أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسقيل قوجمان - أنهاية حرب باردة ام بداية حرب حارة؟















المزيد.....



أنهاية حرب باردة ام بداية حرب حارة؟


حسقيل قوجمان

الحوار المتمدن-العدد: 649 - 2003 / 11 / 11 - 03:28
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


وأخيرا حلت المعجزة. فبعد ان تحول الاتحاد السوفييتي من دولة برجوازية مبرقعة بعبارات اشتراكية مزيفة الى عدة دول راسمالية صريحة من غير قناع تتصارع فيما بينها وتسود في عدد منها حروب قومية وعنصرية تحصى ضحاياها بالالاف وعشرات الالاف أعلن قادة الامبريالية على لسان رئيس الولايات المتحدة الاميركية انتهاء الحرب الباردة.
وتنفس العالم الصعداء واستبشرت البشرية بحلول عهد جديد من الرخاء والسعادة والسلام. فقد زال كابوس هذه الحرب الباردة اللعينة التي مازالت جاثمة على كواهل الشعوب اكثر من اربعين عاما كان خلالها خطر الهجوم الشيوعي المفاجئ المزعوم يفرض على الدول الامبريالية واجبات صعبة. فلم تعد ثمة حاجة الى الاحاطة بالدول الاشتراكية من جميع الجوانب بواسطة الاساطيل الذرية والقواعد العسكرية والصواريخ الموجهة والطائرات المحملة بالقنابل الذرية تحلق بالجو اربعا وعشرين ساعة في اليوم. ولم تعد ثمة حاجة الى سباق التسلح الذي كلف شعوب العالم مئات البلايين وسبب لها افظع التضحيات. ولم تعد ثمة حاجة الى احتلال اوروبا بحجة حمايتها من اي هجوم شيوعي مفاجئ. وخلاصة القول لقد حل الزمان الذي توجه فيه موازنات التسلح الضخمة لخدمة البشرية وانقاذها من الجوع والفقر والمرض والجهل. وقد آن الاوان لاتخاذ سياسات جديدة تتناسب وعالم ما بعد الحرب الباردة في عالم تكون فيه جميع الدول كبيرها وصغيرها بما فيها الدول الراسمالية الجديدة الناشئة عن انهيار الاتحاد السوفييتي ودول اوروبا الشرقية مسالمة ومتآخية بعد زوال كابوس الشيوعية وتحول العالم كله الى عالم راسمالي ديمقراطي محب للسلام. وليس في ذلك مثار للعجب. ألم تصبح جميع هذه الدول، كما ارادت الدول الراسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، دولا ذات نظام واحد محررة من الاشتراكية والشيوعية؟
استبشر بنهاية الحرب الباردة جميع الناس بمختلف اتجاهاتهم ودياناتهم وطبقاتهم بما في ذلك اولئك الذين ما زالوا حتى بعد انتهاء الحرب الباردة يطلقون على احزابهم اسم الشيوعية والاشتراكية ويدعون تمثيل الطبقة العاملة والحرص على مصالحها.
ولكن سرعان ما اصابت هؤلاء المستبشرين بانتهاء الحرب الباردة خيبة امل مروعة. فقد شاهدوا ان انتهاء الحرب الباردة قد تمخض عن زيادة سباق التسلح وتوسيع الاحلاف العسكرية وزيادة ميزانيات التسلح. بل شاهدوا نشوب عدة حروب حارة مثل حرب الخليج وشاهدوا احتلال بلدان جديدة مثل بلدان الخليج والصومال وغيرها. وشاهدوا تفاقم البطالة واشتداد الازمات وزيادة الاجرام وانتشار المجاعات والامراض في البلدان المتأخرة. وأخذوا يتساءلون، ترى هل انتهت الحرب الباردة حقا؟ وهل يعني هذا حلول حياة جديدة يسودها السلام والامان وتسود فيها الطمأنينة في قلوب الناس؟
لكي نستطيع ان نفهم مغزى انتهاء الحرب الباردة علينا ان نفهم اولا معنى الحرب الباردة وان نراجع طريقها الذي سلكته طوال هذه العقود من تاريخها.
ما هي الحرب الباردة؟
من الناحية اللغوية تعني الحرب الباردة حربا لا تستخدم فيها الاسلحة لتقتيل جنود وشعوب الطرفين المتنازعين لغرض تسوية الخلافات بينهما بل تجري فيها محاولات لتسوية تلك الخلافات من دون استخدام الاسلحة. ويشاهد العالم كل يوم مثل هذه الحروب الباردة ليس بين الاعداء وحدهم بل بين "الاصدقاء" ايضا. وبامكان المرء ان يعدد عشرات مثل هذه الحروب الباردة بين دول المجموعة الاوروبية التي تتفاوض من اجل الوحدة بينها وبين الولايات المتحدة "الصديقة الحميمة". نذكر منها على سبيل المثال حرب الخمور التي سادت بين فرنسا وايطاليا وحرب اللحوم وحرب صيد الاسماك وحرب الحبوب وغيرها. هذه كلها حروب باردة حقيقية ليس في التطبيق العملي وحسب بل حتى بالتسمية لدى وسائل اعلام هذه البلدان ذاتها. فقد اطلق اسم الحروب عليها صراحة في الصحف والاذاعات. وليست بعيدة عنا الحرب التجارية التي نشأت بين اميركا ودول المجموعة الاوروبية حين هددت الولايات المتحدة بفرض ضريبة وقائية على صادرات هذه الدول الى الولايات المتحدة. وبعد مفاوضات تخللتها التهديدات من الجانبين توصل "الاصدقاء" بعد الرفض الى الخنوع لشروط اميركا لحل النزاع وانهاء الحرب الباردة بالشكل الذي يلائم المصالح الاميركية. ونشاهد مثل هذا النزاع بين الولايات المتحدة واليابان بصدد كمية التجارة المتبادلة بينهما ومحاولة اميركا تقليص صادرات اليابان التي غزت اسواق الولايات المتحدة وزيادة صادرات الولايات المتحدة الى اليابان عن طريق المفاوضات وليس عن طريق قواعد العرض والطلب التجارية. وحرب المقاولات التي تطلب فيها الولايات المتحدة بحرية الدخول في مناقصات العقود في اوروبا وتهدد باتخاذ اجراءات تجاه صديقاتها ومحمياتها الاوروبية ان لم تخضع هده الدول لمطالبها ورد هذه  الدول بالتهديد باتخاذ اجراءات مقابلة للاجراءات الاميركية والحرب التي بدأها الرئيس كلينتن مؤخرا حول الاعانات التي تقدمها الدول الاوروبية لصناعة الطائرات في بلدانها بحجة ان ذلك يؤدي الى خسائر لدى صناعة الطائرات في بلاده التي لا تنال الاعانات من الحكومة. ومن الطريف ان الادارة الاميركية اثارت مؤخرا حربا باردة جديدة تتهم فيها الولايات المتحدة فرنسا بالتجسس للحصول على اسرارها العسكرية بعد التعاون الذي ساد بين مؤسسات التجسس الاميركية والاوروبية والاسرائيلية في بث شباكها في الاتحاد السوفييتي. ولا نعلم اية حروب باردة ستنشأ في المستقبل وكيف سيجري التوصل الى حلها وتسويتها من دون اللجوء الى القوة. ان كل هذه الحروب كما نرى حروب تنطبق عليها الترجمة الحرفية للحرب الباردة المذكورة اعلاه.
كل الحروب المذكورة هي حروب باردة حقيقية. ولكن حديث الصحافة ووسائل الاعلام لا يقصد هذه الحروب لدى التحدث عن الحرب الباردة وعن انتهاء الحرب الباردة. ان الحرب الباردة في عرف وسائل الاعلام هي حرب باردة واحدة، الحرب بين الراسمالية والاشتراكية. هذا هو المعنى الوحيد لعبارة الحرب الباردة ولعبارة انتهاء الحرب الباردة.
علينا اذا اردنا ان نفهم الحرب الباردة وانتهاءها ان نرجع الى اصولها ومسيرتها التأريخية ودور كل من الطرفين المتحاربين فيها.
نشأ الصراع بين الراسمالية الامبريالية وبين الاشتراكية منذ اللحظة التي نجحت فيها ثورة اكتوبر في الاطاحة بالنظام الراسمالي وانشاء اول دولة عمال اشتراكية في التأريخ سميت فيما بعد الاتحاد السوفييتي. وبظهور هذه الدولة بدأت الحرب ضدها بنداء وينستن تشرتشل المعروف حول خنق الدولة الاشتراكية وهي في المهد. وبعد انتهاء مجزرة الامبريالية العالمية الاولى، الحرب العالمية الاولى، وجهت ١٤ دولة امبريالية بقيادة بريطانيا واميركا جيوشها في حرب ساخنة لتحقيق شعار تشرتشل الانف الذكر. ولكن هذه الجيوش والجيوش الموالية لها في داخل الدولة الاشتراكية منيت بالفشل الذريع امام مقاومة العمال البطولية للدفاع عن دولتهم وانتهت هذه الحرب الساخنة سنة ١٩٢١.
منذ ١٩٢١ مارست الدول الامبريالية تساندها احزاب الاممية الثانية الاشتراكية الديمقراطية حربا باردة ضد الدولة الاشتراكية تمثلت بالمقاطعة الاقتصادية التي توخت تحطيم هذه الدولة التي عجزت عن تحطيمها بقوة السلاح، بالتجويع والحرمان والمقاطعة الاقتصادية. وقد رافقت هذه الحرب الاقتصادية حرب دعاية مورست فيها كل انواع الافتراءات الملفقة ضد الاتحاد السوفييتي وحرب تجسس عن طريق تمويل وتشجيع العملاء داخل الاتحاد السوفييتي من اجل تحطيم الحزب والدولة من الداخل. وكان من مظاهر هذه الحرب ان الدول الامبريالية العظمى شجعت هتلر وساندته في اعداد الحرب العالمية الى درجة ان قائدا بريطانيا وفرنسا قدما لهتلر تشيكوسلوفاكيا هدية في اجتماع ميونيخ املا في ان يندفع الى الشرق ويهاجم الاتحاد السوفييتي. وقد كان اهداء تشيكوسلوفاكيا الى هتلر مقدمة لهدية اكبر منها في وقت لاحق حين قدم ديلادييه نفسه باريس هدية الى هتلر بدون ان يطلق طلقة واحدة للدفاع عنها بحجة ان جمال باريس يمكن ان تشوهه القنابل الالمانية. لقد اعتبرت هذه الدول هتلر الاداة الملائمة لتحقيق اهدافها ضد الدولة الاشتراكية. ولكن حساباتها كما هو معروف باءت بالفشل وبدلا من ان يتجه هتلر نحو الاتحاد السوفييتي اتجه ضد اصدقائه فاحتل اوروبا كلها عدا بريطانيا قبل ان يهاجم الاتحاد السوفييتي.
لم تكن هذه الحرب الباردة موجهة ضد الاتحاد السوفييتي وحسب بل كانت تستهدف خدع وتضليل وشطف ادمغة العمال في البلدن الامبريالية ذاتها، العمال الذين كان الاتحاد السوفييتي في نظرهم منارا يهتدون به في نضالاتهم من اجل الاطاحة بالانظمة الامبريالية وتحرير انفسهم من عبوديتها. وكذلك خدع وتضليل شعوب المستعمرات التي رأت في الاتحاد السوفييتي صورة واضحة ومثلا اعلى لمستقبلها في التحرر الوطني وبناء مجتمعاتها الاشتراكية.
جاءت الحرب العالمية الثانية وكان هجوم جحافل النازية على الاتحاد السوفييتي بداية تحرير العالم من العبودية النازية ونشأ حلف بين دول الحلفاء والاتحاد السوفييتي في محاربة النازية الهتلرية رغم ان من المعروف ان هذه الدول دخلت في مفاوضات مع هتلر بقصد التحالف معه للقضاء على الاتحاد السوفييتي.
بداية الحرب الباردة
بدأت الحرب الباردة التي نحن بصددها في الواقع قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية. بدأت لدى القاء القنابل الذرية على هيروشيما وناكازاكي في اليابان. اذ يعلم العالم اجمع ان القاء هذه القنابل الذرية لم تكن له ضرورة عسكرية ولم يقدم اية فائدة عسكرية من أجل انهاء الحرب ضد اليابان. فقد كانت الحرب في نهايتها واصبحت اليابان بعد انهيار المانيا النازية ضعيفة تجاه دول الحلفاء والاتحاد اسوفييتي والمقاومة الصينية. ثم ان القنابل الذرية لم توجه نحو اهداف عسكرية ولم تؤثر على الجيش الياباني ومقدرة اليابان العسكرية بل القيت على مدن امنة فمسحتها مع سكانها من على وجه الكرة الارضية. كان هدف هذه القنابل ارهاب الاتحاد السوفييتي والشعوب ونشر الرعب في قلوب الناس وتحذير الاتحاد السوفييتي من المصير الذي يجابهه ان لم يخضع للتهديد الامبريالي.
ومع ذلك ليس من المألوف اعتبار القاء القنابل الذرية على اليابان بداية الحرب الباردة. من المتفق عليه ان الحرب الباردة بدأت في سنة ١٩٤٦. وكما كان نداء تشرتشل بخنق الدولة الاشتراكية وهي في المهد بداية الحرب الحارة ثم الباردة ضد الاتحاد السوفييتي فور نشوئه كان خطاب تشرتشل في جامعة فلتون في الولايات المتحدة الذي دعا فيه الى شن الحرب على الاتحاد السوفييتي قبل ان ينجح في الحصول على القنابل الذرية البداية الرسمية للحرب الباردة.
ما هي الحرب الباردة اذن؟
ان الحرب الباردة لا تختلف من حيث اهدافها عن الحرب الحارة التي شنها هتلر وقواه النازية على الاتحاد السوفييتي سنة ١٩٤١. فقد كان هدف هتلر القضاء على الاتحاد السوفييتي الاشتراكي واخضاع الشعوب السوفييتية لعبودية الامبريالية العالمية كمرحلة من مراحل سيطرة عنصره الالماني على العالم. وهدف الحرب الباردة ايضا هو القضاء على دول المعسكر الاشتراكي وفي مقدمتها دولة الاتحاد السوفييتي واعادة الراسمالية الى جميع هذه البلدان كمرحلة من مراحل سيطرة الولايات المتحدة على العالم وتوجيهه وفقا لمصالحها الامبريالية الجشعة.
كان ذلك واضحا في جواب ستالين لمراسل جريدة برافدا غداة القاء خطاب تشرتشل في جامعة فولتن وهذا نصه:
سؤال: "هل يمكن اعتبار خطاب السيد تشرتشل مضرا بقضية السلام والامن؟"
جواب: "نعم، بلا شك. في الواقع ان وضع تشرتشل الان هو موقف مثير لحمى الحرب. وليس السيد تشرتشل وحده في هذا الصدد، بل له اصدقاء ليس في انكلترا وحسب بل في الولايات المتحدة الاميركية ايضا.
"مما تجدر ملاحظته ان السيد تشرتشل واصدقاءه يضاهون هتلر واصدقاءه في هذا المضمار مضاهاة واضحة للعيان. فقد انطلق هتلر في شن الحرب من منطلق النظرية العنصرية مدعيا ان المتحدثين باللغة الالمانية يؤلفون امة متفوقة. وينطلق السيد تشرتشل في شن الحرب هو الاخر من النظرية العنصرية بالتأكيد على ان الامم المتكلمة باللغة الانجليزية هي قوميات متفوقة مدعوة الى تقرير مصير العالم كله. ان نظرية العنصر الالماني ادت بهتلر واصدقائه الى الاستنتاج بان الالمان باعتبارهم القومية المتفوقة الوحيدة يجب ان يسيطروا على القوميات الاخرى. ان نظرية العنصر الانجليزي تؤدي بالسيد تشرتشل واصدقائه الى استنتاج ان الامم المتكلمة بالانجليزية باعتبارها الامم المتفوقة الوحيدة يجب ان تسيطر على امم العالم الاخرى". (ستالين، المؤلفات م ١٦ ص ١٠٢ ـــ ١٠٣)
فرضت الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي كما فرضت عليه كافة الحروب السابقة لان الحروب لم يكن بالامكان منعها من جانب واحد. فلا يكفي ان يمارس الاتحاد السوفييتي سياسة سلمية من جانبه لتفادي الحرب. ان السياسة العدوانية التي مارستها ضده كافة الدول الراسمالية سواء في اوقات السلام او في اوقات الحرب كانت مفروضة عليه فرضا. واذ اعلنت الحرب ضد الاتحاد السوفييتي لم يكن له مناص من خوضها. وكما استخدمت الدول الامبريالية كل الوسائل المتوفرة لديها لكسب هذه الحرب كذلك استخدم الاتحاد السوفييتي كل الوسائل المتوفرة لديه لخوض هذه الحرب والانتصار فيها الا ان وسائل الحرب الباردة تختلف اختلافا اساسيا عن وسائل الحرب الحارة. فما هي الوسائل التي استخدمها كل من الطرفين المتحاربين في خوض هذه الحرب؟
وسائل الامبرياليين في شن الحرب الباردة
كان على الدول الامبريالية ان تحشد كل القوى المتوفرة لديها لتوجيهها ضد الاتحاد السوفييتي الذي خرج من الحرب منتصرا على النازية تحيط به دول اطاحت بحكوماتها البرجوازية واقامت حكومات عمالية شرعت تسلك الطريق الذي سلكه الاتحاد السوفييتي مستفيدة من خبرته الواسعة والمساعدات الاممية الاخوية الني يقدمها الاتحاد السوفييتي في جميع المجالات.
كانت الولايات المتحدة قد تحولت خلال الحرب وبعدها الى مصنع يزود الدول الراسمالية الاوروبية التي دمرتها الحرب بالمواد التي تساعدها على اعادة بناء بلدانها وصناعاتها في نطاق مشروع مارشال. وبهذه الطريقة حولت اوروبا الى دول خاضعة لها تتحكم فيها وتقرر سياساتها.
استغلت الولايات المتحدة هذا الوضع فاحتلت هذه الدول وأقامت فيها القواعد العسكرية المجهزة باحدث الاسلحة بحجة حمايتها من خطر الهجوم الشيوعي المزعوم وبذلك حاصرت المعسكر الاشتراكي من ناحية عسكرية وفرضت على هذه الدول قواعد صارمة بخصوص مقاطعة دول اوروبا الشرقية الاقتصادية. وفرضت على هذه الحكومات التي ترضى عنها واشترطت في سبيل تقديم المساعدات لها طرد الشيوعيين الذين اشتركوا في حكومات فرنسا وايطاليا بعد الحرب.
لم يكن بامكان الامبرياليين ان يستخدموا السلاح في حربهم الباردة ضد الاتحاد السوفييتي ولكنهم تحت ستار الحرب الباردة واصلوا تطوير اسلحة الدمار الجماعي وتكديسها بمقاييس لم يسبق لها مثيل. وكانت حجج الامبرياليين في تطوير سباق التسلح الاستعداد لرد اي هجوم شيوعي مفاجئ وانشأوا الاحلاف العسكرية في شتى مناطق العالم واحاطوا المعسكر الاشتراكي بالقواعد العسكرية ونشروا اساطيلهم وغواصاتهم الذرية في كافة البحار والمحيطات وجعلوا طائراتهم الحاملة للقنابل الذرية تحلق في اجواء اوروبا بصورة دائمية. ونصبوا صواريخهم الموجهة ووجهوها نحو مدن الاتحاد السوفييتي لتكون على استعداد للانطلاق في اية لحظة. وجعلت اميركا من حليفاتها الاوروبية قواعد عسكرية لها تتحكم حتى بسياساتها الداخلية والعسكرية.
ولكن تكديس الاسلحة وحده لا يكفي. كان على هذه الدول ان تكسب قواتها المسلحة التي تستخدم الاسلحة عند الحاجة في حالات تحول الحروب الباردة الى حروب حارة. كان عليها ان تشطف ادمغة هذه القوات العسكرية وان تدربها وتثقفها وتربيها على الوحشية والقسوة وان تقنعها بان الشعوب الاخرى تتالف من اوباش بشرية وان تقتيل وابادة هذه الوحوش البشرية لا يشكل جرائم ضد الانسانية. وقد رأينا ذلك واضحا في الحرب الفيتنامية ولكن هذا التثقيف وحده لا يكفي. من الضروري اخضاع الجنود بممارسة اقسى اشكال الضبط العسكري وتوجيه اقسى العقوبات لمن تسول له نفسه ابداء اية مقاومة لمثل هذه السياسات.
اضافة الى ضمان خضوع القوات المسلحة كان على الامبرياليين ان يضمنوا مؤخرتهم، ان يخضعوا شعوبهم. فمارسوا اشد سياسات الضغط والارهاب ضدهم كما شاهدناه في حركة المكارثية في الولايات المتحدة التي جعلت الشعب الاميركي يعيش في ظروف تصبح امامها محاكم التفتيش نعيما وديمقراطية.
واستخدمت الامبريالية وسائل اعلامها الواسعة فسخرتها لشطف ادمغة شعوبها وشعوب العالم اجمع واقناعها بان سياسة التسلح والحروب انما هي للدفاع عن الشعوب من خطر الشيوعية التي تهدد العالم بالدمار والخراب. وساهم الاشتراكيون الديمقراطيون بمختلف اشكالهم في تضليل الطبقة العاملة وتخدير يقظتها تجاه السياسات العدوانية الحربية لحكوماتهم الامبريالية. كذلك لعب الاشتراكيون الديمقراطيون دورا قذرا في اخفاء طبيعة سباق التسلح عن اعين الطبقة العاملة والكادحين. فقد اشتركوا مع الامبرياليين في تبرير سباق التسلح على انه لمجرد الدفاع ودرء خطر الهجوم الشيوعي. كذلك اخفوا عن اعين الشعوب الهدف الاقتصادي البحت من سباق التسلح اي هدف ضمان اقصى الارباح لمنتجي هذه الاسلحة. كذلك اخفوا عن الشعوب ان التسلح هو الوسيلة الرئيسية المتبقية لدى الامبريالية في فترات السلام لتخفيف حدة ازماتها الاقتصادية وازمتها العامة.
سياسة الاتحاد السوفييتي في خوض الحرب الباردة
قامت سياسة الاتحاد السوفييتي في صد الهجوم الامبريالي في الحرب الباردة على اساس التحليل الماركسي لظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد توصل ستالين من تحليل هذه الاوضاع الى ان الحرب العالمية لم تعد حتمية.
كان لينين في تحليله للاوضاع العالمية قد توصل الى ان الحرب العالمية، لغرض اعادة تقسيم العالم الذي تم تقسيمه وفقا للتوازن الاقتصادي المتغير الناجم عن تفاوت التطور في الدول الراسمالية, يجعل الحرب العالمية حتمية وان تجنب الحرب او ايقافها يتطلب تحويل الحرب الامبريالية الى حرب اهلية لاسقاط الحكومات الراسمالية واقامة حكومات عمالية تنهي الحرب وتبني الاشتراكية على انقاضها. هكذا كان شعار الاحزاب الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية قبل الحرب العالمية الاولى وهكذا كان شعار الاحزاب الشيوعية (الاممية الثالثة) بين الحربين العالميتين.
ولكن الوضع تغير بعد الحرب العالمية الثانية. لقد اصبح الاتحاد السوفييتي دولة عظمى استطاعت ان تنقذ العالم من العبودية الامبريالية لهتلر وان تعين دول اوروبا الشرقية على الاطاحة بدولها الراسمالية التي خضعت لهتلر وساهمت في حربه ضد الاتحاد السوفييتي وضد شعوبها بالذات. نال الاتحاد السوفييتي لذلك عن جدارة تقدير شعوب العالم اجمع وبهر العالم بتآخي قومياته ووقوفها صفا واحدا للدفاع عن وطن الاشتراكية وصيانة نظامه الاشتراكي الذي لم يكن حتى ادهى قادة الامبريالية يتوقع صموده امام الهجوم النازي اكثر من ثلاثة اسابيع.
والى جانب الاتحاد السوفييتي نشأ معسكر كامل من الدول التي اطاحت بنظامها الراسمالي وشرعت في بناء مجتمعها الاشتراكي، مستمدة العون والخبرة والمساعدة الاخوية من الاتحاد السوفييتي. وانتشرت في العالم اجمع ثورات وطنية وحروب اهلية تهدف الى التخلص من نير الاستغلال الامبريالي وتحرير البلاد من النفوذ الامبريالي. كل هذه الظروف جعلت ستالين يتوصل الى انه رغم ان الحروب بين الدول الامبريالية ما زالت حتمية وستبقى حتمية ما دامت في العالم دول راسمالية فان الحرب العالمية لم تعد حتمية.
من المعلوم ان الدولة التي تريد شن حرب لاي سبب كان عليها ان تضمن اولا السلاح الذي تستطيع به ان تحارب. والسلاح متوفر دائما لدى الدول الراسمالية، بل ان انتاج السلاح اصبح في ايامنا هذه هدفا بحد ذاته، لان انتاج السلاح في ايامنا اصبح اكثر انواع الانتاج ربحا واقوى اداة في تخفيف ازمة الراسمالية الخانقة التي سادت جميع الدول الراسمالية.
والسلاح اداة ميتة لا تستطيع المقاومة ويستطيع من يملكه ان يستعمله متى شاء وكيفما شاء. وليس للسلاح طابع طبقي اذ تستطيع الراسمالية استخدامه بنفس الصورة التي تستطيع الطبقة العاملة استخدامه ويستطيع الطرفان المتحاربان استعماله بنفس الدرجة.
والدولة التي تريد شن حرب عليها ان تضمن الجانب الثاني الذي هو البشر. عليها ان تقنع جنهودها الذين يحاربون من اجلها بضرورة هذه الحرب وبعدالتها لان القوة وحدها لا يمكنها ان تجعل الجيوش تحارب بحماس في الحرب وتعتبر ان الحرب التي تخوضها هي حربها. كذلك عليها ان تقنع شعوبها التي تشكل مؤخرة جيوشها بضرورة هذه الحرب وعدالتها.
بخلاف السلاح، فان الشعوب كائنات حية قادرة على المقاومة، وليس من السهل دائما اقناعها بخوض الحرب على انها حرب ضرورية وعادلة. وان شن حرب على نطاق عالمي يتطلب اقناع الراي العام العالمي كله بضرورة هذه الحرب وعدالتها.
لذلك كان جواب الاتحاد السوفييتي على اعلان الحرب الباردة يستهدف هذا الراي العام العالمي. وجاء هذا الجواب على لسان ستالين الذي اطلق شعاره المعروف "ان السلم سيصان ويتعزز اذا ما اخذت الشعوب قضية السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية".
هذا الشعار هو اساس سياسة التعايش السلمي الستالينية. فهي تعتمد على توعية الشعوب ورصها في النضال من اجل السلام وفضح مؤامرات الدول الامبريالية ضد السلام ونشاطاتها الرامية الى اعداد حرب عالمية جديدة.
نشأت على هذا الاساس حركة السلم العالمية التي تسير وراء شعار واحد هو صيانة السلام ومنع وقوع حرب عالمية ثالثة. وكانت حركة السلام حركة ديمقراطية واسعة وشاملة ينتمي اليها كل من يعادي الحرب ويريد السلام. والشعوب بطبيعتها تحب السلام ولا تريد الحرب ولذلك اندفعت جماهير الشعوب نحو هذه الحركة واخذت لجان السلام تنشأ في كل بلدان العالم. وعقدت المؤتمرات والمهرجانات الداعية للسلام. رفعت هذه الحركة شعار تحريم القنابل الذرية وجمعت التواقيع لهذا الشعار فبلغ عدد التواقيع التي جمعتها لتأييد هذا الشعار ٦٠٠ مليون توقيع قدمتها الحركة الى هيئة الامم المتحدة.
لم يكن يطلب من المنتمين الى حركة السلام ان يتبنوا مبدأ معينا او ان ينتموا الى حزب معين او الى طبقة معينة بل كان يحق لكل انسان مهما كانت عقائده السياسية او الدينية ومهما كان انتماؤه الطبقي ومركزه الاجتماعي ان ينتمي الى هذه الحركة طالما كان يؤيد السلام ويعادي الحرب. بل لم يكن يطلب من طالب الانتماء لهذه الحركة حتى ان يقرر من هو الجانب الذي يدعو الى الحرب او يعد لها. وقد ادى هذا الى انتماء الكثير من الراسماليين الذين يكرهون الحرب لاي سبب كان.
"ان هدف حركة السلام الحالية هو اثارة جماهير الشعوب للنضال من اجل صيانة السلام ومنع وقوع حرب عالمية اخرى. ولذلك فان هدف هذه الحركة ليس الاطاحة بالراسمالية واقامة الاشتراكية، انها تقتصر على الهدف الديمقراطي لصيانة السلام. وفي هذا الاعتبار تختلف حركة السلام الحالية عن الحركة ابان الحرب العالمية الاولى لتحويل الحرب الامبريالية الى حرب اهلية، نظرا الى ان الحركة الاخيرة كانت ترمي الى هدف ابعد وتتبع اهدافا اشتراكية". (ستالين، مؤلفات م١٦ ص ٣٣١)
كانت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفييتي من اشد المؤيدين والداعين لحركة السلام بينما لم تؤيدها اية دولة راسمالية. بل ان الدول الراسمالية وصفت هذه الحركة بحركة شيوعية وأخذت تضطهد المنتمين اليها على انهم شيوعيون ومخربون والى اخر ذلك من التهم التي كانت توجه الى الشيوعيين وتلقي بهم في السجون والمعتقلات لهذا السبب.
ما هي سياسة التعايش السلمي الستالينية؟
ان سياسة التعايش السلمي بعد الحرب العالمية الثانية التي طورها ستالين تعتمد على نظريته القائلة بان الحرب العالمية لم تعد حتمية. ومعنى هذا ان بالامكان تحاشي وقوع حرب عالمية ثالثة. الا ان هذا التحاشي هو امكانية فقط، والامكانية تعني عكسها ايضا. فكما توجد امكانية تحاشي وقوع حرب عالمية ثالثة توجد ايضا امكانية وقوع حرب عالمية ثالثة. وبما ان الشعوب هي احد الشرطين الاساسيين لشن الحرب فان تحشيد هذه الشعوب ضد الحرب يحد من امكانية وقوع حرب عالمية ثالثة. هذا هو المغزى الحقيقي لمقولة ستالين المذكورة" ان السلم سيصان ويتعزز ادا ما اخذت الشعوب قضية السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية."
ان هدف حركة السلام الاستراتيجي كان تحويل الامكانية الى واقع اي التوصل الى وضع تعجز فيه الدول الامبريالية عن شن حرب عالمية ثالثة. ولكن هذا الشعار الاستراتيجي كان يتطلب نضالا طويلا مستمرا وفضحا دائما للدول العدائية الداعية للحرب والمعدة لها وربما اسقاط بعضها. وقد تجري تحت مظلة هذه الحركة مفاوضات للحد من تسابق التسلح ولاجراء بعض الاتفاقات على نزع السلاح.
لم تعتمد سياسة التعايش السلمي الستالينية على ان الحروب جميعا يمكن القضاء عليها في ظل حركة السلام العالمية بل اكدت هذه السياسة على ان الحروب بين الدول الراسمالية ما زالت حتمية وستبقى حتمية طالما بقيت في العالم دول راسمالية.
ولم تعتمد سياسة التعايش السلمي الستالينية على امكانية نزع السلاح العام مع وجود الراسمالية وتحقيق عالم بدون سلاح مع بقاء دول راسمالية بل استندت الى مقولة لينين الشهيرة بان البرجوازية لا يمكن ان تنزع سلاحها حتى تنزع البروليتاريا عنها السلاح واذذاك فقط تستطيع البروليتاريا ان تلقي السلاح في سلة المهملات.
ان جل ما كانت تهدف اليه سياسة التعايش السلمي الستالينية هو ان تتوصل الشعوب في حركتها المعادية لحرب عالمية الى وضع يصبح فيه من المتعذر على الراسمالية ان تشن حربا عالمية.
ولم تعتمد سياسة التعايش السلمي الستالينية على اساس ان الشعار الاستراتيحي العام للاحزاب الشيوعية والحركات الوطنية هو كشعار السلام والتعايش السلمي، بل ان الاحزاب الشيوعية بقيت محتفظة بشعارها الاستراتيجي الاساسي في البلدان الراسمالية وهو شعار الاطاحة بالنظام الراسمالي واقامة نظام اشتراكي على انقاضه. وفي بلدان المستعمرات والبلدان التابعة التي لم تنجح بعد في تحقيق شعار الثورة البرجوازية الديمقراطية بقي شعار المرحلة الاولى من ثورتها شعار الثورة البرجوازية الذي يتحول مباشرة الى شعار المرحلة الثانية فور تحقيق المرحلة الاولى اما تحت قيادة البروليتاريا او تحت قيادة البرجوازية وفقا لتوازن القوى في كل بلد من هذه البلدان.
هل هناك تناقض بين حركة السلام وبين الثورات الاشتراكية او الثورات الوطنية؟
ان حركة السلام هي حركة تهدف الى احباط مساعي الدول التي تعد لاشعال نار حرب عالمية جديدة. والحرب هي من الصفات الملازمة للراسمالية. ولذلك فان الاطاحة باية دولة راسمالية او اية دولة شبه اقطاعية موالية للامبريالية يؤدي بالضرورة الى تقوية وتعزيز حركة السلام واضعاف الامبريالية والراسمالية. ولهذا لا يمكن ان تتناقض حركة السلام والثورات الاشتراكية او الوطنية.
تنتهي حركة السلام، كما تنتهي كل حركة اخرى، بتحقيق هدفها الاستراتيجي، اي النوصل الى وضع يتعذر فيه على الدول الراسمالية اعداد حرب عالمية ثالثة. هذا هو المغزى الحقيقي للتعايش السلمي الستاليني بين النظامين الاشتراكي والراسمالي.
ولكن حتمية الحروب بين الدول الراسمالية لا تعني ان حركة السلام والتعايش السلمي لا تؤثر تأثيرا ايجابيا على عدد وسعة الحروب بين الدول الراسمالية. فان النضال الدائم ضد الحرب ومن اجل السلام يؤثر حتما على عدد الحروب وسعتها بين الدول الراسمالية ذاتها اذ ان حركة السلام تستطيع احيانا اسقاط الحكومات الحربية واقامة حكومات سلمية ولو بصورة مؤقتة.
من كل ذلك يبدو واضحا ان نهاية الحرب الباردة يعني بالنسبة لحركة السلام الستاليني بلوغ الهدف الاستراتيجي لحركة السلام اي تحقيق التعايش السلمي بين النظامين الراسمالي والاشتراكي وعجز الامبريالية عن شن حرب عالمية جديدة. وليس لنهاية الحرب الباردة اي معنى اخر بالنسبة للشعوب. فبلوغ هذا الهدف هو الضامن الوحيد لانقاذ العالم من اهوال حرب عالمية ثالثة وتضييق نطاق الحروب بين الدول الراسمالية.
تحول الاتحاد السوفييتي عن السياسة الستالينية في خوض الحرب الباردة
لدى وفاة ستالين (او قتله، والله اعلم) استولت عناصر انتهازية من بقايا الخونة الذين لم تفلح دكتاتورية البروليتاريا في القضاء عليهم لتسترهم وتقمصهم شخصيات اخلص المخلصين لدكتاتورية البروليتاريا والاشتراكية وقيادة ستالين، على قيادة الحزب الشيوعي والسلطة السوفييتية. جاءت هذه الطغمة واخذت على عاتقها مهمة تحطيم الاشتراكية واعادة نظام الاستغلال الراسمالي الى الاتحاد السوفييتي. وليس من اهداف هذا البحث مناقشة التطورات الاقتصادية والسياسية التي ادت الى المصير الذي آل اليه الاتحاد السوفييتي. ان هذا البحث يحاول توضيح الجانب المتعلق بالتعايش السلمي وخوض الحرب الباردة في سياسة طغمة خروشوف ـــ بريجنيف ـــ غورباشوف التي باعت الشعوب السوفييتية لقمة سائغة للامبريالية العالمية.
في ١٩٢٨ طالب عدد من اعضاء الحزب الشيوعي البولشفي تقديم بعض التنازلات للراسمالية لتخفيف الحصار الاقتصادي فرد عليهم ستالين قائلا:
"اما نستمر في اتباع سياسة ثورية، تؤلب البروليتاريا والشعوب المضطهدة في جميع البلدان حول الطبقة العاملة في الاتحاد السوفييتي، وفي هذه الحالة يبذل الراسمال العالمي كل ما يستطيع من جهد من اجل اعاقة تقدمنا؛
"او ننبذ سياستنا الثورية ونوافق على تقديم عدد من التنازلات الاساسية للراسمال العالمي، وفي هذه الحالة لا شك ان الراسمال العالمي لا يتقاعس عن مساعدتنا في تحويل بلدنا الاشتراكي الى جمهورية برجوازية "جيدة" ". (ستالين ، مؤلفات م١١ ص ٥٨ – ٥٩)
وقد اختارت زمرة خروشوف الطريق الثاني.
أعلن خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، بين ما اعلنه، عن سياسة التعايش السلمي وكأنها سياسة جديدة لم يمارسها حزبه من قبل. وقد كانت سياسته في التعايش السلمي سياسة جديدة حقا لا تمت لسياسة التعايش السلمي الستالينية بصلة.
بينما استندت سياسة التعايش السلمي الستالينية على امكانية منع اندلاع حرب عالمية ثالثة اذا اخذت الشعوب قضية السلام بايديها ودافعت عنها حتى النهاية، انطلقت سياسة التعايش السلمي الخروشوفية من اعتبار التعايش السلمي حقيقة قائمة وكانت قائمة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فقد اعتبر خروشوف عدم اندلاع حرب حارة في اوروبا خلال ما بعد الحرب العالمية الثانية تعايشا سلميا وانتصارا لسياسة السلم السوفييتية. ان خروشوف لم يعتبر الحروب التي نشأت في اسيا وافريقيا واميركا الجنوبية اخلالا بالتعايش السلمي رغم ان الدول الامبريالية الكبرى كانت هي التي اشعلتها وكانت طرفا في جميعها. فالسلم بالنسبة لخروشوف هو السلام في اوروبا وحدها. وليس في اعتداء الولايات المتحدة على كوريا الشمالية واشتراك الصين في الحرب الكورية خرق للتعايش السلمي رغم ان هذه الحرب شتتها الولايات المتحدة تحت لواء الامم المتحدة ضد دولتين اشتراكيتين.
وبينما اعتبرت سياسة التعايش السلمي الستالينية ان تحقيق شعار سياسة السلام الاستراتيجي، اي التوصل الى وضع تعجز فيه الدول الامبريالية عن شن حرب عالمية، يتطلب نضالا دائما وفضحا مستمرا للسياسات الامبريالية العدوانية امام الشعوب، اعتبرت سياسة التعاش السلمي الخروشوفية ان من الممكن التوصل عن طريق المفاوضات الى منع وقوع الحروب لان قادة الامبريالية انفسهم ادركوا اهوال الحروب ونتائجها المدمرة للشعوب واقتنعوا بان الحروب لم تعد ضرورية فانحازوا هم ايضا الى جانب السلام ومنع وقوع الحرب، واعتبر خروشوف ان قادة الامبريالية العالمية مثل ايزنهاور وبعده كندي كانوا انصارا للسلام مثله.
وبينما اعتبرت سياسة التعايش السلمي الستالينية ان الشعوب هي وحدها  القادرة على ايقاف الامبرياليين عند حدهم واحباط سياساتهم المؤدية الى الحرب ولذلك فان من واجب القادة الواعين وفي مقدمتهم الشيوعيين ان يعملوا على تحشيد الجماهير وتوعيتها ورص صفوفها في النضال ضد هذه السياسات العدوانية، اعتبرت سياسة خروشوف ان المفاوضات بين الدولتين العظميين هي وحدها القادرة على درء خطر الحروب فخدرت الشعوب وضللتها وتحولت حركة السلام الشعبية الى ملحق لهذه المفاوضات. وقد زعم خروشوف ان الدول الامبريالية وافقت مبدئيا على نزع سلاحها ولم يبق الا صياغة المعاهدة المناسبة لتحقيق نزع السلاح التام في العالم.
وبينما اكدت سياسة التعايش السلمي الستالينية على ان الحروب بين الدول الراسمالية ما زالت حتمية وستبقى حتمية ما دامت توجدفي العالم دول راسمالية رغم ان الحرب العالمية لم تعد حتمية، اعتبرت سياسة خروشوف واخلافه ان بالامكان تحقيق عالم بلا سلاح ولا حروب رغم وجود الدول الامبريالية الراسمالية.
وبينما ميزت سياسة التعايش السلمي الستالينية بين شعار حركة السلام الاستراتيجي وشعار الاحزاب الشيوعية الاستراتيجي، اعتبرت سياسة خروشوف شعار السلام والتعايش السلمي شعارا استراتيجيا للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي واضطرت الاحزاب الشيوعية الاخرى الى السير على منوالها واعتبار شعار السلام شعارا استراتيجيا لاحزابها.
وبينما اعتبرت سياسة التعايش السلمي الستالينية ان الثورات الاشتراكية في البلدان الراسمالية والثورات البرجوازية الديمقراطية في البلدان شبه الاقطاعية قوة معززة لحركة السلام العالمي، اعتبرت سياسة خروشوف ان الثورات من شأنها ان تؤدي الى الحروب. فقد استخدم خروشوف مقولة لينين"من الشرارة يندلع اللهيب" استخداما معكوسا لتحقيق اهدافه. نعلم ان لينين استخدم هذه العبارة بشكلها الثوري الذي يعتبر ان حركات الشعوب الثورية يمكن ان تتطور الى ثورات تطيح بالانظمة الامبريالية الراسمالية والاقطاعية لبناء عالم اشتراكي لا وجود فيه لاستغلال الانسان للانسان، استخدم خروشوف نفس العبارة لايقاف حركات الشعوب الثورية على اساس ان اية ثورة في اية زاوية قصية من زوايا العالم مهما كانت بعيدة وصغيرة قد تتطور الى حرب عالمية. وفي هذا تثبيط لنضالات الشعوب الثورية واحهاض لها.
والخلاصة هي ان خروشوف ورهطه القوا غشاوة على اعين البشرية التي كانت تصغي لصوت الاتحاد السوفييتي اعتمادا على امجاده السابقة في تنوير الشعوب واطلاعها على حقيقة ما يجري في العالم وتحفيز ثوريتها في النضال من اجل السلام والنضال من اجل تحقيق ثوراتها في ان معا.
بل ان خروشوف تمادى في غيه واعلن ان النظام الاشتراكي نفسه يمكن ان يتحقق بطريق السلام وعن طريق النضال البرلماني دونما حاجة الى الثورات والعنف. اذ بامكان الشعوب ان تختار النظام الذي تريده عن هذا الطريق بحرية.
في الواقع نفذ خروشوف وطغمته البرنامج الذي وضعه اسلافهم من تروتسكي وبخارين وزينوفييف وبياتاكوف وراديك وغيرهم واعترفوا به ابان محاكماتهم الشهيرة في سنوات ١٩٣٦ – ١٩٣٨ وهو برنامج اعادة الراسمالية الى الاتحاد لسوفييتي. وكانت سياسة التعايش السلمي الخروشوفية منسجمة مع هذا البرنامج كل الانسجام.
سلك قادة الاتحاد السوفييتي في اعقاب خروشوف نفس سياسته واخذوا يعيدون الراسمالية الى الاتحاد السوفييتي تدريجيا بصورة منتظمة متسترين وراء شعارات ثورية كاذبة ومتشدقين باللينينية المجردة من الستالينية والماركسية الخلاقة والبريسترويكا والغلاسنوست والديمقراطية واقتصاد السوق وغير ذلك مما لم تكن له اية علاقة بالاشتراكية او الماركسية.
استمرت هذه السياسة حتى ادت الى الانهيار العام للاتحاد السوفييتي انهيارا تاما وتحوله الى دويلات راسمالية متطاحنة فيما بينها ترزح تحت اعباء القروض الامبريالية العالمية الاستعبادية وتستجدي المساعدات والاعانات بحجة انقاذ شعوبها من الجوع والبطالة والحرمان والازمات التي كانوا هم السبب في خلقها وجعل شعوبهم عبيدا لها.
انتهاء الحرب الباردة
انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي الحرب الباردة التي دامت اكثر من اربعين عاما بصورة رسمية كما اعلن ذلك رئيس الولايات المتحدة. وهنا ايضا تجدر ملاحظة ان انتهاء الحرب الباردة لم يكن في الواقع من الناحية التاريخية عند انهيار الاتحاد السوفييتي كما اعلن عنه. في الواقع انتهت الحرب الباردة في يوم وفاة ستالين وتحول الاتحاد السوفييتي عن سياسة السلام التي كانت من مستلزمات السياسة الاشتراكية. فقد رفع القادة الجدد الذين خانوا الاشتراكية وباعوا شعوبهم للامبريالية العالمية اعلام الاستسلام البيضاء منذ اول يوم استولوا فيه على قيادة الحزب والدولة. ولكن الامبريالية لم تقتنع بهذا الاستسلام وواصلت الضغط على عملائها حتى بلوغ النهاية القصوى والانهيار التام.
انتهت الحرب الباردة كما تنتهي كل حرب بانتصار احد الطرفين المتحاربين واندحار الطرف الاخر. كانت السياسة الستالينية تستهدف انتصار الاشتراكية والشعوب المحبة للسلام على معسكر الحرب والامبريالية. وكانت السياسة الامبريالية تهدف الى انتصار النظام الامبريالي على الاشتراكية والشعوب المحبة للسلام. وبفضل خيانة قادة الاتحاد السوفييتي كان الانتصار التام للامبريالية والاندحار للاشتراكية والشعوب المحبة للسلام.
الوضع العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة
انتهت الحرب الباردة بانتصار ساحق احرزته الامبريالية على الاشتراكية وحركة السلام الشعبية في ارجاء العالم. وواضح ان انتهاء الحرب الباردة خلق ظروفا عالمية جديدة. فقد اصبحت الولايات المتحدة، على لسان قادتها، القائد الوحيد للعالم، توجهه حسب مشيئتها، فليس في العالم من يستطيع مخالفتها وان من تسول له نفسه معارضتها او الوقوف في وجهها فهي قادرة على تدميره.
خلقت الامبريالية الاميركية، على حد زعم قادتها، نظاما عالميا جديدا. فما هي ميزات هذا النظام العالمي الجديد؟ انه نظام تسود فيه دولة امبريالية واحدة تصول وتجول في العالم كله. فاذا ظهرت في اية بقعة من بقاع العالم حركة لا ترضى عنها او تشم منها رائحة خطر على سلطتها وسيطرتها فمصير هذه الحركة هو جهنم وبئس المصير.
وفي هذا النظام العالمي الجديد اصبحت الامم المتحدة واحدة من دوائر الادارة الاميركية توجه لها الاوامر فتنصاع لاوامرها مثلما تنصاع كل دوائرها الحكومية وليست للامم المتحدة اية امكانية لمعارضتها او الوقوف في وجه مشاريعها ورغباتها وخططها العسكرية والاقتصادية.
وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد اصبح مجلس الامن اداة في يد الولايات المتحدة تسيره وتوجه له الاوامر فيتخذ القرارات التي تطلبها منه طائعا خانعا. فحينما وجدت الولايات المتحدة حاجة لضرب اية حكومة في اي بلد كان وجهت اوامرها الى مجلس الامن وهذا بدوره  يصدر قراراته بارسال الجيوش لتحقيق اغراض ادارة الولايات المتحدة المنصاعة بدورها لاوامر الشركات الامبريالية التي لا هدف لها سوى الحصول على اقصى الارباح بامتصاص دم الشعوب واستلاب ثرواتها.
وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد اتخذت الامم المتحدة اسما جديدا، اسم المجتمع الدولي، وكأن الامم المتحدة ممثلة حقا لشعوب الدول المنتمية الى الامم المتحدة ولمصالحها الحقيقية. واخذت كافة اعمال الاجرام الامبريالي واخضاع الدول المنتمية منها او غير المنتمية الى الامم المتحدة تجري باسم المجتمع الدولي. واصبحت كل معارضة تجري لقرارات الامم المتحدة توصف بانها خرق وتحد لقرارات المجتمع الدولي. ولغرض معاقبة كل من تخول له نفسه مخالفة او تحدي قرارات المجتمع الدولي ترسل الاساطيل الاميركية بقنابلها الذرية وصواريخها الموجهة وطائراتها المتطورة لالقاء الرعب في قلوب هذه الشعوب واستخدام اسلحتها المدمرة لابادة وقتل الناس بالجملة بلا رادع او وازع من ضمير.
وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد تجري الدعاية لحروب الولايات المتحدة واحتلالها لبلدان العالم. فحالما تتوجه انظار الولايات المتحدة الى  بلد معين يجري تحفيز وسائل الاعلام الامبريالية لتوجيه الراي العام العالمي ضد المجاعة وضد خطر الموت جوعا الذي يهدد الملايين من ابناء هذا الشعب. ويجري استغلال المنظمات الخيرية والناس الاخيار من جميع العالم لشن حملات دعاية للمساعدات الانسانية التي تقدمها لجياع الحبشة على سبيل المثال. كل ذلك يسبق الاتجاهات العسكرية والاستعمارية. فاذا تم للامبريالية الاميركية ما ارادت في هذه البلاد فسرعان ما تنسى وسائل الاعلام التحدث عن ملايين الجياع في الحبشة وكأن خطر المجاعة قد زال ولم يعد يهدد حياة الملايين من ابناء الحبشة.
وتبدأ وسائل الاعلام حملة جديدة موجهة الراي العام الى البلد التالي الذي تريد الولايات المتحدة اخضاعه او احتلاله. فتبدأ طبول الدعاية تعزف انغام المجاعة في الصومال مثلا كمقدمة لاتخاذ قرارات مجلس الامن باحتلال الصومال بقوات الامم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة وتوصف المجازر الدموية والابادة الجماعية التي تجري في الصومال بالمساعدات الانسانية وايصال المساعدات الى جياع الصومال.
واذا ارادت الولايات المتحدة احتلال بلدان الخليج فما عليها الا ان تدفع صدام حسين الى احتلال الكويت واذذاك تدخل الولايات المتحدة تحت علم الامم المتحدة وباوامر مجلس الامن لاحتلال بلدان الخليج كلها احتلالا عسكريا استعماريا بحجة تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وتشن حرب ابادة وتدمير ضد الشعب العراقي للقضاء على المدنيين وجنود الاحتلال العراقي الذين كان جلهم من جنود الاحتياط وتدمير الكيان الاقتصادي العراقي بينما تقوم القوات الاميركية بحماية خيرة فرق الجيش العراقي لكي يتسنى لصدام به تحطيم انتفاضات الشعب العراقي في مختلف ارجاء البلاد والبقاء في الحكم خادما امينا للامبريالية الاميركية التي وجهت جميع حركاته وحروبه.
وقد انضم الى فلك المبجلين والمتشدقين والعازفين على طبول المجتمع الدولي والذين يطلبون من هذا المجتمع الدولي التدخل من اجل حل المشاكل العالمية حتى من يسمون انفسهم احزاب معارضة تدعي تمثيل شعوبها وقيادتها نحو الديمقراطية واسقاط الكحم التكتاتوري الغاشم في العراق مثلا. واخذت احزاب الجبهه الوطنية في كردستان العراق تستجدي حماية الولايات المتحدة عدوها الالد من عدوها اللدود صدام حسين وتطالبها باسقاطه. ولم تشذ عن ذلك حتى الاحزاب التي تدعي تمثيل الطبقة العاملة وتدعو هي الاخرى الى الديمقراطية ووحدة احزاب المعارضة على اختلاف طبقاتها ونزعاتها وتحالفاتها او عمالاتها مع الدول الامبريالية الى توحيد نفسها في جبهة عريضة ضد صدام. ويبدو ان الاوضاع في غير العراق لا تختلف كثيرا عما يجري في العراق ولدى احزاب المعارضة الموجودة بالدرجة الرئيسية خارج العراق بعيدة عن جماهير الشعب العراقي وعن مساندته التي بدونها لا يمكن تسميتها احزابا بالمعنى العلمي للكلمة. فها هي الحكومة الروسية والحكومة الاكرانية تطلبان من الولايات المتحدة تسوية الخلافات المتعلقة باساطيل البحر الاسود واكوام القنابل الذرية والصواريخ الموجودة في اوكرانيا. ويبدو ان اذربايجان تود ان يتدخل المجتمع الدولي، اي الولايات المتحدة، في حل مشكلتها وحربها مع ارمينيا وها هي وفود الدول العربية وفي مقدمتها وفد الفلسطينيين يبنون مفاوضاتهم مع اسرائيل على اساس المواقف الايجابية للولايات المتحدة، وهي السبب الاول في معاناتهم الاحتلال والتشرد والمسير الحقيقي للسياسة الاسرائيلية منذ قيامها حتى اليوم.
يبدو من ذلك ان الامور استتبت بعد انتهاء الحرب الباردة للولايات المتحدة واصبحت الحاكم بامره في العالم كله لا يستطيع احد الوقوف في وجهها. ولكن ذلك ليس الا "عرس الواوي" كما يقول المثل الشعبي العراقي. ليسمح لي القارئ ان ارجع قليلا الى ستالين. كتب ستالين سنة ١٩٥٢ يقول:
"في المظهر الخارجي، يبدو ان كل شيء يجري على مايرام في الولايات المتحدة. فقد وضعت الولايات المتحدة اوروبا الغربية واليابان وغيرها من الدول الراسمالية تحت التموين؛ وقد وقعت المانيا (الغربية) وبريطانيا وفرنسا وايطاليا واليابان في قبضة الولايات المتحدة وهي تنصاع بخنوع لاوامرها. لكن من الخطأ الاعتقاد بان الامور تستمر على ما يرام الى الابد، وان هذه الاقطار تتحمل سطوة واضطهاد الولايات المتحدة الى ما لا نهاية، وانها لن تسعى الى التحرر من العبودية الامبريالية لتسلك طريق التطور المستقل.
"لنأخذ قبل كل شيء بريطانيا وفرنسا. لا شك انهما دولتان امبرياليتان ولا شك ان المواد الخام الرخيصة والاسواق المضمونة ذات اهمية قصوى بالنسبة لهما. فهل يمكن الافتراض بانهما تتحملان الى ما لا نهاية الوضع الحالي الذي يتدخل الاميركيون فيه تحت ستار مشروع مارشال للمساعدة في اقتصاديات بريطانيا وفرنسا ويحاولون تحويلهما الى ملحق للاقتصاد الاميرمكي، ويستولي الراسمال الاميركي على مصادر المواد الاولية والاسواق في المستعمرات البريطانية والفرنسية وبذلك ينذر الارباح الطائلة للراسماليين البريطانيين والفرنسيين بالكارثة؟ الا يكون من الاصح القول ان بريطانيا الراسمالية ومن بعدها فرنسا الراسمالية ستضطران اخر الامر الى ان تتحررا من قبضة الولايات المتحدة وتدخلا في صدام معها من اجل ضمان وضع مستقل وبالطبع ارباح طائلة؟
"ولننتقل الان الى البلدين المقهورين الرئيسيين ، المانيا (الغربية) واليابان. ان هذين البلدين يرزحان حاليا تحت وطء اقدام الامبريالية الاميركية. فصناعتهما وزراعتهما وتجارتهما وسياستهما الخارجية والداخلية وكل حياتهما مقيدة الان باكبال نظام الاحتلال الاميركي. ومع ذلك كانا بالامس فقط نزعزعان السطوة البريطانية والاميركية والفرنسية من الاساس في اوروبا واسيا. والاعتقاد بان هذين البلدين لن يحاولا الوقوف على اقدامهما مجددا ولن يحاولا تحطيم النظام الاميركي وشق طريقهما نحو التطور المستقل هو بمثابة الايمان بالمعجزات". (ستالين ، مؤلفات م ١٦ ص ٣٢٨ – ٣٢٩)
لا شك  ان انهيار الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية والصين والفيتنام وكل الدول التي كانت محسوبة على الاشتراكية والشيوعية كان عاملا معوقا في هذه المسيرة. فقد انفتح امام العالم الامبريالي عالم كان مغلقا امامه. عالم خرج من معمعة الحرب الباردة فقيرا جائعا تثقل كواهله القروض الاجنبية يستجدي المعونات من كل متقدم بها. وما المعونات الا اعادة اقتسام هذا العالم الجريح واسواقه ومصادر ثرواته وايديه العاملة الرخيصة واخضاعها جميعا الى استعمار افظع في بشاعته وشراهته من الاستعمار في اية فترة من فترات تاريخه الاسود. تهافت "الاصدقاء" وتنافسوا في انتهاز هذه الفرصة والتسابق  في ابتلاع اجزاء الفريسة كل يبغي منها النصيب الاكبر ولكن هذه المنافسة وهذا التهافت ما زال في نطاق التنافس السلمي، نطاق حرب باردة غير مسلحة ولو ان التهديدات والمناوشات ومحاولات سد الطريق امام الاخرين في هذا المجال ظاهرة للعيان مهما حاول "الاصدقاء" اخفاءها.
ولا شك ان احتلال هذا العالم الجديد وتصدير رؤوس الاموال اليه كان عملا مخففا للازمة الخانقة التي ترزح تحتها كافة الدول الراسمالية. وصحيح ان تجارة الاسلحة والدمار وتأجيج الحروب الموضعية الصغيرة والكبيرة وتدخل الجيوش الامبريالية تحت لواء الامم المتحدة كلها كانت عوامل مخففة للازمة الاقتصادية الخانقة. ولكن الازمة ما زالت على اشدها وحاجة الدول الامبريالية الى وسائل الخروج منها لم تبد في الافق بعد. يتمسك قادة هذه الدول وفلاسفتهم ومنظريهم لغرض خدع شعوبهم بالقشة، فيرون ان معدل زيادة البطالة قد انخفض قليلا في شهر ما، او ان ارتفاع التضخم النقدي كان اقل في ارتفاعه في الشهر السابق عن الشهر الذي سبقه ، لكي يخدعوا العالم ويقنعوه بان الانفراج هو في منعطف الطريق وان الخروج من الازمة بات وشيكا رغم ازدياد البطالة وافلاس الاف الشركات الراسمالية الصغيرة لمصلحة الشركات الكبيرة. ولكن اوضاعهم سرعان ما تظهر على حقيقتها ويعترف القادة بان تفاؤلهم كان في غير محله وان الازمة ما زالت قائمة.
ولابد لاقتسام الفريسة الجديدة التي سقطت في الحرب الباردة ان ينتهي ان عاجلا او آجلا رغم ضخامتها. ولا شك ان الولايات المتحدة ستنال منها حصة الاسد. وبذلك يزداد التفاوت بين ما تسيطر عليه الولايات المتحدة ومناطق نفوذ "صديقاتها" من الدول الكبرى. ولكننا نرى ان المانيا اصبحت الان دولة عظمى ثانية واصبحت اليابان دولة عظمى ثالثة وتتخذ فرنسا احيانا مواقف معارضة واضحة للولايات المتحدة. ان قانون تفاوت التطور الراسمالي ما زال فاعلا وان ما كان يكفي لدولة ما في اوضاع سابقة لم يعد كافيا في الوقت الحاضر وسيزداد التفاوت في المستقبل ايضا. فالمانيا الدولة العظمى لم تعد تكتفي بمناطق النفوذ التي كانت لديها حين كانت مدمرة بعد الحرب العالمية الثانية. وقد سكتت انذاك حتى عن سلب مناطق نفوذها واستيلاء الولايات المتحدة عليها مقابل المساعدات التي اعانتها على اعادة بناء اقتصادها الراسمالي المدمر، بل سكتت حتى عن استيلاء الراسمال الاميركي على المشاريع الصناعية الالمانية. ولكن ذلك العهد قد ولى. واليوم تريد المانيا ان تكون لها مناطق النفوذ التي تتناسب مع وضعها الاقتصادي الجديد. وليس في العالم مصدر لانتاج مناطق النفوذ بل عليها ان تأخذها من "صديقتها الحميمة" الولايات المتحدة طوعا او قسرا. والشيء ذاته يقال عن اليابان وبصورة اقل بروزا عن فرنسا. وليس من المستبعد ان تستعيد روسيا بناء اقتصادها الراسمالي والدخول في المنافسة. فهل تتنازل كل هذه الدول للولايات المتحدة عن مناطق نفوذها وعن مصادر المواد الخام والايدي العاملة الرخيصة واسواق السلاح الهائلة عن طيبة خاطر؟ لا شك ان للتنازلات السلمية حدود وان القوة لابد ان تصبح يوما وسيلة الحصول على مناطق النفوذ ومصادر المواد الخام واسواق الاسلحة والايدي العاملة الرخيصة. ان الحرب العالمية اصبحت في يومنا هذا حتمية حتمية الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية.
هل تتشابه ظروف ما قبل الحرب العالمية حاليا مع ظروف ما قبل الحربين الماضيتين؟ ان التشابه قليل بين الظروف الحالية وظروف ما قبل الحرب العالمية الثانية. فقد كان سدس العالم انذاك دولة اشتراكية، الاتحاد السوفييتي، وهي تمارس سياسة سلام ولا مصلحة لها في الحرب او مناطق النفوذ او الاعتداء على اية دولة اخرى. وقد كان هذا العامل عاملا هاما في انهاء الحرب العالمية الثانية لدى اندلاعها وانقاذ البشرية من رجس الامبريالية النازية الهتلرية. كما كانت في كل البلدان الراسمالية وفي عدد من البلدان المستعمرة والتابعة احزاب شيوعية ماركسية مناضلة ترفع شعار اسقاط حكوماتها الراسمالية بطريق الثورة واقامة دكتاتورية البروليتاريا او دكتاتورية العمال والفلاحين الثورية حسب المرحلة السياسية السائدة في كل منها.
وقد يكون ثمة شيء من التشابه بين اوضاع ما قبل الحرب العالمية الاولى واوضاع ما قبل الحرب العالمية القادمة. فقد كان العالم انذاك مقسما الى مناطق نفوذ ومستعمرات تقسيما كاملا. وكانت بريطانيا حائزة على اغلبية مناطق النفوذ في العالم تليها في ذلك فرنسا. وكانت المانيا المتطورة صناعيا تريد اعادة اقتسام هذه المناطق وفقا لتوازن القوى الجديد. والوضع حاليا يشبه تلك الاوضاع شبها كبيرا. فالولايات المتحدة تحوز اليوم على اغلبية مناطق النفوذ في العالم بل ان عددا من دول اوروبا الصناعية هو بمثابة مناطق نفوذ للولايات المتحدة عن طريق استيلاء الراسمال الاميركي على مشاريع هذه البلدان الراسمالية الكبرى الحليفة. والمانيا واليابان حاليا تشكلان القوى التي تهفو الى اعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم وفقا لتوازن القوى الجديد. ولا نعلم ما ستحمله التطورات في المستقبل من مفاجآت واية دول يمكن ان تنضم الى فريق الدول الرامية الى اعادة تقسيم العالم.
ولكن التشابه يتوقف عند هذا الحد. فالحرب اليوم تختلف عن الحرب العالمية الاولى، حرب الخنادق والبنادق والرشاشات والمدافع. الحرب اليوم هي حرب الصواريخ والقنابل الذرية والهيدروجينية والالكترونية وحرب الفضاء. ففي ترسانة الدول الراسمالية اليوم ما يكفي لابادة البشرية مئات المرات وفي خلال ساعات او دقائق. فكيف ستكون الحرب في مثل هذه الظروف؟
بل ان ظروف ما قبل الحرب العالمية الاولى كانت الى حد ما افضل من ظروف ما قبل الحرب العالمية الثالثة. فقد كان في تلك الظروف حزب يقوده لينين وستالين يعادي الحرب ويدعو الى تحويل الحرب الى حرب اهلية في كل بلد راسمالي واسقاط الحكومات الراسمالية واقامة حكم العمال والفلاحين، ودولة دكتاتورية البروليتاريا. وقد افلح هذا الحزب في قيادة العمال والفلاحين الروس لاسقاط حكم القيصر في ثورة برجوازية ثم اسقاط البرجوازية واقامة حكم العمال والفلاحين واقامة دكتاورية البروليتاريا التي شرعت في بناء اقتصاد اشتراكي ومجتمع اشتراكي في الاتحاد السوفييتي.
اما اليوم، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار الراسمالية على الاشتراكية، فالوضع يختلف اختلافا كبيرا. فقد اعتبرت وسائل الاعلام الراسمالية هذا الانتصار برهانا على ان الماركسية لم تكن سوى حلم من احلام كارل ماركس وان الاشتراكية قد اثبتت خطلها وانها ليست قابلة للتطبيق وان الراسمالية هي النظام الممكن الوحيد والذي سيبقى دائما والى الابد. واخذت حتى الاحزاب التي تدعي الماركسية تخجل من الاعلان عن ذلك وتخاف ان توصف بالجمود العقائدي. ولم تعد هذه الاحزاب تدعو الى الثورة على الراسمالية والاطاحة بها ولا تدعو الى الاستيلاء على الحكم واقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا وجل ما ترنو اليه هو الاشتراك مع كافة الاحزاب الموجودة في البلاد على قدم المساواة للحصول على ملف او ملفين وزاريين في الحكومة الراسمالية.
واليوم توصلت الامبريالية العالمية الى التبجح بتفوقها على الاشتراكية وبانتصارها الحاسم على الاشتراكية ودحض الماركسية دحضا تاما او وضع المسمار الاخير في تابوت الماركسية كما يقولون.
نجحت الامبريالية العالمية وعلى راسها الاميريالية الاميركية في جعل وسائل الاعلام والحركات السياسية التي تسمي نفسها بالمعارضة ورؤساء الدول المستعمرة والتابعة من جديد باظهار هذا الاستعمار بانه مساعدة على تحرير هذه الدول كما هو الحال في دول الخليج التي جرى احتلالها احتلالا عسكريا دائما بحجة صيانة استقلالها وتحرير الكويت من الاحتلال العراقي. واستطاعت الامبريالية ان تقنع الكثير من الناس ومن الساسة بانها انما تحتل شتى البلاد لاهداف انسانية بحتة، مثل مجازر المساعدات الانسانية والابادة الجماعية التي تجري حاليا في الصومال، والتي تظهرها وسائل الاعلام الامبريالية بمظهر حب الانسانية ومحاولة انقاذ هذه الشعوب من اخطار المجاعة واهوال الحروب الاهلية بينما ليس الاحتلال في الواقع الا استعمار جديد وزيادة في نهب ثروات هذه البلاد واستغلال ايديها العاملة الرخيصة واستلاب اغلب ثرواتها الطبيعية. واقناع الشعوب هذا والحصول على تاييد الراي العام العالمي هو كما رأينا سابقا الشرط الثاني الذي تحتاجه اية دولة من اجل شن الحرب . فالشرط الاول هو السلاح والشرط الثاني هو اقناع الشعوب بضرورة وعدالة الحرب.
مهام الماركسيين ورسالة البروليتاريا التاريخية
في مثل هذه الظروف اصبح من الضروري اقامة احزاب ماركسية حقيقية تعلن عن ايمانها التام بالنظرية الماركسية وتقوم من جديد باجتذاب الطبقة العاملة والكادحين في كل بلد راسمالي او شبه اقطاعي وتنظيم العمال والكادحين في كل بلد راسمالي او شبه اقطاعي. وتبين للعمال والكادحين بوضوح بان الطريق الوحيد لتفادي حرب عالمية جديدة هو طريق بناء الاشتراكية بالاستفادة من خبرات الاتحاد السوفييتي حين كان بلدا اشتراكيا حقا ومن التراث الغني الذي تركه ستالين اضافة الى تراث ماركس وانجلز ولينين للعمال والكادحين في ارجاء العالم.
ان تشكيل مثل هذه الاحزاب اصبح اليوم اكثر صعوبة من اي وقت مضى. فالناس فقدت ثقتها بالماركسية واعتقدت بهزيمة الاشتراكية امام الراسمالية اذ ان وسائل الاعلام ومزيفي التاريخ تعمدوا غمط الانتصارات الباهرة التي احرزتها الاشتراكية على الراسمالية قبل وصول المحرفين الخروشوفيين الى الحكم في الاتحاد السوفييتي. تعمدوا اخفاء حقيقة ان الاتحاد السوفييتي الذي قام على انقاض الحرب العالمية الاولى وحرب التدخل الامبريالي استطاع خلال اقل من عقدين رغم الاحاطة الراسمالية وسياسة الخنق والتدمير التي استخدمها الامبرياليون وجواسيسهم واعوانهم، بمجهود شعوبه وحدها ان يبني دولة عظمى استطاعت ان تصد وتدمر جحافل النازية الهتلرية وكافة الدول والجيوش الموالية لها كاليابان وايطاليا وكافة حكومات اوروبا الراسمالية التي وقعت فريسة الاحتلال النازي.
اخفى مزيفو التاريخ ان الاتحاد السوفييتي، بعد ان افلح في القضاء على بقايا الراسمالية في بلاده وخلق مجتمعا خاليا من الازمات الاقتصادية والبطالة في الوقت الذي كانت الدول الراسمالية ترزح تحت وطأة اعنف ازمة اقتصادية وعامة عانت منها حتى ذلك التاريخ وبلغ عدد العاطلين فيها عشرات الملايين وادت بالتالي الى نشوب الحرب العالمية الثانية.
اخفى مزيفو التاريخ حقيقة ان الاتحاد السوفييتي استطاع خلال هذه المدة الوجيزة ان يخلق دولة متعددة القوميات لا وجود فيها للحزازات القومية بل تعيش كل القوميات بها، كبيرها وصغيرها متآخية متلاحمة استطاعت ان تقف صفا واحدا امام الهجوم الهتلري والدفاع عن بلادها الاشتراكية باستماتة وحماس وقهر المعتدين وملاحقتهم الى بلادهم.
تناسى مزيفو التاريخ كل هذه الانتصارات وثقفوا العالم بان الاتحاد السوفييتي تحت حكم خروشوف بريجنيف غورباشوف هو حكم اشتراكي رغم انه لا يمت الى الاشتراكية بصلة. وصوروا انتصار الامبريالية في المعركة المزعومة بين هذه الاشتراكية الزائفة والامبريالية على انها انتصار النظام الراسمالي الحاسم وخذلان الاشتراكية والماركسية. ولكن مزيفي التاريخ فانون والتاريخ باق لايمكن ان تغيره تزييفات هؤلاء المؤرخين المنحازين.
وقد لعبت دورا خسيسا قيادات الاحزاب الشيوعية التي سارت في ركاب خروشوف وبريجنيف وغورباشوف في تشويه تاريخ الاتحاد السوفييتي الحقيقي. فقد تاجر هؤلاء بسمعة الاتحاد السوفييتي العظمى لدى الشعوب وخدعوا العمال والكادحين بتثقيفهم بان الاتحاد السوفييتي تحت قيادة خروشوف بريجنيف وغورباشوف ليس فقط استمرارا للاتحاد السوفييتي الاشتراكي كما كان تحت قيادة ستالين بل انه قد تقدم الى مرحلة الاشتراكية العليا وان ماركسية خروشوف التي سلبت الماركسية الحقيقية من ثوريتها وجعلتها نظرية عقيمة لا تقدم شيئا للطبقة العاملة ولا تخدم سوى الراسمالية قد طورت الماركسية الى ماركسية خلاقة، وجعلوا من الاشتراكية اشتراكية ذات وجه انساني. بل تمادوا في ذلك الى وصفهم بيريسترويكا غورباشوف كاعلى تطوير للماركسية في الوقت الذي اثبت التاريخ انها كانت اخر مرحلة في تحويل الاتحاد السوفييتي من دولة اشتراكية الى دويلات راسمالية.
نعم ان تشكيل مثل هذه الاحزاب الماركسية الحقيقية اصبح اليوم اكثر صعوبة من اي وقت مضى. ولكن متى كانت للماركسيين ظروف سهلة سلسة؟ ان من اهم صفات الماركسيين انهم يصمدون للصعوبات ويجابهونها بكل بسالة. لقد اثبت الماركسيون على الدوام انهم جديرون بالرسالة التاريخية التي القاها التاريخ على عاتقهم، رسالة توعية البروليتاريا وتثقيفها بنظريتها الثورية الهادية وقيادتها في الثورات على جميع مراحلها وبناء الاشتراكية رغم كل الصعوبات. فما الذي يجعل الماركسيين في ايامنا اقل بطولة واقل صمودا امام الصعوبات من اسلافهم؟ ان المهمة الملقاة على كاهلهم صعبة وشائكة. والعدو الذي يجابههم عنيد وشرس. فهل يعني هذا ان على الماركسيين ان يتراجعوا ويتخاذلوا امام هذه الصعوبات لانها اشد صعوبة من سابقاتها؟ هل ينبغي ان يتراجعوا امام هذا العدو الشرس لانه اشرس من اسلافه؟ كلا ابدا. ان على الماركسيين ان يثبتوا جدارتهم في ظروفهم الجديدة كما اثبت الماركسيون اسلافهم جدارتهم في مختلف الظروف التي جابهوها. انهم يعلمون ان الحق الى جانتهم. يعلمون ان قانون حركة التاريخ يحتم الطريق التي يسيرون فيها. يعلمون ان ثورية الطبقة العاملة لا حدود لها اذا وعت مصالحها وايقنت من ضرورة وصحة الطريق التي يدلها عليه الماركسيون. ان وعي الطبقة العاملة هو العامل الاشد. ومتى وعت الطبقة العاملة مصالحها من خلال نضالاتها وتجاربها اليومية وايقنت ان الماركسيين هم القدوة التي تقودها الى طريق الخلاص فان ثقتها بالماركسية والماركسيين تعود الى ما كانت عليه بل واشد من ذلك، واذذاك تقوم الطبقة العاملة بالمهمة التي وضعها التاريخ على عاتقها، مهمة الاطاحة بالنظام الراسمالي وبناء المجتمع الاشتراكي ثم الشيوعي.
ان مهمة البروليتاريا اليوم اصعب منها في اي وقت مضى. ويرجع ذلك اولا وقبل كل شيء الى النكسة التي اصابت حركة الطبقة العاملة بخسرانها وطنها الاول، الاتحاد السوفييتي الذي كان، حين كان بلدا اشتراكيا حقا، سندا لحركة العمال والشيوعية وملهما لها ومثلا اعلى لها. وثانيا خيانة قادة الاحزاب الشيوعية في كافة ارجاء العالم تقريبا وسيرهم في اعقاب خروشوف بريجنيف غورباشوف حتى اخر لحظة. وثالثا لان قدرات الامبريالية على تحطيم الحركات الثورية اوسع اليوم مما كانت عليه في اي وقت مضى.
ولكن هذه الصعوبات لا تغير من المسيرة التاريخية شيئا. فالثورة على الراسمالية هي طريق الخلاص الوحيد للبروليتاريا، طريق التحرر من الاستغلال الراسمالي وبناء مجتمع لا وجود لاستغلال انسان لانسان فيه. ولكن الثورة في ايامنا قد تتطلب اغلى التضحيات. وعلى البروليتاريا الواعية المنظمة تحت قيادة حزب ماركسي حقيقي جديرة بمثل هذه التضحيات هي وحلفاؤها من فقراء الفلاحين مع تحييد متوسطي الفلاحين والبتي برجوازيين عموما على الاقل، او حتى اجتذاب بعضهم الى جانب الثورة كفيلون بتخفيف هذه التضحيات.
ولكن هل تقاعس البروليتاريا عن الثورة ينقذها وحلفاءها من تقديم التضحيات؟ لقد تقاعست البروليتاريا العراقية تحت قيادة الحزب الشيوعي الذي انساق وراء خروشوف بريجنيف غورباشوف عن الثورة الاشتراكية، وادعى الحزب الشيوعي العراقي انه يريد سلوك طريق اقل التضحيات الى الاشتراكية. فماذا كانت النتيجة؟ هل كانت تضحيات البروليتاريا تحت حكم عبد الكريم قاسم، او تحت حكم عبد السلام عارف او تحت حكم صدام حسين وخلال الحرب العراقية الايرانية وفي حرب الخليج وفي اعقاب حرب الخليج تحت وطأة المقاطعة المفروضة على العراق والعقوبات الاقتصادية اقل من تضحياتها لو سلكت طريق الثورة؟ لا شك ان ضحايا الثورة المنظمة تنظيما ماركسيا دقيقا اقل بكثير من التضحيات التي قدمتها البروليتاريا وسائر الكادحين العراقيين وما زالوا يقدمونها وسيقدمونها في المستقبل ايضا. الفرق هو ان تضحيات الثورة تكون نتيجتها الاطاحة بالحكم البرجوازي والشروع في بناء مجتمع اشتراكي خال من الاستغلال، بينما تضحيات التقاعس عن الثورة تقدمها البروليتاريا بدون الحصول منها على نتائج مفيدة للطبقة العاملة والكادحين.
واكثر من ذلك. ان البروليتاريا العالمية اليوم ومعها كادحو العالم اجمع تواجه خطر حرب عالمية ثالثة. ولا شك ان اندلاع مثل هذه الحرب سيؤدي الى اضعاف اضعاف ضحايا الثورات العالمية كلها. ولكن ضحايا الحرب لا تؤدي الا الى زيادة استغلال واستعباد الطبقات الكادحة التي تقدم هذه الضحايا والتضحيات بينما تؤدي تضحيات الثورات البروليتارية الظافرة الى تحرير كادحي العالم من عبء الاستغلال الراسمالي والحروب.
واكثر من ذلك. ان البروليتاريا تقدم في الظروف العادية اليومية في ظل النظام الراسمالي تضحيات تفوق في كمياتها كل التضحيات التي تقدمها في الثورة. ان شرح هذا يتطلب بعذ التوضيح النظري. يعلمنا الديالكتيك المادي وهو القانون الذي يتحكم بسير المجتمع تحكمه بحركة الطبيعة ان الثورة حين تنضج ولا توجد القوة الكافية لتحقيقها تؤدي الى فناء الضدين. يحلو لمنظري المادية الديالكتيكية اتخاذ البيضة مثلا على قانون الديالكتيك. ويعني فناء الضدين في مثال البيضة ان الجنين بعد ان ينمو ويتكامل داخل البيضة وتحت حماية قشرتها عليه ان يثور على هذه القشرة التي تحولت من حامية لنموه الى عائق لتطوره فيكسرها ويتحرر من قيودها ليصبح مخلوقا جديدا يطور حياته خارج هذه القشرة. فاذا عجز الجنين عن كسر قشرة الييضة فمصير الجنين الى الاختناق والهلاك ومصير البيضة الى العدم لانها لا تصلح بعد هذا للاستعمال كبيضة.
وتصح هذه الظاهرة من ظواهر الديالكتيك على المجتمع البشري ايضا. فحين تنضج الثورة من الناحية الاقتصادية في اي مجتمع كان، وفي موضوعنا هذا في المجتمع الراسمالي، اي حين يبلغ تطور قوى الانتاج مرحلة تحتم تغيير علاقات الانتاج التي اصبحت عائقا لاستمرار تطورها، اي حين يبلغ تطور القوى العاملة ووسائل الانتاج الى درجة تصبح معها علاقات الانتاج، اي طريقة ملكية وسائل الانتاج والمنتجات، عائقا في سبيل استمرار تطورها في حين ان القوى السياسية القادرة على تحطيم علاقات الانتاج وخلق علاقات انتاج جديدة اي الثورة على الراسمالية والاطاحة بها واقامة نظام اشتراكي غير ناضجة وعاجزة عن تحقيق الثورة تكون النتيجة فناء الضدين.
وفناء الضدين في هذه الحالة يعني فناء قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وهذا ما نشاهده امام اعيننا في الازمة الاقتصادية. ففي الازمة الاقتصادية تتجدد قوى عمل العامل كل يوم وتكون صالحة للعمل في وسائل الانتاج اي المكائن ولكن العامل العاطل لا يستطيع استخدام قواه العاملة لعدم استطاعته الاتصال بالماكنة بسبب علاقات الانتاج القائمة. فالراسمالي المالك لوسائل الانتاج لا يريد استخدام قوة عمل العامل لانها لا تدر الارباح لراسماله في تلك اللحظة. ولذلك فان قوة عمل العامل العاطل تفنى ولا تحقق الانتاج الذي كانت ستحققه لو اتصلت بوسيلة الانتاج المناسبة وعملت فيها. ومن الناحية الاخرى فان اغلاق المعامل وتشغيل بعضها باقل من كفاءاتها يمثل فناء وسائل الانتاج.
هذا هو المقصود بفناء الضدين من ناحية قوى الانتاج اي القوة العاملة ووسائل الانتاح. وبما ان العاطلين عن العمل يبلغون الملايين في الازمات الاقتصادية، كما هو الحال اليوم بابشع صوره، فان هذه الملايين من القوى العاملة تفنى كل يوم لتتجدد في اليوم التالي لتفني كما في اليوم السابق (ليس موضوعنا هنا بحث تأثير البطالة على اوضاع العمال العاطلين وغير العاطلين المعاشية والنفسية والعائلية)
وكما ان فناء البيضة وجنينها لا يعني فناء جنس البيض كله فان فناء القوة العاملة للعمال العاطلين لا يعني فناء القوة العاملة للمجتمع كله بل هو فناء جزئي ولكنه فناء القوة العاملة لملايين العمال يوما بعد يوم. هذه هي التضحيات التي تقدمها البروليتاريا كل يوم لانها لم تبلغ من القوة سياسيا ما يؤهلها لتحقيق الثورة التي يتطلبها نضوج الثورة اقتصاديا.
نرى من كل ما تقدم ان تضحيات البروليتاريا واحلافها من الكادحين في الثورة ضئيلة وتافهة اذا ما قورنت بتضحياتها لدى عجزها عن تحقيق الثورة ولذلك فان طريق الثورة وطريق البتر السريع للاعضاء المتفسخة في المجتمع كما قال لينين، هي طريق اقل التضحيات وطريق افضل النتائح في وقت معا.
وفي ظروفنا العالمية الحالية ليس امام البروليتاريا العالمية خيار. فاما الثورات التي تطيح بالدول الراسمالية واما السير قدما نحو حرب عالمية ثالثة تحتمها سياسات هذه الدول الراسمالية.
والثورة تتطلب من البروليتاريا ان تكون لها في كل مكان احزابها الماركسية الحقيقية وان تقوم هذه الاحزاب بقيادة البروليتاريا واحلافها في الثورة الضرورية لدرء خطر الحرب العالمية الثالثة. وليس ثمة من طريق اخر. فهل ستستطيع البروليتاريا ان تنتظم سياسيا للقيام بهذه المهمة التاريخية في الوقت المناسب؟ ام ستسير البشرية الى حرب عالمية ثالثة؟ ان التاريخ سيرينا ذلك في المستقبل.

حسقيل قوجمان
١٤ تموز ١٩٩٣

 



#حسقيل_قوجمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دفاع عن الماركسية في محنتها
- التعايش السلمي من ستالين الى خروشوف
- أزمة الخليج
- زواري الاعزاء
- ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الاول
- ذكرياتي في سجون العراق السياسية- الجزء الثاني
- معركة تفكيك الرؤوس الذرية
- الحرب العالمية الثالثة خصائصها المميزة
- خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ...
- خطرات من قراءة كتاب عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي ...
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الاول
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الثاني
- كتاب : الثورة التكنولوجية واقتصاد العولمة - الجزء الثالث
- كتاب - خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - ...
- كتاب- خارطة طريق الولايات المتحدة الاميركية برؤية ماركسية - ...


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسقيل قوجمان - أنهاية حرب باردة ام بداية حرب حارة؟