أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حسقيل قوجمان - عراق اليوم بنظر ماركسي يتتبع الاحداث من بعيد















المزيد.....



عراق اليوم بنظر ماركسي يتتبع الاحداث من بعيد


حسقيل قوجمان

الحوار المتمدن-العدد: 679 - 2003 / 12 / 11 - 06:06
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


تمهيد
اؤكد على وجودي بعيدا عن ميدان الصراع في العراق لان هذا ذو اهمية كبرى. فالماركسي ليس منجما ولا عرافا ولا فتاح فال ولا عالما بالغيب او متنبئا. ان الماركسي رجل علم يجب ان يعمل في مختبره شأنه في ذلك شأن غيره من العلماء كالاطباء والفيزيائيين والكيمياويين وغيرهم. ولكن مختبره يختلف عن مختبرات كل هؤلاء العلماء. ان مختبر الماركسي هو المجتمع، البشر، وموضوعه هو حركة المجتمع في حومة النضال الذي يوجد فيه. فالماركسي يدرس تناقضات هذا المجتمع وارتباطات كل التناقضات ببعضها وتأثير بعضها على البعض الاخر ليتوصل الى محصلة كل هذه الحركات والتناقضات. ولكل مجتمع في اية لحظة معينة محصلة واحدة لا بديل لها. واذا توصل الماركسي الى اتجاه هذه المحصلة اعلنها ودعا القوى السياسية التي يؤثر فيها الى السير في هذا الاتجاه واسناده، لان تقدم المجتمع لا يحصل الا اذا سار في هذا الاتجاه بعينه. لهذا على الماركسي، لكي يكتشف هذا الاتجاه، هذه المحصلة، ان يكون في خضم الاحداث وان يحصل على ادق المعلومات لان ذلك من شأنه ان ينير له الدرب في التوصل الى اتجاه حركة المجتمع في تلك اللحظة. ووجودي بعيدا عن ميدان النضال في هذه الظروف الرهيبة المتغيرة والدقيقة، وحصولي على المعلومات عن طريق وسائل اعلام متحيزة، كل وسيلة اعلام تعلن ما يتفق ومصالح الفئة التي تسيطر عليها وتخفي ما ليس من مصالحها، يؤدي الى ان المعلومات التي احصل عليها ليست دقيقة، خصوصا حين احاول فهم ما يجري من مقاومة للمحتلين والاخبار والاشاعات المتعلقة بذلك، اذ انها ليست دقيقة، ولذا فان النتائج التي اتوصل اليها قد لا تكون صحيحة وكاملة او حتى قد تكون خاطئة.
ولكني اشعر من واجبي، مع كل ذلك، ان ابدي بعض الاراء والملاحظات التي قد تكون ذات فائدة لمساعدة الماركسي الموجود في الميدان للتوصل الى الخط الدقيق الذي تتجه اليه محصلة المجتمع العراقي اليوم.
مقدمة
حين عاد الرفيق فهد من اوروبا سنة ١٩٣٨ وبدأ في اعادة تكوين الحزب الشيوعي درس الاوضاع العراقية ادق دراسة وشخص الاتجاه الذي ينبغي سلوكه لكي يحقق الحزب تحرير العراق ثم السير به نحو الاشتراكية. كان الرفيق فهد ماركسيا بارعا درس الماركسية دراسة شاملة ساعدته على ذلك الجامعة التي درس فيها في الاتحاد السوفييتي. وكان الرفيق فهد وطنيا يعرف تفاصيل الحركة في العراق فتوصل الى اتجاه المحصلة الاساسية لحركة الشعب العراقي. وكانت هذه المحصلة الاساسية التي توصل الى اتجاهها الخط الاستراتيجي للحزب الشيوعي الذي دأب على بنائه. وقد عبر عن هذه المحصلة، الخط الاستراتيجي، في الميثاق الوطني الذي اقره الكونفرنس الاول للحزب سنة ١٩٤٤.
تألف الميثاق الوطني الذي اقره الكونفرنس من جزأين، المنهاج والميثاق. وكان المنهاج قصيرا مركزا يبحث مرحلتي الثورة في العراق، المرحلة الاولى، مرحلة الثورة البرجوازية، والمرحلة الثانية، مرحلة الثورة الاشتراكية. بينما احتوى الميثاق مطالب آنية تكتيكية قابلة للتحقيق خلال النضال اليومي وقابلة للتغير بالغاء بعضها واحداث مطالب جديدة حسب ما تتطلبه ظروف النضال اليومي.
كان الخط الاستراتيجي الذي جاء في المنهاج خطا بعيد المدى يمتد حتى الثورة الاشتراكية ولذلك فهو ما زال حتى يومنا هذا الخط الاستراتيجي الصحيح للحركة الثورية في العراق. وهذه صفة خاصة بالخط الاستراتيجي في كل بلد. فحزب لينين الشيوعي مثلا وضع خطه الاستراتيجي سنة ١٩٠٣ وبقي هذا الخط الاستراتيجي صحيحا حتى ثورة اكتوبر ١٩١٧، الثورة الاشتراكية. وكان الخط التكتيكي، الشعارات والسياسات التي يتخذها الحزب تتغير بتغير الظروف، ولكن هذه الشعارات والسياسات التكتيكية كانت كلها تخدم هذا الخط الاستراتيجي الثابت الذي لم يجد الحزب حاجة الى تغييره مهما تغيرت ظروف الحزب النضالية خلال تلك الفترة العامرة بالثورات والانتفاضات والانتكاسات. كل هذا يصح على الخط الاستراتيجي الذي وضعه الرفيق فهد واقره الكونفرنس.
وجاء باسم (بهاء الدين نوري) واخذه الحماس الذي ظهر في الحركة تحت قيادته، واستولى عليه الغرور، فقرر منفردا الغاء الميثاق الذي اقره مؤتمر حزبي والف ميثاقا جديدا طمس الخط الاستراتيجي للحزب كليا.
والفرق بين ميثاق فهد وميثاق باسم هو كالفرق بين شخصيتيهما. ففهد كان ماركسيا ومطلعا اوسع الاطلاع على ظروف المجتمع العراقي. اما باسم فكان جاهلا حتى بألف باء الماركسية ولذلك فان ميثاقه كان عبارة عن خليط من الاراء غير المنظمة خطها على عجل وبدون استشارة احد وظن انه علا على الرفيق فهد في حين انه طمس الخط الاستراتيجي للحزب الذي وضعه فهد.
ثم جاء الكونفرنس الثاني سنة ١٩٥٦ فالغى الميثاقين على انهما لم يعودا ملائمين لظروف العراق السياسية ووضع برنامجا جديدا لم يكن له اي خط استراتيجي للحزب. ففي هذا البرنامج لم يشر الحزب الى وجود مراحل في الثورة العراقية وهذا كان احد المطالب التي فرضتها البرجوازية على الحزب من اجل قبوله في جبهة وطنية معها وقد جاء هذا الطلب بين الطلبات الاخرى التي وجهها كامل الجادرجي الى مندوب الحزب الشيوعي لدى مقابلته. فقد اصر كامل الجادرجي على وجوب تخلي الحزب عن التحدث عن المراحل التاريخية.
وكان المطلب الاخر الذي فرضه الجادرجي على مندوب الحزب ان يجري التخلي عن شعارات القيادة. فمن المعروف ان الحزب الشيوعي بقيادة فهد كان يعتبر ان قيادة الحزب الشيوعي، الذي يشكل طليعة الشعب العراقي كله، عمالا وفلاحين، ومن ينتمي اليهم من المثقفين والحرفيين، للجبهة الوطنية التي يجري تاليفها مع البرجوازية. فالحزب في الواقع، اذ يشكل القوة الاساسية في النضال، قوة العمال والفلاحين، هو الذي يفرض شروطه على الجبهة الوطنية. فالبرجوازية تريد من الجبهة ان تناضل وتعمل في سبيل تحقيق مصالحها هي التي تتعارض مع مصالح الطبقة العاملة والفلاحين. ولكنها بطبيعتها لا تستطيع وحدها ان تخوض نضالا حازما من اجل تحقيق مصالحها ولذلك تحتاج الى نضال الطبقة العاملة كسند لها لتحقيق هذه المصالح. اما الحزب الشيوعي فهو مناضل اولا من اجل تحقيق مصالح الطبقة العاملة والفلاحين وسائر الكادحين، ولا يوافق ان يكون اداة للبرجوازية من اجل تحقيق مصالحها. ان الحزب الشيوعي يساند البرجوازية بالقدر الذي يتفق مع مصالح الطبقة العاملة والكادحين. ومتى تعارضت مصالح الطبقة العاملة والكادحين مع مصالح البرجوازية فان الحزب يناضل ضد البرجوازية في هذه الحالة ولا يساندها ولا يتفق معها حتى لدى وجود الجبهة معها. وعلى ذلك فان البرجوازية تنضم الى جبهة مع الحزب الشيوعي الذي تكرهه اشد الكره فقط حين تجد انها عاجزة عن النضال بدون مساندة الحزب الشيوعي والطبقة العاملة التي يقودها. ولكن الحزب الشيوعي في ١٩٥٦ تخلى عن مبدأ قيادة الطبقة العاملة للجبهة.
يشكل برنامج اي حزب ما يريد ان يقوم به عند استلامه السلطة. والحزب الشيوعي يضع هدف بناء الاشتراكية لدى استلامه السلطة. ولكن الحزب الشيوعي تخلى في ١٩٥٦ عن هدف الاستيلاء على السلطة بل واكثر من ذلك اعلن انه يساند الحكومة الوطنية بدون ان يشترط اشتراكه معها في السلطة.
بهذه الشروط كانت البرجوازية بكامل احزابها حتى الاحزاب اليمينية القصوى مستعدة للتحالف مع الحزب الشيوعي بعد تنازله صراحة وفي برنامجه عن كل الاهداف التي تميز الاحزاب الشيوعية.
وجاءت الجبهة الوطنية سنة ١٩٥٧ حيث كان الحزب الشيوعي في افضل الحالات واحدا من الاحزاب المؤتلفة في الجبهة. وفي الواقع لم يكن الحزب الشيوعي اكثر من ذيل للبرجوازية في هذه الجبهة. وقد تبين ذلك صراحة في ثورة ١٤ تموز حين كان الحزب الشيوعي الحزب الوحيد في الجبهة الذي استثني من الاشتراك في حكومة الثورة.
وجاءت ثورة ١٤ تموز حيث قام الضباط الاحرار، وفيهم شيوعيون، بانقلاب عسكري اطاحوا فيه بالسلطة شبه الاقطاعية الحاكمة وراسيها نوري السعيد وعبد الاله. فهب الشعب العراقي كله صبيحة الثورة اسنادا للثورة لانه شعر بانه تخلص من الحكم الاستعماري الاقطاعي الذي جثم فوق رأسه طوال اربعة عقود. وخرج الحزب الشيوعي على رأس الجماهير المتظاهرة بمئات الالاف يوميا تقريبا رغم ان الحزب استثني من الجبهة كما هو معروف اذ لم تتضمن حكومة الثورة الاولى ولو ممثلا واحدا من الحزب الشيوعي.
ساند الحزب الشيوعي حكومة الثورة اسنادا مطلقا. وأخذ يرفع اسم عبد الكريم قاسم الى السماء. وكانت المظاهرات التي قادها الحزب الشيوعي عبارة عن وسيلة دعاية كبرى لهذه الحكومة وخصوصا لعبد الكريم قاسم الذي الهه الحزب الشيوعي تأليها. ولكي يغطي الحزب الشيوعي فشله في الجبهة ظهرت اشاعات بان عبد الكريم قاسم عضو سري في الحزب الشيوعي وان العديد من المحيطين به هم شيوعيون وغير ذلك. وظهر حينذاك المفهوم الانتهازي الذي يدعي ان حكومة الثورة هي قائدة الدولة والحزب الشيوعي هو قائد الشارع وكأن قيادة الشارع هي سلطة سلطة موازية لسلطة الدولة.
والواقع هو ان الحزب الشيوعي واد ثورة ١٤ تموز، قتلها صباح ١٤ تموز. اذ ما معنى وأد الثورة او قتلها؟ معناه حرمانها من ميزاتها كثورة. فما الذي جعل انقلابا عسكريا كثورة؟ وماذا كان الخلاف  بين هذا الانقلاب وبين انقلاب بكر صدقي سنة ١٩٣٦ ثم انقلاب رشيد عالي الكيلاني سنة ١٩٤١؟ وما ميزة انقلاب ١٩٥٨ عنهما التي جعلت الشعب العراقي ينهض عن بكرة ابيه لاسنادها؟ ان ما يميز الثورة هو هدفها. فهناك ثورات قد تنجح او تفشل ولكنها ثورة. وهناك انقلابات قد تنجح نجاحا باهرا ولكنها ليست ثورة. اذا كان هدف الثورة، سواء انجحت ام فشلت، تغيير نظام حكم سابق بنظام حكم اعلى منه من الناحية التاريخية فهي ثورة حتى لو فشلت. واذا كان الانقلاب يهدف الى تغيير فئة حاكمة بفئة اخرى من نفس المستوى التاريخي فهذه ليست ثورة حتى لو نجحت نجاحا تاما.
وانقلاب بكر صدقي او انقلاب رشيد عالي الكيلاني كانا على هذا الاساس انقلابين وليسا ثورة من الناحية العلمية مهما طبل وزمر لهما ازلام الانقلاب او وسائل اعلامهم.
فميزة انقلاب ١٤ تموز العسكري هي ان هذا الانقلاب أبدل نظام الحكم شبه الاقطاعي بنظام حكم برجوازي. هذه الميزة هي الميزة الوحيدة التي جعلت من انقلاب ١٤ تموز العسكري ثورة. ولكن الحزب الشيوعي، الحزب الوحيد الذي كان عليه ان يميز هذا الانقلاب عن الانقلابين السابقين، وان يرى ان هذا الانقلاب كان ثورة حقيقية، وأد الثورة او قتلها لانه لم يدرك هذه الحقيقة ليس في يوم ١٤ تموز وحسب بل حتى يومنا هذا.
كيف كان يجب ان يميز الحزب هذا الانقلاب باعتباره ثورة؟ كان عليه ان يعلن ان المرحلة الاولى من الثورة العراقية كما حددها ميثاق الحزب تحت قيادة الرفيق فهد قد انتهت، ولهذا فان العراق يوم ١٤ تموز اصبح عراقا اخر، عراقا راسماليا، عراقا تحكمه الطبقة البرجوازية وان المرحلة الاولى من الثورة العراقية قد انتهت وبدأت يوم ١٤ تموز المرحلة الثانية من الثورة، مرحلة الثورة الاشتراكية التي تنقل المجتمع العراقي من مجتمع برجوازي الى مجتمع اشتراكي. هذا هو، وهذا وحده هو، الشعار الاستراتيجي الذي كان يجب ان يكون شعار الحزب الشيوعي العراقي يوم ١٤ تموز لو كان حزبا شيوعيا حقا.
ثمة اعظم مثل تأريخي لتعريف الثورة الذي جاء اعلاه. لقد اندلعت ثورة في روسيا سنة ١٩٠٥ فشلت ولم تحقق اهدافها. ولكنها مع ذلك سميت ثورة رغم فشلها لان هدفها كان الاطاحة بالنظام القيصري الاقطاعي ورفع المجتمع الروسي من مجتمع اقطاعي الى مجتمع راسمالي. وجاءت الثورة الثانية في شباط ١٩١٧ فنجحت واطاحت بالنظام القيصري وجاءت بنظام حكم راسمالي. هذا ما جعل لينين فور اطلاعه على نجاح الثورة من الصحافة السويسرية ، ان اعلن انتهاء المرحلة الاولى من الثورة وبداية المرحلة الثانية، مرحلة الثورة الاشتراكية بدون ان ينتظر ما تحققه البرجوازية في ثورتها وما لا تحققه منها.
وقد يقول البعض ان الشعب العراقي والمجتمع العراقي لم يكن ناضجا في ١٤ تموز للثورة الاشتراكية. وهذا مغالطة مفضوحة للخلط بين شعار الثورة الاشتراكية وتحقيق الثورة الاشتراكية. فمرحلة الثورة الاشتراكية تبدأ بعد نجاح الثورة البرجوازية مباشرة. ورفع شعار الثورة الاشتراكية لا يعني القيام بالثورة الاشتراكية وانما تحديد الشعار الاستراتيجي للحزب الشيوعي وضرورة ان تكون سياساته التكتيكية اليومية تستهدف اعداد الشعب العراقي والطبقة العاملة للثورة الاشتراكية. اما المدة بين رفع شعار الثورة الاشتراكية وتحقيق الثورة الاشتراكية فهو غير محدود. فقد بدأت مرحلة الثورة الاشتراكية الفرنسية بعد ثورة ١٤ تموز الفرنسية في ١٨٨٩ ولم تتحقق في فرنسا الثورة الاشتراكية حتى اليوم فيما عدا نجاح كومونة باريس الجزئي وتحطيمها من قبل البرجوازية الفرنسية بالتحالف مع جيوش الاحتلال الالماني. بينما لم يستغرق الاعداد للثورة الاشتراكية في روسيا سوى اشهر معدودة وكان ضعف البرجوازية الروسية وقلة خبرتها وعدم تحقيقها لاهداف الثورة البرجوازية اكبر عون للحزب الشيوعي الروسي ولينين على تحقيق الثورة الاشتراكية بهذه السرعة.
يقول بعض مؤرخي الحركة الشيوعية في العراق اليوم ان الفرصة كانت سانحة للحزب الشيوعي للاستيلاء على السلطة في فترة ما يسمى المد الاحمر بعد فشل انقلاب الشواف سنة ١٩٥٩. وهذا في رايي غير صحيح. فان الفكرة كانت اجراء انقلاب عسكري بمساعدة الضباط الشيوعيين في الجيش العراقي. ومن الخطل ان نسمي ذلك فرصة للاستيلاء على السلطة. فاستيلاء الحزب الشيوعي على السلطة معناه ثورة اشتراكية. وبينما يكون  تحقيق الثورة البرجوازية بانقلاب عسكري ممكنا فان تحقيق الثورة الاشتراكية لا يمكن تحقيقه بانقلاب عسكري. فالبرجوازية تستطيع استعمال نفس اجهزة الدولة الاقطاعية وعلى راسها الجيش والشرطة والمحاكم وسائر الاجهزة الاقطاعية بمجرد تغيير اشخاصها القياديين واستبدالهم باشخاص يخدمون نظام الحكم الراسمالي، فان الثورة الاشتراكية لا تستطيع استخدام اجهزة الدولة الراسمالية لدولتها بتغيير اشخاصها القياديين. ان الثورة الاشتراكية يجب ان تدمر اجهزة السلطة الراسمالية وان تقيم اجهزة دولة جديدة من جيش وشرطة ووزارات ونظام قضائي وغير ذلك. وهذا لا يمكن تحقيقه بانقلاب عسكري. من العسير في هذه المقدمة السريعة بحث هذا الموضوع بالتفصيل لان هذا يخرجنا عن موضوع هذا المقال، وهو عراق البوم. ولكني يجب ان اضيف للتأريخ ملاحظة صغيرة هي انني قدمت للجنة المركزية للحزب بعد اطلاق سراحي من السجن في آب ١٩٥٨ بمدة ٤٨ ساعة تقريرا مفصلا كان نصفه يبحث التغيير الذي طرأ على التكوين الطبقي للشعب العراقي بعد ثورة ١٤ تموز واقترحت في التقرير استغلال الظروف شبه العلنية لعقد مؤتمر للحزب تكون اولى واهم مهامه وضع الشعار الاستراتيجي للمرحلة الجديدة. وقد بحثت في كتابي عن ثورة ١٤ تموز وسياسة الحزب الشيوعي الذي صدر سنة ١٩٨٤ بالتفصيل سياسة الحزب الشيوعي اللاشيوعية بعد الثورة.
ثم وقع انقلاب ١٩٦٣ ضد حكومة عبد الكريم قاسم ومآسيه وجاءت سياسة الحزب تجاه عبد السلام عارف ثم تجاه عبد الرحمن عارف التي بلغت حد قرار حل الحزب الشيوعي والانضمام الى حزب عبد الرحمن عارف.
واخيرا جاء انقلاب تموز ١٩٦٨ ومآسيه وجاءت سياسة الحزب الشيوعي التي ساوت بين ثورة ١٤ تموز وانقلاب ١٩٦٨ وظهرت عبارة ثورات تموز المجيدة، واختيار صدام حسين للطريق اللاراسمالي صوب الاشتراكية واعتناقه الاشتراكية العلمية تبريرا لعقد الجبهة القومية التقدمية مع حكومة صدام حسين الفاشية.
وبعد ضربة ١٩٧٩ الماساوية وركل الجبهة اضطر الحزب الشيوعي الى الانتقال من خندق صدام الى خندق معارضة صدام.
ثورة ١٤ تموز وسياسة البرجوازية الحا كمة
كانت ثورة ١٤ تموز خطوة الى امام. انها رفعت المجتمع العراقي من مجتمع شبه اقطاعي شبه امبريالي الى مجتمع برجوازي. 
والبرجوازية في العصر الامبريالي اصبحت عاجزة عن تحقيق اهداف الثورة البرجوازية تحقيقا جذريا كما كان الحال في الثورة الفرنسية مثلا. وكذلك كانت منجزات الثورة البرجوازية العراقية في  ثورة ١٤ تموز، محدودة بما تستطيع البرجوازية العراقيةتحقيقه.
كان من اهم منجزات ثورة ١٤ تموز الخروج من حلف بغداد الامبريالي. وكان يوم ١٤ تموز كما هو معلوم موعد انعقاد اجتماع القمة لهذا الحلف في انقرة. وكان هذا الامر لصالح الثورة اذ كان عمالقة النظام السابق نوري السعيد وعبد الاله والملك فيصل موجودين في بغداد وهو كان شيء نادر الحدوث.
ومن منجزات ثورة ١٤ تموز الغاء المعاهدة البريطانية العراقية وقاعدتي الحبانية والشعبية وتكوين علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي وبلدان اوروبا الشرقية.
وتحررت البرجوازية الحاكمة التي كانت قبل الثورة تعاني من تضييقات الامبريالية العالمية والحكم شبه الاقطاعي، فانفسح المجال امامها لتطور سريع نوعما وانشاء مشاريع صناعية جديدة خصوصا عن طريق الاتحاد السوفييتي. ولكن السياسة الامبريالية وسياسة الامبريالية السوفييتية المبرقعة ببرقع الاشتراكية، الدولة الامبريواشتراكية، كانت متطابقة من حيث منع البرجوازية العراقية من الاستقلال الاقتصادي الحقيقي، بالحصول على صناعات انتاج وسائل الانتاج. وهذه السياسة تبقي الدول المتحررة تحت رحمة الدول الامبريالية الصناعية الكبرى.
من اهداف الثورة البرجوازية القضاء على الاقتصاد الاقطاعي باجراء ما يسمى الاصلاح الزراعي وتوزيع الارض على الفلاحين. وتظاهرت حكومة الثورة البرجوازية باجراء الاصلاح الزراعي. ولكن الاصلاح الزراعي الذي اجرته صمم بحيث لا يقدم شيئا حقيقيا للفلاحين بل يحول قسما من الاقتصاد الاقطاعي الى اقتصاد راسمالي. وحتى النزر اليسير الذي وزع على الفلاحين وزع لقاء تعويضات كان على الفلاح ان يسددها خلال سنوات طويلة. فالحكومة البرجوازية لم تقض فعلا على الاقتصاد الاقطاعي بل اصبحت في الواقع هي الحامية لبقايا الطبقة الاقطاعية.
ولفترة معينة سمحت الحكومة البرجوازية للعمال بالتنظيم النقابي وبتأسيس جمعيات فلاحية. وكان سلوك الحزب الشيوعي في هذا المجال الاستيلاء على قيادة النقابات واتحادها وعلى قيادات الجمعيات الفلاحية. ليس في قيادة الحزب الشيوعي للنقابات العمالية والجمعيات الفلاحية شيء غريب. فمن المفروض ان يكون الحزب الشيوعي الحقيقي هو القائد لهذه المنظمات ولكن الغريب في هذا الامر هو ان الحزب الشيوعي لم يحصل على هذه القيادات عن طريق العمال انفسهم بل فرض قيادته عليها من الاعلى. ولهذا لم يبد العمال اهتماما حقيقيا بهذه القيادة ولم يحركوا ساكنا حين قامت الحكومة بحل اتحاد النقابات واعتقال اعضائه ومصادرة املاكه بعد مؤتمره العام الذي حضره عبد الكريم قاسم والقى في خطابا مطولا بايام معدودة.
لكن سياسة البرجوازية تجاه الطبقة العاملة والكادحين تختلف حتى عن سياسة الحكومات السابقة للثورة. ولا شيء غريب في ذلك. فتحت الحكم شبه الاقطاعي كان الخطر هو ان تعلو البرجوازية الى الحكم. والبرجوازية طبقة مستغلة شبيهة بالطبقة الاقطاعية ويمكن التساوم والاتفاق معها من اجل بقاء وضعها الاستغلالي رغم استيلاء البرجوازية زمام السلطة. اما البرجوازية فان خطر بلوغ العمال الى السلطة هو تقويض النظام الاقتصادي الراسمالي كليا. فلا البرجوازية ولا الاقطاع ولا الامبريالية المسيطرة عليهما تبقى في الوجود. ان مجيء الطبقة العاملة الى الحكم معناه نظام اشتراكي لا مكان فيه لاية طبقة استغلالية. لذا فان البرجوازية تخاف من أبسط انواع النشاط العمالي وتقمعه باقسى ما يتوفر لديها من قوة.
حين اعتلت البرجوازية في ١٤ تموز للسلطة افسحت المجال للحزب الشيوعي لاحتلال  مناصب عالية في الدولة، وخصوصا بعد ما تحسسته من عدم توجه الحزب الشيوعي للكفاح ضدها. فاستولى اعضاء الحزب الشيوعي عمليا على الاذاعة والتلفزيون وغيرها من المناصب الهامة نظرا لان البرجوازية نفسها لم تكن لها الخبرة والكوادر الكافية. فالبرجوازية استغلت طاقات الحزب الشيوعي لمصلحتها وسمحت للحزب الشيوعي بقيادة المظاهرات اليومية التي كانت تبلغ مئات الالاف ولكنها كانت تعلم حق العلم ان هذه المظاهرات ليست مظاهرات شيوعية وانما مظاهرات تعمل على تثبيت سلطتها ورفع مكانة قائدها عبد الكريم قاسم. فلم تر خطرا يهددها في هذه المظاهرات المساندة لحكمها.
كانت الحركات القومية التي كانت وراءها المنظمات الجاسوسية الامبريالية واستخبارات بعض الدول العربية تتطور يوما بعد يوم. ظهر شعار الوحدة مع مصر العربية شعار هذه الحركات القومية في محاربة الكحومة البرجوازية. وكان القوميون وعلى راسهم حزب البعث وقائده عبد السلام عارف يوجهون نضالهم هذا ضد الجكومة البرجوازية تحت ستار النضال ضد الشيوعية.
كان شعار عبد الكريم قاسم "فليتصارع المسافرون في القطار داخله ما دام سائق القطار واعيا". وفي المدة التي تلت محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ثم انقلاب الشواف الفاشل شن عبد الكريم قاسم هجوما موسعا على الشيوعيين والضباط الشيوعيين واليساريين.
في عهد نوري السعيد كان هناك سجنان سياسيان رئيسيان هما سجن نقرة السلمان وسجن الكوت وجزئيا سجن بغداد المركزي وفي السنوات الاخيرة من حكمه اي منذ ١٩٥٦ وحتى الثورة اصبح سجن بعقوبة الذي صممه وبناه الاميركيون ضمن "مساعدة الشعب العراقي" بموجب النقطة الرابعة لترومان السجن السياسي الوحيد. اما في حكم عبد الكريم قاسم الذي بيض السجون بعد الثورة، اي اطلق سراح جميع السجناء في كافة سجون العراق بصرف النظر عن نوع جرائمهم سواء منهم السياسيين وغير السياسيين، فقد اصبح في العراق بعد عام واحد من الثورة، اي في النصف الثاني من سنة ١٩٥٩، عشرات السجون السياسية وبلغ عدد السجناء السياسيين والمحجوزين السياسيين بدون محاكمة عشرات اضعاف عدد السجناء السياسيين في احلك ظروف ما قبل الثورة. وبلغ عدد المحكومين بالاعدام العشرات رغم ان الاحكام لم تنفذ فعلا حتى انقلاب ١٩٦٣ حيث قام حزب البعث بتنفيذها.
كيف ينبغي النظر الى العراق حاليا؟
خرج العراق بعد حرب الاحتلال الاميركي البريطاني من فترة من اسوأ الفترات ظلاما في تأريخه. يحلو لحميع وسائل الاعلام التحدث عن ٣٥ عاما من حكم صدام حسين ولكن هذا في اعتقادي اقل من الفترة الحقيقية لهذا التأريخ المأساوي. فبعد الحكم الملكي شبه الاستعماري تمتع الشعب العراقي بفترة قصيرة كانت اروع فترة في حياته السياسية. دامت هذه الفترة من ١٤ تموز ١٩٥٨ حتى ١٤ تموز ١٩٥٩ تقريبا. ومنذ هذا التأريخ بدا الشعب العراقي يعاني من ظلم الحكم البرجوازي وحكم الامبريالية الذي بدأ يزداد في اواخر مدة حكم عبد الكريم قاسم. وجاء انقلاب شباط ١٩٦٣بمجازره ومآسيه ثم انقلاب ١٩٦٨ ومآ تلاه من حكم صدام حسين فكان فترة ظلام سوداء ولو ان فترة حكم صدام حسين كانت اكثر قساوة وظلما من الفترات التي سبقتها.
خرج الشعب العراقي من جميع هذه الفترات ومن مآسي حروب متتالية، الحرب العراقية الايرانية، حرب الخليج الثانية وحرب المقاطعة الاقتصادية التي فرضها الامبرياليون الاميركيون والبريطانيون وما تخللها من هجومات امبريالية يومية تقريبا.
في هذا الوضع جاءت الحرب الغادرة التي شنتها الامبريالية الاميركية والبريطانية تصاحبها فئات عراقية تقمصت ثوب المعارضة لنظام صدام وتأييد احتلال العراق لقاء الاموال التي اغدقتها عليهم الولايات المتحدة وبريطانيا واموال بعض الدول العربية قبل ذلك. احتلت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق بعد تدميره تدميرا هائلا باشد انواع اسلحة الدمار الشامل الاميركية مضاء.
ومن سخرية القدر ان ما ساد العراق من ظلم وعسف نظام حكم صدام حسين طيلة هذه السنوات جعل الاحتلال الاميركي البريطاني يبدو في نظر الكثير من العراقيين تحريرا كما زعم الامبرياليون وازلام المعارضة الذين عادوا الى العراق على الدبابات الاميركية.
ان من اهم مظاهر العراق اليوم هو انه بلد محتل، بلد مستعمر. كان من نتائج الحرب العالمية الثانية ان العالم شاهد حركة ضد الاستعمار المباشر ادت الى ظهور دول مستقلة اسميا في افريقيا واسيا تحتل مركزها في هيئة الامم المتحدة. وبدلا من الاستعمار المباشر الذي كان من ميزات فترة ما بين الحربين الاولى والثانية اصبح الاستعمار المباشر صفة مستهجنة وغير مقبولة في السياسة الدولية. وقد ظهر ذلك واضحا في تأريخ هيئة الامم المتحدة التي لم تتخذ في تاريخها قرارات تمنح اية دولة امبريالية حق الاستعمار المباشر. وقد استقلت بعد الحرب العالمية الثانية مستعمرات كبرى مثل الهند والباكستان والعديد من دول اسيا وافريقيا.
ولكن الاستعمار في الواقع تحول من استعمار مباشر الى استعمار غير مباشر، استعمار عن طريق السيطرة الاقتصادية اولا والقواعد العسكرية احيانا. وكان معنى ذلك ان الامم المتحدة ، بخلاف عصبة الامم، لم تمنح حق الاستعمار المباشر لاية دولة امبريالية واصبحت الدول المستعمرة سابقا دولا مستقلة تعترف بها الامم المتحدة وتقبل عضويتها فيها.
واستمر هذا الوضع في الامم المتحدة اذ لم تمنح الولايات المتحدة اي قطر ليكون تحت الاستعمار المباشر رسميا. واستمر هذا الوضع حتى لدى احتلال افغانستان، اذ ان الامم المتحدة لم تمنح الولايات المتحدة حق استعمار افغانستان واستعمارها استعمارا مباشرا، بل بقي استعمار افغانستان مموها تحت شعار الامم المتحدة واقامة دولة مستقلة شكليا ولو انها دولة عميلة للولايات المتحدة.
ولاول مرة في تأريخ الامم المتحدة منح مجلس الامن الولايات المتحدة حق  الاستعمار المباشر في العراق. فقد اصبح العراق بعد احتلاله بالحرب من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، مستعمرة مباشرة معترف بها من قبل مجلس الامن والامم المتحدة. وبهذا فقد انحدرت الامم المتحدة الى مستوى عصبة الامم التي كانت حامية الاستعمار المباشر في العالم.
ان الفرق بين الاستعمار والاحتلال غير المباشر وبين الاستعمار المباشر ليس شكليا فقط بل انه فرق جوهري. فان الاستعمار المباشر يتطلب حكما امبرياليا مباشرا. ولكي يمكن اعداد الحكم المباشر كان على الولايات المتحدة ان تدمر الدولة وكافة مؤسساتها لأن وجود الدولة المستقلة شكليا لا يتفق مع الاستعمار المباشر. لذلك فان الولايات المتحدة دمرت بصورة مقصودة كل منشآت الدولة العراقية سواء بالدمار الذي حققته الحرب المدمرة ام في الدمار الذي تلى الاحتلال من حرق العمارات الوزارية وحتى نهب المتحف الاثري العراقي. فما لم تدمره القنابل دمرته السلطة الامبريالية بمراسيم. فحلت الجيش والشرطة والغت الوزارات والنظام القضائي وكافة منشآت الدولة الاخرى. وقد اعترف الحاكم الاميركي بريمر بخطأ حل الجيش العراقي ولكن اعترافه هذا كان نفاقا. اذ ان الاعتراف بالخطأ يجب ان يعقبه تصحيح الخطأ اي الغاء الحل واعادة الجيش العراقي. ولكن السلطة الاميركية الحاكمة في العراق لم تفعل شيئا من هذا القبيل. فحل الجيش كان من التدابير الضرورية اللازمة لتحقيق الاستعمار المباشر.
واخذت الدولة الامبريالية العظمى، الامبريالية الاميركية، تنشئ مؤسساتها الخاصة لحكم البلاد حكما مباشرا. فالجيش العراقي الذي تقوم الولايات المتحدة بانشائه ليس جيشا عراقيا وانما هو جيش مرتزقة اميركي تعينه وتديره وتدربه وتدفع رواتبه الدولة الامبريالية المحتلة.
وهذا ينطبق ايضا على الشرطة العراقية التي تعينها وتدربها وتقودها القوات المسلحة الاميركية اذ ان مهمتها الحقيقية هي حماية القوات المحتلة من غضب الشعب العراقي.
وينطبق نفس الشيء حتى على مجلس الحكم المؤقت. وما تزعمه الولايات المتحدة من اعداد دستور جديد للعراق كمقدمة لتسليم مقاليد الحكم الى حكومة عراقية منتخبة ليس سوى كذب وبهتان. فمن المعروف ان الولايات المتحدة اعدت دستورا قبل مائة يوم من انعقاد مؤتمر لندن السيئ الصيت وما كان على المؤتمر الا ان يصادق عليه.
فالصفة الاساسية لعراق اليوم هي انه اول بلد مستعمر استعمارا مباشرا رسميا وبقرار من مجلس الامن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لذا تقع على عاتق الشعب العراقي مهمة النضال من اجل التحرر من هذا الاستعمار المباشر. فمن الذي يشن هذا النظال الهائل؟
هنا علينا ان نعود الى "العقيدة الجامدة" التي طالما يتهم الماركسيون بانهم حولوا الماركسية اليها. علينا ان نعود الى مبدأ التحليل الطبقي للمجتمع العراقي لمعرفة موقف كل طبقة او مرتبة من طبقات الشعب العراقي من هذا النضال ومدى استعدادها للمثابرة والتفاني من اجل تحقيق هدف التحرر من الاستعمار الاميركي البريطاني تحررا تاما.
التحليل الطبقي للشعب العراقي
منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي سنة ١٩٥٦ تخلى الشيوعيون والاحزاب الشيوعية عموما عن التحدث عن التحليل الطبقي للمجتمع. وكان من ضمن هذه الاحزاب الحزب الشيوعي العراقي ايضا اذ انه تخلى منذ الكونفرنس الثاني على الاقل عن التحدث عن التركيب الطبقي كاساس لتحديد المواقف السياسية لكل فئة من فئات الشعب العراقي.
من المعروف ان الماركسية قامت على ان الاساس الاقتصادي لكل فئة من الفئات المكونة لكل مجتمع هو الذي يحدد الموقف السياسي العام لتلك الفئة. وعلى هذا الاساس توصل كارل ماركس الى ان الطبقة العاملة رغم انها في اغلب الاحيان كونت اقلية من الشعب هي الطبقة التي يقع على عاتقها قيادة المجتمع الراسمالي في التحول الى الاشتراكية.
ومن المعروف ان الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الرفيق فهد سلك نفس السياسة فحلل التكوين الطبقي للشعب العراقي في مرحلة الحكم شبه الاقطاعي شبه الاستعماري التي كان الشعب العراقي يمر بها وبنى سياسة الحزب واستراتيجيته على هذا الاساس.
الا ان التركيب الطبقي لاي مجتمع ليس ثابتا بل هو متغير بتغير المراحل التاريخية التي يمر بها. لذلك كان على الحزب الشيوعي العراقي ان يحلل الكيان الطبقي للشعب العراقي لدى تغير المرحلة التاريخية التي يعيشها الشعب العراقي. ولكن بما ان الحزب الشيوعي العراقي لم يدرك اهمية ثورة ١٤ تموز كثورة بل عاملها كما لو كانت انقلابا عسكريا فانه لم يتطرق الى التغير في التكوين الطبقي الذي طرأ نتيجة لهذه الثورة.
ان من اهم الصفات التي جعلت انقلاب ١٤ تموز ثورة هي انه اطاح بالسلطة الاقطاعية واحل السلطة البرجوازية محلها. ولذا على من يريد تحليل التكوين الطبقي للشعب العراقي ان يأخذ هذا التغيير بنظر الاعتبار. وعليه فان التحليل الطبقي الذي استند اليه الحزب بقيادة الرفيق فهد لم يعد مناسبا لظروف ما بعد ثورة ١٤ تموز.
بقيت الطبقة العاملة العراقية القوة الثورية الثابتة والحاسمة في المجتمع العراقي. فالطبقة العاملة ليس من مصلحتها تفريق العراقيين الى شيعة وسنة ومسيحيين ويزيديين وصابئة ولا تفريق العراقيين الى عرب واكراد وتركمانيين واثوريين وفيليين بل ان من مصلحتها اعتبار العامل كعامل وبهذه الصفة وحدها يمكن اتخاذه اساسا للصراع الطبقي. ويرجع ذلك هو ان المصالح الاقتصادية للطبقة العاملة بكامل فئاتها هي واحدة "التخلص من الاستغلال الطبقي". وعلى هذا الاساس وحده يمكن اعتبار الطبقة العاملة القوة الثورية الاساسية في المجتمع العراقي. من الضروري طبعا ان نستثني فئة من العمال هي ارستقراطية الطبقة العاملة اذ ان موقفها السياسي ينبع من وضعها الاقتصادي الذي يشبه الى حد كبير وضع مرتبة بتي برجوازية من حيث تذبذبها بين البرجوازية والطبقة العاملة. ولكن المصلحة الاقتصادية لهذه الفئة تبقى مصلحة الطبقة العاملة الاساسية. فالطبقة العاملة اذن تبقى بعد ثورة ١٤ تموز كما كانت قبلها القوة الثورية الاساسية في المجتمع العراقي.
والتغير الاساسي الذي نجمت عنه ثورة ١٤ تموز في هذا الخصوص هو تحول البرجوازية الوطنية الى طبقة حاكمة تتولى السلطة السياسية في المجتمع العراقي. ومهمة الطبقات الحاكمة في المجتمعات الطبقية هي قبل كل شيء ادامة استغلال القوى العاملة. وعلى هذا الاساس لم يعد منذ ١٤ تموز اي معنى لعبارة البرجوازية الوطنية. لقد اصبحت الطبقة البرجوازية العراقية بكامل مراتبها القوة التي تستغل الشعب العراقي والتي تحمي بقايا سائر الطبقات المستغلة الاخرى. فالنضال ضد الاستعمار وبقايا الاقطاع في ظل نظام الحكم البرجوازي لا يتحقق الا بالتصادم مع الطبقة البرجوازية الحاكمة وجيشها وشرطتها ومحاكمها وسجونها وحتى وسائل اعلامها. فالطبقة البرجوازية لم تعد بعد ١٤ تموز جزءا من الشعب العراقي بل اصبحت القوة التي يقع على عاتق الشعب العراقي الاطاحة بها لغرض التخلص من الاستغلال الطبقي.
وطرأ كذلك تغير على حلفاء الطبقة العاملة المحتملين في النضال من اجل رفع المجتمع العراقي الى مرحلة اعلى من مرحلة الحكم البرجوازي. فالحلفاء الثابتين للطبقة العاملة هم فقراء الفلاحين والعمال الزراعيين في الريف. يشكل هؤلاء جزءا لا يتجزأ من الطبقة العاملة وهم حلفاء الطبقة العاملة المدنية الدائميين لان مصالحهم الاقتصادية هي نفس مصالح الطبقة العاملة المدنية.
وبينما كان الفلاحون بكامل مراتبهم حلفاء محتملين للطبقة العاملة في الصراع من اجل الاطاحة بالحكم الاقطاعي لم يعد نفس الشيء ممكنا في مرحلة ما بعد ثورة ١٤ تموز. فمرتبة اغنياء الفلاحين هي جزء لا يتجزأ من البرجوازية وتتحدد مواقفها السياسية بمواقف الطبقة البرجوازية ككل. ولذلك فان شان اغنياء الفلاحين شأن البرجوازية المدنية اصبحت العدو المباشر للثورة.
وتبقى مرتبة متوسطي الفلاحين على تذبذبها بين البرجوازية والطبقة العاملة. فتقدم البرجوازية الاقتصادي يهبط بهذه المرتبة الى مستوى فقراء الفلاحين ولكن طموحاتهم تحلم بالتحول الى برجوازيين ريفيين. ولكن خيبة امل الفلاحين من تحقيق الاصلاح الزراعي تحقيقا جذريا قد يؤثر على موقف متوسطي الفلاحين من الطبقة العاملة. فالطبقة العاملة تسعى في هذه المرحلة الى تحييد الفلاحين المتوسطين بين الطبقة العاملة والبرجوازية ومحاولة جر بعضهم الى جانب الطبقة العاملة في النضال من اجل الاطاحة بالبرجوازية.
ومراتب البتي برجوازية في المدينة هي الاخرى تبقى على تذبذبها بين البرجوازية والطبقة العاملة وتنحاز الفئات الفقيرة منها والطلاب الى الطبقة العاملة في النضال بينما يغلب على موقف العناصر الغنية من هذه المراتب الانحياز الى البرجوازية.
هذا هو التحليل الطبقي للشعب العراقي الذي اصبح صحيحا في اعتقادي منذ يوم ١٤ تموز وما زال صحيحا حتى يومنا هذا. ولكن هذا التحليل هو تحليل عام قد ينبغي اجراء بعض التغييرات عليه وفقا للظروف التي يعيشها العراق اليوم.
ولكن العراق اليوم لم يعد عراق الحكم البرجوازي الذي جاء في ثورة ١٤ تموز واستمر حتى حرب الاحتلال الاميركي البريطاني. فاليوم يعيش العراق حالة استعمار مباشر من القوة الامبريالية العظمي، الولايات المتحدة. ولابد ان يطرأ تغيير مناسب لذلك في التحليل الطبقي للمجتمع العراقي. فما هو هذا التغييير الذي طرأ على التركيب الطبقي للمجتمع العراقي. ليس بمستطاعي هنا ان احدد هذا التغيير بصورة دقيقة. فلا يكفي ان يكون المرء ماركسيا. عليه ان يكون ماركسيا في حومة النضال، في الميدان، لكي يستطيع تحليل التركيب الطبقي تحليلا دقيقا.
ولكن هناك ثوابت معينة يمكن اعتبارها استارتيجية ان صح التعبير لانها ثوابت تبقى بدون تغيير طوال المرحلة التاريخية التي يمر بها العراق حاليا.
اول هذه الثوابت هي ان الطبقة العالملة واحلافها الطبيعيين هم القوة الاساسية القادرة على مواصلة النضال حتى النهاية الظافرة.
وثاني هذه الثوابت هي ان البرجوازية اصبحت طبقة حاكمة لا يستطيع الشعب العراقي التحرر الا بالاطاحة بها. وليس من شأن استعمار العراق والاحتلال الاميركي ان يغير من هذه الظاهرة. فان بقاء البرجوازية العراقية في الوجود واستمرار نموها وستغلالها للكادحين العراقيين اصبح بعد الاحتلال مرتبطا بالراسمالية الامبريالية اكثر مما سبق. وطبيعة الراسمالية العراقية هي من طبيعة الراسمالية الامبريالية لانهما يمثلان نظاما استغلاليا واحدا. واذا انحاز برجوازي الى حركة التحرر من الاستعمار القائم اليوم فانه لا ينحاز بصفته البرجوزية بل بصفته مواطن يشعر بظلم الاستعمار ويناضل ضده رغم ان هذا يعني النضال ضد مصلحته البرجوازية.
اما فيما يتعلق بالمراتب المتوسطة في المدينة والريف فان الاستعمار قد يؤدي الى اتجاهين متعاكسين. فمن ناحية قد يؤثر الاستعمار في دفع المزيد من العناصر البتي برجوازية في المدينة والريف الى الانحياز الى حركة التحرر من الاستعمار من جهة. وقد تؤدي قدرة الجيوش المحتلة على توجيه جزء من ثروات العراق التي تستولي عليها لرشوة بعض عناصر المراتب المتوسطة وجذبها الى خدمتها.
ان ظروف العراق الحالية تختلف عن ظروفها قبل ثورة ١٤ تموز. فبينما كانت قوى الثورة قبل ١٤ تموز تشمل البرجوازية الوطنية ولذلك كانت طبيعة النضال ضد الاستعمار والاقطاع الثورة البرجوازية، اصبح النضال ضد الاستعمار حاليا بعد ثورة تموز وحكم البرجوازية اكثر من اربعة عقود مرتبطا بمرحلة الثورة الثانية، مرحلة الثورة الاشتراكية.
فالتغيرات التي يمكن ان تطرأ على التحليل الطبقي للشعب العراقي هي المتغيرات التي نشأت خلال هذه العقود كوجود فلسطينيين او مصريين او غيرهم مثلا وضرورة تحديد موقعهم من النضال الثوري ضد الاستعمار. على الماركسي الموجود في الميدان ان يتفحص كل المتغيرات التي يمكن ان تكون قد طرأت على التكوين الطبقي للشعب العراقي خلال العقود الماضية. ولكن شيئا واحدا يجب التمسك به اذ بدونه لا يستطيع حزب ماركسي ان يحقق المهمة الملقاة على عاتقه. ان الخط السياسي الاستراتيجي والتكتيكي لاي حزب جدي يجب ان يبنى على اساس التحليل الطبقي الدقيق للمجتمع العراقي وتحديد الموقف السياسي لكل طبقة او مرتبة الذي تحدده المصالح الاقتصادية لهذه الطبقة او المرتبة. وكان من اهم مظاهر تخلي الاحزاب الشيوعية عن الماركسية والنضال الثوري الحقيقي تخليها عن التحليل الطبقي للمجتمع وتحديد سياساتها على اساس هذا التحليل.
ملاحظة هامة
المألوف في قواعد الكتابة تهميش الملاحظات اما في اسفل كل صفحة او في نهاية المقال او البحث. ولكني قررت مع ذلك ان ادرج الملاحظة التالية في صلب الموضوع لاهميتها ولطولها غير الاعتيادي.
يلاحظ القارئ الكريم انني استعملت كل الوقت كلمة المرتبة او المراتب ولم استعمل كلمة الشريحة او الشرائح ولو مرة واحدة. واذا تتبع المرء الادب الشيوعي تتبعا تاريخيا يجد ان الشيوعيين لم يستعملوا في كتاباتهم سوى كلمة المراتب حتى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. ويلاحظ ايضا ان الشيوعيين بعد هذا المؤتمر تخلوا عن استعمال كلمة مراتب ولم يستعملوا سوى كلمة شرائح. فهل كان هذا شيئا عرضيا او انه كان استعاضة عن كلمة بمرادف لها وان المرتبة والشريحة هما تعبيران عن مفهوم واحد؟ ان استعمال كلمة المراتب في الادب الشيوعي كان سائدا لان الشيوعيين قبل المؤتمر العشرين كانوا يعتبرون الاساس الاقتصادي لاية فئة في المجتمع هو المقياس لموقف تلك الفئة السياسي. وحين كانوا يعتبرون ان طبقة الفلاحين مثلا لم تعد طبقة منسجمة بل تحللت في عهد تطور الراسمالية الى ثلاث مراتب هي اغنياء الفلاحين ومتوسطو الفلاحين وفقراء الفلاحين والعمال الريفيين كانوا يحددون مواقف هذه المراتب من الثورة حسب الاساس الاقتصادي لكل مرتبة من هذه المراتب.
وادى الانحراف عن الماركسية منذ المؤتمر العشرين الى تخلي الشيوعيين عن اعتبار الاساس الاقتصادي مرشدا للمواقف السياسية للفئات الاجتماعية فتركوا كلمة المرتبة التي كان لها اساس اقتصادي واستبدلوها بكلمة شريحة التي ليس لها اساس اقتصادي. فالشريحة التي يصنع منها السندويج يمكن ان تؤخذ من الكتف او الفخذ او الزند او الصدر او البطن. وبذلك نجحوا في اخفاء التحليل الاقتصادي لفئات المجتمع كاساس لموقفها السياسي. وعلى هذا الاساس نشأت تحالفات او جبهات مع عناصر سميت شرائح لا يمكن تقبلها او التفكير فيها بموجب التحليل الماركسي. مثال ذلك الدخول في جبهة مع حكومة صدام حسين الفاشية.
المقاومة
نسمع كل يوم من مختلف وسائل الاعلام وخصوصا من قنوات التلفزة العربية عن اخبار هجومات ضد قوات الاحتلال الاميركية البريطانية. ولكن اكثر هذه الاخبار تركز على هجومات تبدو تخريبية او ارهابية، مثل الهجوم على مقر الامم المتحدة والصليب الاحمر والسفارة الاردنية والجيش الايطالي ورجال المخابرات الاسبان ونسف انابيب النفط وانابيب المياه وحتى تلويث او تسميم مياه الشرب. وتوجه الاتهامات نحو انصار صدام حسين او فدائيي صدام او القاعدة او المتسللين من الدول المجاورة وخصوصا سورية وايران. وحتى بريمر اعلن ان الهجومات موجهة ضد المدنيين اكثر من توجيهها ضد الجيوش الاميركية. فما هي حقيقة المقاومة؟
لا شك ان بعض الهجمات الجارية في العراق هي هجمات غير مجدية او قد تكون مضرة من الناحية السياسية لانها ليست موجهة فعلا ضد قوات الاحتلال. ولكننا نعلم من تاريخ الامبراطوريات الراسمالية الامبريالية انها تتبع سياسة فرق تسد وانها تدبر من المجازر المحلية بحجة الدين او العنصر ما يؤدي الى صرف النظر عن الاستعمار وعن استعباده لشعوب المستعمرات. وليس من المستبعد ان الامبرياليين الاميركيين ومؤسساتهم الجاسوسية هي التي تدبر مثل هذه الهجومات التي لا يستفيد منها سوى المستعمرون انفسهم. ولكن هل كل المقاومة التي تجري في العراق من هذا النوع؟
لا شك ان الشعب العراقي، الذي عرف عن نضالاته البطولية ضد الاستعمار، لا يمكن ان يرضخ للاستعمار الجديد الذي حققته الولايات المتحدة في حربها المدمرة على العراق. ولا شك ان الشعب العراقي يدرك ان هذا الاستعمار الذي جاء تحت شعار تحرير العراق من الدكتاتورية الفاشية، دكتاتورية صدام حسين، لم يفعل ذلك لوجه الله ولحبه للحرية والبشرية، بل جاء لاحتلال العراق واستعماره واستعباد شعبه ونهب ثرواته. ولا شك ان الشعب العراقي يدرك ان الاستعمار اذا دخل بلدا فلا يدخله لكي يخرج منه بل لكي يبقيه تحت نيره وتحت احتلاله الى الابد. فهل يستكين الشعب العراقي لهذا الاستعمار والاستعباد؟ لا اظن ان انسانا غير متحيز ويمتلك كامل قواه العقلية يمكن ان يفكر مثل هذا التفكير. فالشعب العراق لا بد ان ينتفض على هذا الاستعمار ولابد ان يبذل الغالي والرخيص في سبيل التحرر منه واستعادة حريته واقامة دولته المستقلة. هذا ديدن كل شعب مستعمر والشعب العراقي مثل سائر الشعوب لا يمكن ان يرضخ لاستعمار واستعباد الجيوش الامبريالية.
ولكن ليس كل هجوم مقاومة وليست كل مقاومة هجوما.
لا شك ان بين الهجومات التي نسمع عنها هجومات مدبرة من عناصر معادية لمقاومة الاستعمار يقوم بها اناس مغرضون او ماجورون ليضفوا على المقاومة صفات الاعمال الارهابية المعادية للشعب والمؤدية الى تدمير المشاريع الحيوية وقتل المدنيين. وليس من الغريب وجود مثل هذه الهجومات اذ انها من مصلحة المستعمرين واعوانهم وتقوم بها او بتدبيرها وتمويلها مؤسسات التجسس التابعة للمستعمرين انفسهم. فهذه الهجومات ليست مقاومة ضد المستعمرين وانما هي من وسائل تثبيت الاستعمار وتقويته.
ونسمع عن هجومات ذات طابع ديني او عنصري او قومي. ومن هذا النوع من الهجومات ما هو مغرض ويتوخى منافع فئوية او شخصية كالصراع بين فئات دينية على مصالح بعيدة كل البعد عن معارضة الاستعمار وقد يكون بعضها مواليا للاستعمار ومحركا من قبله.
وهناك ما نسمعه عن ميليشيات متعددة ومتعارضة يجري تشكيلها بحجة المحافظة على الامن وهي قد لا تتعدى المحافظة على الاستعمار احيانا او المحافظة على مصالح فئة دينية او عنصرية او قومية معينة.
ولكن هذا كله لا يخفي حقيقة المعارضة الحقيقية التي يشعر بها عامة الناس تجاه المستعمرين وتجاه وجود جيوش الاحتلال في البلاد. ولا شك ان الجيوش المحتلة تشعر بهذا وتحاول ان تتحاشاه بما تقوم به من تشكيل شرطة عراقية وجيش عراقي تكون مهمته الاساسية حماية الحيوش الامبريالية المتواجدة في العراق ومحاولة تحقيق الامن في المدن عند انسحاب القوات المحتلة الى التمركز في قواعد عسكرية وحكم البلاد ونهب ثرواتها من وراء هذا الدرع المسمى جيشا عراقيا او شرطة عراقية.
ولكن المقاومة الحقيقية للاستعمار لا يمكن ان تتوقف الا بزوال الاستعمار. ولذلك توجد عمليات هجومية معارضة فعلا للاستعمار وهذه العمليات هي التي تزعج المستعمرين وعملاءهم وتجعلهم يصفون هذه الحركات بالارهاب والتخريب وغير ذلك من الاتهامات. وليس غريبا ان يعزو المستعمرون وعملاؤهم هذه الاعمال لعناصر اجنبية قادمة عن طريق سورية او ايران او غيرها من الدول المجاورة حسب ما يحلو للمستعمرين في كل حين وحسب المصدر الذي يريدون الضغط عليه او اخضاعه او احتلاله. وليس غريبا ان يصف المستعمرون كل عمل يجري ضدهم بانه من عمل القاعدة وربيبهم اسامة بن لادن. فهذا ديدن المستعمرين دائما على مر التأريخ.
هناك حركة تدعو الى انشاء نظام حكم اسلامي شبيه بنظام الحكم في ايران. ولكن التاريخ لا يعيد نفسه. كانت حركة الخميني ضد حكم الشاه حركة ثورية حقيقية تقودها العناصر الاسلامية الدينية المتطرفة. ولكنها مع ذلك كانت ثورة حقيقية حققت اهداف الثورة البرجوازية في ايران رغم طابع الحكم الرجعي الذي اعاد المجتمع الايراني الى ما قبل العصور الوسطى بحجة التمسك بالدين الاسلامي وتطبيقه. وليس ما يجري باسم الدين الاسلامي او سائر الاديان السماوية وغير السماوية بعد فترة الانبياء سوى تفسير القائمين على الدين وليس ما جاء به الدين في زمن انبيائه. فان القائمين على تطبيق الديانات هم وكلاء الله او الانبياء ولكنهم يفسرون الدين وفق مصالحهم الانية الاقتصادية والساسية. لذا فان تفسير الدين يختلف باختلاف القائمين على تطبيقه وفي اغلب الاحيان يؤدي الى التعارض والخصام والحروب حتى بين ابناء الدين الواحد.
ومحاولة انشاء نظام حكم اسلامي في العراق شبيه بنظام الحكم في ايران ليس سوى واحد من هذه التفسيرات التي تعبر عن مصالح القائمين على تطبيق الدين الاسلامي. ولكن انشاء مثل هذا الحكم لا يماثل ما جرى في ايران. فبينما كان للثورة الايرانية طابعها التقدمي رغم رجعية النظام الحاكم فان الحركة العراقية في هذا الاتجاه خالية من كل طابع تقدمي او ثوري. ولذلك فان انشاء مثل هذا النظام في العراق ليس له سوى صفته الرجعية التي تريد ارجاع العراق الى ما قبل العصور الوسطى من سجن المراة في ملابسها طيلة ايام حياتها وفرض اطلاق اللحايا وغير ذلك مما لا يلائم الحياة في القرن الحادي والعشرين من التقدم والتطور.
ولكن يبدو لي ان الصفة الظاهرة للمقاومة الحقيقية ما زالت متفرقة ضمن منظمات وفئات معينة وليست حركة مقاومة عامة منظمة تنظيما دقيقا. وهذا ما يضعف المقاومة ويضفي عليها صفات الحركات العفوية التي غالبا ما يكون مصيرها التضحيات الجمة بدون الحصول على الفوائد المرجوة منها. اعتقد ان ظروف المقاومة في العراق المحتل يجب ان تتجه نحو تشكيل تنظيم واحد شامل لكافة العناصر الشعبية المخلصة في نضالها والمثابرة في مقاومة المحتلين بشتى الوسائل المتوفرة.
كما ليست كل مقاومة هجوما. ان مقاومة المحتلين يجب ان تتخذ شتى صور النضال المتوفرة. كالمناشير والمظاهرات والاعتصامات والاضراب العام وغير ذلك. هذه الحركات ايضا مقاومة شأنها في ذلك شأن الهجومات المسلحة على الجيوش المحتلة وعلى عملائها. ومن الوسائل الهامة للمقاومة تشكيل المنظمات الاقتصادية والمهنية كنقابات العمال والجمعيات الفلاحية والنقابات المهنية كنقابات المحامين والمهندسين والاطباء وغيرها والمنظمات الاجتماعية كاتحاد الطلاب ومنظمات الشبية والنساء وغيرها هي الاخرى مقاومة ضد الاحتلال واستعباده.
ولكن كل هذه المنظمات واشكال النضال لا تقدم الفائدة المطلوبة منها ما لم تكن لها قيادة موحدة حكيمة تدرس ظروف العراق يوميا وتوجه النضالات المتعددة الاشكال بما فيها النضالات المسلحة ضد جيوش الاحتلال توجيها موحدا مدروسا بعناية يتفق مع امكانيات هذه المنظمات وقواها الموحدة.
من القائد القادر على كل ذلك؟
اول صفات قائد من هذا النوع هي ان يكون هذا القائد من صميم الشعب العامل. ان هذه الصفة في منتهى الضرورة اذ لا يستطيع قائد ذو مصالح خاصة تختلف عن مصالح الشعب ان يقود الشعب في الاتجاه الصحيح. وحين اتكلم عن القائد فاني لا اقصد شخصا بل اقصد منظمة قادرة على قيادة الشعب في نضاله ضد الاحتلال ومن اجل استقلال العراق وتحريره من عبودية الامبريالية الاميركية البريطانية. فالمنظمة الوحيدة التي بامكانها فعلا ان تقود نضالا كهذا يجب ان تكون منظمة ناشئة من صلب الجماهير العاملة تضم خيرة عناصرها التي تثبت جدارتها عن طريق مثابرتها وتفانيها في خدمة الشعب العامل.
ومنظمة كهذه يجب ان تكون لها اهداف استراتيجية وتكتيكية واضحة يفهمها ابناء الشعب العامل. فمنظمة ليست لها اهداف استراتيجية وتكتيكية واضحة لا يمكنها ان تقود نضالا جبارا ضد امبريالية مدججة بالسلاح ولها خبرة واسعة في تدمير الحركات المعادية لها باحدث الاسلحة ومنها اسلحة الاعلام والاستخبارات والمؤامرات. فمثل هذه المنظمة يجب ان تدرس اوضاع العراق بدقة وان تستند الى التحليل الطبقي كأساس لهذه الدراسة اذ فقط عن طريق التحليل الطبقي يمكن الوصول الى الاهداف الحقيقية للحركة الثورية الشعبية في كل مرحلة من مراحلها.
ولكي تستطيع مثل هذه المنظمة دراسة ظروف الحركة الشعبية في العراق على اساس التحليل الطبقي عليها ان تستند الى النظرية التي توجهها في هذا المجال، وهذه النظرية ليست سوى النظرية الماركسية. فالماركسية هي النظرية الوحيدة التي تحدد اهدافها على اساس التحليل الطبقي للمجتمع وعلى اساس المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لكل طبقة من طبقات المجتمع. على مثل هذه المنظمة ان تكون منظمة ماركسية حقيقية وليس بالاسم فقط.
ولكي تكون هذه المنظمة منظمة ماركسية عليها ان تضمن بقاءها رغم كل القوى الامبريالية والرجعية المحلية التي تعمل على تدميرها. واول وسائل هذا الضمان هو ان تكون هذه المنظمة في منتهى السرية. ان ظروف الحريات التنظيمية والسياسية القائمة حاليا في العراق هي ظروف وهمية. فحق التنظيم وحرية الصحافة التي نشاهدها حاليا في العراق ليست سوى خدعة امبريالية معروفة. فهذه الحريات متوفرة فقط اذا لم تشكل خطرا على المصالح الامبريالية للقوات المحتلة وحالما يبدو من وجودها اي خطر فسرعان ما تقوم السلطات الامبريالية او السلطات العراقية في الظاهر وخادمة الامبريالية في الواقع بتدميرها باقسى الوسائل . ان السرية التامة لمنظمة كهذه ضرورة قصوى. وحين نتحدث عن السرية نعني سرية التنظيم والحرص على نقاوة المنظمة من المخربين والجواسيس والعناصر المدسوسة عمدا من اجل مراقبة نشاطها. وليس الامبرياليون وعملاؤهم وحدهم هم الذين يشكلون خطرا على سلامة هذه المنظمة. فان الحركات السياسية التي تبدو مستقلة وتدعي النضال في سبيل تحرر العراق من الاستعباد الامبريالي ولها مصالحها الخاصة هي ايضا تعمل على تخريب مثل هذه المنظمة. على هذه المنظمة ان لا تقبل في صفوفها من الاعضاء الا بعد اختبارهم في النضال والتأكد من سلامة المنظمة من وجودهم في صفوفها.
وحين نتحدث عن سرية هذه المنظمة لا نعني السرية في عملها. فحياة هذه المنظمة متوقفة على نضالها. ان نضال هذه المنظمة واهدافها الاستراتيجية والتكتيكية يجب ان تكون واضحة ومعروفة بين الجماهير العاملة. فمنتهى السرية في التنظيم ومنتهى العلنية في النشاط شرطان اساسيان لا يتعارض احدهما مع الاخر. يكون نشاط هذه المنظمة عن طريق نشاط اعضائها بين الجماهير لا بصفتهم اعضاء في المنظمة بل بصفتهم جزء من الجماهير لا يميزهم عنها سوى تفانيهم وحماسهم في النضال. فعضو المنظمة العامل في نقابة عمال مهنيه مثلا يبرز في المنظمة عن طريق نشاطه ومثابرته على النضال من اجل تحقيق مطالب العمال حيث يكتسب ثقة وتقدير سائر اعضاء نقابته عن هذا الطريق وعن هذا الطريق وحده. ان مثل هذه المنظمة تثبت انها طليعة الشعب العامل وتخقق قيادة هذه الجماهير عن طريق اعتراف الشعب العامل بها نتيجة لبروز اعضائها المتميز في النضال. ان التأريخ يعلمنا ان فرض السيطرة والقيادة من اعلى كانه حق تمتلكه هذه المنظمة لا يؤدي الا الى تدمير المنظمة.
منظمة كهذه وحدها قادرة على ان تقود الجماهير العاملة ليس على اساس ديني او طائفي او قومي بل على اساس واحد هو كون المرء جزء من هذه الجماهير المناضلة في سبيل تحررها من عبودية الاستعمار الامبريالي. منظمة كهذه بامكانها ان تصبح منظمة جماهيرية حقيقية تحوز على قوة هذه الجماهير وتقودها. ومثل هذه المنظمة تستطيع ان تحدد سياسة التحالفات مع منظمات اخرى مناضلة وتحققها في حومة النضال الجماهيري.
على مثل هذه المنظمة ان تدرك ادراكا كاملا بان ثورة ١٤ تموز قد انهت الى الابد مرحلة الثورة البرجوازية وبدأت مرحلة الثورة الاشتراكية وان تحقيق التحرر من الاستعمار مرتبط في هذه المرحلة بالثورة الاشتراكية وليس بالثورة البرجوازية كما كان الحال قبل ثورة ١٤ تموز. ان ادراك هذا التغير الذي طرأ نتيجة لثورة ١٤ تموز بالغ الاهمية لانه البوصلة التي ترشد هذه المنظمة الى اهدافها الحقيقية والى اساليب نضالها والى التحالفات السياسية والنضالية المناسبة لهذه المرحلة. ان الطبقة البرجوازية العراقية كلها لم تعد ضمن القوى الشعبية واصبحت ضمن القوى التي تعمل الثورة على الاطاحة بها كجزء لا يتجزأ من النضال في سبيل التحرر من الاستعباد الامبريالي.
منظمة كهذه هي القوة الوحيدة التي تستطيع توحيد المقاومة بجميع اشكالها ضد القوى الامبريالية المحتلة للعراق.

حسقيل قوجمان
١٠/ ١٢/٢٠٠٣



#حسقيل_قوجمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحوار المتمدن
- مستلزمات انشاء الحزب البروليتاري الجديد
- من يزرع الريح يحصد العاصفة - حول انهيار المانيا الشرقية واتح ...
- أنهاية حرب باردة ام بداية حرب حارة؟
- دفاع عن الماركسية في محنتها
- التعايش السلمي من ستالين الى خروشوف
- أزمة الخليج
- زواري الاعزاء
- ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الاول
- ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الثاني
- معركة تفكيك الرؤوس الذرية
- الحرب العالمية الثالثة خصائصها المميزة
- خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ...
- خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ...
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الاول
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الثاني
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الثالث
- كتاب - خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - ...
- كتاب- خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - ...


المزيد.....




- أمير الكويت يأمر بحل مجلس الأمة ووقف العمل بمواد دستورية لمد ...
- فرنسا.. الطلبة يرفضون القمع والمحاكمة
- البيت الأبيض: توقعنا هجوم القوات الروسية على خاركوف
- البيت الأبيض: نقص إمدادات الأسلحة تسبب في فقدان الجيش الأوكر ...
- تظاهرات بالأردن دعما للفلسطينيين
- تقرير إدارة بايدن يؤكد أن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة لا ...
- بالنار والرصاص الحي: قرية دوما في الضفة الغربية.. مسرح اشت ...
- أمير الكويت يحل البرلمان ويعلق العمل جزئيا بالدستور حتى أربع ...
- مجلس الأمن يؤكد على ضرورة وصول المحققين إلى المقابر الجماعية ...
- بالفيديو.. إغلاق مجلس الأمة الكويتي بعد قرار حله ووقف العمل ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حسقيل قوجمان - عراق اليوم بنظر ماركسي يتتبع الاحداث من بعيد