|
ميس إيجيبت الفصل الثاني عشر والأخير
سهير المصادفة
الحوار المتمدن-العدد: 2313 - 2008 / 6 / 15 - 11:05
المحور:
الادب والفن
الكتابة مقبرة الحقيقة التى يخشى الملك الاقتراب منها.
عارف تاج =======================
يعلم أنه لم يمت بعد ، وأن هذه الحشرجة ليست مصاحبة لخروج روحه من جسده ، وأن تخلخل منظومة الهواء حول رأسه ليست رفرفة أجنحة عزرائيل ، وأن من يحملقون فى عينيه المفتوحتين منتظرين أن يشهدوا نهايته ليسوا ملائكة أو شياطين وإنما هم ورثته الذين سيستمتعون بما تركه وسيطالعون كل يوم شروق الشمس وغروبها وأفخاذ النساء المشدودة ومذاق النبيذ الفرنسى الفاخر ، وصدور الدجاج المشوى فى الهواء الطلق ، ورائحة البحر فى شهر أغسطس، وملمس اليود على الجلد البرونزى العارى ، ورعشة لمس يد الحبيبة واستنشاق رائحتها ، وذروة اختراق العذروات ووضع الحذاء على رقاب الأعداء ، وصفع الابن على مكان تقبيله ، والحملقة فى البدر المستدير ومتابعة اكتماله واختفائه، والسخرية من الأغبياء ومنافسة الأذكياء والتنكيل بالأنبياء ، واختراع مهام جديدة كل يوم ، وقيادة أوركسترا يصمم أعضاؤها دائماً على العزف النشاز.
يعلم أنه لم يمت بعد ، ولكنه لا يستطيع تحديد من أين أتى بثلاث مكواة شعر مختلفة الألوان ؟ ومن أين أتى بنيران لتسخينها حتى درجة الإحمرار ؟ وهل كان هذا هو ترتيبها .. مكواة الشعر باليد الحمراء لحبس ثديها الأيسر وذات اليد الخضراء لحبس ثديها الأيمن وذات اليد السوداء فى ثقبها الرائع ؟ من أمره بتنفيذ هذه العملية ؟ وكيف تأتى له ذلك وهو يقف وسط نخيل سامق أمامه البحر مباشرة وخلفه قصر المنتزه .. ينزع عنها بهدوء ملابسها بعد أن خدرها يلقى على الرمال حمالة ثديها البيضاء المطرزة بخيوط ذهبية والمحشوة بالإسفنج وفق موضة السبعينيات ، ولباسها القطنى الأبيض المنقط بنقط كبيرة صفراء ، لا تثيره مفاتنها برغم أنه فى عز شبابه .. يبدو أن عليه قتل أحد زملائه أيضاً .. يبدو أن المقصود من هذه العملية تصفية زميله هذا .. لم يعد يتذكر الآن ماذا فعل ؟ هل ثبتت خيانته مثلاً ..؟ وماذا خان ؟ هل اعترض على تنفيذ أمر ما ؟ هل شكك أحدهم فى ولائه مثلاً ؟ هل كان مستقلاً برأيه إلى حد وجوب التخلص منه ؟ لم يعد يتذكر لماذا توجب قتله بهذه الطريقة المشينة وهو عار تماماً وفوقه فتاة جميلة عارية جلبها بنفسه من ملهى " تمر حنة " بالشاطبى ؟ لم يفكر فى لحظة تنفيذ هذه العملية بينما يتأمله إلا فى عضوه الصغير البائس ، وجلده الأجرد من الشعر وبشرته البيضاء الناعمة كامرأة ورعبه الذى قابل به رصاصته والذى يدحض كونه خطراً على أى شىء فى الحياة وضع المسدس فى يدها الميتة الصغيرة ثم فرك كفيه المغطاتين بقفازات سوداء بسعادة ليدفئهما .. ووضعها بهدوء فوقه أو أنه وضعه بهدوء فوقها.. لم يعد يتذكر الآن ولكنه يتذكر جيداً نظرة زوجته التى تم استدعاؤها على عجل .. تلك النظرة التى تميز المتسولين والتى لا تعنى إلا حسبى الله ونعم الوكيل .. يتذكر سجودها تحت قدميه على بقعة ربما قبل فيها الملك فاروق الملكة فريدة .. أخذت تدارى عينيها عن جثة زوجها العارى فوق عاهرة لا تعرف من أين أتوا بها فى بنطاله العسكرى وتتوسل إلى مالا نهاية .. استره يا باشا .. استروه وادفنوه بدون فضايح .. ده برده الرجل بتاعكم .. الله يسترك يا باشا .. استروه . دى خلفته كلها بنات.
لم يمت بعد ، وأمام عينيه تتناثر نيران مدفعية ثقيلة لم يعد يعلم هل كان يهاجم بها قصراً ما أم ثكنه عسكرية ما.. تهاجم أنفه رائحة أزهار برية من تلك التى تلقى أمام المقابر فينوح مثل جندى مجهول يقف وحده فى العراء ويلطمه الهواء الساخن على كل جزء من أجزاء جسده المعدنى . يعلم أنه لم يمت بعد وأن هذا الأنف المعقوف لصديق ابنه الذى يعذبه من آن لآخر .. يستمع إلى صدى صوته هو العميق آتياً من عمق نصف قرن :
- ياافندم أنا أفهم أن الإقطاعيين وخدمهم يتحسرون على أيام ما قبل الثورة،ولكننى لا أفهم لماذا يتحسر عليها الحفاة الجرابيع من جموع الشعب ؟ لا يتذكر من هذا الذى كان يخاطبه بيا افندم آنذاك ، ولكنه يعلم الآن أن هذا الصوت الحلوالواضح النبرات ليس صوته وأنه لم يعد لديه صوت ما كى يميز به.. وبعد يا"باشا " .. وبعد هل كانت هناك استحالة فى القضاء على الظلم الاجتماعى البين والفساد السياسى والإدارى تدريجياً بدون أن تضعوا البلاد وبهذا العنف على أول عتبات درج جديد ؟ ! كنا نتنسم هواء حرية آنذاك أنقى بكثير مما يجثم على أجوائنا الآن .. كانت البلاد ( حامل ) بثورة حقيقية أتت بحزب يديرها رغم أنف الملك ، وكان الاستعمار يحزم حقائبه ويستعد للجلاء على أية حال من الأحوال ، وكانت القاهرة من أجمل مدن الدنيا وكنا أكثر نظافة ورقياً .. ماذا نفعل الآن يا " باشا " ونحن لدينا عشرات المفكرين وليس لدينا " طه حسين" واحد.. لدينا مئات الوعاظ يتربعون فى الفضائيات وليس لدينا " محمد عبده " واحد .. لدينا عشرات المطربات وليس لدينا " أم كلثوم " واحدة لدينا ملايين الدارسين بالمجان ومتعلمون أقل .. لدينا وسائل راحة كثيرة ووقت أقل مما يجعلنا لا نلحق بأى شىء .. لدينا فاترينات بها ما لا نستطيع إحصاءه ولا شىء فى مخازن مصانعنا الخاوية على عروشها.. لدينا نكات كثيرة وضحك أقل .. لدينا أحزاب كثيرة ووجهات نظر أضيق .. لدينا كتابة كثيرة وكتب أقل ..لدينا عاهرات أكثر من أعداد أعضاء الذكور التناسلية التى تعمل مرتين ..لدينا ملايين العبوات من معطرات الهواء ورائحة عفننا أفدح لدينا قتلة وجلادون يزيدون عن حاجتنا ولذا يبحثون فى الخارج عن جثث أكثر .. لدينا أطنان من المناديل الورقية للأستعمال مرة واحدة وفى مآقينا دموع أقل .. لدينا نقود كثيرة ونحن أفقر .. لدينا صحارى شاسعة وتأملات تافهة ..لدينا حواسب كبيرة عليها معلومات منذ بدء التاريخ حتى الآن وذاكرة أنضب .. لدينا فى خزائننا شعر كثير وعلى آذاننا تراكم عبر السنين صمغ أكثر .. نقوم بجهد كبير ونحصد نجاحا أقل .. نهذى فى الجرائد والبرامج والمساجد والكنائس من الصباح إلى الصباح ولا شىء يتبقى مما نقول .. نضاجع نساء أكثر ونتفرج كل يوم على دخول جديد لأعضاء فى أعضاء ولا نستمتع .. لدينا ليل طويل ونهارات أقصر .. نفتح الظلام على آخره ونضرب كتلة فى بعضها البعض حتى تتوالد شرارة ما ولكنها تذوى سريعاً فور اشتعالها .. نصلى أكثر ونصوم أكثر ونزكى أكثر ونحج لبيت الله كل عام وخراب أرواحنا يزداد أكثر .. لدينا ... أنهضه "عارف " برفق وكأنه يخشى أن يستحيل إلى كومة رماد كعنقاء الأساطير القديمة .. كان صدى نشيجه يصطدم بجدران الغرفة وخراطيم الأجهزة الطبية وبعينى "محمد العريان " المفتوحتين على اللا شىء وبأذنيه اللتين لا تسمعان منذ زمن ، وبصوره إلى جوار دبابات غطى الصدأ جنازيرها وإلى جوار ملوك وزعماء وسياسين كبار شنق بعضهم وضرب بعضهم بالرصاص وحددت إقامة بعضهم كما الدجاج فى قصور نائية ومات اغلبهم مسموماً .. كان نشيجه المحموم يصطدم بنجوم العريان النحاسية التى لم تعد تلمع الآن وبرائحة الهواء الثقيلة التى كانت إذا ما خيمت على رءوس زواره ينتابهم شعور ما بعدم الجدوى .
قاده إلى الردهة الخافتة الإضاءة وأجلسه إلى جوارأبيه فى غرفة المكتب ..جلس ثلاثتهم يحملق كل منهم فى وجه الآخر دونما قصد وكأنهم يجلسون فى سرادق عزاء منتظرين معزين لا يمرون أبداً .. انحنت "نسل شاه " امام "تاج العريان" وأعطته قرصاً ما وكوب ماء.. عادت من السعودية بوشاح أبيض سيلازمها إلى أن تموت وبحقيبة صغيرة زرقاء بها ملابس "كمالة " التى أوصتها أن تتركها فى الرمال المقدسة لتظل كما عاشت بلا شاهد .. من حكى لــ"محمد العريان " كيف قتلت "نفرت جاد " حتى يردد اسمها دونما توقف ؟ وكيف عرف أن "كمالة " دفنت هناك دون أن يشير أحدهم إلى ذلك حتى يظل طوال الوقت يتوسل
- عاوز أحج يا ناس. استسلم " تاج العريان " بعد أن ضرب " عمر الجوهرى" بالضربة القاضية لصمته تماماً .. لم يعد يعنيه ما يريده أبوه ولا الآخرون إذ أنه هو نفسه لم يعد يريد شيئاً على الإطلاق .. تابع يد ابنه وهى تضغط على " الريموت " باحثة بهذيان عن إحدى الفضائيات وتأمل طويلاً عينيه الممتلئتين بدموع من لايصدق أن الحقيقة مرعبة إلى هذا الحد .. لقد ظل هو ينظر فى أعين الجثث المفتوحة طوال عمره وهيء له أنذاك أنه يعرف الاجابة عن سؤاله الوحيد .. لماذا يقتل الإنسان إنساناً آخر ؟!
بل كان إذا ما سأله رجل ما منذ عشرين عاماً لماذا تبيد شعوب شعوبا أخرى ولماذا يقتل المرء أخاه يتخيل على الفور أن هذا الرجل لديه نهدان بارزان تحت ملابسه .. الآن يتطلع إلى ظمأ ابنه لإنارة بعض زوايا المشهد المظلمة وكأنه إذا ما وقف على كل التفاصيل سيعرف الأسباب ، التقت عيناه بعينى " عبد الرحمن " فابتسم بمرارة .. ما الفرق بين أن تسر لك عين القاتل أو عين القتيل بالحقيقة؟!
منذ شهرين بالضبط دخل " عارف" إلى مكتب " عمر الجوهرى " الذى يجلس فيه الآن " حازم الصفتى" .. استغرق ثلاثين دقيقة وأربعة فناجين قهوة حتى يبتلع ريقه ثم قال وكأنه يملى اعترافاً تحت وطأة تعذيب لا يحتمل .. كنت أحلق ذقنى فى " المينا هاوس " وكان فى الصالون رجل في حدود الأربعين تقريباً – لم يقل إنه شاهده فى المرآة فجأة يرتدى نقاباً ويطل من عينيه يقين يجعله دون شك قاتلها – وإنما ردد ببساطة :- واعترف تقريباً بقتل " ميس إيجيبت" وأخذ يبرر سبب قتلها ، وأضاف وهو يبتلع غصة فى حلقه :
- ولكننى لحظتها لم اصدق الرسالة . ورفع عينيه إلى عينى " حازم " وقال بصوت متوسل :
- أعلم أن هذا غير كاف فأنا ابن " تاج العريان " وأعرف متى تتحركون للتأكد من بلاغ
أعلم أن الأمر يبدو وكأنه هلوسات ولكن لن تخسروا شيئاً إذا ما تأكدتم.
لـ " حازم الصفتى " وجه طيب وابتسامة تهون كل شىء .. ضغط على جرس فى مكتبه وطلب له قهوة أخرى وأخرج ورقة بيضاء (4 A) وهو يقول ضاحكاً: - طبعاً يا " عارف " . أوصفه لى وسأكتب كل ما تقول وفوراً ها ازور الحلاق النهارده ، والله يا راجل أنا من زمان نفسى أحلق فى مكان شيك كده . خطف منه " عارف " الورقة ووضع القلم الجاف الذى أعطاه إياه " حازم" جانباً وظل يبحث عن قلم رصاص وممحاة ومثل طالب لم يتبق على نفاد وقت امتحانه إلا بضع دقائق جلس وهو يقول بسرعة : لا .. سأرسمه . أنا بارسم كويس. نهض " حازم" ودار حول مكتبه وتابع عبر كتفه القلم الرصاص وهو يرسم ما يشبه الستارة السوداء والممحاة وهى تمحو جزءاً بعد جزء من هذا السواد لتظهر عينان واسعتان كحيلتان تحتلان مساحة كبيرة من وجه أبيض مستدير وأنف مستقيم وفم بشفاه ممتلئة تجعله ابتسامته الساخرة منحرفاً قليلاً وحاجبان كثيفان مهذبان مثل حاجبى امرأة وشعر أسود ناعم ولامع مصفف بعناية ومثبت بمثبت شعر .. انتبه " عارف" لرأس" حازم " فوقه تماماً وقد تلاشت ابتسامته ، فابتسم مرتبكاً وحتى ينقذ " حازم" مما وقع فيه هو شهوراً طويلة كتب أسفل الوسيم ذى النقاب وكأنه رسام عالمى يوقع إحدى لوحاته " ذو الصوت الأجش".
بادله " حازم " ابتسامته بابتسامة مرتبكة ولسان حاله يقول ..ظننتك ترسم نفسك .
وجد "عارف " القناة التى يبحث عنها أخيراً .. كانت تعرض فيلماً تسجيلياً عن الإرهاب الدينى وتزايد وطأته ابتداء من النصف الثانى من القرن العشرين مما جعل الدكتور"عبد الرحمن " ينفجر ضاحكاً بعصبية وهو يرفع حاجبيه الكثيفين بدهشة ويخبط على ركبة " تاج" :
- شفت يا "تاج" يعنى القرن السابع مثلاً أو الخامس عشر مثلاً ما فهومش إرهاب دينى . بلاش دول . شاور على أى قرن تحبه وأنا أقول لك كان فين الإرهاب الدينى فيه .. شفت يا " تاج" يعنى ملايين اليهود اللى حرقهم النازى ماكانش إرهاب دينى .. والمسيحيين اللى هربوا من الخوزقة واخترعوا أديرة فى صحراء سيناء تؤويهم ماكنوش هربانين من إرهاب دينى ، والمسلمين الذين بقرت بطونهم تحت سنابك الخيول الصليبية ما راحوش نتيجة إرهاب دينى . دول كانوا ملايين يا "تاج" ، فاهم يعنى إيه ملايين !
ثم صاح غاضباً :
- ماتقفل البتاع ده يا"عارف".
ضغط "عارف" على زر أخفى صوت التلفزيون تماماً وهمس متباطئاً :
- طيب يا عمى .. دقيقة بس. ظل يتابع دونما صوت الوجوه الملثمة عبر نصف قرن وهى تتخذ كل الأوضاع واقفة أو زاحفة أو راكعة أو منبطحة بينما تصوب الرصاص بكل جدية نحو أهدافها أمام عينيه كادرات حرائق فى عدة مبان فخمة يبدو أنها سفارات بعض الدول، ومظاهرات فى بعض الدول وتحرق فيها أعلام بعض الدول ،وتحطيم تمثال " بوذا " بالمعاول ، واجتياح أحد المتاحف العراقية ، وأشياء ناعمة مدماة تتحرك أمام جداريات فرعونية يبدو أنها أمعاء بعض البشر .
لم يسمع من حديث أبيه والدكتور "عبد الرحمن" كلمة واحدة .. كانت الكادرات تسقط بسرعة أمام عينيه فكاد يصرخ ... لم يعد لدى أبطال صالحون لأى فيلم ..اختفت " نفرت جاد " وإلى الأبد محتضنة فى بؤبؤعينيها قاتلها ..وجلس "عمر الجوهرى " على مقعد أمام البحر يضع احتمالات لانهائية طوال الوقت لإعادة إخراج ثلاث دقائق فى حياته ..وسافر "أحمد عواد " بانكساره إلى بلد عربى وتاه فى قصر إحدى الأميرات مع سائقين وخدم باكستانين وفيتنامين وغلمان وخصيان جدد .. يكوى شعرالأميرة فى الصباح ليصنع منه كعكاً عالياً وثعابين تتلوى فوق أذنيها ليهده لها فى الليل عن عمد عندما تعتليه .. يطلى أظافرها بلون قرمزى فاقع ثم يتابع مدى ملاءمتة لبشرتها عبر مرآة السقف وهى تخربش ظهره وهو فوقها .. يتأمل فى عينيها المرويتين إلى حد البلاهة ذيل حصان يتهادى بأسى حتى يغيب فى وحدة قاتلة .. ينظر دونما ضغينة إلى خزانة حديدية محبوس فيها جواز سفره الأخضر المزين بنسر ذهبى .. لن يلتقى بـ "ليلى طوسون " أبداً كنهاية تصلح لفيلم تجارى ناجح .. لن يغلق عليها باب حجرة ما فتخجل من سنوات عمرها ومن النور فتطفئه فيفتحه بإصرار ليفرجها على جمال عريها جزءاً بعد جزء ويجعلها تحب حتى عيوبها .. سيتركها تعيش فى إضاءة خافتة لن تتعدى نور لمبة خمسين وات حتى لاتواجه فى المرايا تجاعيدها وستروح تماماً فى حكايات أبيها عن جدها عن جدتها...
منذ أيام تم القبض على "عونى حافظ " متلبساً بذبح أستاذ علم الاجتماع الدكتور" سيد الجيزاوى" ووسط صخب إعلامى هائل ، وبينما تضرب جمعيات المجتمع المدنى ومنظمات حقوق الإنسان رأسها فى الحائط وهى تحاول شرح حقوق الإنسان للإنسان ، ولا شىء يعلو فى الأجواء سوى الثلاث دقائق المصورة للملازم " عمر الجوهرى " وتحت قدميه " أحمد عواد ".. سيتم التحقيق مع " عونى حافظ"وستجعله وسامته وذقنه التى نبتت مؤخراً والتى تشبه كثيراً ذقن "جيفارا" بورتريهاً جذاباً لأغلفة معظم الصحف والمجلات حتى مجلات الموضة النسائية .. سيدلى بتفاصيل دقيقة واعترافات صارمة لا يشوبها شك بارتكابه ثلاث جرائم منذ بداية الألفية الثالثة وسيؤكد عدم ندمه على ارتكاب أى منها بل سيحمد الله أنه استطاع آنذاك تفجير الكفرة من القردة والخنازير .. وما لن يعلمه المحققون ولا أى مخلوق أبداً أنه أدلى باعترافاته حتى يحرر العشرات من إخوانه المحتجزين منذ سنوات على ذمتها .. سينفي باستماتة وازدراء وبدون أن يدرى هو نفسه لماذا وكأنه ينفذ ما يملى عليه من قوى عليا أنه قتل "ميس إيجيبت" ، وسيسأل وكيل النيابة وفى صوته الأجش نبرة سخرية .. ولماذا أقتل نسوان ناقصات عقل ودين ؟! وسيجيب عن سؤاله حول العباءة والنقاب أين أخفاهما بتحد واستهتار .. لو اننى مكان القاتل لغسلتهما جيداً بيدى على الرغم من أنه كان حريصاً على ألا يلوثهما بالدماء ، ولكويتهما أيضاً بيدى ولوضعتهما فى حقيبة بلاستيكية شيك مكتوب عليها مثلاً " سيتى ستارز" ولتبرعت بهما لأحد الجوامع أو الزوايا حتى تستر بهما أخت مؤمنة ما جسدها ، وعليكم بالتالى البحث عنهم فى منازل مليون امرأة على الأقل ، وليس سؤالى أنا عن ملابس النساء .
احتل وجهه الشاشة كلها بعد انتهاء الفيلم التسجيلى وبرغم أن "عارف " همس همساً :
- بل أنت قاتلها فإن الدكتور " عبد الرحمن " وأباه صمتا فجأة وتابعا صورته مع " عارف" .. كان قد تغير كثيرا منذ لقاء الحلاق ... تساءل "عارف" .. لماذا لم يعلق " حسن " الحلاق على الشبه بينهما ؟ فى عينيه اليقين نفسه ولكنهما زائغتان الآن كعينى أسد مجلوب للتو من إحدى الغابات .. ضغط " تاج" على زر اخفاء الصوت فجاءهم صوت المذيعة الجميلة وهى تسرد للمشاهد مسيرة الدكتور " سيد الجيزاوى " العلمية فازدادت تعبيرات الازدراء على وجه "عونى حافظ" وظل على صمته وهو ينظر فى جميع الاتجاهات .. أخطأت فى قراءة الكثير من عناوين كتبه ولم تستطع التفريق بين مقالاته وأبحاثه وتباهت فى كل جملة بنطق كلمة " الانثربولوجى" فأزاح المخرج صورة القاتل الذى ينظر إليها بغضب ويكاد يفتك بها وعلق صورة الدكتور" سيد الجيزاوى" بقميص مقلم أخضر بائس .. ربما لكى يمصمص المشاهدون الذين لم يقرأوا له كلمة واحدة ولا يعرفونه شفاههم شفقة .
همس " عارف " من جديد عندما عاد القاتل :
- انت قاتلها. فتهيأ لـ " تاج العريان " والدكتور "عبد الرحمن" أن "عونى حافظ" أشاح بوجهه عن المذيعة والتفت إلى الكاميرا أو إلى " عارف" تحديداً وأخذ ينظر إليه مباشرة فى عينيه بتحد وبلا نهاية حتى أن المذيعة الجميلة ارتبكت وكادت أن تسأله:
- إلام تنظر؟
نهض " عارف" واقفاً وبادله نظراته وسط ذهول أبيه والدكتور " عبد الرحمن" وانطلق الآن صراخه وهو ينتفض :
- هل يتم الأمر هكذا ؟ ! هل يتم هكذا ؟! ابتسم " عونى حافظ " بسخرية وعيناه فى عينى "عارف" لا ترمشان ، بينما المذيعة الجميلة تكاد تخرج عن اسكريبت البرنامج لتتهم ضيفها بالجنون ولكنها ظلت تتهته :
- أنا أعدت عليك السؤال عشرات المرات .. لماذا وافقت على التسجيل معى إذا كنت ترفض الكلام ؟؟
انقبضت ملامح " عارف" تماماً وكأنه يشاهد فيلم رعب لم يتم تصويره بعد .. رأى " عونى حافظ " يدخل من بوابة سوداء من الحديد المشغول بطواويس استوعبت ذيولها كل ألوان الطيف .. كان يعتبر أن قراءة مثل هذا الكتاب حرام ، ولكنه من باب تحفيز نفسه على الإجهاز عليه بسرعة ظلت عيناه تجريان على بعض الفقرات ..
(( إن العرب يقفون كالبلهاء على أرض مطار أقلعت منه بالفعل طائرة الحضارة.. إنهم لا يريدون الاعتراف أمام أنفسهم وأمام العالم بأنهم انتهوا منذ زمن طويل .. لماذا لا يريدون الاعتراف ؟! أليس من النبل ان يتقبل المرء موته كما اعترف له العالم بميلاده .. ان اعترافهم ربما كان البداية الصحيحة .. فكم من حضارات ماتت وبدأ أصحابها فى تشكيل ملامح جديدة لولادة حضارة أخرى !)).
(( ماذا تريد الجماعات الإسلامية من مصر الآن ؟ لقد أخذت فرصتها كاملة ولقرون طويلة انتهت إلى مقولة " الجبرتى" فى وصفه للظلام الذى غطى كل البقاع .. عم الخراب إقليم مصر ومن لم يمت من المصريين فى وباء أو مجزرة فقد مات بسبب المجاعات المتكررة وأكل الناس بعضهم البعض وجفت الترع والدروع وبارت الأرض وجن فلاحوها واختبئوا من جباة الضرائب فى الآبار المهجورة وعند حدود الصحراء)) (9)
(( لم يخرج البلد من الجهل الكامل والخرافة والشعوذة إلا " محمد على " الذى وضعها على طريق النهضة وأسس مصر الحديثة ومهد الطريق لـ" رفاعة الطهطاوى" فكان سبباً فى تأسيس النهضة العربية منذ استنتج أن التوليف ما بين الاسلام والتقدم ممكن فصار الاقتصاد فى طريقه للتحرر وعمليات تنمية المجتمع مستمرة وكادت هذه النهضة أن تقود العالم العربى الإسلامى نحو الحداثة حتى استولى العسكر وبفظاظة على السلطة عام 1952 ، فلفظ المشروع النهضوى أنفاسه الأخيرة بعد الإجهاز عليه من الخارج والداخل حيث تحالف العسكر والجماعات الأصولية الجديدة التى شكلت بدائل لـ"رفاعة الطهطاوى "أمثال " حسن البنا" و" سيد قطب" الذي طرح التساؤل من جديد لإجابة بالضرورة سلبية .. ما الفائدة من جلب الحداثة الغربية .. إذا كان الثمن هو خسران الروح من دون اللحاق بالغرب؟! ثم اتفقوا مع العسكر على ضرب اليسارين والمفكرين والمؤرخين والمثقفين والأدباء والفنانين وإفقارهم بعزلهم عن الشعب ووضعهم فى قاعات مكيفة ليركلوا بعضهم البعض أو فى مقاهى ممتلئة بمخبرى الطرفين وذلك بدلاً من وضعهم فى مستشفيات المجانين ".
أغلق الكتاب .. رماه إلى آخر جدار فى الغرفة فاصطدم به وطارت بعض أوراقه .. بسمل وشلح قميص نوم امرأته وظل يطعنها بغل فى رحمها حتى بشائر الفجر لكى يهدأ تماماً ولا يرتكب اليوم مساءاً أية غلطة تكون فى مصلحة هذا الزنديق الخائن .
ظل نائماً طوال النهار لا ينهض إلا لإقامة الصلوات وازدراد القليل من الطعام .. لا يأكل أبداً قبل عملياته الكبيرة يترك معدته فارغة ليكون خفيفاً حتى إذا استدعى الأمر الجرى أو العنف لمعالجة بعض الأمور التى لم تكن فى الحسبان .. سيدخل كما الخطة الموضوعة سلفاً من الشباك الصغير وسيطمئن أن الجميع نيام إلا الواحد الأحد .. سيتأمل وجهه المكور النائم وسيستمع إلى الصفير المنبعث من شفتيه ..سيتابع اهتزاز شعيرات أنفه القذرة التى تتحرك مع كل نفس يأخذه . بدأت أصابعه فى الارتعاش..لقد شعر به .. كيف ينتبه النائم فى ميتته الصغرى هذه إلى وجود دخيل ؟! أهى الرائحة ؟.. احتلال حيز كان فارغاً ؟! أمن خلخلة منظومة ما مجهولة ؟ ! الحالة نفسها .. يجلس بهدوء فى انتظار استيقاظ ضحيته ليرسلها إلى نوم أبدى فترتعش بعد فترة الأصابع أو تختلج الأهداب.
عاجله بصوته الأجش وهو ما زال بين اليقظة والنوم:
- سواء صرخت كما النسوان أو خرست سيسفك دمك اليوم يا دكتور ، لقد جئت أنفذ الفتوى الخاصة بك .. هل تعلم أن على وجهك غضب الله وأنت نائم ؟.
اقترب منه وضع على صدره كتابه " مصر الآن" وتنهد قائلاً ببطء:
- قابل به الله يا دكتور.. هل تستطيع أن تقرأ هناك ما سطرت يداك؟! صب له كوب ماء وأمره بشربه وبالهدوء نفسه قال :
- عمل إخوان الله على قضيتك كثيراً، وأنهكتهم والله يا دكتور .. اكتشفوا أنك لست جاسوساً لأى من الجهات الصهيونية أو العالمية وإلا كانوا رموك ككلب للمخابرات المصرية ولم يدنسوا أيديهم بدمك القذر .. هل كل هذا الهراء معتقداتك ونتاج مخك الذى خلقه لك الله ؟! ما الذى يغضبك من الاسلام والمسلمين يا دكتور؟!
رفع الدكتور " سيد الجيزاوى " رأسه عن الوسادة وبصرامة وصوت حاذر ألا يعلو جز على أسنانه:
- أمثالك يغضبوننى . أنت وإخوانك.. هذا القطيع الجاهل يغضبنى . وغطت وجهه تعابير الازدراء وهو يهمس بنفاد صبر:
- إنه ماجئت من أجله .. تعلم جيداً أننى لا أحب هذه الحياة وأمثالك فيها . بادله ازدراءه بازدراء وهو يبتسم متهكماً :
- نعم سأنهيه ولكن ألم تفكر فى هذا اليوم وأنت تكتب شهادة وفاة المسلمين؟!
- أنت لم تقرأ كتابى .. أنت لاتقرأ على الإطلاق .. كلماتى مقابل رصاصتك .. لوكانت لديك كلمات لرددت على بها .. ولكنك لاتمتلك إلا هذا المسدس وأراهنك أنك عالجته ليكون كاتماً أيضاً للصوت.
ثم نام على ظهره وذراعاه متصالبان فوق صدره وربما كان يبتلع ابتسامة ساخرة ، وعيناه فى عينى قاتله وهو يقول بإصرار وارتياح:
- لا كلام بعد الآن لامعك ولا مع غيرك . صعد الدم فى رأس " عوني حافظ" من الغيظ ، ولا يدرى لماذا قفز أمام عينيه فى تلك اللحظة جسد " نفرت جاد" العارى ونظرتها المندهشة التى لم يستطع تحملها فأغلق عينيها .. لمح كاميرا فيديو على الكومدينو فلمعت عيناه وألقى بمسدسه الكاتم للصوت فجأة على الأرض .. نظر بغل إلى الدكتور " سيد الجيزاوى "وهو نائم بهدوء ولا مبالاة على ظهره وذراعاه متصالبان بكل وقار على كتابه .. ضبط الكاميرا عليهما وضغط على زر التشغيل ولم ينس أن يزحزح الكتاب بحيث يميل قليلاً إلى ناحية اليسار ثم همس من بين أسنانه متحيراً وهو يتأمل رأسه الأصلع .. من أين يمسك خروف مثلك ؟ ! ولكنه نجح فى تثبيت أصبعيه على جانبى جبهته حتى دانت له رقبته فأخرج من جوربه سكيناً حاداً وظل يتأمل أخيراً وبفرح الرعب فى عينى الدكتور الجاحظتين ثم نظر إلى الكامير وهو يطلق جئيره الأجش .. الله أكبر . يبدو أن المخرج فى ورطة كبيرة فالمذيعة الجميلة لم تعد تدرى ماذا تقول ، وتمت إعادة المادة المكتوبة عن القتيل والقاتل مراراً ولا يعلم " تاج العريان " ولا الدكتور " عبد الرحمن " ولا أحد من المشاهدين ما الذى يجعل صورة القاتل الصامتة المحدقة فى نقطة ما بلا نهاية صامدة هكذا على الشاشة ؟ هز " عارف" رأسه وكأنه عائد من كابوس مروع وتوقفت دموعه عن الهطول وجسده عن الارتعاد ولكنه لم يجلس على مقعده إلا بعد أن نجح " عونى حافظ " – ربما قبل إزاحته بثوانى – فى الإجابه أخيراً عن السؤال الذى لم تسأله له قط المذيعة الجميلة... نعم.. يتم الأمر هكذا.
تمت .
القاهرة 2007
هوامش الرواية
( 1 ) قلفة .. رئيسة الخدم بالقصر. ( 2 ) يوم (9)، (10) يونيو عام 1967- صلاح عيسى . ( 3)أشرف المصرى --- أغنية شعبية . ( 4) جمود مفهوم الجنس عند العرب قبل وبعد ظهور الاسلام . ( 5 )" الجبرتى " بتصرف . ( 6 ) الفجاجة . ( 7 ) الجمود . ( 8 ) التضييق . ( 9 ) معادلة الجريمة لإبراهامين .
#سهير_المصادفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميس إيجيبت الفصل الحادي عشر
-
ميس إيجيبت الفصل العاشر
-
ميس إيجيبت الفصل التاسع
-
ميس إيجيبت الفصل الثامن
-
ميس إيجيبت الفصل السابع
-
ميس إيجيبت الفصل السادس
-
ميس إيجيبت الفصل الخامس
-
ميس إيجيبت الفصل الرابع
-
ميس إيجيبت الفصل الثالث
-
ميس إيجبت - الفصل الثاني
-
ميس إيجيبت
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|