أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الخياط - البحث عن النهاية















المزيد.....

البحث عن النهاية


عادل الخياط

الحوار المتمدن-العدد: 2471 - 2008 / 11 / 20 - 10:42
المحور: الادب والفن
    


توطئة
قصــة ( البحث عن النهاية ) ليست نبوءة لما آلت إليه الرأسمالية المُتوحشة , إنما رؤية لما فعلته من تدمير مُروع بكوكبنا الأرضي الذي أضحى على وشك الهاوية بفعل ذلك التدمير .. وسبب هذه التوطئة لأن القصة كُتبت سنة - 1997 في - كندا -
ليل زمهريري داكن .. إحدى ليالي يناير الحاقدة جدا على فقراء اللأرض .. حانة على الجانب الآخر .. ضوء أخضر خافت يمتد بخيوط واهية يُحاول جاهدا أن يخترق كثافة الظلام التي تحتوي أجواء صالة الشرب , لكن دخان السجائر الذي يلتف على تلك الخيوط صانعا منها أعمدة أسطوانية سميكة ربما يوحي لسُكارى الحانة إنها أعمدة من نور , وقد يتساءل البعض منهم : عجيب كل هذا الضوء والصالة مُظلمة !

ثمة كتب , صُحف , رُزم من الورق مرصوفة على طاولاتهم وأغلبهم ينحني ورغم العُتمة يُطالع فيها : غريب منذ متى انقلبت الحانات إلى مكتبات للمطالعة ؟ … كانت مُكونات الحانة تعطي إنطباعا ان الزمن قد نسيها من عهد كافور , أقداح ذهبية اللون مقعرة التجويف ودائرية القاعدة , طاولات تحملها أرجل مخروطية سميكة.. كراس مزخرفة بنقوش قديمة . اما البيبان والنوافذ فهي على هيئة أقواس مُنكسرة ونصف دائرية مثل الطيقان الفارسية . حتى النُدل , كانوا يرتدون أثوابا قصيره تحتها سراويل طويلة ويعتمرون قبعات مُكورة مثل العمائم. ومما يثير الدهشة أكثر ان الزبائن بدوا من ضمن هذه المُكونات : ذقون كثة , ومعاطف عريضة الأكمام مثل جُبب القدماء : أظن أنهم لا ينتمون الى زمننا , إذ يبدو أنهم قد تصوفوا تحت محراب الدن المُعتق وفي حضرة السوسن الذهبي فبعث الله فيهم مدا خارقا كأصحاب الكهف فضلوا مستيقظين وسط هذا الفضاء الداكن , منكبون فوق ترياق لا ينضب ابدا !

كنت جالسا في زاوية تواجه مدخل الحانة .. حين دخلَ , التفتَ يمينا , شمالا ثم إتجه نحو طاولتي , لماذا ؟ ربما لأنه شاهدني جالسا لوحدي ..ترخص أن يجلس , فوافقت ولم أستغرب فهذا كثيرا ما يحدث في الحانات . كان مخمورا بعض الشيء : يظهر انه كان يشرب في البيت ولم يكتف . طلبَ عرقا دون مزة :" ربما ليس لديه نقود كافية ". أخطأت التوقع , فقد أخرج نقودا وسلم النادل وما فضل أخذها ودسها في جيبه . هيمان , تأثر واضح يظهران عليه .. ماذا به ؟ .. إنتظرت , لم اتسرع في محادثته .. ثم أوحت إليَ ملامح القوة التي ترتسم على وجهه بعدم وجود أي شيء يحزنه , ثم سخرت من عقلي - فالحزن يمتزج مع الأنفعال فتطغى ملامح القوة في حالات التأثر .. : إذن ما هي مشكلته ؟ إحتمالات كثيرة : ربما فقد أحدا من أهله , او ربما صديقا له و ربما أحدا من هؤلاء في السجن او يعاني مشكلة ما , أو…أو … أ…” .. كذلك أوحى لي جلوسه المُنفرد أنه ليس زبونا قديما على هذا البار .. جاء توقعي خاطئا هذه المرة أيضا , فقد رفعت مجموعة من الجالسين أيديها وسلمت عليه ودعوه الى طاولتهم , فسلم هو برفع يده وإعتذر .. كذلك مجموعة أُخرى ..: إذن هو زبون قديم , عجيب ! فلماذا إختار الجلوس لوحده , حقا هذا يثير الأستغراب! ” . وألغيت هذه الغرابة , فكثير من الناس يُفضلون الجلوس مُنفردين , كذلك من يجلس منفردا يظل مُستغرقا في أشيائه الخاصه فيوحي لمن يراه إنه يعاني من شيء ما , وعلى هذا الأعتقاد نحيت ظنوني بشأنه جانبا ثم إنزويت في عالمي الخاص ..

كانت مُشكلتي أن أجد شيئا يُسليني إزاء الأحساس الخاوي الذي بدأ يتسرب الى داخلي وسط تلك الحانة بعد مضي بعض الوقت - أي شيء : أغنية في مذياع أو جهاز تسجيل , أو تلفزيونا يعرض شيئا ما .. وكنت مُوقنا إذا لم يحدث شيء من هذا القبيل فسأخرج من هذه الحانة , فما الذي يجبرني على ركودها الآسن , ومن المؤكد أن معالمها أو أجواءها تلك وإن كانت في البدء ليست بتلك الأهمية , لكن مع تقدم الوقت غدت كابوسا , لكن الأكثر كابوسية هو الفضول الذي أخذ يرتفع معي تدريجيا إزاء رفيق طاولتي الغريب !
بعد عدة كؤوس كرعها أخذ يبدو اكثر وضوحا .. تساءلت : يا ترى ما مدى ما أرى , إنه يهيم في عوالم لا قرار لها , أيكون إسقاطا , اذا كنت فارغا ماذا سأسقط عليه ؟ ربما ما يكمن وراء الظل , ما ليس تحت مُتناول العقل لايمكن إسقاطه - هل هذا صحيح ؟ … أمعنت فيه أكثر - كان قد أخذ يلوب مثل المسموم : أي كلام هذا , هل ضاع علي التمييز ؟ .. رجعتْ الأفتراضات السابقة حول موت أو سجين قريب له , فرأيتها تناقض وضعه , فمن عنده مشكلة من هذا القبيل يكون سلوكه مُنافيا لهذا الوضع , حيث يغلب عليه إسترخاءً ويأس مطبقين .. ثم أخذ يرحل بعيدا , تظل عيناه تضرب في الأفق المُظلم مثل الذي يبحث عن شيء ما .. فجأة يجفل ويبقى مُتلهفا بعد الجفول كأنه يحاول فك رموز مُعقده ويستمر يلهث فيبعث إيحاءً أنه يستنجد بأكثر عدد من خلايا مخه .. ثم يرجع ظاهرا عليه الأنكسار والهزيمة .. وبعد برهة يبدأ يبحث في آفاق جديده .. لم أمعن فيه هذه المره فقد صار الآن اكثر توقدا . يشرب كأسا ثم يشفط نفسا من سيجارته ويسرح في عوالمه مع تموجات صارخة الوضوح على وجهه : تتراخى تقاطيع وجهه وأهدابه ثم يغمض عينيه ويعض على أسنانه الجانبية قليلا , مع الكأس واحيانا بدونه يفعل ذلك .. ومع الكؤوس , مع الخدر العارم , ويا للغرابة مع الخدر يزداد أكثر فأكثر !… في لحظة ما طرأ شيء مختلف , تحركت شفتاه كأنه يحدث نفسه .. إسترسل برهة على ذلك .. ثم أغمض عينيه بقوة وفتحهما وتناول الكأس وأخذ يمصه ببطء وعيناه تحدقان فيه .. ثم أنزله من فمه ولم يزل ينظر فيه ويهزه على مهل بين أصابعه وكأنه يرى في الشراب الذي فضل في قعر الكأس شيئا ما .. ثم تناول ما فضل في القدح ووضعه على الطاولة ورفع رأسه بإتجاه السقف مع صدور أنة خفيفة غير أنها من عُمق مُستعر بلا ريب , ربما كان يشتكي حاله الى السماء .. وهبط متأوها , تبع آهاته تدرج نفسه الذي إتضح على قفصة الصدري , وكأن كابوسا كان يغل نفسه وتركه فجأة .. نفاضة السجائر طفحت , السيجارة لم تفارق فمه … الآن هدأ , مد جسمه على الكرسي مُسترخيا , شفط نفسا , نفخ الدخان ببطء ثم إسترسل يُصوب بصره نحو السُحب المتصاعدة .. حتى تراخت أهدابه تماما إلى درجة بدى أنه على وشك الولوج الى العالم الآخر .. مضت برهة على ذلك حتى ظننت أنه توقف عن النبض تماما , وهممت بندهه لأتأكد لكن جمر السيجار المشتعل بين أصابع يده المسبولة على تكية الكرسي إستنفذ التبغ والورق ولسع إصبعيه , ففتح عينيه وتناول الزجاجة بهدوء ودار كأسا وتناول منتصفه , ثم إستمر هدوئه واسترخائه … !

تساءلت بغباء إن كان كل ذلك مُقارعة للكأس ولم ينتشي إلا الآن , لكن أي إنتشاء وأي كأس , إنه حتى في هدوئه يبدو عليه نزف روحي ممتد في اللامنتهي .”.. أنهكني مده وجزره .. كيف … لماذا … هل …؟…

الريح توقفت الآن تماما .. فروع الشجر المُمتد على ضفة الشط تركت خيوط الضوء تأخذ طريقها صوب العيون المُلتهبة … أما هنا فقد إنبرت كُتل الدخان تنكفئ عن الضوء اليتيم , تتصاعد ببطء كأبخرة معبد بوذي على أطراف التبت .. الزمهرير ينفذ في العظام بحقد أعمى .. عُتمة الضوء تصنع من الرؤوس الثملة الداكنة أشباحا مُعلقة وسط قبو نصف مُظلم , ولا أعرف من أين حطَ علي هذا تلك الليلة الصماء كشيطان رجيم , عيناه تومضان كالبرق وسط تلك المغارة العائمة فوق بحر لا قرار له من الألغاز !….

لا شك أن تلاشي أسطوانات الضوء قد أوعز للرؤوس التي إفترسها إله الخمر: أن الظلام أطبق , لكن صاحبي إستمر يكرع بما فضل عنده حتى نفض الزجاجة تماما ثم طلب شرابا مرة اخرى وكأن دواخله مستنقعات من جمر أحالت كل ما إلتهمه رمادا ! إلى ذلك وكأنه أصابني بدائه فطلبت شرابا أيضا .. درت كأسا وشربته جرعة واحده كما يفعل غالبا وقلت له دون وعي : تشرب كثيرا .” . لم يقل شيئا , بل لم يعرني أية أهمية .. إزدريت نفسي : ولماذا أتعب نفسي معه , فليذهب الى الجحيم , العالم يعج بالمشاكل لو جلسنا نستفسر عن كل واحده لما خلصنا “… إتكأت على الكرسي وتراخيت وشعلت سيجارة … لكن بعد برهة رجع بصري يُحدق فيه وهو غير مُكترث ..:" لكن هل حقا سمعني ؟ لا أعرف .”…. وبضيق شديد :" لو ينطق جملة واحدة , كلمة واحدة , صمته القاتل حيرني , يكاد يصيبني بالجنون , من أي جنس أنت , تكلم , إنطق , اللعنة عليك وعلى هذه الليلة الغبراء التي ساقتك إلي , أم ساقتني إليك .. ماذا أفعل , كيف أجعله يتكلم ؟.”… سرحت أبحث عن فعل ينتشله من تصخره .. فإهتديت إلى النادل , ندهته فجاء مُسرعا , قلت له بتعصب :" يا أخي من أي جنس أنتم , هل ألعن القدر الذي رماني عليكم , والله يكون أفضل لو تهدون حانتكم هذه ليشيدوا مكانها فندقا ينفع الناس أو أي مشهد يسر النفس , يا أخي شغلو جهاز تسجيل , مذياع , هل جئنا هنا لنسمع قرقعة الزجاج ودبيبكم الثقيل , أنا لا أعرف كيف يقدر المرء على الصمت , لايسمع ولا يتكلم , ما فرقه عن الحيوان في هذه الحالة , هل تستطيع أن تقول لي أي نماذج تجلس في حانتكم , هل هم من الأنس , من الجن ؟ “.. فقال : يا سيد هذا و ضعنا وهذه زبائننا , ماذا يجبرك علينا !” وإنصرف وأنا أدمدم ردا عليه :" هذه الطامة تجبرني عليكم ” .. لكن الطامة لم تنبس بكلمة … حاولت بطريقة أخرى , فأخفيت سجائري وطلبت سيجارة من أحد الجالسين بقرب طاولتنا , فأعطاني , ورغم ذلك لم يتحرك صاحبي , مع أنني جزمت أنه سيعطيني من سجائره .. إستشطت كالملدوغ وكدت اصرخ فيه , لكني صرخت في داخلي : أي صنم انت , أبو الهول , هُبل , اللات , !…” .. ثم تناولت القنينة والكأس بإضطراب ودرت فيه ثم وضعتها بقوة على الطاولة وشربت الكأس ووضعته بقوة أكثر وعدت أركز في معجزة الزمان تلك … شفتاه كُحلية :" هل هي من كثرة التدخين ؟ , وسيمائه , ماذا توحي ؟ قوية لكنها متعبة , ماذا قال للنادل :" هات لي زجاجة عرق ” .. : والمزة ؟ ” : لا أريد” .. هذا فقط , اللعنة عليك , ماذا يمكن أن أستشف من كلماتك هذه .” ..وحين أصابني غموضه وصمته بالغثيان نهضت لأبول وقد إتخذت قرارا بتركه , هذا إذا كان فضولي سيرخي قيوده علي قليلا.!
عند قدومي تذكرت الحُزم الورقية التي أخرجها من جيبه وتصفحها مع أحد معارفه على إحدى الطاولات في إحدى مرات ذهابه إلى التواليت . قلبت مدى أهميتها في رأسي لكني لم أعرها أهمية , فلم يخرجها ويتصفحها غير تلك المرة , إلى ذلك فقد وجدته يخوض في مدار اخر , هذه المرة لجأ إلى مُكونات الحانة عسى أن يجد خيطا يستدل به في فك رموز أسطورته المجهولة : الضوء الأخضر , الفضاء الخافت , الطاولات والكراسي والبيبان المزخرفة, النوافذ والحيطان ,الزبائن وصحفهم وأوراقهم و.. و.. , ثم ترك كل ذلك وأخذ يعد اصابعه .. بعدها رفع كفيه وقوسهما على أنفه ثم أخذ يستنشق : ماذا يشم غير رائحة التبغ .”.. أنزل يديه ثم إلتفت بيأس فسقطت عينيه على لوحة لبرج شاهق مُعلقة في إحدى الزوايا .. بدا أنه إنشرح لتلك اللُقيا , وبدأ التحديق بإمعان .. بدءً إتجه بعينيه إلى أسفل البُرج , فرأى الصورة الأولى : نساء ورجال شبه عراة يحملون عصيا رؤوسها مدببة ويقفون على حافات مياه وآخرون في زوارق صغيرة يغرسون عصيهم في تلك المياه , وبعضهم بأقواس وسهام يترصد مجموعة من الحيوانات البرية , ويُصورهم مشهد آخر يحملون أكياسا ويلقون ما بداخلها وسط حلقة بشرية دائرية والضحك يرتسم على وجوه الجميع … كيف كان رد فعله على هذا المشهد ؟.. لم أستطع إستشفاف شيئا ما , فقد كانت تقاسيم وجهه طبيعية وهو ينتقل الى المشهد الآخر… وكان هذا عبارة عن برار واسعة مخضرة , ينحني فوقها بمعاول ومناجل أشتات من الناس بأجساد هزيلة ووجوه شاحبة , وفي الطرف الآخر ثمة أُناس معدودين ذوي تكوينات منتفخة وشوارب غليظة يشرفون على عربات مُحملة بأكياس ممتلئة بشتى الأحجام . .. أنهى المشهد برد فعل مختلف هذه المرة , فقد رمى سيجارته بقوه على الأرض ثم تدرج ببصره الى مشهد البرج العلوي ..
كان ذلك على هيئة حلقة مُدورة مثل عُملة كبيرة الحجم , تحتوي: ساحات وشوارع ومعالم شاهقة ملصوقا على واجهاتها المختلفة وأعمدتها يافطات بمختلف الأحجام مخطوطة بعبارات تدعو لعوالم خيالية مُضاءة بنجوم ذي ألوان قزحية .. تحوي مدارس ومعابد ودور بغاء ونواد ليلية وحانات ومقاه وأسواق وملاعب.. تحوي خيولا مجنحة ووطاويط رقطاء مقعرة , خراطيم وأسلاك وأزرار ومحاور وأنابيب تتحرك بسرعة وتواصل أبدي كأنها جزء من حركة كون أزلية تظللها نيران ودخان وهياكل عظمية وعُراة وأكواخ وخرائب .. تحوي أسماك وحيتان وكواسج وقروش وضفادع وسلاحف تطفو ميتة فوق موج شطوط وبحور وخلجان وبحيرات ومستنقعات آسنة .. هوام من إبل ودواب وجرذان وأفاع ونعاج وكلاب ودعالج وأبقار وأسود وطيور نافقة متيبسة على إمتدادات مُروج ميتة وصحار يلفحها الهجير وجبال ووديان وهضاب وغابات عارية ..تحوي مُختبرات وقاعات ومكاتب , مُفرقعات وأمصال عليها أختام غير واضحة , صُحف وكتب وحُزم ورقية مُتطايرة في فضاءات تنوء تحت عبء أبخرة قاتمة , وغرف منزوية ضيقة تختنق بدخان السجائر الذي تتراءى دواماته في فضاءاتها النصف معتمة ويُعشعش في الزوايا ورُفوف الكُتب والأوراق ومراوحها السقفية المُستهلكة وطاولاتها وكراسيها الهرمة والتي ينحني فوقها نماذج كرُواد هذه الحانة بأقلام وأوراق وبشعور وذقون كثة .. تحوي أحصاءات وأرقام ونسب مئوية وماركات وخمور وعطور ورُخام ومرجان وحرير وتماثيل وألواح عبر شعاب التاريخ , ومُغامرين وراقصات وضاربي طبول ومُنشدات وطامحين وطالبي عروش وتيجان ومنابر , وعارضي أجسادا وأعضاءً تناسلية يبحثون سماسرة وزبائنا وأمجادا , وآخرون ذوي سُحن لامعة يعرضون عُلبا وصناديق لمساحيق تزويق عليها رسوم وصور لأكوام عظام بشرية …أي حلم مُروع هذا ! ..
كان صاحبي قد أخذ يتلفت يمينا وشمالا كأنه يستغيث بأحد ما وهو يتفرس في تلك الحلقة المعدنية المليئة بالعجائب والغرائب , لكن فضولي تجاهه كان قد كبحه ذلك المد فإنصرفت عنه , وكان أثناء ذلك قد أكمل شرابه وطلب المزيد , ثم تواصل بأنفاس لاهثة وعرقا ودخانا فرأى مجاميع بشرية بألوان وأشكال متنوعة تمارس أفعالا وطقوسا وأعمالا شتى , فالذي يتعبد والذي يرقص والذي يمارس الجنس ومن يغازل حبيبته وآخرون يعملون ومنهم مُنشغل بتزيين هذه الحلقة المعدنية بمساحيق من ذهب وألماس وفيروز , وآخرون يلقون مواعظ وخطب ومحاضرات على حشود غفيرة: نساءً ورجالا وغلمانا تقدح عيونهم جمرا ودمعا وضراعات وتراتيل وإبتهالات وهتافات وقهقهات … تحوي مستشفيات ومصحات : هلوسات لعيون تتراقص قبالتها أشباح خاطفة وعفاريت ويراعات حمراء ونعيق غربان يشق الحجر والشجر ويثير الفزع والموت في نفوس المخلوقات .. وخيالات يوتيبية وأفعالا هستيرية ووجوه مبثورة ومُتقيحة ومُتخشبة … تحوي شواذ وشحاذين ومُشردين وحراب مغروزة في رقاب على قارعة الطريق .. أفواه تملأ البراحات قيئا وأخرى أكوان مقفرة .. أنوف في الدروب والأزقة الضيقة , في الظلمة وفي عُمق الضوء والألق - تنشق الهروب نحو فردوس الوهم والإنكسار , وأخرى تهيم بجنون هستيري : بأياد متوفزة وعيون ضارعة ملهوفة نحو ذلك الفردوس … تحوي أقوام مُهاجرة تخب السير عبر بحار وأخاديد وسهول وقناطر ووديان وصحار في وضح النهار وتحت جنح الظلام … تحوي رجال برؤوس كبيرة وشوارب غليظة وكروش بارزة يرتدون بزاة رقطاء وكاكية وزرقاء وبيضاء مُرصعة بالنياشين والأوسمة .. وثمة أقبية ودهاليز ومحاجر منثورة ومُعلقة داخلها رؤوسا وكفوفا وعيونا وآذانا وسيقانا وأعضاءً تناسلية , وثمة مزارات وحوانيت موتى ومقابر وسماوات مُلبدة تهطل أمطارا مُلونة : سوداء وحمراء وصفراء وزرقاء …عرافات وسحرة ودراويش و… و…. و …. شرع الأبواب ودعنا نوزع الخراب على الخلق ..!
بدا أن الكيل قد طفح به فلم يقدر أن يستكمل , أم أنه قد وصل إلى قناعة
أنه لو نفق الدهر كُله لما إستطاع .!.. فنهض مُنتصبا يتصبب عرقا وغيظا ورُعبا .. لكن الرقعة المعدنية قد أخذت تزداد تجبرا وصلفا لتحتل البرج بكامله .. ثم وببطء - ومثل مخلوق أسطوري يشق الأرض - تظل جدران اللوحة تتشقق مُحدثة صوتا عظيما يُثيرالهلع في قلوب الجالسين ,فتتوجه العيون نحوه بذهول صارخ ورُعب مُميت .. ثم يتواصل تشقق الخشب والزجاج ويتساقط فيختلط الهشيم .. أخيرا يبرز البرج برقعته المعدنية وهي تظلل الأرض والسماء .. إذ ذاك يخرج صاحبي الحزمة الورقية من جيبه ويقذفها نحوه بكل قوة - فتستحيل أسطوانة هائلة الحجم برأس أكبر هولا مُنصل بنصل ذي شعاع أخضر صارخ , فترطمه في قمته بقوة كل ما تحويه رقعته المعدنية من سموم ونيران ودخان .. فيتهاوى الرأس ببطء ويرتطم بالأرض مُهشما مُدويا كإرتطام سماوات الله على أرضه ..ويتهاوى على أثره بقية البُرج ثم تتهاوى الحانة وتتراءى من بعيد الأبنية والمحطات والجسور والمستودعات والمعامل والمعابد والأرساليات والأضواء و … و … وهي تنهار وتنطفئ .. فيعم السكون ذلك الفلك المُقعر إلا حفيف الشجر وصوت الموج وهديل الطير !!
عادل الخياط

كندا - 1997




#عادل_الخياط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوهم المُلائي الإيراني إلى أين ؟ ج 2
- الوهم المُلائي الإيراني إلى أين ؟ عدم التوقيع على الإتفاقية ...
- من هي أبرد إمرأة في تاريخ الولايات المُتحدة الأميركية ؟ سارة ...
- حزب الفيل الأميركي الإشتراكي !
- عراك تيليفوني بين ( بوش و براون ) عن أولمبياد - بكين - وأشيا ...
- كامل شياع و - رسائل من ماروسيا -
- ( جورج بوش ) و ( جوردن براون ) القوقازيان
- - محيسن الحكيم - وصدور روزخنته الموسومة الأخيرة
- أنا أقول إن جماعة - أبو النسوان - ستنتصر على جماعة - أبو الخ ...
- بهاتة - أحمدي نجاد -
- الجنجويد بعثيون وإن لم ينتموا
- جيش الرب الأوغندي يُقدم عريضة إحتجاج للأمم المتحدة ضد حزب ال ...
- حكاية - عِجل العباس - وتطابقها مع قصة فيلم - المُصور البشوش ...
- سفيان الخزرجي وقصة الرابط :
- الشيوعي المُتوسط يُصافح الإسلامي المُتزمت بثورية ماركسية !
- - بغداد - مدينة الرُعب الأولى في العالم اليوم , والعراق لن ي ...
- العربان سبب خسارة منتخب المانشافت
- أحمدي نجاد والرياضة
- العربات الفارغة أكثر ضجيجا .. أحمدي نجاد نموذجا
- هنيئاً للعراقيين فوز الإئتلاف الشيعي الروزخوني الطائفي


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الخياط - البحث عن النهاية