أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - ريبوار احمد - الشيوعية العمالية والقضايا الأساسية الراهنة في العراق















المزيد.....



الشيوعية العمالية والقضايا الأساسية الراهنة في العراق


ريبوار احمد

الحوار المتمدن-العدد: 754 - 2004 / 2 / 24 - 04:34
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


يمر المجتمع العراقي بأوضاع سياسية حساسة وحافلة بالمتغيرات، وهو يتموضع في خضم سيناريو أسود، وقد أصبح تحديد حاضر ومستقبل هذا المجتمع، دور ومكانة القوى السياسية، مخاطر الصراعات القومية والطائفية، انعدام الأمن والمجاعة،  ترتيبات السلطة السياسية، الدستور وقوانين البلاد...أصبحت هذه القضايا الأساسية والرئيسية للصراع بين القوى والبدائل السياسية، وللحزب الشيوعي العمالي بديله ولائحته العملية الخاصة بكل مسألة من هذه المسائل. وسنسعى في هذا البحث الحديث بعدة أجزاء عن أهم قضايا وجوانب هذه الأوضاع وبديل الشيوعية العمالية.
 
-1-
مخاطر الصراع القومي والطائفي تهديد ينبغي إحباطه
مثلما كنا نتوقع منذ بداية تهديدات أمريكا بالحرب ضد العراق، وضعت حرب وسياسات أمريكا هذه المجتمع العراقي بشكل واقعي في متاهات سيناريو أسود. ولتسعة أشهر يتجه هذا المجتمع في قلب هذا السيناريو نحو الخراب وانهيار كل ملامح المدنية، وانهارت المعايير والقيم السياسية وفرضت الغطرسة والتهور والقتل كأساليب سائدة، وانتفى الأمن والطمأنينة والاستقرار، وتحولت الصراعات القومية والعشائرية باستمرار الى خطر مرعب يلوح فوق رؤوس الجماهير وفي أحيان كثيرة حصد ضحاياه من المواطنين المدنيين. والآن أصبح هذا السيناريو على وشك المضي صوب مرحلة جديدة، وفي خضم هذه المرحلة الجديدة تتصاعد علناً وعلى صعيد واسع الدعوات للتهديد بالقتل والإبادة.
إن طرح موضوع إعادة السلطة للعراقيين من قبل أمريكا، وبمعزل عن مضامينه وكم من الصائب إطلاق تسمية "إنهاء الاحتلال وتسليم السلطة للعراقيين" عليه، يمثل اعترافاً صريحاً من أمريكا بالفشل السياسي الذي واجهته في العراق. وهذا ما أضاف مسائل وقضايا جديدة لهذه الأوضاع. فمنذ بداية الهجوم لأمريكي على العراق ومن بعد ذلك إسقاط النظام البعثي، لم ترضخ أمريكا لبحث قضية سحب قواتها من العراق في فترة قصيرة، وكانت في ذلك الوقت منتشية بانتصارها العسكري، وكانت على أمل جر نصرها هذا نحو الميدان السياسي أيضا وبهذا الشكل تسجل خطوة تقدم أخرى. إلا أن هذه الأمنية الأمريكية لم تتحقق، فمازالت تواجه الفشل والإحباط في الميدان السياسي ووقع انتصارها العسكري رويداً رويدا تحت طائلة السؤال أيضاً. وحتى أن اعتقال صدام لم يُزِل علامة الاستفهام من أمام أمريكا.
 
أمريكا في مواجهة الاحتجاجات الشاملة لجماهير العراق
وبعكس ما تطرحه التصورات والتحليلات الشائعة، فان الفشل السياسي الأمريكي ليس في الأساس مقابل بقايا البعث والإسلاميين، وأياً كانت الأبعاد التي اتخذتها ردود أفعالهم الإرهابية، فإنها ليست بعامل حاسم  في هذه القضية. ففي ظل أوضاع تصوب الأنظار فيها على طمأنينة الجماهير على الأقل، كان ممكناً دفع هذا القطب بسرعة نحو الهزيمة والفشل، لا أن يفسح المجال كما هو الحال الآن لتناميه. فبعد انهيار النظام البعثي والاحتلال العسكري للمجتمع العراقي وعيش الجماهير تحت رحمة جيش أمريكا وحلفائها، وجدت أمريكا نفسها بسرعة أمام الاحتجاج العام لجماهير العراق وعدم القبول بسلطتها وإدارتها. وكان هذا عاملاً مؤثراً في أن تعجز أمريكا عن حسم الملف العراقي من الناحية السياسية وفق مخططاتها. وفي خاتمة المطاف واجهت معضلة عصية على الحل تحولت بهذا الشكل الى فشل سياسي.
وقد عبرت وتعبر جماهير العراق بأشكال مختلفة عن رفضها العيش في ظل الجيش والإدارة الأمريكية، وتبين لها عملياً بعد مآسي الحرب وكوارثها أن الوعود الأمريكية لها باسم الديمقراطية والحرية وتحقيق حقوق الإنسان، لم تكن سوى السيناريوهات السوداء للإرهاب وانعدام الأمن والصراعات القومية والطائفية والبطالة والمجاعة وغطرسة الجيش الأمريكي والجماعات القومية والإسلامية. وقد ضيقت هذه السيناريوهات السوداء الخناق على الجموع المليونية للجماهير فتصاعدت ونمت الاحتجاجات الجماهيرية حتى لنفس قوى السيناريو الأسود السياسية وفي مسعى منها لإثراء نفسها من السخط والاحتجاج الجماهيري العام وركوب موجة هذه الاحتجاجات إزاء عدم رضوخ أمريكا لمطالب تلك القوى.
وجاءت إثارة موضوع تسليم السلطة للعراقيين من قبل أمريكا نتيجة المأزق الذي واجهته، فهي تسعى بهذا الشكل لتهدئة الأوضاع والتخفيف من حدتها كي تجد الفرصة لإدامة سياستها وسيناريوهاتها بشكل آخر. وترى جبهة يمين المجتمع العراقي وعلى وجه الخصوص القوى القومية والإسلامية المنضوية تحت اللواء الأمريكي، تلك القوى التي هي جزء من هذا السيناريو الأسود، ترى في هذا الطرح الأمريكي امتيازاً لها. ولذا هي تستقبله وتثير الضجيج حوله، كما أن كل واحدة منها تضع شروطها لضمان الحصول سهم أكبر. فالقوميون الأكراد يرون في هذا التغيير وهذا التعقيد في أوضاع العراق وعجز سياسات أمريكا فرصة للإصرار على الفدرالية المشمولة بكركوك. والجماعات الإسلامية يرون في هذا فرصة لأسلمة العراق وزيادة وطأة الإسلام وتأثيره على الدستور والسلطة العراقية المستقبلية وبهذا الشكل ترسخ موطئ أقدامها. والحركة القومية الشوفينية العربية التي لا يوجد ممثل قوي لها الآن، تجد نفسها في موضع الدفاع مقابل ضغط الطرفين السابقين. والأطراف الذليلة والانتهازية من مثل الحزب الشيوعي يرى في الصراعات بين تلك القوى على حصصها المتناقضة فرصة لممارسة مهنته العريقة والدائمة في اتخاذ دور الوساطة بين القوى المتصارعة الرجعية والوقوف في الوسط، وهذا ما يظهر بوضوح في مقترحه حول الدستور العراق المرتقب. فهو إزاء الفدرالية أكثر قومية من القوميين الكرد، وازاء تعريف العراق كدولة عربية أكثر تعصباً من القوميين العرب، وإزاء إلباس الدستور والقوانين والسلطة لباس الإسلام، أكثر تشدداً من ملالي النجف وكربلاء، ولكنه ليس له أي دور وحتى أنه لا يدرك أن كل هذه التناقضات لا يمكن وضعها في قالب معين.
الآن وبمعزل عما تريده أمريكا في نواياها وكيف تنظم المرحلة الجديدة من السيناريو الأسود، ونتيجة لسياساتها والأوضاع التي أوجدتها، تكشف بدايات هذا الوضع أن الصراع بين القوى المتنفذة والمتطلعة للحصول على حصصها المتضادة مع بعضها البعض، يضع هذا المجتمع أمام مخاطر الغرق في الصراعات القومية والطائفية. فالجماعات الإسلامية تهدد بسيوفها لفرض نفسها على السلطة وفرض الشريعة الإسلامية على القوانين والدستور، وهي منذ الآن وكلما صار مناسباً لها فرضت حكم السيف، وتملأ باستمرار مشاجبها الإرهابية من منابع الإرهاب الإسلامي التي تدعي أمريكا الحرب للقضاء عليها. والقوميون الأكراد يدعون صراحة تحت تسمية "العصيان المدني" لتنظيم المذابح القومية، ويريدو جعل العراق نموذجاً يوغسلافياً، وتبين خلال الأشهر التسعة الماضية المعنى الواقعي لـ"العصيان المدني" في مدينة كركوك، وهذا لا يعني سوى أن يبيد عالمان بعضهما البعض على أساس الهوية القومية ولغة الحديث كي يكون هذا سبيلاً لحصول القوميين الأكراد على حصتهم. والحركة القومية العربية تريد بفرض الهوية القومية العربية على الدولة أن تكون صاحب الدار فيما تعرّف السكان الناطقين باللغات الأخرى كضيوف ومواطنين من الدرجة الثانية وبهذا تترك المجتمع في متاهة المعضلة القومية.
إن الجميع يحاول ويناور لاستعراض قوته وعضلاته كي يجد مكاناً لنواياه ومقاصده الرجعية في اللائحة التي أعلنت أمريكا أنها ستبدأ بتطبيقها في حزيران المقبل في العراق. وبالطبع فان ما تقوم به أمريكا هو الاستمرار بنفس السيناريو الذي مضت فيه لحد الآن، وليس هناك أكثر تظليلاً وخداعاً من تظليل الجماهير بلائحة أمريكا كسبيل لتحسين أوضاع العراق ورفاه الجماهير وطمأنينتها. وفي الحقيقة فان هذه المرحلة أكثر حساسية وحتى أكثر خطورة من المراحل التي تم تجاوزها، فمخاطر جر صراعات الأقوام والطوائف الى كل شارع وزقاق، هي مخاطر وتهديدات واقعية، فالقوى التي تقف خلف هذا السيناريو لن تلتفت لأية معايير سياسية وإنسانية من أجل حصصها ونصيبها، وقد قام أشباهها في البوسنة والهرسك بتمزيق بطون النساء الحوامل بالحراب وحز رؤوس الأطفال الرضع من أجل هذا النوع من الأهداف والمقاصد. هذه الوحشية هي سبيل حافل بالمكاسب لها وتعمق لمجرى سباحتها.
 
لائحتنا العملية ووظيفة الجبهة التحررية
ان هذه الأوضاع تطرح أمام الجبهة التحررية وجبهة التمدن في المجتمع مهمة إنسانية وتحررية حساسة ومصيرية هي أن تواجه الجبهة التحررية، وكل تلك القوى المتطلعة لتحقيق الطمأنينة والإنسانية للمجتمع، كل المناهضين لجر المجتمع الى داخل هذا السيناريو المرير والمظلم والخطير، كل تلك القوى الملتزمة بالمعايير المدنية والأصول السياسية، كل القوى التي ترى نفسها قوى السيناريو الأبيض، تواجه هذا الخطر بإحساس بالمسؤولية، وان إدانة وفضح وشجب العصبيات القومية والعشائرية والقبلية، والإصرار على الالتزام بالمعايير المدنية والأصول السياسية والهوية الإنسانية، وإعلان الالتزام بالحقوق السياسية والمدنية للجماهير، هو أكثر ضرورة اليوم من أي وقت آخر، وأن إعلان بيان الحقوق المدنية من قبل كل مناصري الإنسانية في المجتمع من أجل التصدي لهذا الخطر والهجمة على تلك الحقوق وإيجاد صف واسع ومحكم للوقوف ضد المخاطر التي تهددها، هو أكثر ضرورة اليوم من أي وقت آخر.
وقد بين الحزب الشيوعي العمالي عملياً حتى الآن أنه يقف بأقصى درجات الإحساس بالمسؤولية ضد هذه التهديدات ويناضل لإنهاء هذا السيناريو المرير. فوقوفه ضد الحرب، إعلانه بيان الحريات السياسية، تصديه للنعرات القومية والطائفية والعشائرية، طرحه سبيل حل إنساني لقضية كركوك والنشاط الفعال في هذا السبيل، ووقوفه ضد الإرهاب والهجمة على النساء المدنيات من قبل الجماعات الإسلامية...هي نماذج قليلة لهذا الأمر. والآن يفعّل كل طاقاته بنشاط أكبر ضد تلك المخاطر المحدقة، ويمثل في قلب هذا السيناريو الأسود الإنسانية والمدنية. انه البشارة بالأمن والاستقرار والرفاه والأمل وإرادة الجماهير، ويقف على الصعيد العام ضد العصبيات القومية والعشائرية والقبلية وغطرسة وتهور قواها، وكلما سنح له المجال ينقذ بقدرته ودعم الجماهير إدارة شؤون السكان مباشرة من أيدي تلك القوى، فهو ينظم المدنية، يوفر الأمن، ويبعده من تهور وغطرسة قوى السيناريو الأسود، وينظم حياة الجماهير المدنية بأساليب وقوانين انسانية وعلمانية ومساواتية ويؤمن تلك الحقوق التي أعلنها في برنامجه. انه يجلب أنظار الرأي العام والتحرري العالمي للدفاع عن الجماهير وحقوقها. ويناضل في هذا السبيل ويقف في الميدان كقوة فاعلة وسياسية مقتدرة ونشطة ومسلحة.
في نفس الوقت يسعى بكل قوته من أجل التزام الأحزاب السياسية والأطراف بالمعايير المدنية والأصول السياسية. وواجب الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والجماهيرية التحررية دعم هذه المساعي والوقوف الى جانب هذا الصف وأخذ دورها في إنهاء هذا السيناريو. وهذا يستلزم قبل كل شيء إعلان التزامها بهذا الأمر.
عدا ذلك وعلاوة على أن على الصف والجبهة المدنية والتحررية أن لا تتوهم بأن برامج ولوائح أمريكا ستؤدي الى تحسين أوضاع المجتمع، علاوة على أن عليها أن لا تتوهم في أن إنهاء هذا السيناريو غير ممكن في خاتمة المطاف بدون خروج أمريكا من المنطقة، علاوة على كل ذلك ينبغي عليها الحضور في كل ميدان ووقت يتم البحث فيه والسعي لترتيب سلطة ومستقبل المجتمع، وتفعيل كل الطاقات وبذل المساعي لفرض المعايير الإنسانية والتحررية في الدستور والقوانين والسلطة. والآن إذ تحولت هذه القضية الى قضية ساخنة في الساحة السياسية العراقية وصارت محور صراع القوى السياسية، فان عرض المبادئ الأساسية للدستور والدولة ونظام الحكم من منظار الشيوعية والحركة التحررية، وكذلك جعلها راية للنضال الجماهيري ونضال القوى المناصرة للحرية والتمدن، يشكل ضرورة مصيرية. وسوف نسعى في الأجزاء الأخرى من هذا البحث الى التطرق لهذه القضايا.
 
- 2-
الدولة ونظام الحكم
 فراغ الدولة
يمر العراق بمرحلة أصبحت فيها قضية تأسيس الدولة وترتيبات السلطة السياسية قضية محورية للرد والإجابة على القضايا والمعضلات الرئيسية. وفراغ الدولة في هذا المجتمع فراغ كبير وركيزة رئيسية في خلق واستمرار السيناريو الأسود. فقد انهارت دولة البعث نتيجة الحرب الأمريكية، ولكن لم يحل محلها أية دولة أو نظام. فانعدام الدولة وبمعزل عن ماهيته، برجوازياً كان أو عمالياً، رجعياً كان أو تقدمياً، بالسيناريو الذي حدث في العراق، يجر المجتمع الى داخل السيناريو الأسود.  ومن غير شك أن هذا ليس قاعدة عامة لكل الظروف وفي كل الأحوال، فإذا ما أسقطت الدولة عن طريق الثورة على سبيل المثال، وحتى قبل أن تتأسس الدولة البديلة محلها، فان نفس الأوضاع والإرادة الثورية للجماهير تبلور نظاماً معيناً يستطيع تنظيم أمن وحقوق وجوانب حياة الجماهير ويصونها. إلا أن ما جرى في العراق كان شيئاً آخر. فلم يكن للجماهير أي دور وتدخل وإرادة، بل لقد سحقت إرادة الجماهير. ما جرى في العراق هو انهيار الجيد والسئ، وسيناريو تهديم كل شيء في نفس الوقت، أي سقط كل من النظام ومؤسساته وأجهزته وسقط أيضاً كل شكل من أشكال النظام والمدنية، والدولة الحاكمة أسقطت دون أن يحل محلها أي نظام وأية دولة. وهذا ما هدم أسس وركائز المجتمع وخلق السيناريو الأسود. لذا فإن هذه القضية كما ورد في قرار الحزب الشيوعي العمالي حول قضية الدولة، بحاجة لرد عاجل وإنهاء هذا السيناريو الأسود مرهون بالإجابة على قضية الدولة.
 
 أطروحات وبدائل البرجوازية لقضية الدولة
الإجابة على هذه القضية وإقامة الدولة ونظام الحكم المستقبلي له جوانب متعددة. إلا أن القضية الأساسية هي كيف تحدد حقوق الجماهير وأسلوب إدارة البلد، ما هو الدستور والقوانين التي تشرعها للبلد، أي نظام حكم تطبقه، والى أي حد تؤمن وتضمن دور وتدخل الجماهير فيه. وعلى أساس هذه المسائل يتم تقييم ماهية أية دولة. وفي الخطوة الأولى فان هذه المسائل مرهونة بشكل وآلية تحديد الدولة. فكل أطروحة وعملية لا تفسح المجال لمساهمة وتدخل الجماهير المباشر في القرار حول الدولة ونظام الحكم الجديد، لا يكون فقط متناقضاً مع أماني وتطلعات الجماهير بل ويزيد أيضاً ومن منظار معاداة تلك الأماني والتطلعات في عدم القدرة على الرد على هذه القضايا التي ذكرت.
وقد تطابقت وجهات نظر أمريكا وقوى جبهة اليمين على فرض الدولة التي تريدها على الجماهير بشكل بيروقراطي وبالقفز على إرادة وتدخل الجماهير. وبمعزل عن أية معضلات وخلافات بينها تتطابق وجهات نظرها أيضاً على أن دولة العراق المرتقبة ستكون لها، مثلما كان الأمر عليه في عهد البعث، هوية قومية، وبالشكل الذي أعلنه (هوشيار زيباري) وزير خارجية "مجلس الحكم" تكون دولة قومية عربية، كذلك هي وبتعابير متنوعة متفقة في الجوهر على أن يكون لدولة العراق المرتقبة هوية دينية، أي أنها تريد تعريف العراق كمجتمع إسلامي وتعريف دولته كدولة إسلامية وجعل الشريعة الإسلامية أساس دستورها وقوانينها. وهذه المحاور الرئيسية يمكنها أن توضح الخطوط العامة والجوهر المشترك لبرنامج القوى البرجوازية الرجعي من أجل الإجابة على قضية الدولة. وتبين أن الدولة من منظارها مؤسسة لفرض سلطتها ومصالحها على المجتمع والسكان وليس لتأمين وضمان حقوق وحريات الجماهير أية مكانة في سياسات تلك القوى ومخططاتها.
إن هذه القوى تريد التستر على هذا الجوهر والماهية الرجعية ببعض الأساليب الشكلية، فالبعض من تلك القوى على سبيل المثال وبدلاً من الحديث صراحة عن تعريف الدولة العراقية كدولة إسلامية، تتحدث عن المكانة الخاصة للإسلام في الدولة ودستور وقوانين البلد واحترام المقدسات الإسلامية، حيث لا يعني ذلك في الجوهر غير دمج الإسلام مع الدولة والدستور والقوانين وفرض الإسلام على الجماهير. أو بالتزامن مع تعريف الدولة العراقية كدولة قومية عربية، وبإضافة عبارة "تعيش القوميات الكردية والعربية والتركمانية والكلدوآشورية بمساواة في ظلها"، تريد الاعتراف بحقوق المواطنين من غير الناطقين بالعربية، إلا أنها في الحقيقة وبعكس هذه الادعاءات الشكلية، لا تخفف من وطأة ذلك التعريف القومي الشوفيني للدولة بل تعمقها. فالتأكيد على الهوية القومية العربية للدولة من جانب والهوية القومية المختلفة للمواطنين من الجانب الآخر، يعني الاعتراف بمكانة "الدرجة الثانية" للمواطنين من غير الناطقين بالعربية. وهذا يتناقض تماماً مع مبدأ النظر بمساواة تامة لكل المواطنين على أساس المواطنة. كذلك حول شكل تأسيس الدولة المؤقتة في العراق المطروح الآن من قبل أمريكا، وللتغطية على عدم فسح المجال لتدخل ودور الجماهير في هذا الطرح، تتحدث عن تأسيس مجلس أوسع من "مجلس الحكم" وتريد بعبارة "توسيع" إضفاء طابع ديموقراطي على ما تطرحه والإدعاء بأنها تسعى بهذا الشكل الى ضمان تمثيل الجماهير في طرحها. ولكن في الحقيقة لو أنها وسعته أضعاف أضعاف ما تتحدث عنه، لما غير هذا من جوهر القضية. فمجلس الحكم الذي أسسته أمريكا على سبيل المثال، وبالهيكل والعناصر المكونة والمعايير التي اتخذت في تأسيسه لو اصبح افتراضاً مكون من ألف شخص بدل خمسة وعشرين، فلن يغير من حقيقة أنه مجلس رجعي قومي وإسلامي وعشائري ويقف تماماً في الخندق المواجه للإرادة والأماني والتطلعات التحررية لجماهير العراق. لذا فإن هذا بحد ذاته لن يجعله أبداً مجالاً لتدخل ومشاركة الجماهير في تحديد الدولة ونظام الحكم. إن مجلساً ليس للجماهير دور وتدخل لا في وضعه ولا في إزالته، حتى لو كان عدد أعضائه مائة أو ألف، فلن يغير من حقيقة كونه مفروض على الجماهير ولا يمثلها أبداً.
وتجاه الأوضاع الراهنة والأسلوب الذي أتخذ لتحديد الدولة، وبالتزامن مع فكرة أن على الجماهير التحررية والقوى الاشتراكية والعلمانية السعي والضغط لفسح المجال أمام تدخل الجماهير، فان أحد الميادين المهمة في النضال والصراع على هذه القضية، هو التأكيد على جوهر الدستور والقوانين والإطار الذي يحدد حقوق وحريات الجماهير. وفي خاتمة المطاف فإن هذا هو معيار وأساس تقييم أية دولة ستتأسس. وسنوضح هذه القضية أكثر في تفاصيل هذا البحث.
 
 الانتخابات
موضوع الانتخابات هو أحد القضايا الحساسة التي تطرح بأشكال مختلفة وفي ظل أطروحات متنوعة. وبمعزل عن موضوع الانتخابات لإقامة حكومة انتقالية في الطرح الذي بلورت صيغته أمريكا لتأسيس حكومة العراق المقبلة، من المقرر في النهاية تنظيم انتخابات عامة نهاية العام المقبل. كذلك تروج كل الأطراف للانتخابات كمبدأ، إلا أن جزءاً من الإسلام السياسي وبالدرجة التي يرى في هذه الأوضاع المزرية والمأساوية أوضاعاً مناسبة له، أصبح حاملاً لراية الانتخابات. غير أن إصراره على مسألة إجراء الانتخابات بأسرع ما يمكن، مسألة مثيرة للانتباه وتخفي في طيّاتها خداعاً وتضليلاً كبيرين. فهؤلاء الملالي والقوى الإسلامية التي لا تؤمن أساساً بحق التفكير والاختيار للإنسان وتعتقد بأن ما مقدر للإنسان من السماء عليه القبول به بدون "كيف ولماذا"، أصبحت الآن داعية للديمقراطية وتطالب بالانتخابات.
أن أساس سياسة هذه القوى يعود الى ذلك التحليل الذي تتصور وفقه أنها قادرة على فرض بديلها ضمن إطار الأوضاع الراهنة وفي قلب هذا السيناريو الأسود. وينبع مصدر استعجالها من أنها تعرف أن جماهير العراق لم تحصل طوال 35 عام في ظل القمع الدموي للنظام البعثي على فرصة فتح عيونها تجاه أمانيها وتطلعاتها وتجاه القوى السياسية، لأن المجال لم يفسح سواء خلال تلك الأعوام الخمسة والثلاثين أو حتى الآن للحركات الاشتراكية والراديكالية والعلمانية للوصول الى الناس وإيصال برنامجها وصوتها لهم، كذلك تدرك تلك القوى الآن حقيقة أن أمريكا تعاني معضلات وفشل في الساحة السياسية العراقية، لذا تعتبر ذلك فرصة كي تحسم قضية السلطة السياسية ودستور وقوانين البلاد على أساس حرمان الجماهير من حقوقها وفي ظل أوضاع السيناريو الأسود وفرض بديلها وسلطتها في قلب هذه الأوضاع المظلمة والمأساوية التي تسود عليها قوانين الغاب قبل أن تتفتح عيون العمال والنساء والشبيبة والجماهير التحررية. وما يختفي خلف ضجيج الجماعات الإسلامية لإجراء الانتخابات بسرعة، هو فقط السعي للاستفادة من أوضاع السيناريو الأسود والظلام وسيادة قوانين الغاب، وهذه فرصة لها كي تستفيد من غفلة الجماهير، وأيضاً كي تضمن لنفسها بقوة الحراب تواقيع القسم الأعظم من سكان الجنوب والى حد ما سكان وسط العراق أيضاً حيث لديها نفوذ عليهم.
وبالطبع فأن الانتخابات، وبمعزل عن النوايا والمخططات الرجعية للجماعات الإسلامية، هي أسلوب وطريقة جيدة وحق بديهي للجماهي.  إلا أن الانتخابات بدون وجود أوضاع حرة ومنفتحة ومستقرة تماماً تستطيع كافة القوى السياسية ممارسة نشاطها في ظلها وتتمتع بإمكانيات متساوية لعرض أطروحاتها ولوائحها وبرامجها العملية وبدائلها أمام الجماهير وتستطيع الجماهير في ظلها التعرف على البدائل والبرامج العملية والأطروحات المختلفة وأيضاً تختار بديلها بحرية تامة، وبدون توفير ظروف تصان فيها الحرية السياسية غير المقيدة وغير المشروطة والحقوق السياسية والمدنية البديهية للجماهير، وكذلك بدون مراقب ومشرف مستقل يصون الانتخابات من التزوير ويحافظ على نزاهتها، لن تكون غير خداع وسخرية هزيلة. وفي ظل الأوضاع الراهنة التي تغرق فيها التيارات الإسلامية معارضيها في حمامات الدم وتصدر فتاوي قتل من لا يؤمن بالدين وذوي الأديان الأخرى وترث فدائيي صدام في قتلهم للنساء...وفي الوقت الذي يتم التهديد بغلق مقر منظمة جماهيرية مثل منظمة حرية المرأة في ظل سلطة ميلشيا الطالباني وتمنع الشيوعية...لا يمكن ادعاء الحرية والنشاط السياسي الحر وحرية التصويت والانتخاب.
 
 أزمة الحكومة البرجوازية
إلا أن جانباً مهماً آخر لهذه القضية هو أن أمريكا والقطب اليميني لا يملكان النفوذ المعنوي والإطار السياسي والإيديولوجي لحسم قضية الدولة على الصعيد العام، وهذا هو أساس الفشل، لحد الآن، على مستوى هذه القضية. بمعنى آخر؛ ان البرجوازية العراقية تعاني أزمة حكومية. لذلك فإن أطروحاتها وبدائلها هي استمرار للسيناريو الأسود. وقد كان انعدام وجود بديل ليحل محل النظام البعثي مشكلة أمريكا منذ بداية هذه المرحلة الجديدة، وظل مسعاها خائباً في جمع مجموعة من التيارات والقوى والجماعات المختلفة والمتناقضة وبلورة بديل منها. وكل طرح يتبلور مستقبلاً على أساس التوليف الإرادوي لهذه التيارات المتناقضة سيكون مصيره الفشل. إن المشكلة الأساسية للبرجوازية العراقية تكمن في ان ليس لها قوة جدية تمثلها على الصعيد العام. فهذه القوى الحالية سواء التي تقف الى جانب أمريكا أو التي في صراع معها، لا هي تمتلك قدرة سياسية وعملية تؤهلها لحسم قضية السلطة السياسية على الصعيد العام، كما فعل حزب البعث سابقاً في حسمه لتمثيل الحركة القومية العربية وإشاعة القمع الدموي على سبيل  المثال، ولا هي ذات هوية تؤهلها لأن تكون ركيزة وأساساً سياسياً وأيديولوجياً لهذه القضية على الصعيد العام. ولو نظرت الى أية واحدة من هذه القوى ستجد أنها لا تستطيع سوى الحصول على ميدان محلي على صعيد منطقة من مناطق العراق، بسبب الهوية القومية أو الطائفية التي تحملها، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الأيديولوجية، وبهذا تصبح اضطرارا ظاهرة غريبة وعديمة الأساس في المناطق الأخرى.
 
 بديل الشيوعية العمالية للدولة
من منظار الشيوعية العمالية تشكل الإجابة على قضية الدولة وترتيبات السلطة السياسية في الأساس رداً على قضية تأمين وضمانة الحقوق الأساسية والبديهية للجماهير، ويجب أن ينظر الى هذا قبل كل شيء كمبدأ بديهي ويتحول الى أساس لكل حكومة وقانون ودستور تصاغ للمجتمع العراقي. من هذا المنظار وكعامل أساسي يضمن ذلك، يصر الحزب الشيوعي العمالي على تحدد حكومة العراق المستقبلية من خلال التدخل والمشاركة المباشرة للجموع الواسعة لجماهير العراق. كذلك يؤكد على أن إيجاد أوضاع تؤمن الفرص أمام حياة لائقة بالإنسان لجماهير العراق وتؤمن الحقوق الفردية والمدنية، مرهون بقيام دولة تستند على المساهمة والتدخل المباشر للجماهير. أي من خلال انتخابات حرة تضمن تحقيقها الظروف التي تمت الإشارة إليها فيما تقدم، وبإمكان اي مواطنة او مواطن تجاوزوا سن السادسة عشر المشاركة فيها سواء بالترشيح أو بالتصويت. وتحدد كل المناصب الإدارية والسياسية للبلاد من خلال الانتخاب الجماهيري المباشر. ومتى ما أرادت الجماهير، تستطيع إعفاء المنتخبين وإحلال أشخاص آخرين محلهم. يتحقق هذا الطراز من الحكم ضمن إطار النظام المجالسي، وليس النظام البرلماني الذي يشكل أكثر نماذج القطب اليميني في المجتمع تزويقاً. فالنظام المجالسي أنسب وأرقى أشكال تدخل الجماهير المباشر في السلطة وإدارة البلاد. ويناضل الحزب الشيوعية العمالي في سبيل إقامة نظام مجالسي، ويؤكد على أن حكومة العراق المرتقبة يجب أن تتأسس على أساس النظام المجالسي وتكون حكومة علمانية وعصرية غير قومية وغير دينية. وسنحلل بتفصيل أكثر كل واحدة من هذه العبارات في ثنايا وتفاصيل هذا البحث.
إلا أننا ندرك حقيقة أن هذه الأوضاع الحالية ليست أوضاعاً ثورية كي يتم حسم قضية الدولة من خلال الثورة الشاملة لصالح جموع الجماهير العريضة. لذا فإن تجاوز السيناريو الأسود والأوضاع الشائكة الحالية وإيصالها الى إقامة ومجيء حكومة بديلة تؤمن الحقوق والحرية والطمأنينة للجماهير، بالضرورة هو بحاجة لخلق أوضاع تؤمن الأسس والشروط الأولية للتدخل الحر والمباشر للجماهير في تحديد الحكومة. ويجب أن تقام لهذا الغرض دولة مؤقتة تمسك بزمام الأمور في العراق بشكل مؤقت. وتعمل هذه الدولة المؤقتة على إعادة النظام والأمن والاستقرار الى المجتمع، من خلال اتخاذ خطوات عملية وعاجلة والرد الفوري على مشكلة المجاعة والأمن، وكذلك ضمان بيان الحريات السياسية وكافة الحقوق الأساسية البديهية للجماهير. في نفس الوقت ينبغي خروج القوات الأمريكية من العراق. وتحدد الفترة اللازمة والمناسبة كي تتمكن كل القوى والأطراف السياسية على صعيد كل العراق من ممارسة نشاطها وتعريف بدائلها وأطروحاتها للجماهير في ظل أوضاع مستقرة وبدون أية عقبات وكذلك بالاستفادة بشكل متساوي من الإمكانيات اللازمة. وبعد أن تتعرف الجماهير في هذه العملية على البدائل والأطروحات المختلفة، تقام انتخابات عامة وشاملة على صعيد العراق بإشراف ومراقبة مرجع دولي مستقل لتحديد الحكومة المقبلة. وبدون الأخذ بنظر الاعتبار هذه الشروط الأولية التي تم بحثها، فإن الحديث عن أية انتخابات، ليس سوى خداع وتضليل وذر الرماد في عيون الجماهير لفرض البديل والسلطة الرجعية.
وبالطبع فإن الطريق ليست معبدة أمام حزبنا وجماهير العراق لتطبيق هذا البديل، بل إننا وجماهير العراق نواجه عقبات وموانع مختلفة، إلا أن نقطة قوة هذا البديل هي أن الحزب الذي يقف خلفه وبعكس القوى البرجوازية في الساحة العراقية، توفر له خصائصه السياسية والأيديولوجية أكبر الفرص والإمكانيات لتشكيل قاعدةً ونفوذاً قوياً وشاملاً على صعيد البلاد. لأنه وبتجاوز الهوية القومية والدينية والطائفية والعشائرية وبمعزل عنها كلها، يمثل المطالب والتطلعات التحررية لكل سكان العراق وبإمكانه ضمهم وجمعهم كلهم تحت مظلته على أساس الهوية الإنسانية المشتركة وهوية المواطنة والمساواة في كل الحقوق. وعملياً الحزب الشيوعي العمالي هو الآن القوة السياسية الوحيدة الشاملة واقعياً التي استطاعت جمع المواطنين حول سياسة وهدف واحد وجعلهم يضعون أياديهم بأيادي بعض ولف القوى حوله من كل أنحاء البلد رغم تلك الخطوط والحدود والجدران الموضوعة بين السكان على أساس الهوية القومية والدينية والعشائرية. فمن ناحية الشمولية ليس هناك قوة في الساحة السياسية العراقية الحالية بإمكانها منافسة الحزب الشيوعي العمالي. ويشكل هذا عاملاً وقاعدة أساسية وراسخة لصعود هذا الحزب وبديله، في الوقت الذي يشكل عكس ذلك نقطة الضعف والعامل المشترك لكافة القوى الأخرى.
-3-
 الدولة اللاقومية اللادينية والعلمانية
لكي تجيب الدولة التي ستحكم العراق على تطلعات وأهداف جماهير العراق، وتؤمن حقوق وحياة المواطنين وفق دستور وقوانين مساواتية وتقدمية، ينبغي لها أن تكون حكومة غير قومية، أي أن لا يكون لها أية هوية قومية، وأن لا تعترف بأية هوية قومية للمواطنين وحقوقهم، وأن لا تصنف المواطنين على أساس الهوية القومية واللغة التي ينطقون بها، وأن لا تكون لغة الحديث والهوية القومية دليلاً على أن يكون لمواطن ما او مواطنة حقوقاً ومكانة أقل أو أكثر من غيره.
كما يجب أن تكون تلك الدولة دولة غير دينية وعلمانية، ويجب  ان لا يخلط الدين بشؤون الدولة ونظام التربية والتعليم، و يجب أن لا يكون الدين مصدر دستور وقوانين البلاد، فالدين والعقائد الدينية هي شأن خاص بالأفراد وليس له علاقة بالدولة. وكل شخص له الحرية في أن يكون له دين ما أو لا يكون له أي دين. يجب أن لا تعترف الدولة بأي دين رسمي للبلاد، بناءاً على ذلك لا يكون للعقائد الدينية أي دور في مكانة المواطنين، فجميع السكان وبغض النظر عن عقائدهم الدينية، وبمعزل عن أي دين يدينون به أو لا يدينون به، متساوون تماماً في الحقوق في كافة الميادين والمجالات.
فالدولة العلمانية تصوغ دستور وقوانين البلاد كلياً وبشكل مباشر على أسس إنسانية ووفق مبدأ النظر بعين المساواة لمكانة وحقوق المواطنين. إن تناقض تلك القوانين وذلك الدستور مع الأحكام الدينية لا يضع علامة استفهام أمامها، وليس هذا فقط، بل أنه يشكل أيضاً تأكيدٌ على ضرورتها الإنسانية. فمن منظار مثل هذه الدولة ينبغي أن تكون الإنسانية والمواطنة هي المبدأ والمعيار، وبناءاً على ذلك ينبغي ضمان ما هو لازم لتأمين حقوق وحريات وسعادة الإنسان.
 
 ضرورة لا قومية الدولة
إن تعريف الدولة العراقية كدولة قومية عربية هو أحد التقاليد والركائز الأساسية للنظام الفاشي البعثي. فقد نظمت أبشع الممارسات الفاشية والتصفيات القومية وأكثرها وحشية ضد سكان العراق "غير العرب". وقد تم النظر الى العراق من هذا المنظار كملك للحركة القومية العربية وتم التعامل مع بقية السكان الناطقين باللغات الأخرى كضيوف ومواطنين من الدرجة الثانية. وحرموا من حقوقهم السياسية والمدنية والثقافية الأساسية، وهذا كان أساس التعريب والترحيل والتصفيات القومية تجاه الناطقين بالكردية والتركمانية الخ. ونفذت هذه السياسة بالمجازر الجماعية والقصف الكيمياوي وكوارث الأنفال. فمجرد وضع تعريف قومي عربي للدولة، بمعزل عن أية سوابق ولواحق تضاف أو لا تضاف إليه، يعني إعادة نفس الفاشية والشوفينية القومية العربية التي مارسها النظام البعثي. وهذه قضية تم تكرارها من قبل "مجلس الحكم". إن القوميين الأكراد والذين يواسونهم في ظل الأوضاع الحالية، يريدون التغطية على ذلك بهذه اللاحقة، حيث بالتزامن مع التعريف القومي العربي للدولة العراقية، يقال "العراق بلد متعدد القوميات ويعيش في ظله الكرد والعرب والتركمان والآشوريين والكلدان معاً بالمساواة والتعايش والطمأنينة". ولا تعجز هذه اللاحقة عن طمس حقيقة أن "العرب" سيصبحون وفق هذا التعريف أرباب البيت ومواطني الدرجة الأولى بينما يصبح "غير العرب" ضيوفاً ومواطنين من الدرجة الثانية فحسب، بل إنها تعد المكمل والمتمم لها. فنفس هذه اللاحقة كانت جزءاً من رؤية البعث ودستوره وقوانينه ولهذا السبب نظمت أبشع أشكال الفاشية وأشدها ضد "غير العرب" الذين كانوا يعيشون حسب هذا التعريف على "حساب العرب".
ونفس تعريف الدولة العراقية كدولة عربية، ينفي من الأساس الإدعاء بـ"الحقوق المتساوية للقوميات التي تعيش في ظلها" وبهذا يصبح الحديث عن "العيش معاً بمساواة وطمأنينة ووئام" شيئاً فارغاً ومخادعاً. لأن الدولة إذا كانت "دولة عربية"، لا يمكن القول أنها دولة الجميع، ولا يمكن أن يكون رب البيت والضيف متساويي الحقوق. وإذا كانت الدولة "دولة كل سكانها" لا يمكن ولا ينبغي القول بانها "دولة عربية"، وبخلاف ذلك لن يترك أي مجال لحقوق المواطنين المتساوية، و لا يمكن ان يكون انعدام الحقوق المتساوية في إطار دولة معينة معنىً مرادفاً "للمساواة والطمأنينة والوئام". ان هذا ليس سوى كلام مظلل وخادع للتستر على انعدام المساواة الواقعية.
إن تصنيف سكان العراق على أساس الهوية القومية يعود الى أن مصلحة كلا الحركتين القوميتين الكردية والعربية ترغب في صياغة هوية قومية مختلفة للسكان. والحديث عن الهوية القومية المختلفة الذي يفسر ظاهرياً كإثبات لـ"واقع وحصة وحق قوميات العراق المختلفة"، هو في جوهره ركيزة لهيمنة كلا الحركتين القوميتين على الساحة وتقسيم السلطة بينهما. فالحركة القومية العربية تفرض بهذا تفاخرها القومي كصاحبة دولة ووطن والحركة القومية الكردية تستعرض نفسها كممثل للسكان الناطقين بالكردية من أجل الحصول على حصتها كي تجعل من ذلك أساساً للوصول الى أهدافها ومقاصدها. ونتائج ذلك وعدا عن خلق جبهتين بين السكان وإشعال فتيل الصراعات الرجعية بينهم، ستؤدي الى التمييز وانعدام المساواة الحقوقية للمواطنين والإبقاء على الصراع القومي وفرض المكانة الدنيا على المواطنين من غير الناطقين بالعربية.
وحسب ما جرى الحديث عنه، إذا كان مقرراً للدولة التي ستحكم العراق النظر بعين المساواة للمواطنين، إذا كان مقرراً اجتثاث الشوفينية القومية العربية في العراق بعد سقوط النظام الفاشي البعثي وسد الطريق أمام تكرار تلك المآسي الإنسانية التي خلقتها في الماضي الحركة القومية العربية، وإذا كان مقرراً لدولة العراق المرتقبة أن تؤمن المساواة والطمأنينة والوئام لجماهير العراق، فإنه لا ينبغي لتلك الدولة ان تحمل أية هوية قومية، ولا ينبغي صياغة هوية قومية للمواطنين والإشارة للهوية القومية في أية وثيقة رسمية. ينبغي تعريف الدولة العراقية كدولة عصرية غير قومية وذات هوية إنسانية، حيث تكون دولة لكل سكانها من دون الالتفات الى الهوية القومية ولغة الحديث، وجميع السكان لهم حقوق متساوية تماماً كمواطنين وبشر، وجميعهم أحرار في الاستفادة من لغتهم الأم في كل الميادين.
 
 ضرورة لا دينية الدولة
إن ركيزة أخرى من ركائز النظام البعثي كانت في تعريفه للعراق كمجتمع ودولة إسلامية. مع ذلك يجري بعد سقوط ذلك النظام التأكيد على نفس هذا الأساس من قبل تلك القوى التي تدعي أن لديها عداء متأصل مع ذلك النظام وتدعي أنها تريد اجتثاث البعثية. فبإعلان النظام البعثي الإسلام كدين رسمي للدولة وجعله أساساً لصياغة الدستور والقوانين فانه يكون قد مورست أشد أشكال القمع والرجعية والتمييز وحشية في المجتمع العراقي. فبموجب الشريعة الإسلامية لا يمنح الحق لأي شخص في أن يكون بلا دين، فكان على الجميع إما أن يكونوا مسلمين أو أن يختاروا ديناً آخر لهم. وكان على أتباع الديانات الأخرى الخضوع لسيطرة الإسلام وهيمنته وتفاخره بذاته. وبالاستناد الى الشريعة الإسلامية فرض أكثر قوانين الأحوال الشخصية عداءاً للإنسانية وتعامل مع النساء وفق هذا القانون كعبيد خاضعة للرجال، وحرمهن من أبسط حقوقهن الإنسانية، ومارس أشد أشكال العنف وحشية ضدهن وحز أعناقهن بالسيوف.
وعلى نفس هذا الأساس أيضاً خلط الدين بالتربية والمناهج التعليمية، وجعل الدروس الدينية إجبارية في المدارس من خلال تنظيم "الحملة الإيمانية"، ومارس ضغوطه لفرض دين الإسلام وأسلمة البلاد. وهاجم الحقوق الفردية والمدنية وأجبر الجميع على الالتزام بتقاليد وشرائع الدين الإسلامي. ومارس ضغطه على النساء لارتداء الحجاب وأعطى لنفسه الحق وفق أحكام الدين الإسلامي في التدخل في أكثر قضايا وشؤون المواطنين شخصية وخصوصية. وبهذا فرض تراجعاً واضحاً على المجتمع.
إن منح مكانة خاصة للدين الإسلامي في أية دولة ودستور وقوانين، والتي يتم التأكيد عليها من قبل قوى جبهة يمين المجتمع الآن، لن يكون لها أي معنى سوى فرض هذا الدين وأحكامه ضمن إطار دستور وقوانين البلاد على مجمل المجتمع. فمنح أي امتياز لأي دين في الدولة ودستور البلاد يعني وضع أتباع الديانات الأخرى والناس غير المتدينين تحت ضغط هذا الدين ومنحهم بذلك مكانة من الدرجة الثانية في دستور وقوانين البلاد.
المكانة الخاصة لدين الإسلام في الدولة والدستور، تعني خلطه بالقانون والتربية والتعليم، تعني جر جوانب الحياة اليومية للجماهير الى سيطرة وهيمنة الأحكام الإسلامية. فكل الأديان والإسلام بشكل خاص لها تناقض شديد مع حرية الإنسان، فالإسلام يعرف الإنسان من الأساس كعبد عليه الالتزام دون تردد بالأحكام المقررة سلفاً خارج إرادته، والهابطة إليه من السماء. وهو ينظر الى المرأة كإنسان من الدرجة الثانية مقارنةً بالرجل، وبهذا يجعلها عبدة العبيد. وقد أعلنت أحكام الإسلام فتواها بوضوح مقابل أتباع الديانات الأخرى وغير المتدينين، فإما أن يكونوا مسلمين، أو أن يعطوا الجزية أو أن تستباح دمائهم بتهمة الكفر. فإذا كان هناك شخص جعل الإسلام هويته منذ يوم ولادته بمعزل عن إرادته، واختار في يوم من الأيام سبيلاً آخر ستستباح دمائه بتهمة "الردة". ولذا لا يمكن بسبب الدلائل التي تم ذكرها أن يكون له مكانة في الدولة والدستور والقوانين العصرية والمساواتية، وأية مكانة تمنح له، تعني التضييق على الحريات بكل أشكالها وقمعها بموجبه، وفرض التمييز الجنسي والديني، وفرض أحكام السيف والعنف والعبودية...إن دولةً تعتبر الحرية والإنسانية ومساواة السكان أساساً ومبدأً لا يمكنها خلط هذه الأحكام بدستورها وقوانينها بأية درجة من الدرجات.
يجب فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم، ويجب صياغة دستور وقوانين البلاد على أسس انسانية بعيداً عن تأثيرات أي دين. يجب أن يكون الدين شأناً خاصاً بالأفراد، ولكل شخص الحق في أن يكون له أي دين أو لا يكون، من دون أن يكون لذلك تأثير على حقوقه ودوره في المجتمع. وهذا سبيل كي لا يضطهد شخص بسبب تدينه وتبعيته لدين معين وكي لا يمنح أي شخص مكانة أكثر تميزاً بسبب دينه. وطلب إعطاء امتياز للدين الإسلامي أو تعريف الدولة كدولة إسلامية، هو طلب من أجل ممارسة الظلم والاضطهاد بحق المواطنين غير المسلمين وفرض أحكام الإسلام بالقوة على المجتمع وكافة السكان. ومن أجل التصدي لذلك يجب تعريف الدولة العراقية المستقبلية كدولة علمانية غير دينية.
 
الفيدرالية
لقد أصبح موضوع جعل العراق فيدرالية، بمعاني وأشكال وأغراض مختلفة، واحداً من المواضيع والقضايا الساخنة الآن بين أوساط المحافل والقوى القومية والإسلامية والعشائرية. وكل طرف يفسره ويستنتج منه بطريقته الخاصة التي تجيب على أهدافه الخاصة. ليس للفيدرالية كمقولة سابقة في المجتمع العراقي، يمكن القول لم ولن تكون لها أية أرضية وركائز. بقدر تعلق الأمر بجزء كردستان، فإن هذه المقولة طرحت من قبل الحزبيين القوميين الكرديين في 10-12 سنة الماضية. ولكن لو أخذنا بمعزل عن ذلك معنى الفدرالية في أعم وأشمل حالاتها، فإنها نوع من اللامركزية ومنح صلاحيات محلية لسلطة المنطقة ضمن إطار البلد، وهذا له تاريخ أقدم في كردستان، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية حيث ظهر بأطر وتعبيرات مختلفة في مطالب الإقطاع ورؤساء العشائر والبرجوازية العشائرية الكردية للمشاركة في السلطة السياسية مع الدولة المركزية. في فترات معينة سمي بالحكم الذاتي وفي أوضاع ما بعد حرب الخليج الثانية وانتفاضة آذار وتأسيس برلمان الأحزاب القومية الكردية، تم التعبير عنه بصيغة الفدرالية.
لقد سعى الإقطاعيون ورؤساء العشائر والبرجوازية القومية الكردية في كل مرحلة الى إيهام الجماهير بمطلبهم وهدفهم هذا كبديل وسبيل لوصول جماهير كردستان الى أهدافها وتطلعاتها، خصوصاً التحرر من الظلم القومي. وبهذا اقتادوها خلفهم داخل المجتمع الكردستاني. لكن ليس لهذا في الحقيقة أية صلة بمطالب وإرادة وأهداف جماهير كردستان. فإذا كانت أهداف الجماهير الحرية والرفاه والتحرر من الظلم والقمع والتمييز القومي، فليس لمطلب اللامركزية سواء كان حكماً ذاتياً أو فدراليةً أية صلة لا من قريب ولا من بعيد بتحقيق أي من تلك الأهداف. بل بالعكس سيصبح هو سبب تشديد الحرمان منها. بمعزل عن أي تحليل وتفسير فإن تجربة 12 سنة الماضية تثبت هذه الحقيقة بأوضح الأشكال وأشدها حيوية. فخلال 12 عام كانت كردستان بيد الأحزاب القومية الكردية بأكثر الأشكال لامركزية، إلا أن تلك المطالب والأهداف لم تتحقق وحتى لم تخطو تلك الأحزاب خطوة في هذا المجال، وليس هذا فقط بل حتى أن دورها وتأثيرها وممارساتها كانت ضد كل تلك المطالب والأهداف. لقد سجل تاريخ الـ 12 سنة الماضية في كردستان هذه الحقيقة. فالجوهر والمضمون الواقعي لمطلب الفيدرالية ليس سوى إشراك الأحزاب القومية الكردية في السلطة السياسية المركزية ومنحها صلاحيات خاصة في كردستان لإدامة نفس التاريخ الذي سجلته في تلك الأعوام الاثني عشر الماضية.
إلا أن مقولة الفيدرالية حضت برواج كبير كمقولة غير معرفة وغامضة مع اشتداد تهديدات أمريكا بالهجوم على العراق. وعدا عن الأحزاب القومية الكردية، استفادت كل من أمريكا وكذلك الحركات الإسلامية والعشائرية الأخرى العراقية من هذه المقولة ووجدت مصلحتها في استخدامها. عبرت أمريكا عن دعمها لهذه القضية على العموم بهدف لملمة المعارضة البرجوازية لاستخدامها كوسيلة في حربها ومخططاتها فيما يتعلق بقضية العراق. أي لكي تستفيد منها في تمهيد السبل لإشعال فتيل الحرب، وأيضاً تستفيد منها في الحرب بجعلها ألعوبة بيدها ومن ثم منحها دوراً وسلطة لشركائها الصغار على صعيد المنطقة ضمن إطار سيطرتها على السلطة في عموم العراق. وقد تم قبول نفس الكليشة وبنفس الغموض الذي يكتنفها من قبل الجماعات الإسلامية والقومية العشائرية العربية سواء من أجل طمأنة قلوب القوميين الأكراد أو بهدف أن يكون هذا سبيلاً لأن يكون لتلك الجماعات مناطقها الخاصة في الغد بعد الحرب وتقسيم سلطة العراق.
الآن بعد أن أصبحت ترتيبات السلطة السياسية في العراق قضية اليوم الساخنة وموضع الجدل بين القوى، أصبحت عبارة الفيدرالية الغامضة وغير المعرفة ذلك اللغز الذي يتحدث عنه نوشيروان مصطفى. والقوميون الأكراد يفسرونها حسب رغبتهم بالفدرالية القومية أو الجغرافية بهدف أن توكل سلطة كردستان المحلية بهم، ولم يتمكنوا للان من جعل الآخرين يقبلون بها ويريدون أن تكون كركوك من ضمنها. من جهة أخرى تفسرها أمريكا بفيدرالية المحافظات ولنفس الغرض الذي تحدثنا عنه فيما تقدم. فهي تريد أن تكون سلطة العراق السياسية تحت إمرتها، وفي نفس الوقت تريد أن يصبح شركائها الصغار سنداً للسيطرة على المناطق المختلفة. وترى القوى الإسلامية والعشائرية العربية هذا الأمر مناسباً كي تحصل على زاوية من السلطة وتضع كل واحدة منها منطقة تحت سيطرتها.
غير أن فيدرالية العراق بغض النظر عن أي شكل تتخذه من الأشكال التي بحثناها، هي أسوأ وأكثر مأساوية، وهي من الأساس أطروحة رجعية ومثيرة للشغب والفوضى ضد الجماهير وحقوقها وحرياتها.ستصبح سبباً لإضفاء الهوية القومية والطائفية والعشائرية على كل منطقة وتعرف كل مدينة وسهل وهضبة بمثل هذا التعريف. وهذا يبلور ويشكل أرضية حروب وصراعات غير منتهية لتقسيمها. وحتى لو تم القبول في أية فترة بهذا التقسيم بموجب توازن القوى، ستبقى هناك دائماً الأرضية لاشتعال فتيل الحروب والصراعات على التقسيم من جديد بتغير توازن القوى.
إن الفيدرالية في نفس الوقت والى جانب إضفائها طابعاً قومياً وطائفياً وعشائرياً على المناطق المختلفة، ستصبح أساساً للتعريف القومي للدولة المركزية، وكما نشاهد الآن أن قوى الجبهة اليمينية بقومييها الكرد أيضاً متفقة على أن تعرف الدولة المركزية كدولة عربية والى جانبها يكون للسلطة المحلية على صعيد المناطق هوية قومية أخرى أو طائفية وعشائرية. وسيصبح هذا أساساً للتمييز ومنح مراتب مختلفة للمواطنين.
من النتائج الأخرى للفدرالية مثلما بينا فيما تقدم أنها تصبح عملياً سبباً في جر جماهير كل منطقة تحت جناح قوة وجماعة رجعية. بهذا وبمعزل عن أية صلاحيات تمنح حسب الدستور لسلطة الفدراليات المحلية، ستدار عملياً كل منطقة بقانون معين حسب ماهية تلك القوة السائدة والمسيطرة، بحجة الثقافة والدين والمذهب. وهذا سيخلق اضطراباً اجتماعياً كبيراً ويوجد مناخاً عسيراً وخطراً لحياة المواطنين. ويضع عملياً حقوقهم وحرياتهم تحت أقدام القوى الإسلامية والقومية والعشائرية ويجعل من هذا السيناريو الأسود الراهن حالة روتينية ودائمة.
بمعزل عن كل ذلك سيصبح الصراع حول الفيدرالية نفسها وأشكالها تهديداً كبيراً للمجتمع، فمن الآن شرعت بوادره وتهديد القوميين الأكراد بـ"العصيان المدني" ولجوء الجماعات الإسلامية للإرهاب وسطوة السيف، هي براهين وأدلة هذه الحقيقة. فالأحزاب القومية الكردية أكثر تشدداً من الجميع في الإصرار على الفيدرالية القومية أو "الجغرافية" لكردستان ولوحوا بورقة "العصيان المدني"، إلا أن أطروحاتها وبمعزل عن جوهرها وماهيتها تفتقر للأسس حتى من الناحية الحقوقية. فإذا كان مقرراً جعل العراق مجموعة من الولايات الفيدرالية، فإن هذا القرار مربوط بكل جماهير العراق وليس بسكان منطقة واحدة فقط. إن القوميين الأكراد الذين يتحدثون باسم جماهير كردستان، يتناسون حقيقة أن بإمكان جماهير كردستان القرار بالانفصال عن العراق وتأسيس دولة مستقلة، إلا أنها لا يمكنها فرض العيش بعلاقة فيدرالية على كل جماهير العراق ضمن إطار دولة واحدة معها. وقد شبه لينين بشكل صحيح حق الانفصال بحق الطلاق، فيما شبه منصور حكمت أيضاً بشكل صحيح الفيدرالية بتعدد الزوجات. أي أن بإمكان طرف الانفصال وإنهاء الحياة المشتركة، غير أنه ليس بإمكانه فرض الحياة المشتركة المشروطة والتي يقصدها من طرف واحد.
وبموجب كل تلك الأدلة التي وردت فيما تقدم فإن الفيدرالية هي أطروحة رجعية وضد الحرية من منظار الحرية والمساواة ومن منظار الحزب الشيوعي العمالي وتتناقض بشدة مع المصالح الإنسانية لجماهير العراق بمجمله. وعلى هذا الأساس نحن لا نرفضها فقط بل ونشجبها وندينها أيضاً. ونؤكد ونصر مقابل الفيدرالية على (دولة واحدة وقانون واحد) وفق المضمون الذي تحدثنا عنه فيما تقدم. ومن الضروري في هذا السبيل توحيد الصف النضالي للجماهير التحررية والمضطهدة في كل مناطق العراق ومن ضمنها كردستان من أجل إقامة حكومة غير قومية وغير دينية علمانية تضمن المساواة في الحقوق لكافة المواطنين.
-4-
 
خروج القوات الأمريكية
الحرب والاحتلال وبقاء القوات الأمريكية في العراق، هي منشأ واستمرار السيناريو الأسود الحالي. ولا يمكن إنهاء هذا السيناريو وإيجاد ظروف يعود في ظلها الأمن والرفاه والحرية الى الجماهير بدون خروج تلك القوات من العراق. وقد جربت جماهير العراق طوال 13 عاماً الماضية بأعمق الأشكال سياسات أمريكا المعادية للإنسانية ضدها، فالمجازر التي لا تحصى التي قامت بها أمريكا من خلال الحرب والقصف والحصار الاقتصادي ضد جماهير العراق، المجاعة والحرمان التي فرضتها أمريكا على جماهير العراق، والدمار وهدم البنية التحتية الاقتصادية والمدنية والخدمات الاجتماعية، كذلك التراجع الذي فرضته على المجتمع، وقد دفعت ثمنها جميعا من المآسي والكوارث والحرمان الشديد الذي عانته جماهير العراق. وآخر نتائج سياساتها هي هذا السيناريو الأسود الذي يحترق في أتونه هذا المجتمع. كل تلك أوجدت احتجاجاً واسعاً بين صفوف جماهير العراق ضد أمريكا.
ولم يستطع ضجيج "حرب تحرير العراق وإنهاء دكتاتورية صدام حسين"، بكل خدعه وتظليله محو مآسي هذه الثلاثة عشر عام من ذهن وذاكرة جماهير العراق، فاليوم تنظر هذه الجماهير الى أمريكا بوصفها القوة التي جلبت لهم تلك الكوارث والنكبات في الماضي والآن كقوة احتلت المجتمع العراقي بهجومها العسكري وسحقت كل إرادة لهذا المجتمع، ولم تكن عملياً نتائج هذه الحرب التي كان مقرراً أن تنقذ جماهير العراق من القمع والحرمان من الحقوق والدكتاتورية، غير إغراق المجتمع في مستنقع السيناريو الأسود وفسح المجال لظهور وتنامي مختلف الجماعات والقوى الرجعية التي سحقت بغطرستها وتهورها ووحشيتها أبسط حقوق وحريات الجماهير.
وقد جعل كل ذلك من مطلب خروج القوات الأمريكية مطلباً عريضاً للجماهير وشرطاً لانهاء هذا السيناريو الأسود. ولكن وبالتزامن مع هذا المطلب الجماهيري والى جانبه تطرح المخاوف من أن الأوضاع ستسوء أكثر فيما لو خرجت أمريكا من العراق الآن وستطلق أيادي الجماعات الإسلامية لتنقض على أرواح الجماهير. وليس هناك من شك أن الإسلام السياسي أصبح الآن خطراً جدياً على العراق والمنطقة ينبغي إحباطه. إلا أن نفس حرب أمريكا واحتلال العراق فتح الميدان أمام الإسلام السياسي، وبقاء القوات الأمريكية في العراق يصبح مصدر بقاء الأبواب مشرعة أمام استقواء الإسلام السياسي.
 
حرب أمريكا وبقاء قواتها، مصدر تقوية الإسلام السياسي
سياسات أمريكا المعادية للإنسانية وهجومها الوحشي وغير الشرعي الذي واجهته الاحتجاجات والسخط الجماهيري المليوني من قبل جماهير العالم، فسح المجال مجدداً لإنعاش وإحياء الإسلام السياسي الذي تعرض بعد الحادي عشر من أيلول لسخط ونفور البشرية المتمدنة العالمية وواجهت فشلاً كبيراً في حرب أفغانستان، ونزعه لقناع الوقوف بوجه غطرسة أمريكا وحروبها، والظهور بمظهر ممثل الاحتجاج الجماهيري وخصوصاً في العالم العربي. وهذا هو نفس التوقع الذي أعلناه في بداية التهديدات الأمريكية. ومسار ما يقارب العام الماضي برهن على صحة هذه الحقيقة. وبقدر تعلق الأمر بدور أمريكا في نفس الساحة السياسية العراقية، ليس هناك أوضح من أنها لم تتخذ دور معاداة مد الإسلام السياسي والتصدي له، وليس هذا فحسب بل إنها منحته أكبر وزن في المجلس والإدارة التي أنشأتها. وأصبح وجود القوات الأمريكية في العراق مصدر تقوية كل أجنحة الإسلام السياسي، وقد وقفت تلك الأجنحة مقابل أمريكا وفي جبهة "مقاومة المحتلين"، وجعلت من وجود القوات الأمريكية ذريعة لحشد القوى والاستعراض، وأولئك الذين كانوا يقفون ضمن إطار مخططات أمريكا حصلوا على أكبر الامتيازات منها.
لذا فإن أمريكا ومخططاتها هي عامل تقوية الإسلام السياسي وبقائها في العراق سيؤدي الى هذه النتائج. وما يبدو ظاهرياً أنه سبب عدم فسح أمريكا المجال أمام وقوع السلطة مباشرة بيد الإسلاميين وتفسير ذلك كنوع من التصدي لمد الإسلام السياسي، يكمن في أن جذوره الأصلية تعود في الحقيقة الى أن توازن القوى في المجتمع العراقي لم يكن يسمح بتسليم السلطة للإسلام السياسي, وقد تعاملت أمريكا مع الأمر بموجب توازن القوى هذا. وإلا فليس لامريكا أية مشكلة أصلية في جعل مجموعة من الجماعات الإسلامية والعشائرية المطيعة لها كما هو الأمر في أفغانستان كابوساً يخيم بظلاله على الجماهير. ولم يكن لها مشكلة مع فرض الأحكام الإسلامية وعبودية النساء وقمع المدنية وحرمان الجماهير من حقوقها، وقد أعلن عن هذا بأشكال مختلفة على ألسنة المسؤولين الأمريكيين بشكل مباشر. إن لأمريكا صراعاً فقط مع تلك التيارات الإسلامية التي تتمرد عليها ولا تخضع لسياساتها، وهذه التيارات قد استفادت في الحقيقة من الصراع مع أمريكا وأستقوت به وليس العكس.
إحباط دور الإسلام السياسي وإبطال مفعوله قد أصبحت قضية ملقاةعلى عاتق جماهير العراق وينبغي لهذه الجماهير أن تقوم بها مباشرة. ان الاعتماد على سياسات ومخططات أمريكا الرجعية لن يعفي الجماهير من مسؤولية هذه الحرب. وبالعكس فإن معسكر الحركة الاشتراكية والتحررية والعلمانية لجماهير العراق وبالدرجة التي يكون فيها قادراً على التحول الى قوة فاعلة ومؤثرة لإخراج القوات الأمريكية، بنفس الدرجة بإمكانه تغيير مجمل توازن القوى لصالحه وسحب البساط من تحت أقدام الإسلام السياسي. فخروج القوات الأمريكية هو محور رئيسي في صياغة مستقبل العراق، والقوة والجبهة التي ليس لها دور مؤثر في الإجابة على هذا المطلب وهذه الضرورة، لن يكون لها دور مؤثرة في صياغة مستقبل العراق، والعكس صحيح. ترك هذه القضية للإسلام السياسي، يعني الوقوف على هامش المسارات السياسية وترك مستقبل العراق السياسي للإسلام السياسي.
ولكن وبمعزل عن مكانة هذه القضية في صياغة مستقبل العراق، ليس هناك أكثر وضوحاً وبديهية من أن وجود القوات الأمريكية في العراق الآن أوجد أخطر مناخ إرهابي وانعدام للأمن، حطم أسس المجتمع والمدنية، ولم يترك مجالاً لحياة الناس. وبسبب كل هذه الدلائل  ينبغي خروجها من العراق. غير أن خروج القوات الأمريكية ليس مطلباً وشعاراً جامداً وأحادي البعد، أو بمعنى آخر ليس بإمكانه أن يكون بحد ذاته هدفاً يوصل الجماهير الى أهدافها. فقد رفعت جماهير العراق مطلب خروج أمريكا من أجل الخبز والأمن والحرية والمستقبل الأفضل، وهذا يتطلب أن يتقدم هذا النضال الى الأمام متمحوراً حول استراتيجية واضحة وشاملة بإمكانها ضمان وتأمين أهداف الجماهير. فليس هناك من قوة وحركة تقوم برفض أوضاع ما وتترك مكانها خالياً بل تضع بديلها بدلاً عنها. والحركة التي يناضل الحزب الشيوعي العمالي لتنظيمها وقيادتها، هي حركة ينبغي عليها وبالتزامن مع إخراج القوات الأمريكية، أن تحبط دور الإسلام السياسي والقوى القومية والعشائرية وتنهي السيناريو الأسود وتحل محله بديلاً إنسانياً وعلمانياً وتقدمياً. وما يمكنه ضمان ذلك حركة جماهير العمال العريضة والنساء والشبيبة والجماهير التحررية والعلمانية، كحركة جماهيرية وقوية شاملة متمحورة حول برنامج عمل واضح بقيادة الحزب الشيوعي العمالي، بإمكانها وبالتزامن مع إخراج القوات الأمريكية، ضمان وتأمين الخبز والأمن والحرية في المجتمع عن طريق إقامة حكومة علمانية غير قومية وغير دينية، وتطرح سبيل حل مناسب لكافة معضلات المجتمع، وكذلك تحبط دور الإسلام السياسي والقوى الرجعية أيضاً.
ومن غير شك أن خروج القوات الأمريكية وإقامة سلطة علمانية غير قومية وغير دينية مستندة لمشاركة  الجماهير وتدخلها المباشر، خصوصاً في الأوضاع المعقدة والمتشابكة الحالية، من الضروري لها أن تجري ضمن إطار خطة واضحة وعملية دقيقة. وهذا ما سيضمن مضي الأوضاع وأمن الجماهير نحو التحسن. والخطوط العامة لهذه الخطة والعملية تم بحثها في الجزء الثاني من سلسلة المقالات هذه، والتي هي باختصار عبارة عن تشكيل حكومة مؤقتة من ممثلي الجماهير، للإمساك بإدارة المجتمع العراقي بقصد تحقيق الخبز والأمن والحرية، وكذلك توفير أسس ومستلزمات انتخابات عامة للقرار ، غير القوات الأمريكية وحلفائها في الحرب ضد العراق، تقديم هذه المساعدة والتعاون. لأن بقاء القوات الأمريكية كما قلنا فيما سبق وبأية ذريعة كان لا يساعد في تحقيق الأمن والاستقرار بل أنه يؤدي هدم الأمن والاستقرار أكثر.
 
 -5-
القضية الكردية
شكلت القضية الكردية لعشرات السنين واحدة من المعضلات السياسية الرئيسية للمجتمع العراقي والتي تركت أثرها الواضح على مجمل المجتمع.  ان بقاء هذه القضية بدون حل ورط المجتمع بمجمله وحياة مواطنيه، الناطقين بالعربية والكردية بالتعقيد والاضطراب والانقسام الى جبهتين وخلق المآسي الكبيرة. ولم تنته نتائج هذه القضية عند الظلم والاضطهاد المفروض على الجماهير الناطقة بالكردية، بل حتى أن الجماهير الناطقة بالعربية والتي منحت ظاهرياً امتيازاً بسبب هذه القضية، قد جعل منها واقعياً قرابين للشوفينية العربية. فلسنوات طويلة تعرضت الجماهير الناطقة بالعربية للقتل في حروب النظام الفاشي البعثي ضد جماهير كردستان وقدمت كقرابين دون أن يكون لها أي مكسب عدا البؤس والشقاء. وإذا كانت سياسة التعريب والترحيل جعلت الناطقين بالكردية مشردين فاقدين للمسكن وفرضت عليهم العيش حياة تشرد في المجمعات الإجبارية، فإنها في الحقيقة لم يكن فيها أي مكسب للجماهير الناطقة بالعربية، وليس هذا فحسب، بل جعلتها معرضة للبؤس والشقاء بشكل آخر.
فتأمين السكن المناسب لكافة المواطنين، الذي هو حق أساسي وبسيط لكافة المواطنين، تم تحويله من قبل النظام الفاشي البعثي الى جانب من جوانب سياسة التعريب والترحيل الفاشية. وقد استفاد البعث من الفقر وانعدام المسكن لدى سكان مناطق الوسط والجنوب ليجعل منها طعماً لحربه وسياساته الفاشية. وبهذا أشعل فتيل الصراع والانقسام الى جبهتين والتي لم يدفع ثمنها الناطقون بالكردية فقط بل وكذلك الناطقين بالعربية الذين دفعوا ضريبة التشرد والضياع وقتل أعزائهم. وهذه هي حقيقة لا يمكن نكرانها وهي أن المواطنين الناطقين بالعربية كان ينظر إليهم  في ظل السلطة الشوفينية للحركة القومية العربية كمواطنين من الدرجة الأولى والناطقين بالكردية كمواطنين من الدرجة الثانية، ولهذا كان للطرف الأول امتيازات في الكثير من المجالات مقارنة بالطرف الثاني، إلا أن تلك الامتيازات في الحقيقة لا يمكن أن يكون لها معنى إلا بالمقارنة مع حرمان المواطنين الناطقين بالكردية من الحقوق، وإلا فإن تلك الامتيازات في الواقع لم تكن شيئاً سوى نوعاً من الحرمان من الحقوق والإهانة والاستعباد.  القصد من هذه المقدمة هو أن القضية الكردية وممارسة الظلم ضد جماهير كردستان، وبالرغم من أن القسم الأعظم من نتائجه الكارثية عانته الجماهير الناطقة بالكردية، ولكنها في نفس الوقت كانت أسلاكاً شائكة ملتفة على أعناق كل جماهير العراق. وضوح هذه الحقيقة يساعد من جوانب كثيرة في تحرر جماهير كردستان من الظلم القومي والقضاء على الهوة التي أوجدتها السياسات الشوفينية للحركة القومية العربية وردود الفعل القومية المتعصبة الكردية بين الناطقين بالكردية والناطقين بالعربية. فهي من جانب، تقطع الطريق أمام تحول الجماهير الناطقة بالعربية الى ذخيرة للحركة القومية العربية بل وحتى تجعل منها ظهيراً لمطالب ونضال جماهير كردستان للخلاص من الظلم القومي. ومن جانب آخر فانها تقطع الطريق على امكانية القوميين الكرد تحويل نضال جماهير كردستان التحرري ضد الظلم القومي الى ذخيرة  في صراعهم القومي على السلطة السياسية، وفي خاتمة المطاف تقوي روح التضامن ووحدة المصير المشترك بين الجماهير الناطقة بالكردية والناطقة بالعربية وهذا يساعد أيضاً في دعم حرية وسعادة الجميع.
 
أسس القضية الكردية
يبدأ أساس القضية الكردية من تعريف الأنظمة الشوفينية العربية الواحد تلو الآخر في العراق للدولة العراقية كدولة عربية وكجزء من الوطن العربي. وقد أبرز هذا الجانب كركن أساسي في دستور وقوانين البلاد في فترة تسلط البعث الى أقصى مدياته. وبهذا كان المواطنون الناطقين بالكردية بمثابة ضيوف على "أرض الوطن العربي" وتم النظر إليهم في ظل "الدولة العربية" كمواطنين من الدرجة الثانية، وحرموا من الكثير من الحقوق الأولية للمواطنة وتعرضوا للظلم القومي. ومقابل هذا الظلم والاضطهاد بدأت مقاومة اجتماعية واسعة وشاملة تم السعي لقمعها بأشد الأشكال وحشية من قبل الأنظمة المركزية.
وعلى الرغم من أن الظلم القومي شكل ركناً أساسياً في القضية الكردية إلا أنه لم يكن الركن الوحيد، بل إن الطبقات المالكة في كردستان (الإقطاع، رؤساء وشيوخ العشائر، والبرجوازية) أمسكت بالظلم القومي ومقاومة جماهير كردستان بهدف الحصول على حصتها من السلطة السياسية وبتسيد الأفق القومي عليها جعلت من الجماهير وسيلة لتحقيق أغراضها ومراميها. وبهذا تعقدت المشكلة وتحول مطلب إشراك الحركة القومية الكردية في السلطة ركناً آخر في القضية الكردية. وهذا قد قوى موقع أقدام الحركة القومية داخل مقاومة جماهير كردستان ضد الظلم القومي خصوصاً في ظل غياب البديل اليساري والشيوعي والتقدمي وحرف تلك الحركة الى طرف الحركة القومية وأبعدها عن أهدافها التحررية. وجعلت العصبية والحركة القومية الكردية بمثابة رد على الشوفينية والفاشية القومية العربية.
 
القضية الكردية والبدائل
الشيوعية العمالية ومنذ اللحظة التي وضعت أقدامها كقوة سياسية في الميدان السياسي للمجتمع وقفت بحزم ضد الظلم القومي الممارس ضد جماهير كردستان واعتبرت سبيل الحل المناسب والعملي لهذه القضية هو مبدأ العودة الى رأي الجماهير. وطوال عشرات السنين كان هناك سبيلين للحل ماثلين لحسم هذا القضية وإنهاء هذا الظلم، إما انفصال جماهير كردستان وإقامة دولة مستقلة، أو البقاء مع الدولة المركزية بشرط ضمان المساواة التامة في حقوق جماهير كردستان مع بقية مواطني العراق. والقرار على أي من سبيلي الحل هذين عن طريق العودة الى رأي الجماهير هو فقط بيد جماهير كردستان نفسها. بعد حرب الخليج الثانية وانتفاضة آذار وخروج كردستان عملياً من سلطة النظام البعثي، قطع كردستان عملياً عن العراق، ولكن دون الاعتراف بها كدولة مستقلة، وأدت هذه الأوضاع الى تعليق المصير السياسي لكردستان، وفي نفس الوقت وفر خروج كردستان من سلطة النظام البعثي الفرصة لحل القضية. وقد قال منصور حكمت أن هذا التخبط والتشرذم يدفع مدنية مجتمع كردستان نحو الانهيار ويفرض حياة المخيمات على جماهيرها. وباخذ تلك الظروف بنظر الاعتبار ولبقاء دولة البعث الفاشية في السلطة، طرح موضوع انفصال كردستان، حيث كان بإمكانه الرد على كلا المشكلتين، أي كل من الظلم القومي والتخبط السياسي. وعلى أساس ذلك الطرح ومبدأ العودة الى رأي الجماهير، سعى الحزب الشيوعي العمالي لأن يقام استفتاء عام وحر في كردستان لاستفتاء رأي جماهير كردستان، حول إن كانت تريد الانفصال وتأسيس دولة مستقلة أو البقاء مع الدولة المركزية.
إن قيام الحرب الأمريكية ضد العراق وسقوط النظام البعثي، وبالتزامن مع إيجادها لتغيير كبير في كل المجتمع العراقي، أحدثت أيضاً تغييراً على القضية الكردية. فبإسقاط النظام البعثي كعامل لممارسة الظلم القومي ضد جماهير كردستان انتهى هذا الظلم عملياً. وبحصول الأحزاب القومية الكردية على مكانة في مخططات أمريكا في ترتيبات السلطة السياسية في العراق، حصل مطلب البرجوازية الكردية للمشاركة في السلطة السياسية على جوابه على الصعيد العام. غير أن أوضاع العراق المضطربة والمعلقة أبقت كلا القضيتين في حالة معلقة أمام احتمالات متعددة، وجماهير كردستان وبالأخذ بنظر الاعتبار هذا السيناريو الأسود ودور الإسلام السياسي والحركة القومية العربية في الساحة السياسية العراقية، قلقة من اتجاه أوضاع كردستان الحالية نحو الأسوأ، أو من فرض الظلم القومي عليها مرة أخرى في أي تغيير لميزان القوى بعد حسم قضية السلطة في المركز. وهذه قضية أمسكت بها الحركة القومية الكردية وأبرزتها لخدمة أهدافها ومقاصدها. وهي تستفيد منها لترسيخ موطئ أقدامها وحصتها من السلطة وتسعى بتحريكها لروح التعصب والانشقاق القومي لجعل جماهير كردستان ذخيرة أطروحتها الفيدرالية. والفيدرالية التي ليس لها أية صلة بالمطالب والأهداف التحررية للجماهير، توهم بها الجماهير كضمانة للوقوف بوجه عودة الظلم القومي.
وضمن إطار سبيل الحل القومي تقام الآن حملة إقامة الاستفتاء من قبل المثقفين الكرد للسؤال حول (الانفصال أو الفيدرالية). ومؤيدو إقامة الاستفتاء الذين ظهروا على الأغلب بمظهر مثقفين كرد، يطرحون أنفسهم كمؤيدين للانفصال وإقامة الدولة الكردية المستقلة. ولخلق مناخ فكري وسياسي لهذا الطرح هم أكثر يمينية وتعصباً قومياً من الأحزاب القومية. ويجعلون من إلقاء الزيت على نار الصراع والعداء بين (الكرد والعرب) أساساً لطرحهم. إلا أن ثمرة ما يقومون به ستدخل جيب الأحزاب القومية الكردية، وتصبح ورقة ضغط بيدها لفرض فيدراليتها، وليس الانفصال. كذلك إن القضية المهمة في موضوع الاستفتاء هو السؤال المطروح لتصويت الجماهير. فبعكس ما يتحدث عنه المثقفون الكرد، لا يمكن للفيدرالية أن تكون طرفاً في هذا الاستفتاء، وفي الأجزاء السابقة من هذا الموضوع تحدثنا حول الفيدرالية وقلنا أن القرار بصددها وبغض النظر عن ماهيته ليس فقط بيد جماهير كردستان بل مرتبط بكل جماهير العراق. ويجب أن يكون سؤال الاستفتاء (الانفصال أو البقاء بشرط ضمان الحقوق المتساوية مع بقية المواطنين الآخرين).
إن هذه الاحتمالات المختلفة التي تقف أمام جماهير كردستان بسبب تعليق مصير العراق والدور الرجعي للإسلام السياسي والقوميين العرب، أبقى هذه القضية معلقة. ان تهديدات الحروب والصراعات القومية والطائفية، وفرض حكومة رجعية قومية ودينية، هي تهديدات واقعية تهدد المجتمع العراقي، حيث تطرح أمام المجتمع وبالتزامن مع الكوارث الدموية احتمالات ممارسة أنواع الظلم والتمييز السياسي والاجتماعي ومنها الظلم القومي. الشيوعية العمالية تؤكد بشدة على ضرورة الحل النهائي لهذه القضية. وتؤكد بهذا الخصوص على العودة الى رأي الجماهير، وهذا مبدأ قد ورد في برنامج (عالم أفضل) والحزب الشيوعي العمالي وبالتزامن مع تمسكه الثابت والراسخ بهذا المبدأ يقف في نفس الوقت ضد أي مسعى لانتهاكه والتطاول عليه.
وتناضل الشيوعية العمالية الآن للوقوف بوجه المخاطر التي تهدد حاضر ومستقبل العراق بسبب دور وممارسات الإسلام السياسي والحركة القومية وتريد فرض دولة رجعية قومية-إسلامية على المجتمع. ولا تتوفر في ظل الأوضاع الحالية الأرضية المناسبة كي تقرر جماهير كردستان بشكل حاسم وبعيداً عن الصراع والمآسي والضغوطات حول مستقبلها. فالوقوف بوجه هذه المخاطر والتصدي لها، ومنها ظهور الصراع والتمييز والظلم القومي على جماهير كردستان، اتخذ أبعاداً عامة وشاملة. وفي قلب هذه الأوضاع ليس بإمكان جماهير كردستان معرفة لماذا يجب عليها التصويت للانفصال أو للبقاء مع العراق، وما هي حسنات ومساوئ كل واحد من الطرحين؟ لذا فإن الاستفتاء وبالشكل الذي يطرحه المثقفون القوميون، عنوان مشروع يضع جماهير كردستان أمام احتمالات ومصير غامض. في الوقت الذي توفر فيه هذه الأوضاع بكل جوانبها المأساوية ولأول مرة بعد عشرات السنين الفرصة في أن يتمكن النضال الموحد لجماهير العراق التحررية كلها من إنهاء السلطة القومية والإسلامية ويأتي بحكومة علمانية وعصرية غير قومية وغير دينية في العراق بإمكانها ضمان حياة الطمأنينة والمساواة والسعادة لكل سكان العراق، بمعزل عن قوميتهم وعقائدهم وجنسهم. ومن الآن يجب أن يتوجه نضال جماهير كردستان التحررية مع جماهير العراق بصف موحد في هذا السبيل. وبعد تحديد مصير العراق، وبوضوح الاحتمالات، يمكن تطبيق مبدأ العودة الى رأي الجماهير، عن طريق إقامة استفتاء عام وحر لاستفتاء الجماهير إن كانت تريد الانفصال أو البقاء مع الدولة المركزية.
كذلك فيما لو استمر هذا السيناريو الأسود الذي ظهر ضمن إطار سياسات أمريكا ودور وممارسات القوى الإسلامية والقومية، ولم يكن هناك أفق قريب لإنهائه، أو أن يحقق الرجعيون الإسلاميون هيمنة ويداً طولى في العراق، حينها فإن السبيل المناسب القيام بأسرع ما يمكن بفصل كردستان وتأسيس دولة علمانية غير قومية وغير دينية في كردستان. في هذه الحالة أيضاً وللقرار على هذه القضية يطالب الحزب الشيوعي العمالي بإقامة الاستفتاء ويقترح على جماهير كردستان التصويت للانفصال.  
انتهى. 



#ريبوار_احمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ان مصير قرار -مجلس الحكم- حول تشديد عبودية المراة هو الفشل و ...
- زُمرٌ وحثالة… وقتلة النساء
- مجلسُ حكمٍ ام مجلسُ نهبٍ حول نهب ثلاث مليارات دولار من المسا ...
- نداء الى جماهير البصرة‍
- بشرى- من مجلس الحكم حول فتوى اعادة حكم الاعدام
- اللجوء إلى نظرية المؤامرة دليل على الإفلاس السياسي * رد على ...
- مقابلة جريدة -اكتوبر- مع ريبوار احمد ليدر الحزب الشيوعي العم ...
- الاحزاب والمنظمات العمالية والاشتراكية والانسانية ها هو الصو ...
- اختلافاتـــنا ِبمَ نختلف عن الحزب الشيوعي العراقي؟
- مواجهة الحزب الشيوعي العمالي العراقي مع الإرهابيين الإسلاميي ...
- لن نقبل بإعادة ظهور الفاشية البعثية!
- تحديد الحكومة المستقبلية للعراق، حق بلا منازع لجماهير العراق
- سلطة المستقبل في العراق يجب أن تكون مباشرة- سلطة الجماهير
- بلاغ إلى قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني ا ...
- حول فضيحة الجلبي في كندا
- تحرر المجتمع العراقي مرهون بقيام الجمهورية الاشتراكية
- العالم بعد عام من الحادي عشر من أيلول
- الاسلاميون يعلنون رسالة عبودية المرأة وأغتصابها


المزيد.....




- شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال ...
- مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا ...
- إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح ...
- في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض ...
- لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
- 3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
- الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
- مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال ...
- كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
- واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - ريبوار احمد - الشيوعية العمالية والقضايا الأساسية الراهنة في العراق