي يقدر بالأطنان ، والنقوش الفرعونية فوقها والتي مر عليها آلاف من السنين ولا زالت باقية . اتذكر تلك المسلة عندما أري أمامي اسم رجل ترأس شركة بترول عالمية وهو رجل اعمال ومفكر مرموق في نفس الوقت !
عرفت من قبل وصادفت رجلا كان مديرا عاما لشركة مقاولات كبري ويتذوق الشعر ويقرأه بنهم ولديه القدرة علي النقد الادبي والسياسي , كان ينقد لي بعض كتاباتي ويشجعني علي الاستمرار في الكتابة عندما بدأت أنشر ببريد القراء بمجلة كانت تصدر من لندن بالعربية منذ سنوات . وكنت أستغرب لذلك ..
وقرأت لاحدي الصحفيات الشهيرات أن رجل الاعمال الراحل الشهير " عثمان احمد عثمان " كان يقرا الشعر ويحتقظ بدواوين لشعراء كبار كالمتنبي ، ولكن مثل تلك النماذج القليلة جدا لم يكن لهم في الابداع . مجرد حب وتذوق للفكر والثقافة فقط .
ونعرف ان الكثير من المبدعين الكبار تراسوا مؤسسات كبري- وطنية - . ولكنها كانت مؤسسات ثقافية – داخل مجالهم – .
من المعروف في اوساط المثقفين . أن من يستعد للقيام بعمل ابداعي من اي نوع – رواية ، مسرحية ، ديوان شعري ، فن تشكيلي .. الخ – فانه يسعي للتفرغ التام لعمله هذا. وقد يتقدم للحصول علي منحة تفرغ من وزارة الثقافة – مكافأة ماية شهرية مجزية – لمدة سنة قابلة للتجديد .
وان اساتذة الجامعات ذوي المواهب القيادية الثقافية والابداعية ايضا ان طلب من أحدهم تولي رئاسة هيئة ثقافية عامة فانه يضطر لطلب اجازة من الجامعة للتفرغ لادارة هيئة ثقافية – رغم كون العملين عادة يقعان في حقل واحد – عمله الجامعي والهيئة الثقافية التي سيتراسها - .
وهناك مثقفون ليست لديهم مواهب ابداعية من أي نوع وانما هم مجرد مدمني ثقاقة – ان صح التعبير – ولا يتخيلون انفسهم خارج ماء الثقافة - فهم سمك ثقافي - .. والا ماتوا اختناقا . فيتفرغون للثقافة – لمجرد القرءة الدؤوبة والمناقشات الثقافية . ولا شيء في حياتهم غير ذلك . ويعيشون علي الكفاف مما ياتيهم من اي مصدر مهما كان قليلا لان الثقافة عندهم لا تحتمل شريكا لها ، ولو اسند لاحدهم ادارة محل بقالة أو محل خردوات صغير - أو ورشة - مساحته متران في ثلاثة امتار – او حتي مكتبة – ليعيش من دخله . لما تمكن من ادارة ذاك المحل الصغير ولالحق به الخسارة . لان عقله لا يحتمل ما هو اكثر من الثقافة .
ولكن المثقف " طارق حجي " استطاع أن يدير شركات شل العالمية للبترول بمنطقة الشرق الأوسط . دون ان يمنعه ذلك من الابداع الفكري . من الدرجة الاولي ..! ويؤلف اكثر من عشرين كتابا .
وانا من المثقفين الذين لا تتسع عقولهم لشيء اضافي بجانب الثقافة وان كنت قد عملت بالتجارة من قبل فقد كان اضطرارا لكراهيتي للوظيفة الحكومية وتركها . ولم يكن امامي مصدر احصل منه علي نفقات المعيشة سوي العمل بالتجارة وقد جاء بالصدفة وبالتدريج . وكنت أمتلك مكتبا تجاريا صغيرا باحدي المدن الجديدة القريبة من القاهرة . وكان وضع ذاك المكتب بداخل راسي كمثقف . يشبه تماما دبور طيار طنان بداخل غرفة صغيرة ، يسبب لي ازعاجا دائما . ولكنني كنت أحتمله مكرها اذ كان هو مصدر دخلي الوحيد .. وكان مكتبي ذاك مجرد مكتب متواضع لا يصلح ليكون مكتب اتصالات أو استعلامات للفرع المحلي .. لشركات شل العالمية بالشرق الاوسط التي يديرها " طارق حجي " - المثقف والمفكر - ! .
وسبق أن الح الصحفي الراحل الكبير " احمد بهاء الدين " علي الرائد الثقافي والناقد والمفكر الراحل الكبير دكتور لويس عوض . لكي يترك عمله بالجامعة – أستاذ للأدب الانجليزي – ليكون كاتبا متفرغا بجريدة الاهرام . – رغم أن العمل بالكتابة للأهرام ، والمحاضرة بالجامعة في الادب الانجليزي يتبعان حقل واحد . تقريبا – الثقافة – لا تنافر بينهما ..! الا ان الامر كما يراه الغالبية يحتاج للتفرغ .
ويوسف ادريس ترك الطب ليتفرغ للادب ، ودكتور مصطفي محمود . ترك الطب ليتفرغ للصحافة وللابداع في مجال الدجل الايماني . لعدم قدرتهما – يوسف ومصطفي - علي العمل والنجاح في المجالين المتناقضين .
كذلك فعل توفيق الحكيم . ترك العمل – وكيل نيابة – ليتفرغ للادب . لعدم القدرة علي الجمع بين العملين .
ولعل الناقد جابر عصفور . عندما تولي لسنوات رئاسة المجلس الأعلي للثقافة بمصر . تفرغ لهذا العمل ولم يجمع بينه وبين عمله كاستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة .
والمثقف المصري العالمي الذي يقال ان بمقدوره أن يلقي محاضرة بالانجليزية يقارن فيها بين شعر شكسبير الانجليزي و الشعر العربي للمتنبي ، في حين أنه دكتور مهندس ! وكان مرشحا لرئاسة منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة – اليونسكو " - دكتور اسماعيل سراج الدين - ثم تولي رئاسة المكتبة العالمية الحديثة بالاسكندرية . أظنه تفرغ أيضا لرئاسة تلك المكتبة العالمية فقط دون ممارسة الهندسة التي هي تخصصه الاكاديمي ... حيث لم نسمع انه يمارس عملا اضافيا آخر خارج الثقافة . .
يمكن القول ان هناك اجماع علي أن عقل المثقف المبدع ، وكذلك المثقف الاداري - او حتي المثقف المدمن غير المبدع - . يحتاج بالضرورة الي التفرغ التام للثقافة .
وصحيح أن العلماء الموسوعيين القدامي .. كانت عقولهم تجمع بين العلوم النظرية الجدلية والعلوم الرياضياتية والمعملية . ولكن ادارة الاعمال الضخمة . العالمية .وبمفهوم عصرنا الحديث هي امر آخر حتي وان كانت وسائل الاتصال والايصال في زمننا تختلف كثيرا عن زمن هؤلاء العلماء الافذاذ القدماء ...
وان يجمع عقل بشري بين دور المثقف والمفكر المرموق صاحب العديد من المؤلفات و اكثر من500 مقال من مقالاته منشورة بست لغات / و أكبر جائزة إيطالية عالمية وهى جائزة غرينزان فى الأدب / . وبين ادارة احدي اكبر شركات البترول العالمية ، وامتلاك شركة خاصة – رجل بيزنس - . كما هو حال
" طارق حجي " فهذا ما يجعلني أدور حول مثل تلك العقلية كدوراني حول المسلة الفرعونية المنتصبة بحي المطرية بالقاهرة . وكلي دهشة وتعجب .
اظنه ظاهرة فريدة من نوعها . ومن النادر أن تتكرر .
***********
#صلاح_الدين_محسن (هاشتاغ)
Salah_El_Din_Mohssein#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟