أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ















المزيد.....

مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2409 - 2008 / 9 / 19 - 05:58
المحور: الادب والفن
    



الظهيرة ، هيَ فترة السبات في مواقيت اليوم المراكشيّ . إذ ذاك ، تلبِّسُ عليكَ المدينة بهدوئها ، المُخادع . فما أن ينتصف النهار ، حتى تزحف الهاجرة رويداً فوق أفق الحاضرة ؛ تزحف بهدوءٍ ، مُخلبَس ـ كحيّة الحاوي ، المُرقطة ، المنذورة لنظارة " ساحة الفناء " . بإتجاه هذه الساحة ، الذائعة الشهرة ، تتجه خطاي العجولة ، فما هيَ إلا دقائق حسب وأجدني متباطئاً في منهكة الحرّ الذي لا يرحم . الجادّة الضيقة ، المفتوحة الجانبَيْن على شتى الدروب والمؤطرة شتى المحلات ، لا تلبث أن تفضي بخطوي إلى جادة اخرى ، رئيسة ، أكثر رحابة ، تعلن إسمها لاحقاً على لوحة معدنية كبيرة ؛ " شارع فاطمة الزهراء " . ها هنا مواطيء الأقدام ، جميعاً ، تهتدي بعلامة نجم القطب ، المراكشيّ : جامع " الكتبيّة " !

بدوره ، يلتحف الجامعُ بأتون الشمس ، اللاهبة ، التي ترقِمُ منارَته الوحيدة ، العظمى ، بوَشي ٍ مذهّب ، مائل إلى اللون الأخضر الزاهي ، المقدّس . وعلى العكس من الهدوء النسبيّ ، المُحتبي تلك الدروب ، الفائتة ، فإنّ الضجيج اللاعج في صدر المدينة ، يُنبي بالوصول إلى ساحتها الأكبر . قرع الطبول ، المتواتر إيقاعه من هذه الناحية ، يُعيد إلى ذاكرتي يوم " كرنفال السامبا " ، الصيفيّ ، في مدينة الشمال الإسكندينافي التي لطالما طوَتْ غربتي بجنحَيْها ، الناصعَيْن ـ كثلج شتائها المَديد ، المُمضّ . ها أنا ذا هنا ، أخيراً ، على الجادّة الفارهة ، المؤدية إلى " ساحة الفناء " . خلف ظهري مباشرة ً ، تتناهض منارة جامع " الكتبية " . على الناصية اليسرى للجادة يَركن " منتزه علاء الدين " : إنه مجمعُ المطاعم الراقية ، بحسب شهادة لائحة أسعاره ، الباهظة ، المرفوعة مثل راية منتصرة أمام بوابته الكبيرة . على الأسوار القرميدية ، الكامدة ، المطوقة ذلك المجمع ، تسترسل جدائلُ عرائش المجنونة والبوكسيا والياسمين ، المشكوكة بلآليء أزاهيرها ، مهيمنة عليها ظلالُ الأشجار المثمرة من رمان وتين وحمضيات .

موقف العربات التقليدية ، " الحنطور " ، المترامي على طول الجهة المقابلة ، يُفعم الجوَّ برائحةٍ قويّة ، نفاذة ، لروث الخيول . هذه الحيوانات ، المُسترخية في كسل ، كانت تفصحُ عن عطالة فترة الظهيرة ، بينما أصحابها يقيلون بدورهم في أفياء واحة النخيل ، المُنمْنمَة ، المُهيمنة مع أشجار اخرى على الناصية اليمنى للجادة تلك ، المفتوحة على الساحة الكبرى . للوهلة الأولى ، كان عليّ أن أحسّ بخيبةٍ لمشهد المكان ، طالما تبدّى لعينيّ مقفراً من دواعي المَسرّة ، الغامرة ، المُلتصقة بإسمه ؛ اللهمّ إلا بعض المظاهر المُبهجة : جوقة قارعي طبول وزرناية ، ترَقّصُ أشخاصاً بألبسة بهاليل ؛ وأفرادها من أكثر المنغصين على الجوّال تسكعه في الساحة ، بإلحاحهم الثقيل على دراهمه . ثمة مجموعة حواة ، ترَقصُ بدورها على أنغام الناي أراقِمَ زاحفة من أفاع وكوبرات ؛ وهيَ الزواحف الأسيرة ، الناشرة في جوّ المكان رائحتها الزنخة ، المثيرة غثيان المرء . إلى أعدادٍ متناثرة من قارئات الكفّ ومُدّعيات كشف السِّحر ومحترفات النقش بالحناء ، المتكوّمة كلّ منهن على أدوات تجارتها ، مُحتمية من شمس الهاجرة بمظلة قماشية وقد أحاط بها الزبائن السيّاح أو بعض المارّة الفضوليين .

ـ " ولكن ، أهذا كلّ شيء هنا ؟ "
قلتُ لنفسي عندئذٍ ، مُتحيّراً . بيْدَ أنه ما كان قد خطرَ بعد لبصري حقيقة ، أنّ هذا المكانَ ميدانٌ شاسع ، مُترامي الأطراف ، يضمّ ساحاتٍ عدّة وقد شملها إسمٌ واحدٌ : " ساحة الفناء " ؛ منسوبٌ للجامع الصغير ذي المئذنة القديمة ، الفاترة الفخامة والسموّ . وإسم هذا الجامع لا علاقة له بفعل " يفنى " ، بل هوَ مُشتق من مصدر " الفناء " : أي البهو الواسع . ذلك يُحيل ، بطبيعة الحال ، إلى ما يُعاينه المرءُ من مساحة خالية ، رحبة الغضارة ، تحيط بسميّها ذاك ؛ " مسجد الفناء " ، الضئيل الحجم . في تقصيّ عن تأريخ هذا المكان ، علمتُ أنه كان ذا شأن في زمن إزدهار مراكش ـ كعاصمة إسلامية ، مرهوبة الجانب ؛ أنه كان مَعقِدَ أصحاب الأراضي الزراعية ، علاوة على الناس العاديين ، البسطاء ، الذين كانوا يُتابعون بفضول ـ وليسَ بدون رعب ـ منظرَ رؤوس أولئك الخائبي الحظ ، من المحكومين بالإعدام ، وهيَ تتهاوى بسيف الجلاد ، القاسي ، ثمّ ترفع على الأثر مدميّة ، رثة ، ليعلق كلّ منها في مكانه ، المعيّن ، من أبواب المدينة ، العديدة . أثرٌ من الدماء تلك ، لا بدّ ويتماهى الآن مع حمرة التربة ، المتواشجة بإسم " مراكش " ، التليدة المجد ـ كما يتواشجُ المجدُ ، أحياناً ، ببغي الحكام وطغيانهم . وعلى كلّ حال ، فمما لا ريبَ فيه أنه ما كان ليدور في خلد الأقدمين ، من قاطني المدينة ، أنّ ساحتهم الأثيرة ستغدو يوماً بمثابة " كعبَة الكون " ؛ مَحَجّاً للبشر ، المُتبايني اللون والجنس والدين ، القادمين إليها من مختلف الأمصار والبلدان والقارات .

" ساحَة الفناء " ، إذاً . وإنها لتستحقّ نعتاً آخر ؛ ساحة الحبّ . إستيفاءً لحقّ نعتها هذا ، لا بدّ أن أنوّه بما إنطبَعَ في الذاكرة من مشاهد فيلم " الحبّ الضائع " ؛ وتحديداً ذلك المشهد الآسر ، حينما تشاء المصادفة جمعَ " مدحت " ( النجم رشدي أباظة ) مع حبيبته " ليلى " ( الممثلة العظيمة سعاد حسني ) . وكان بطلنا ، في المشهد ذاته ، على شرفة الدور الثاني لأحد المقاهي المُحيطة بالساحة ( أهوَ " كافيه دو فرانس " ، ربما ؟ ) ، يرمي ببصره إلى أسفل ؛ أين الجموع المُحتشدة ، المتوزعة بين حلقات الراقصين والحواة والباعة ، فإذا به يلمح حبيبته ثمة وكانت تتفرج أيضاً على إحدى العجائب ، التي يحتويها المكان : تلك المصادفة ، المُقدّر لها أن تتلع قدحَ العشق ، المعتق ، بين بطليْ فيلم " الحبّ الضائع " ، لكأنما أجيزَ لها حظ التكرار في المكان نفسه ولكن في زمن آخر ؛ هنا ، أمام " مقهى فرنسا " ، وفي هذه الظهيرة بالذات من الصيف المراكشيّ !

الساعة تنتصف السادسة عصراً . وأكون وقتئذٍ بمحاذاة مقهى " كافيه دو فرانس " ، المحروس بعَقدٍ من العربات الأنيقة ، التكساسيّة الطراز ، والمتحدّية قيظ الهاجرة بما تقدّمه لزبائنها من عصير البرتقال ، الطازج . بإزاء هذا المكان ، المنذور للموعد المُقترَح ، كان سيلٌ من الدراجات النارية ، المُسرعة والصاخبة الضجيج ، ينسابُ في رواحه وغدوه عبْرَ الساحة وما يُجاورها من الأسواق التقليدية : وماذا بمقدور المرء ، وهوَ يلمح الإشارة الحيّية ، الملوّحة من الجهة المُقابلة ، إلا أن يُجاهد في إختراق السيل ذاك ؟ وإذاً ، كان علينا من بعد التدرّجَ بخطانا ، المُتماهلة ، المُوَقّعة على الإسفلت المُلتهب ، قصداً نحوَ المقهى نفسه ، الموسوم . وهيَ ذي كلمة صادحة ـ كإيقاع محلّق ـ راحت تتردد في سمعي بإلحاح وشكوى : " الصُّهْد .. ! " ( وتعني الحرّ الشديد ، بالعامية المغربية ) . " كافيه دو فرانس " ، من جهته ، يقوم على أدوار ثلاثة ؛ الأرضيّ ، وهوَ الذي يحوي المقهى ، المتكرّم على صفة الذكورة ؛ بينما يضمّ الدور الثاني مطعماً على جانبٍ من الفخامة ؛ والدور الأخير ، الذي كنا الآن نرتقي درجاته ، المُرخمة ، سيُفضي إلى كافيتريا خاصّة بالعائلات ، تطلّ على مشهد المدينة ، الساحر .

عند هجعَة الغروب ، يتجلى قرصُ الشمس وشياً برتقالياً في مطرف السماء ، الصاحيَة ، المُهيمنة على المشهد . منظر " ساحة الفناء " ، يكون اللحظة تحت وقع البصر مُذهلاً بأضوائه الساطعة ، الناشرة إيناعها بكلّ الألوان الرائعة ، المُمكنة . أما الأصوات عندئذٍ ، فما عادَ مصدرها ضوضاء الموتورسيكلات والسيارات ، بل هيَ أصداء شجية ، تخلب اللبّ ، لموسيقى محلية وأمازيغية ، من فرق الهواة والمحترفين ، التي جعلت " ساحة الفناء " نشيداً ليلياً دائماً ، أسطورياً . وما عتمتْ سحابة متكاثفة من جمر الشواء اللذيذ ، النافثة رياها في أنوفنا ، أن دعتْ شهيّتنا إلى الموائد العامرة ، والعشوائية في آن ، المتراصفة ثمة على حدّ الميدان الكبير . بيْدَ أنني ، وإحتفاءً باللقاء الأول في حضرة هذه الساحة ، أقترحُ تناولَ عشائنا في الدور الثاني من " كافيه دو فرانس " نفسه ؛ في مطعمه ذاك ، الراقي نوعاً . هنا ، سيُتاح لي ـ وللمرة الأولى أيضاً ـ تذوّق أحد أشهر أطباق مطبخ موطن الأطلس ، العريق : إنه " الطاجين " ، المستوحي إسمه من الإناء الفخاريّ ، الخاص ، الذي تعدّ فيه الوجبة الفاخرة ، المكوّنة أساساً من الخضار واللحوم ، والممكن تحضيرها في أصنافٍ مختلفة . وقد تسنى لي ، في الأيام التالية ، رؤية أعداد متنوّعة من الآنية تلك ، الخزفية ، خلال جولات تسكعي في الأسواق ؛ وكلّ منها يوحي منظره برأس إنسان مُعتمر قبعة مدببة ، ذات ثقب واسع في قمتها . الطاجين ، إذاً ، طبقٌ تقليديّ ، لا يجوز للزائر أن يفوّته ؛ وهوَ على كلّ حال طبق لا يُفارق قط لوائح المطاعم ، شعبيّة كانت أم وجيهة . وبما أنني خضتُ جيداً في لجة المطبخ المغربيّ ، أستطيع الجزمَ بأنّ هذا الطبق ، الشهير ، يكون أكثرَ لذة وأصالة ، حينما يتناوله المرء في المطاعم الشعبية ؛ خصوصاً تلك المهملة بوداعة على ناصية " ساحة الفناء " ؛ ساحة الحبّ ، المُستعاد !

للرحلة صلة ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نزار قباني ؛ نموذج لزيف الدراما الرمضانية
- لن تطأ روكسانا
- مَراكش ؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
- فلتسلُ أبَداً أوغاريتَ
- ثمرَة الشرّ : جادّة الدِعَة والدّم
- برجُ الحلول وتواريخُ اخرى : الخاتمة
- العَذراء والبرج 4
- العَذراء والبرج 3
- العَذراء والبرج 2
- العَذراء والبرج *
- الطلسَم السابع 6
- محمود درويش ، الآخر
- الطلسَم السابع 5
- الطلسَم السابع 4
- زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
- الطلسَم السابع 3
- الطلسَم السابع 2
- دمشق ، عاصمة للمقتلة الجماعية
- الطلسَم السابع *
- أسمهان : أيقونة وأسطورة 2 2


المزيد.....




- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ