لكي نحيط قرّاء " الحوار المتمدن " بوقائع المحاضرة الفكرية التي نظمتها رابطة الرافدين الثقافية في أمستردام للباحث الدكتور نصر حامد أبو زيد والتي إنضوت تحت عنوان " هل هناك نظرية للتأويل القرآني؟" ها نحن نعيد نشر تفاصيل هذه الندوة الفكرية التي قمنا بتغطيتها لصالح صحيفتي " الصباح " العراقية، و " القدس العربي " اللندنية تعميماً للفائدة، وإيماناً منا بضرورة إطلاع أكبر عدد ممكن من القراء العرب على هذه الطروحات الفكرية الجديدة والمغايرة. كما نخص " الحوار المتمدن " بهذه المقدمة التعريفية بآلية تفكير نصر حامد أبو زيد، والتي ننشرها هنا أول مرة كي ننقل للقارئ الكريم في كل مكان كل الأجواء التي أحاطت بهذه الندوة منذ بدء المحاضرة حتى نهايتها. وفي الآتي نص التقديم الذي دبجه كاتب هذه السطور:
لا يحرث الدكتور نصر حامد أبو زيد في أرضٍ ممهدّة سهلة، فقد إختار منذ بداية مشروعه الفكري الخوض في قضايا حساسة، شائكة، بالغة التعقيد. فهو ليس من نمط المفكرين المدجنين الذين لا يرتفع عندهم مؤشر الجرأة الفكرية ليتجاوز قليلاً الدوائر الحمر التي ترسمها المؤسسات اللاهوتية التي تحاول إحتكار ( السلطات الدينية ) لصالحها مثلما تحتكر الأنظمة الديكتاتورية ( السلطات السياسية )، وتجيّرها لصالح عدد محدود من المرضى، والمختلين عقلياً. الدكتور نصر، شأنه شأن أي مفكر أصيل، لا يروّج لأفكار سهلة التسويق، ولا يقدّم طروحات لا تعدو أكثر من كونها وقوداً للمعارك السياسية، ولا يدافع عن بعض العامة المستغفلة التي تؤمن بالمسلمات الزائفة، والقناعات الملفقة التي تراها ثابتة من وجهة نظرها. لذا فقد أثارت طروحاته المختلفة، وتحليلاته المغايرة، ونتائجه المستخلصة الصادمة، أثارت أولئك المتعصبين الذين لا يجيدون سوى فن ترديد اللوازم، والآراء الدينية المستنفدة التي أكل الدهر عليها وشرب بعد أن فقدت روحها الداخلي، وبريقها الخارجي بحيث لا تنفع معها عملية الجلي أو فرك الصدأ، أو ضخ الدماء الساخنة في شرايينها المتصلبة. إنه بإختصار شديد سليل أولئك النخبة المفكرة من الباحثين العرب والمسلمين الذين نذروا أنفسهم للبحث عن الحقيقة حتى ولو كلفهم ذلك مغادرة الأوطان، ومفارقة الأهل والأحبة، وتحمل ضراوة الهجرة القسرية، كما هو حال أبو زيد، وعشرات المفكرين العرب والمسلمين الذين ضاقت بهم بلدانهم بحيث أنها لم تعد تحتمل ليس وجودهم الفيزيقي حسب، وإنما ضاقت بكتبهم، وطروحاتهم، وأفكارهم لا لشيء إلا لأنها تفرّق بين الدين، والفكر الديني، وتميّز بين الإيمان والعقل، وتمنح لنفسها الحق، كل الحق، في أن تُعمل الذهن، وتناقش التأويلات البشرية المعرضة على الدوام للخطأ والصواب. آخذين بنظر الإعتبار أن الإيمان المطلق أو غير المطلق لا يقتضي غياب العقل، بل ينبغي حضورة بقوة الحجة، وهيمنة الدليل، وصحة االبرهان العقلي. فلا غرابة إذاً أن يُصدر مجمع البحوث الإسلامية ( بعد ثماني سنوات من غربة أبي زيد في المنفى ) قراراً يقضى بمنع تداول كتابه الموسوم بـ ( الخطاب والتأويل ) في مصر ومصادرة ما وزع من نسخه في الأسواق، بذريعة أنه ( يطعن في صحيح العقيدة الإسلامية ). والغريب أن هذه المؤسسات الدينية بدأت تُصدر قرارات المنع، والمصادرة وكأنها جهة قضائية رسميه، علماً بأن كل المؤسسات الدينية الإسلامية بما فيها الأزهر لا يأخذ على عاتقه تدريس القرآن تاريخياً، أو كموضوع دراسة علمية تستخلص، وتستنتج، وتمنح العلماء والباحثين والدارسين حق الإجتهاد في التحليل والتأويل. إن حدود المؤسسات الدينية لا تجتز خط الإيمان، أو الوعظ والإرشاد، أو تعليم القرآن وتفسيره ضمن المناهج الشائعة، المكرورة التي إنغلقت على نفسها منذ عهد المأمون والمتوكل والوثيقة المتوكلية التي ترى في القرآن نصاً أزلياً مقدساً رسالة ولغة، الأمر الذي سد علينا منافذ التفكير، ومنعنا من الذهاب بالأسئلة إلى أقصاها، وحرمنا من كل إمكانية لإعمال الذهن، وأوجب على كل من يفكر في إختراق هذا النظام المعرفي الصارم الذي ترسخت أركانه في القرن الثالث للهجرة، أوجبت عليه أن يتحسس رقبته، مثلما توجب عليه الآن أن ينتظر لغة كاتم الصوت، أو طعنات الغدر والتشفي المروّعين، كما حصل لفرج فودة، لحسين مروة، ومن قبلهما للحلاج والسهروردي، وقائمة التكفير والمنع والمصادرة تحتشد بأسماء العديد من المفكرين أمثال طه حسين، وعلي عبد الرازق، والقمني، وأمنة نصير، وأدباء من قبيل نجيب محفوظ، حيدر حيدر، ليلى العثمان، وأحمد الشهاوي وما إلى ذلك، على الرغم من أن الله ( جل في علاه ) قد منح الإنسان، أو خليفته على الأرض حق الإختلاف ونقيضه، وحق الإيمان من عدمه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) وأكثر من ذلك فقد خيَّرهم بين الإيمان والكفر ( من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر ). د. أبو زيد يبحث في الدراسات القرآنية وعلم النصوص، وقد جاء تركيزه على تطور سياق النظرية الأدبية، وهو يعتبر نفسه متواصلاً مع منهج الشيخ محمد عبده، وطه حسين، وأمين الخولي، وعائشة عبد الرحمن، ومحمد أحمد خلف الله، وشكري عياّد. وينبغي التأكيد على أن أبا زيد قد إجترح منطقة أخرى من مناطق التفكير الديني وهي منطقة التصوف، مبتغياً دراسة العلاقة بين الفكر، والنص الديني، ولهذا فقد تناول مبكراً الفكر الصوفي من خلال كتابه القيّم وهو ( فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي. ) وقد أردف هذه الدراسة لأهميتها بكتاب آخر عن إبن عربي عنوانه ( هكذا تكلم إبن عربي ). وفي الختام نقول إن ( الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين. )
معكم د. نصر حامد أبو زيد في محاضرته الموسومة بـ ( هل هناك نظرية في التأويل القرآني؟ ) أدعوكم معي للترحيب بالدكتور نصر حامد أبو زيد.
عدنان حسين أحمد
وقبل الولوج في متن هذه المحاضرة الفكرية القيمة، شكر د. نصر أبو زيد رابطة الرافدين الثقافية في أمستردام وكل العاملين في هيأتها الإدارية، مثمناً حرصهم على مثل هذه النشاطات الفكرية التي تُقام في ظروف إستثنائية يمر بها العراقيون جميعاً في الداخل والخارج. إذا قال أبو زيد: " يبرز حرص هذه المؤسسة على ممارسة فعاليات الفكر. أن القضية السياسية الراهنة لا تنعزل الوعي الفكري، ويجب ألا تؤجل هذه القضايا بعذر أو بحجة أن هناك قضايا أكثر أهمية، ذلك أن تأجيل قضايا الفكر بسبب مشكلات السياسة، وبسبب تعثر السياسة هو الذي يؤدي إلى مزيد من التعثر في الأنشطة الثقافية والفكرية، وإلى مزيد من الفشل في العمل الإجتماعي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية على وجه العموم. لذلك أقدر هذه الدعوة الكريمة في هذه الظروف تقديراً خاصاً، تقديراً نابعا ًمن إحساسي بوعي القائمين على هذه المؤسسة بأهمية مواصلة الفكر، وعدم تأثر الفكر لممارسة النضال السياسي. أن الفكر أيضاً نضال سياسي، وإن كان ليس له مردود سياسي مباشر. نحن لا نخرج في مظاهرة، ولكننا نفتش في العقول، ونحاول أن نبحث لأنفسنا عن وعي مفارق للوعي الذي وضعنا في هذا الوضع الذي نعيشه الآن. أيضاً أريد أن أوجه تحية خاصة للصديق العزيز الأستاذ عدنان حسين أحمد الذي لم أره منذ مدة طويلة وهذا أمر طبيعي، فالعراقيون مشغولون بالإتصال بالوطن، وبقضايا كثيرة، تصورت أن هذه المحاضرة يمكن أن تكون إستجدت ظروف تعوق دون حدوثها، ولكنه إتصل بي منذ عدة يام لكي يذكرني بالموعد، ولم أكن قد نسيت هذا الموعد، كنت في إنتظار هذا اللقاء.".