أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مازن حمدونه - كارم الكريم .. القدر يلوعه .. ومازال شامخاً















المزيد.....

كارم الكريم .. القدر يلوعه .. ومازال شامخاً


مازن حمدونه

الحوار المتمدن-العدد: 2312 - 2008 / 6 / 14 - 08:08
المحور: الادب والفن
    


الحوار المتجدد (صورة قلمية)

عندما يتحول مشهد غزة من كآبة وألم الجوع في ساعات إلى حياة بعد موت .. تصبح الشوارع متزاحمة بالرواد بعد أن خلت منها الحياة كالجسد البارد قبل أن تعود إليه الروح بعد غياب .
ترى الطرقات والأسواق وحافلات النقل قد راجت حركتها دون عادتها .. تعود الحياة كسيل الدم في العروق يعيد للقلب نبضاته بعد أيام من التلوي والضنك .. ترى الرجال ، والشباب ، والنسوة وهم في همة .. قلوبهم تضحك بعد الم .. كل في مساره يبحث عن حاجة تدخل البهجة على أطفاله المتعلقين بتلابيب أثياب الآباء والأمهات .. ترى الجدة العجوز في خشوع تحمد الله على نعمة الله التي أغدقها على قلوب أبنائها وأحفادها بعد غياب .. سمعت صوت ذاك الشاب الذي شكر الله وشكر كل من سعى لعودة الفرحة وادخلها على قلبه بعد أن تسطحت نبضاتها في غياب مصدر معيشته .
في إحدى جوانب المشهد ترى ذاك الرجل الذي يلاطف أطفاله .. وهم يقهقهون فرحة في استقبال ثمار انتظروها طويلاً .. تسمع صوت الزوجة التي شحب من شدة لوعتها على حال أسرتها المبعثر ..كم كنت طماعا وطماعا جداً .. حين أتسول على قلوب المعذبين في خالص الدعاء في كل صلاة ..
سمعت صوت عجوز ركعت لله ركعات الشكر وهي تغدق بالدعاء فزادت إيماني وطموحي .. أنارت لي في قبري القادم شمعة .. أنا افهم بعض المشاهد كما تسطرها لي ومضات الفؤاد والعقل ولكن ..أدرك تماما أن الله منحنى مكانة أنا لم اخطط يوما لها ولم تراودني أي من سطورها سوى أنها سقطت علي هكذا من السماء من حيث لا احتسب ...
بعد كل صلاة .. يؤثر قلبي وخيالي مشاهد الأطفال التائهين في ظلمة الحاجة وظلم المتربعين على آلامهم .. كل هؤلاء الذين أمامي ومن حولي أرى دموعهم بلا دموع .. كم تسعدني ضحكاتهم التي هجرتهم طويلاً .. كم تأسرني أفراحهم .. أرى في قسمات الوجه ثورة على طاغوت الفقر الجائر..
كم هي جميلة إطلالة رجل شاخت ملامحه بعد انتظار تلف وجهه مسحة السعادة بلا حجاب .. يدخل يقتحم .. يتبختر بنصره على الفقر بعد عذاب كابدته وأيام الضنك اللعينة ..
كل الذين سخرني الله خادما لهم أبكتني واجهشتنى بالبكاء رواياتهم .. آلامهم .. أحزانهم .. كانت تنتاب حلقي غصة .. فانا لا املك المال ولكن .. يفتح الله من أمامي أبواب الرجاء .. ولله في أمره عبر وأحكام ..
كارم الكريم لوعه القدر .. ولكنه شامخا كالجبال ..
دخلت وقت الظهيرة أجوب ممرات أحد الأسواق .. ابحث عن ثمار ناضجة اسعد من خلالها قلوب أطفالي وأسرتي .. وفي أوج متعة التجوال والتسوق .. ومن الخلف.. ومن بين المارة في أوج الزحام .. تجسد من أمام بصري مشهد صديق قديم كانت الأيام قد فرقت جمعنا بعد تبدل الأمكنة والسكنى بالجوار .. من على مقربة أرى ذاك الشاب هو كما هو في ملامحه وقسمات وجهه وهيئة قوامه .. كما لو انه مازال في ذاك الأمس البعيد .. يرتدى قميصه الأزرق الداكن وغطت رأسه قبعة سوداء صغيرة لها رفرف مختوم بختم مذهب يحمل شعار أم الثورة وفاتحة بهجة الرجاء .. كست وجهه لحية سمراء ناعمة .. وعلى كتفه علبة من كرتون يلتقط بعض الثمار التي تضررت وأصابها الكساد من على الأرض يلتقطها ويضعها في تلك العلبة .. ويمضى بين زحمة المارة .. يدفع لصاحب فرش بسطة بعض حاجات بالية من خضار ..ولكن أمر قضاء الحاجة حتم عليه أن يحملها كما هي دون رفض أو عزوف ...
كم أذهلني مشهد ذاك الصديق الشاب الذي عاهدت باكورة شبابه ، ومازالت اذكر جمال أخلاقة ومعشره وهندامه الدائم في أبهى رداء وحلة .. كان يتبختر كأحد أفراد الأسر الثريّة.. كان دائم العفة معتزا بالنفس كريما وذا جاذبية وطيب الانسجام ، وطيب الحضور..
من بعيد أذهلني المشهد فصرخت أناديه .. أريد رؤيته .. فكانت رؤيته كراريس من ذكرى باكورة شبابي في عهد التبختر والعزة بعهد الشباب المتألق الحالم بالمستقبل المغطى برقائق الأيام.
حضر كارم وصافحني بحرارة بعد طول غياب .. وجدته مرتبكا .. خجولاً .. مثقلاً بالأحزان .. سألته ماذا تفعل ولمن تجمع تلك الأشياء ؟
كل استفساري هذا وأنا لا اعلم ما طوته له الأيام .. ما قلبته فصول الخريف القاسية .. ورياح الخماسين الصفراء .. أجاب بكل خجل وتلكؤ ..يجمعها للأغنام .. للأنعام ..!!
ثم باح بما أخفته ثنايا النفس بعد تكرار السؤال ؟ وماذا تفعل بها ؟
صفعتني عباراته المؤلمة انه يجمعها لأطفاله كي يقتاتوا منها .. تمنيت من بعدها أني لم أر هذا المشهد.. وفي هذا اليوم الذي اسطر الفرحة على قلوب أطفالي تغتالني آلام كل كارم في هذه البلاد ... وكم كارم في بلادنا تكررت مشاهده ولكن كارم له في حياتي ذكرى وخبرت العديد من تاريخه الأغر وأخلاقه النبيلة .. كيف داستها أقدام الأقدار وانتهكت عصمتها وعذريتها .
ذهبت بي إجابته بعيدا فجأة إلى تاريخ ريعان شبابه وتألقه .. حوّل حالي من حال إلى حال .. من سعادة اليوم وسعادة لقاء صديق قديم إلى ثورة غضب تفجرت بألم من وهج بركان ثائر
تاه بصري من بعدها غلى الدم في عروقي .. غفوت لحظة واحدة عنه عادت بي ذاكرة الأيام حتى الأمس البعيد ، وتجسد مشهد كارم ، ذاك الشاب الأنيق المهذب .. الكريم المتبختر في عزه وهندامه ومظهره كأبناء الأثرياء .. كان يمشى في عز وفخر، دون تكبر، أو تجبر .. مازلت اذكر قميصه الأبيض والأزرق .. وزحمة النقود في جيوبه .. وعلبة السجائر الفاخرة .. وأنا لا اعلم كيف أزمجر ، وانهر بالبائع أن يزن ويضع ألوانا متشابهة مما اشتريت .. وفي غفوة للحظات أخذت ملامحه تختفي من أمامي كتدرج الألوان .. منعتني حالتي الصحية من اللحاق به في وسط الزحام ، ناشدت احد الأطفال أن يلحق به بعد أن اختفت ملامحه في زوبعة البائعين ورواد الأسواق .. سألت عنه البائعين ومن حوله طفل كان في جوار البائع .. فاخبروني عن اسم شخص أخر لا اعرفه ووصفوا لي هندامه جلباب.. وقالوا لم نر كارم الذي تناديه وتدعيه .. انأ لا اخطرف .. مازالت ذاكرتي تعمل .. ومازلت اشخص جيدا للأشياء .. ولم أدرك أن الأمر التبس عليهم إلا بعد
أن وصفوا هندام رجل أخر يحمل اسما أخر .. أخبرتهم أن كارم سلم علي وخاطبني باسمي .. وأنا اعرفه جيدا .. فرد علي احد الباعة المتواجدين في المكان أن هناك الكثير من يسلم عليك ويدعى معرفته لك ويناديك باسمك وهو يمضى كالسراب، بعد أن ينال حسنة يبحث عنها !! وقال معقبا سبحان الله "يخلق من الشبه أربعين" !! ومازلت في أوج إصراري وإذ بكارم يمر من بعيد أمام بصري فصرخت وأشرت واستنجدت بهم .. نعم هو كارم .. عقب الرجل .. آه كارــــــــم هكذا أزاحوا من عن صدري صخرة رابضة كالركام .فنهر البائع ابنه اللحاق به واختفت ثانية ملامح الاثنين في زحمة السوق بين أكوام البشر .. إلى أن عاد الطفل حاملا نفس الأشياء وما خبرت بعد عودة الطفل الذي استنجدت به حتى صرعني بعودة كل الحاجات دون أن يأخذها "كارم " فرفض كارم أن يأخذها واخبر الطفل انه ما اشترى منهم شيئا ، ولا يريد إحسان !! فاخبره أنها من صديقك الذي ينتظرك في المكان .. وقفت مذهولاً في زاوية مكان على مقربة حتى حضرني .. واخبرني أن الطفل احضر له تلك الحاجات وهو لم يشترها منه .. وان تلك الأشياء لا تخصه .. فطلبت منه أن يأخذها منى كصديق اهتدى به صدفة بعد غياب .. هدية لأطفاله وأنا في مقام العم لابن أخيه .. فأبى كارم .. مددت يدي وأمسكت بلحيته السمراء الناعمة .. وتمنيت عليه كل الرجاء .. خاطبته باسم صداقتنا منذ فجر الشباب ، وافق ولكن بعد طول رجاء، وعناء .. تمنيت عليه أن ندخل إحدى محلات بيع اللحوم والأسماك المجمدة التي كنا نقف على بابها .. فرفض بعزم وإصرار وتمترس كجلمود صخر .... وما أن رد علي فقبل وجه اليد ومثناها، وحمد الله على نعمته وهو في ستر من الله !!
فأي كارم هذا الذي شق شبابه المبكر بعز وجمال وتواضع والآن تدوسه الأقدار ، ومازال شامخا كالجبال !!!



#مازن_حمدونه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شياطين في حضرة ... القاضي
- العتاب الأخير... قبل انهيار الجدار
- في ربوع الادب السياسي - حوار البحر
- حوار التناظر مع الأديب محمود الريماوي
- مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب فضل الريمادوي
- حوار التناظر مع القاص محمود سيف الدين الإيراني
- مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب الشاعر عمر شبا ...
- مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب الكبير عمر حمّ ...
- مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب الكبير عمر حمّ ...
- مدرسة الحوار المتجدد-في ربوع الأدب السياسي- حوار التناظر مع ...
- في ربوع الأدب السياسي- حوار التناظر مع الأديب الكبير جبرا إب ...
- في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الشاعر معين بسيسو
- في ربوع الأدب السياسي - مشهد عزف منفرد على قماش الخيمة !!
- في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب القاص زكي الع ...
- حوار التناظر مع الأديب الشاعر توفيق زياد
- في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب القاص صالح أب ...
- في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب الشاعر سميح ا ...
- في ربوع الادب السياسي -حوار التناظر مع الأديب الشاعر محمود د ...
- في ربوع الادب السياسي - حوار التناظر مع القاص عمر حمش
- المنطار كائن في المكان ... هل غادر المكان


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مازن حمدونه - كارم الكريم .. القدر يلوعه .. ومازال شامخاً