أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الأساس الطبقي في أزمة الماركسية العربية















المزيد.....



الأساس الطبقي في أزمة الماركسية العربية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 2190 - 2008 / 2 / 13 - 11:00
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ملاحظات ابتدائية
تبدو الماركسية في الوطن العربي كأنها غريبة عن الطبقة العاملة، سوى في بعض ما تطرحه في المجال المطلبي حيث اعتبرت تفسها، في مرحلة، مدافعة عن حقوق العمال المطلبية رغم أن هذا الاتجاه تراجع لمصلحة اتجاه سياسي آخر، فقد طغى الخطاب السياسي، الخطاب المطلبي (الاقتصادي). لكن في السابق، كما الآن، كان الخطاب السياسي غريباً عن الطبقة العاملة، وبعيداً بالأحرى عن أن يكون معّبراً عن مطامحها فوق المطلبية. الأعمق من المطالب الاقتصادية، أي معبّراً عن مطامحها الجذرية.
لهذا نقول إن الماركسية غابت عن أن تكون خطاباً فكرياً سياسياً، معبّراً عن الطبقة العاملة العربية. وحيث كان خطابها الكفاحي باهتاً إلى أبعد الحدود، وإن كان انفعالياً في لحظة صراع. في نفس الوقت الذي بدت فيه الطبقة العاملة غريبة عن النشاط السياسي الماركسي، وكانت محدودة العدد هامشية في الحزب الماركسي، "حزب الطبقة العاملة ". كما أن وضع الطبقة العاملة، موقعها في البنية الاقتصادية الاجتماعية، عددها، وعيها، ونشاطها، كانت كلها غائبة عن الخطاب الماركسي، وعن الصحافة الماركسية على أنها مسائل أقل أهمية من النشاط السياسي للبرجوازية ومن ممارساتها!! وأقل أهمية من فئات برجوازية صغيرة (الطلاب، المعلمين، المهنيين، والموظفين) وربما لا تذكر سوى في ذكرى الأول من أيار، أو عند حدوث إضرابات، وبعض التحركات. بالتالي فهو خطاب عمّالي باهت، شاحب، وهزيل.
وإذا كنا نحاول تلمس إشكالية الماركسية في الوطن العربي، من الضروري إن يجري البحث في هذه المسائل. لماذا تهمش وضع الطبقة العاملة في الخطاب الماركسي العربي؟ ولماذا كانت الطبقة العاملة هامشية في الحزب الماركسي؟ وبالتالي لماذا لم تتحوّل الطبقة العاملة. من " طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها ". من طبقة كمقولة اقتصادية إلى طبقة كفعل سياسي؟ من طبقة تحمل إرث التاريخ، إلى طبقة تحمل حلم المستقبل؟ من طبقة تنوء بعبء حاضرها، قانعة، ساكنة، إلى طبقة تدافع عن وجودها، وتعمل من أجل أن تعيش حياة كريمة؟
إن الخطاب الماركسي السائد، الماركسية الرائجة، لا يتيح لها ذلك، لأنها لا تقدّم لها الوعي الذي يحوّلها إلى طبقة فاعلة، وتحلم بالمستقبل. بل إنه كان خطاباً زائفاً، يمنعها من أن تصبح طبقة فاعلة، ويجرّها إلى حظيرة البورجوازية، بألف شرك وشرك. لقد كان هذا الخطاب يهمش وضعها، ويتجاهل مصالحها، مصالحها الحقيقية الخاصة والشاملة، الآنية والتاريخية. الاقتصادية والسياسية، لكنه كان خطاباً موجهاً، في أحد أوجهه، في سياق عملية إخضاعها للطبقة المسيطرة. لأن الحتمية تفترض أن يتهمش دورها الراهن؛‍‍‍‍‍‍‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍فالوصول إلى الاشتراكية يمرّ فقط عبر المرحلة البورجوازية، وهي المرحلة التي نعيشها. وبالتالي فمهمة الماركسية، ومهمة الطبقة العاملة أن تقبل بدور ثانٍ (ثانوي) من خلال قبولها بقيادة طبقة أخرى وبسيادتها. فالظروف الموضوعية لا تقبل سوى ذلك.‍‍‍‍‍‍
وهنا إعلاء من شأن البورجوازية فهي القيادة وهي التي يجب أن تسود. ليظهر الحد الآخر في الخطاب الماركسي، كخطاب ترشيدي "عقلاني" موجه للبرجوازية، خطاب يهدف إلى تحديد السياقات الصحيحة لتطور البورجوازية، وسيادتها، وفرض سلطتها على المجتمع. هذا هو الطابع العام للخطاب الماركسي. وإن كانت عموميته هذه لا تنفي وجود خطاب آخر، لكنه ضعيف، ومشتت، ومربك، كان في الغالب وما زال. لماذا‍‍‍ هل هو الخطأ في فهم الماركسية الأصلية؟ طبعاً، لقد تقولبت الماركسية في صيغ أفقدتها ماركسيتها، لقد استعيرت مفاهيم وأفكار، وحتى كلمات ماركسية، لتوضع في سياقات أخرى، غير سياقات الماركسية. لكن يظل السؤال من جديد لماذا‍؟
طبعاً لا يمكن أن نتحدث عن اعتناق عمّالي للماركسية دون وساطة فئات مثقفة، فالماركسية فلسفة وعلم، وبالتالي فهي تحتاج إلى الوعي الفلسفي، وإلى مستوى ثقافي عالٍ وهذا ما لا تستطيعه الطبقة العاملة، التي تتسم بالعجز عن القراءة في الغالب، أو تتسم بمستوى ثقافي محدد. كما أن أوضاعها لا تتيح لها الاهتمام بالثقافة، لأنها تبدو غارقة في همومها المعاشية، وبالظروف القاسية التي تعاني منها. هنا يكون المثقفون وسطاء، حيث يلعبون دور "إدخال الوعي" للطبقة. هذه هي مهمة الحزب الماركسي في أحد وجوهها.
هنا نحن نحدد الإشكالية بالضبط. فالإشكالية تكمن في هؤلاء الوسطاء. حيث لم يعتبر الوعي الذي حاولوا إدخاله للطبقة، أو الذي اعتنقوه وعملوا على انتشاره لم يعبر عن مصالح الطبقة العاملة، لم يشكل لها إضافة نوعية وبالتالي لم يقدّم لها وسيلة توحدها حول الحزب، ووسيلة تحولها إلى قوة فاعلة في الصراع الطبقي. هذا يحيلنا على دراسة الخطاب الأيديولوجي الماركسي في الوطن العربي، ولا شك في أن هذه مهمة ضرورية من أجل تأكيد فرضيتنا السابقة، فرضية أن كل الخطاب الماركسي لم يكن معبّراً عن مصلحة الطبقة العاملة، بل كان خطاباً ترشيدياً، معقلناً لسياسات البورجوازية، لكن يكفي أن ندرس قانون "حتمية التطور التاريخي"، "حتمية المرور بالمراحل الخمس" أي "حتمية المرور بالمرحلة البورجوازية من أجل الوصول إلى الاشتراكية" من أجل توضيح إشكالية هذا الخطاب " حيث بدا أن عدم سيادة البورجوازية في المجتمع، وانتشار العلاقات السابقة للرأسمالية، يفرض حتمية قيادة البورجوازية للصراع وللمجتمع، ولقد أشير إلى ذلك في أكثر من مكان في هذا الكتاب.
إن دراسة الأساس الطبقي لانتشار الماركسية وتوسعها يوضح جوهر هذه الإشكالية ، ويجيب عن السؤال : لماذا؟
لا شك في أن فئات عمّالية اعتنقت الماركسية منذ بدء دخول الماركسية إلى الوطن العربي، خصوصاً في المراكز الأساسية التي نمت فيها الطبقة العاملة. لكن يلاحظ أن الفئات الأساسية التي اعتنقت الماركسية كانت من الفلاحين ( وأحياناً من أبناء الملاك الكبار) ومن الفئات البورجوازية الصغيرة المدينية المتعلمة، كما يلاحظ دخول أبناء الأقليات المأزومة. وإذا كانت التطورات التي حدثت خلال العقود الخمسة الماضية قد همشت دور الريف، ووسعت من دور البورجوازية الصغيرة المدينية (الطلاب، المهنيون، الأساتذة، الموظفون) فقد ظلت الماركسية محصورة في هذه الفئات.
والمشكلة أن هذه التركيبة، كانت تحكم في إطار صيغة "شعبوية"، هي أميل إلى العفوية منها إلى الوعي. لقد فرض الطابع البرجوازي الصغير (الفلاحي الأقلوي) سيادة "وعي" شعبوي، أي سيادة حلم طوباوي بالتحوّل، دون حاجة للوعي الفلسفي. لقد اكتفت بالمفاهيم العامة والشعارات، والثقافة الشفوية متجاهلة أن الماركسية علم، وبالتالي فهي تحتاج إلى مستوى علمي راقٍ، إلى وعي فلسفي. بل إنها حاربت الوعي الفلسفي، وطردت المثقفين. لقد اعتنقت صيغة مبسطة للماركسية، وطردت الماركسية ذاتها، الماركسية بما هي علم. في هذا السياق كان سهلاً عليها امتصاص "الماركسية السوفييتية "، التي هي تبسيط فظ للماركسية، تحويلُ لها إلى بضعة مفاهيم، وأفكار مبسطة. وبالتالي فقد جاءت مناسبة لوعي تبسيطي، وعقل سادج. وناسبت في إطار مفاهيمها العامة، فئة اجتماعية تطمح إلى التقدم بمعناه العام، لا التقدم بمعناه الذي تبلور منذ لينين.
ما يمكن قوله هنا أن هذه الفئات بعمومها لم تكن مهيأة لوعي الماركسية، بل كانت مهيأة لاعتناق شعارات التحرر والتقدم، والمساواة. ولقد عملت على طرد كل مثقف كان يحاول أن يعي الماركسية، أن يستوعبها كعلم، وأن يحاول تحليل الظروف الواقعية انطلاقاً منها. خصوصاً أن هذا التحليل كان يوصل إلى تحديد مواقف وتصورات تتناقض مع الماركسية السوفييتية، كما كان يفضي إلى تصورات تخالف المصالح الضيفة لهذه الفئات، مما كان يصمها بالتحريفية، و"العمالة"، و"التيتوية"،أو "التروتسكية" "مما كان يؤدي إلى لفظ هذا المثفف خارج البيئة التي كانت بمجملها تتخذ من الموقف من الاتحاد السوفييتي، لا من الظروف الواقعية، مقياساً للالتزام والانضباط.
هنا نلاحظ أن هذه الفئات من البورجوازية الصغيرة لم تلعب دور الوسيط الثقافي، لم تكن فئات مثقفة، تستوعب الماركسية وتمتلك ناصية الجدل المادي، من أجل أن تستخدمه كأداة تحليل، من أجل "وعي" الظروف الواقعية, وعي الصيرورة الواقعية للمجتمع، وتحديد المهمات التي يعني تحقيقها تحقيق التقدم، وبالتالي تأسيس الحزب، وتوحيد الطبقة, وبناء الكتلة الطبقية القادرة كلها معاً، على تحقيق ذلك، بل كانت فئات متعلمة تستطيع نقل الشعارات، والأفكار المبسطة، والحض على النشاط العفوي، المطروح خارج إطار الصيرورة الواقعية. لهذا اتسم خطابها بالتبشير بحلم بعيد، هو حلم الاشتركية، المختصر إلى حلم غامض بالمساواة، وفي المقابل اتسم خطابها بالدعوة إلى النضال من أجل حقوق مطلبية، مطروحة في إطار تصور اقتصادي (تحسين الأجور، يوم العمل لمدة ثماني ساعات، ضمان صحي) وفي نفس الوقت تأكيد سيطرة البورجوازية و دورها القيادي.
إذن لقد كانت فئات من البورجوازية الصغيرة، الفلاحية والمدينية، هي أساس تكون هذه الأحزاب. وهذه حالة طبيعية حيث لا يمكن أن تبدأ الحركة من داخل الطبقة العاملة. لكن المشكلة في أن "للخارج" هذا مهمة إنتاج وعي الطبقة العاملة. إنتاج الأيديولوجية المعبرة عن مصالحها ومطامحها. والقادرة على إنتاج البنى والتكتيكات المناسبة لنشاطها. وبالتالي كان يفترض من هذه الفئات أن تعي الماركسية أولاً وأن تكون قادرة على إنتاج الفكر ثانياً وعلى الممارسة ثالثاً. بمعنى أن تكون قادرة على القطع مع وعيها السابق. بشكله "العامي" وبمضمونه "الأيديولوجي القديم" وأن يرتقي وعيها إلى مستوى الماركسية بما هي علم (الجدل المادي) وبما هي وعي حديث. إنها "وسيط ثقافي" أولاً وبالتالي فليس مطلوباً منها أن تصوغ أهداف فئة اجتماعية من البورجوازية الصغيرة. وهذه حالة يمكن أن تتحقق عفوياً من خلال عكس أحاسيسها في صيغة دراسة علمية في ضوء الجدل المادي للظروف الواقعية، ولوضع الطبقة العاملة ومطامحها وإمكانات تقدمها.
وهي في هذه الحالة لا تعود "وسيطاً ثقافياً" بل تعبّر عن برنامجها كفئة من طبقة، بشكل عفوي. وتهدف وساطتها إلى إقناع الطبقة العاملة ببرنامجها هي، دون وعي لبرنامج هذه الأخيرة ودون حاجة لذلك. وبالتالي تحدث الأمر المعاكس، أي جر الطبقة العاملة إلى البرنامج البرجوازي الصغير، بدل أن تنتقل هي إلى مواقع الطبقة العاملة، وتنتج لها الفكر، الذي يعبّر غن برنامجها الحقيقي.
أما "اعتناق" الماركسية، فيهدف إلى التمايز عن الأمة "البورجوازية" كما أنه وسيلة جر الطبقة العاملة إلى صفوف البورجوازية. إنها وسيلة تعمية إذن من جهة، ووسيلة "تفوق" من جهة أخرى.

اندفاع الريف"
كان الريف العربي هو المأزوم إلى أواسط القرن العشرين، إذ كان يؤلف غالبية المجتمع، وكانت الزراعة هي وسيلة الإنتاج. وفي إطار الصراع الطبقي في الريف، كان بارزاً نزوع الفلاحين إلى التحرر، والانعتاق من العلاقات الإقطاعية السائدة. وإذا كان بعض كبار ملاك الأرض الذين عانوا من أزمة انهيار الريف، نتيجة انتفاء الحاجة إلى منتجاته ( القمح، القطن، الحرير، العنب...) قد حلموا بتطوير المجتمع رأسمالياً. فقد حلم الفلاحون بالمساواة والتحرر، وكانت ثورة أكتوبر، التي دكت القيصرية سنة 1917، الناقوس الذي جعل فئات من الفلاحين ترى أن هذا هو طريقها، إذ طرحت هذه الثورة أهداف التحرر والتقدم والاشتراكية فصارت بلشفية، "تبلشفت". هنا نلاحظ أن "المنطق الصوري" هو الذي جعل من الفلاحين بلاشفة، وجعل الاشتراكية هي ذاتها المساواة والتحرر الفلاحيين. وهذه العملية لم تجعل الفلاحين الذين اعتنقوا الماركسية، ماركسيين أو اشتراكيين، لأنهم كيفوا هذه "الكلمات" وفق فهمهم، وبالتالي حملوها غير ما تعني. وفي هذا الوضع أصبحت الاشتراكية تعني حلم الفلاحين في الثورة البورجوازية الطابع " تصفية الإقطاع، توزيع الأرض" التي لم يكونوا يعونها، بل إن مطالبهم المساواتية كانت تفضي إليها، حيث أن توزيع الأرض بالتساوي كان يفضي بالضرورة إلى تغلغل الرأسمالية في الريف، وانهيار الملكيات الصغيرة، لمصلحة تمركز الملكية من جديد. لكن في صيغة رأسمالية. وهذه الاشتراكية، هي "اشتراكية" فلاحية حسب لينين.
إذن كان مطمح الفلاحين إلى التحرر والمساواة، يفضي إلى تحقيق الرأسمالية، لا إلى تحقيق الاشتراكية. وإن كان قد تلون بلون ماركسي. وتسمى بـ "الشيوعي" واعتبر أن روسيا السوفييتية هي مثاله ونموذجه.
في الوقت نفسه كان الانفتاح على الغرب، الذي أفضى إلى بدء تهميش الريف، قد أدخل التعليم الحديث إلى الوطن العربي. لهذا بدأت أعداد متزايدة من الفلاحين، ومن البورجوازية الصفيرة المدينية تفد إلى المدارس. وتتخرج. وكانت هذه تواجه المجتمع المتخلف، المجتمع الإقطاعي، الذي يترسمل في إطار مأزوم، حيث لا حرية للتطور الصناعي نتيجة هيمنة الرأسمالية الخارجية الممثلة في السلطة الاستعمارية. لهذا كانت تطمح إلى التحرر والانعتاق، وإلى تأسيس بنية حديثة، تستوعب العلم وتؤسس الصيغ المناسبة. لهذا كانت أزمتها مزدوجة، فهي من جهة تعاني من البنية القديمة السائدة، من الأيديولوجية الدينية ومن القيم والعادات غير المناسبة لمجتمع حديث، كما تواجه البنى والمؤسسات القديمة ومن جهة أخرى، تعاني من كون الاستعمار الممثل للرأسمالية الأوربية آنئذ يجهض أي محاولة للتطوير الصناعي، ويدعم البنى والمؤسسات والأيديولوجية القديمة، وبالتالي فقد طممحت لتحقيق التقدم، وتجاوز البنى القديمة، لكن ليس في صيغة رأسمالية، مادامت الرأسمالية تجهص التقدم، بتحالفها مع القديم. وكان البديل الآخر، هو الاشتركية، الاشتراكية السوفييتية، حيث غدت الاشتراكية تساوي التصنيع.
في هذا الوضع تقزمت الاشتراكية، إلى مجرد عملية تقدم تتجاوز الإقطاع، وتحقق الاستقلال عن الاستعمار الأوربي. فغدت تعني التطوير الصناعي، التحديث، الديمقراطية، وفصل الدين عن الدولة. لهذا طرحت مفاهيم الاشتراكية بعمومية، دون ربطها بصيغة عملية تخص المجتمع المعني. ولم يكن ذلك مقصودأ، بل نبع من أنها عب‍ّرت عن حاجة للتقدم فقط، لذلك أصبح الإصلاح الزراعي قانوناً اشتراكياً وتصفية الإقطاع خطوة اشتراكية، في نفس الوقت الذي سكن فيه هذه الفئات حلم انتصار البورجوازية.
إضافة إلى ذلك، لا بدّ أن نلاحظ أن الوعي لدى كل من الشريحتين (الفلاحية والمدينية) كان بسيطاً، وهو بالكاد يتجاوز الوعي القديم. بشكله العامي غير الثفافي، غير الفلسفي، الشفوي، دون أن يتجاوزه، لهذا ظل وعياً عامياً، لكن باستعارة مفهومات حديثة مما جعله يستسهل الشعارات العامة، والمفاهيم العمومية، والتصورات المبسطة.
إذن، لقد كانت فئات فلاحية، وأخرى متعلمة (فلاحية ومدينية) هي الأساس الاجتماعي الذي قامت عليه الحركة الماركسية. والملاحظ أن نسبة العمال في هذه الحركة كان محدوداً (في كل الأحوال ظل في حدود 10% من الحركة). وظلت تعبر عن جموح فئات فلاحية للتحرر والمساواة في إطار وعي مطلبي (اقتصادي)، وعي ينطلق من الحاجات "المادية "، "الاقتصادية"، دون المقدرة على الانتقال إلى الوعي السياسي، الذي يدمج هذه الحاجات في إطار تصور شمولي، يرى الربط بين المصلحة الخاصة ومصلحة طبقة أو فئة، في الإطار المطلبي) ومصلحة وطن بين تحسين أوضاع طبقة أو فئة وتطور الوطن. وفي هذا الوضع تمسكت بالتفتت الواقعي وانسربت مع التجزئة، وكانت مهيأة لقبول أقل من الصيغ السياسية التي تكرست وفق الخارطة الاستعمارية. حيث أصبح التحرر والمساواة أهم من الوطن، لطغيان المصالح الضيقة. المطلبية، الاقتصادية على المصلحة الشمولية للأمة.
لقد أفرزت هذه الفئات وعياً "جزئياً" لانطلاقها من مصالح ضيقة ولأنها تمسكت ب"الاقتصادي" متجاهلة السياسي. إن رؤيتها الضيقة هذه كانت تجعلها جزءاً من مشروع أشمل دائماً دون أن يكون لها مشروعها المستقل، وكانت هذه الرؤية جزءاً من المشروع البرجوازي أساساً، لهذا ظلت ملحقة به، رغم استقلالها في حزب.
كما كانت أزمة المتعلمين ( والمثقفين )، أزمتهم في البحث عن الديمقراطية والتحرر، والحياة الأفضل، تنتج وعياً ضيقاً أيضاُ وتقود إلى نفس النتيجة لهذا شكلا معاً الحركة بمجملها. رغم أن نزعات المثقفين التي كانت تبرز أحياناُ في صيغة تعلي من شأن الديمقراطية والتحرر ( العلمانية والتحديث )، كانت تفضي إلى انشقاقات في الحركة لم تكن لتخرجها من مأزقها الجوهري، مأزق الرؤية الضيقة والوعي" الجزئي" وبالتالي مأزق كونها جزءاً من المشروع البرجوازي.
لهذا اتسمت الماركسية في المرحلة الأولى (منذ نهاية الثلاثينات إلى نهاية الستينات) بأنها ماركسية عامية، تطرد الفلسفة والعلم، وترجح الحدس الرومانسي، وتميل إلى "الخطاب السياسي" لافظة الأساس النظري. في الوقت الذي حملت فيه مشروعاً، كما أوضحنا، يهدف إلى تحقيق التقدم: تصفية الإقطاع وتكميل تغلغل الرأسمالية .. في هذا الوضع اتخذت الأحزاب الماركسية خطي عمل، الأول: اقتصادي مطلبي يهدف إلى الدفاع عن حقوق العمال المطلبية. والثاني دعم البورجوازية من أجل تحقيق ثورتها،و تصفية الإقطاع، وسيطرة البورجوازية في إطار التطور الصناعي والسعي من أجل عقلنة سياستها، وتقديم النصح لها، ونقدها من أجل أن تعي مصالحها أكثر. هنا ينسجم التصور السياسي والموقف الطبقي فقد كانت وهي تطرح الماركسية تعبر عن المشروع البرجوازي. وكانت أزمتها في مدى قبول البورجوازية ذاتها لهذا الدور، ومدى الهامش المعطى لها. ولهذا كانت تعتبر الفسحة الديمقراطية في المرحلة التالية للاستقلال هي المجال لدورها "الفاعل" وهي الظرف المناسب، لكي تحقق هدفها، هدف عقلنة الخطاب البرجوازي.
لكن تقدم البورجوازية الصغيرة في إهابها "الاشتراكي" وقيادتها للمجتمع، ثم تحقيقها الأهداف الأساسية التي كان تحقيقها يعني التقدم، ونقصد الاصلاح الزراعي وتصفية الإقطاع، والتطوير الصناعي والاستقلال عن الاستعمار، وتصعيد المواجهة معه، هذه أوضاع الأحزاب الماركسية، فما تحقق واقعياً هو نفسه الذي كانت تطالب به وربما أكثر لأنها لم تطرح مسألة الإصلاح الزراعي مثلاً. في الوقت الذي تحقق على جثت البورجوازية القديمة، التي كانت تراهن على دورها وتعتبر نفسها "عقلها". ولقد أثّرت هذه الصدمة في وضعها، لكنها عاودت ترتيب تصوراتها، فما تحقق هو ما تريده بالإجمال، لهذا كانت مهيأة للاندماج في التجزئة البورجوازية الصغيرة، والتأكيد على اشتراكيتها واعتبار أن الاختلافات معها محدودة وتتمثل في اعتناق أو عدم اعتناق الماركسية، مما فتح أفق الاندماج معها في حزب واحد، أو في جبهة واحدة. خصوصاً أن تجربة البورجوازية الصغيرة اتخذت شكل النظم الاشتراكية ( دور الدولة المركزي في الاقتصاد وحكم الحزب الواحد أو الجبهة ونمط السلطة )
ولم تكن هذه مفارقة، بل نبعت من الأساس الطبقي الواحد، لكلا الاتجاهين ولاسيما الفلاحين، فما تحقق هو مشروع هذه الفئات نفسها، وإن كان قد طرح في صيغتين مختلفتين، أو كان بعضها يعطي المشروع بعده القومي (المشروع البرجوازي الصغير)، والآخر بعده الاستقلالي لهذا بدت مرحلة الستينات أنها مرحلة تزاوج المشروعين، واتحادهما في رؤية "اشتراكية" مبسطة.
أمام هذه الصدمة، وأمام مشكلات الواقع في مرحلة سيادة البورجوازية الصغيرة، كغياب الديمقراطية و بطء التطور واستمرار التخلف الأيديولوجي وسطوة القوى الخارجية، وخاصة الكيان الصهيوني، وإخفاق الوحدة القومية؛ وفي ظل انشقاق الحركة الشيوعية العالمية، وتصاعد نقد الماركسية السوفييتية، نمت اتجاهات ماركسية "جديدة" اتخذت خطاً ماوياً، واتبعت سياسة "عنف ثوري" مبقية على الفهم المبسط للماركسية ومعتمدة الاعتناق الشكلي لها، مما جعلها تتمايز بالشعارات أكثر من تميزها بالوعي لكن الأهم في هذه الاتجاهات، ليس هذا الخط الذي بدا كفقاعة سرعان ما انهارت. بل كان الأهم الخط الذي نتج عن عملية الصدمة تلك، سواء في مرحلة الصراع بين الأحزاب الشيوعية والخط القومي، أو بعد الاندغام بينهما، إذ تبين أن المشروع المطروح مشروع مأزوم، نتيجة غياب "العمق الفكري"، ونتيجة العجز عن تحقيق الديمقراطية والعلمانية والوحدة القومية في إطار التجربة البورجوازية الصغيرة، أو في غياب هذه المفاهيم لا الأهداف لدى الأحزاب الشيوعية. من هنا أصبحت الماركسية تعني التنوير البرجوازي، وأصبح التحديث الأيديولوجي هو أساس مهمة الماركسي، و مهمته الراهنة. ولا شك في أن هذا الاتجاه يضع مهمة له، تحديث البنية الفوقية، بعدما تحقق تحديث ما في البنية التحتية. وبالتالي فهي مهمة مكملة لمهمة "الشيوعي" رغم أنها جائت كنفي له، فقد كان النفي "نظرياً"، أي كان نفياً للتبسيط الساذج للماركسية، الذي كان يعني نفياً للفلسفة، وبالتالي جاءت كتأكيد قيمة الفلسفة، والوعي، والثقافة، ولكن في إطار القيم البورجوازية، وفي الإعلاء من شانها. وهذه العملية لم تعط الدعم للماركسية، بقدر إعطائها دفعاً للنشاط الثقافي العام، الذي كان يهدف إلى التحديث البرجوازي، وإن كانت قدّمت نقداً مهماً لبعض أسس التصور الماركسي القديم.
وإذا كانت الحركة الماركسية ما زالت تلعب أدواراً مختلفة فإننا نلاحظ خصوصاً بعد تراجع أنظمة البورجوازية الصغيرة، وانهيار معظمها أن الخطاب الماركسي ما زال يدور في إطار مفاهيمه الأولى؛ فما زال خطاباً ينطلق من طبيعة المرحلة البورجوازية، ومن أولوية مهمة البورجوازية. وفي هذا السياق نلاحظ وجود شقين في هذا الخطاب، الأول: يعبّر عن الفئات القديمة، ويعيد صياغة مشروعها الذي طرح في الأربعينات والخمسينات، باتجاه إعادة تأكيد ضرورة الديمقراطية وعلى توجيه الخطاب باتجاه عقلنة النشاط البرجوازي، الذي غدا يتمثل في إطار سيطرة النظام الإمبريالي العالمي. أي التقدم في ظل التبعية. ولعل هذا الانحدار يماثل انحدار البورجوازية الصغيرة، ويعبّر عن حالة التكيّف مع التطور البرجوازي في صيغته الراهنة. إنه خطاب موجه إلى السلطة البورجوازية التابعة من أجل تحقيق بعض الإصلاحات التي تخفّف من عبء الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وتفتح أفق شكل سلمي للصراع السياسي المعبّر شكلاً من صراع اجتماعي، لكنه يهدف إلى تحسين مواقع الفئات الماركسية حاملة هذا المشروع في بنية السلطة السياسية البورجوازية.
الشق الثاني: يتمسك بمسألة التحديث الأيديولوجي، من أجل نشر مفاهيم العلمانية والديمقراطية والتحرر، والمجتمع المدني، ويسعى من أجل تحقيقها، في إطار تناقض / تعارض سياسي مع السلطات القائمة، وبمعزل عن الصراع الطبقي.
ولعل هذا المشروع (بشقيه) هو الأضعف، هو الذي يموت لأنه فقد أساسه الاجتماعي. ولأن مفاهيمه العامة لم تعد مناسبة، في الظروف الراهنة، إذ لم تعد البورجوازية قادرة على تحقيق أي تقدّم، بل إنها تكيفت في إطار السيطرة الإمبريالية. وهذا الوضع يزيد من مفاقمة الصراع الطبقي ضدها، وضد السيطرة الإمبريالية، ومن ثم فإن المشروع الممكن هو الذي ينطلق من هذه الحقيقة. كما أن أية إمكانية لتحديث الأيديولوجية، وتأسيس الأساس الذي يحمل المفاهيم البورجوازية الأساسية من دون رؤية الصراع الطبقي الواقعي، ومن دون ربطها به، في إطار تصور ماركسي للتقدم، لا بفعل سوى تحقيق إصلاح أيديولوجي، في مدى زمني بعيد، وهذه مهمة تنويرية، وتبدو بعيدة عن الصراع الطبقي الواقعي، لهذا أشرنا إلى أن هذا المشروع يموت، يفقد طابعه النضالي، ويتكيف مع البنية البورجوازية الراهنة، أو يتعايش معها.

أزمة البورجوازية الصغيرة
وإذا كانت التغيرات التي حدثت في الخمسينات، قد أحدثت تحولاً في بنية المجتمع العربي، إذ تراجع دور الريف في مجمل العلاقات الاقتصادية، وتحول إلى الرأسمالية بفعل قوانين الإصلاح الزراعي. واتسع القطاع المديني في الاقتصاد (الصناعة، التجارة، الخدمات). وكذلك اتسع نطاق التعليم (الأطباء، المهندسون، المحامون...) فتكونت فئة من المتعلمين، الذين بدأت تضيق بهم البنى الاقتصادية الاجتماعية القائمة. لتشكل قطاعات واسعة من الباحثين عن عمل، أو الذين يعملون في شروط قاسية.
وإذا كانت هناك علاقة أو بعض من علاقة استمرت بين الريف والسلطات الجديدة، بفعل الدور الذي لعبته هذه السلطات، كونها تعبّر في الأصل عن النزوع الفلاحي، فظلت قطاعات مهمة من الريف على علاقة ما بهذه السلطات، فإن الفئات المتعلمة التي كانت نتاج هذه السلطات، أو التي كانت الوليد الشرعي لها أخذت تتمرد، أو غدت فئة غاضبة متمردة، راحت ترفع صوتها احتجاجاّ على البنية الاقتصادية الاجتماعية المتكوّنة.
إذا كانت كل هذه المتغيرات قد تحققت، فقد أوجدت ظروفاً جديدة، أثرت في تطور الحركة الماركسية العربية. فقد تشققت الحركة الشيوعية العربية، أو حاول بعضها التكيف مع الظروف الجديدة. لكن نشوءاً جديداً أخذ يتضح، لقد بدأ تشكّل ماركسي جديد، نشأ كتعبير عن تفكك الأحزاب الشيوعية والقومية معاً. وقام على أساس قراءة "جديدة " للماركسية، بالعودة إلى الماركسية الأصلية (ماركسية ماركس وإنغلز ولينين)، وفي إطار رؤية انتقادية للخط الشيوعي التقليدي، في جوانب محددة منه. مثل مسألة الوعي ( الثقافة، الفلسفة ) ومسألة الدور الإصلاحي، والمسألة الفلسطينية.
لكن حينما ندقق في الأساس الطبقي لهذه الاتجاهات نلاحظ أن الفئات التي غدت ماركسية، هي من شرائح البورجوازية الصغيرة الريفية والمدينية المتعلمة ( الطلاب والأساتذة والمهنيون والخريجون الذين لا يجدون عملاً..) التي كانت تعيش مأزق الوضع الاقتصادي، والهم الديمقراطي، فلقد سدت سبل العمل أمامها، أو إن توظيفها لم يعد مغرياً نتيجة تدني الأجور، كما أن غياب الديمقراطية كان يحد من انطلاقها.
فإذا كانت البورجوازية الصغييرة "المنتصرة" قد فتحت أفق التعليم وعممته على مختلف قطاعات الشعب، فقد أدى التطور الموضوعي إلى أزمة، حيث قلص عدد المتعلمين المتزايد من فرص العمل، كما أفضى التعليم إلى تلمس الحاجة إلى الديمقراطية لهذا نشأت فئات متمردة أعلت صوتها محتجة، ومعلنة رفضها لمصيرها. لقد حكمها حلم تعميق التحرر، بإعطائه أبعاده المجتمعية، وتعميق التقدم الاقتصادي، بما يحقق توسيع فرص العمل، وتحسين الوضع المعاشي. لهذا رفضت الطبقة التي أوجدتها، معلنة تمردها على طابعها البرجوازي، كما رفضت الحركة الشيوعية التقليدية، نتيجة ارتباط الحركة بهذه الطبقة، أو ذيليتها لها ونتيجة تخلفها الفكري، ومن ثم تناقض منحاها مع مطامح هذه الفئات.
في هذا الوضع تأسس نمط آخر من العمل الماركسي، "مختلف" عن النمط السابق، و "متناقض" معه، لم يكن إصلاحياً كالنمط السابق بل كان "تمردياً"، كفاحياً ومناضلاً. ولم يكن "واقعياً" يقرّ بالأمر الواقع، ويتعايش معه، بل هرب من الواقع إلى الحلم ليقرّ براهنية الثورة الاشتراكية، منطلقاً من تحليل مبسط، يعتبر أن طبيعة الثورة تتحدد انطلاقاً من تحديد طبيعة علاقات الإنتاج، وما دامت علاقات الانتاج رأسمالية عالمياً ومحليا فالثورة إذن اشتراكية، ليبدأ النضال من أجل تحقيق الثورة الاشتراكية، في مجتمع، ، يعاني من تخلف قوى الإنتاج وهزالها، وإن سادت فيه علاقات الإنتاج الرأسمالية ويعاني من سيادة نمط محدد من الرأسمالية وهي رأسمالية التجارة / المال / الخدمات، التي تعني تأسيس اقتصاد تابع، ومن ثم رأسمالية تابعة.
إن حلم التخلص من "الكابوس" الراهن، فرض البحث عن "البديل المثالي"، الذي هو الاشتراكية، لتغدو حلم البورجوازية الصغيرة من جديد، وبنبرة أحدّ، ما دامت الرأسمالية (بصيغتهاالمشوهة) قد غدت واقعاً راهناً، في الماضي. والنمط الاقطاعي هو المسيطر، كان حلم هذه الفئات من البورجوازية الصغيرة ( وهي الماركسية والاشتراكية) في تحقيق التقدم البرجوازي (الثورة البورجوازية)، أما اليوم وقد سيطرت البورجوازية، واندمجت فيها الحركة الشيوعية القديمة فقد حلمت بالاشتراكية. لكننا نلاحظ في الملموس، أي حينما نحلل تصوراتها، أنها تعمق البرنامج البرجوازي، وترفض طابعه التابع، وقاعه المتخلف، إنها تعمق أهداف التقدم، والتحرر والاستقلال.
في هذا الخطاب تظهر الحرفية الماركسية، تتوضح النصية، يطفو التمسك بحرفية النصوص الماركسية الأصلية، في المجال الخاص بالرؤية الاقتصادية الاجتماعية. بينما يعاد إحياء نصوص الماركسية السوفييتية في القضايا التي لا تمس المصالح المباشرة لهذه الفئات لا بل تخدمها، وخصوصاً في الجانب المتعلق بالمسألة القومية، حيث يكون ستالين ( ثم أفاناسييف) المرجع، المطلوب التمسك بحرفية نصوصه، وهما أيضاً مرجع الحركة الشيوعية التقليدية، وكانت حرفية تمرّ بوسيط التنظير السوفييتي، أما اليوم فهي حرفية تعتمد الشيوعية التقليدية. وجدت الفئات البورجوازية الصفيرة، مرتكزها الفكري في "التنظير" السوفييتي للتحالف مع البورجوازية ( مقررات المؤتمر السابع للكومنترن). أما اليوم فقد وجدت مرتكزها في التصور النظري الماركسي المتعلق بالثورة الاشتراكية.
إذا كانت الحرفية في "القراءة" تخرج الفكرة عن سياقها الموضوعي، و تحدد لها معنى خاصاً، فإنها بهذه العملية تصوغها وفق مصلحة محددة، وتضعها في سياق يخدم مصلحة فئات طبقية، هي حاملتها. هنا تغيب الماركسية، يغيب الجدل المادي، وتبقى "الأفكار" مصوغة، وإن بنفس الشكل، لكن في إطار مصلحة طبقية مختلفة عن التي كانت تخدمها في الأصل. إذن غاب الجدل المادي الذي كان يمكن أن يفتح أفق الفهم العميق لمشكلات المجتمع، ويحدد المهمات الجذرية، التي يعني تحقيقها انتقال المجتمع إلى مرحلة نوعية جديدة، تتجاوز مصالح هذه الفئات من البورجوازية الصغيرة.
إذن يمكن القول: إن الحركة الماركسية ما زالت تنحصر في فئات محددة من البورجوازية الصغيرة، الفلاحية في الغالب، ولقد امتدّ انتشارها من الفئات الفلاحية البسيطة ومحدودة الثقافة، إلى الفئات الفلاحية المتعلمة. مع مشاركة معينة لفئات من البورجوازية الصغيرة المدينية. هذه هي القاعدة الاجتماعية للحركة التي حملت عبء النشاط الماركسي طيلة سبعين سنة، وما زالت النبع الذي يرفد الحركة.
والمشكلة، ليست في انتشار الماركسية في هذه القطاعات، فربما يكون ممكناً للحركة الماركسية، في ظروف معينة، أن تستوعب فئات اجتماعية واسعة من البورجوازية الصغيرة. لكن تكمن المشكلة في شقين:
الأول: أن الحركة الماركسية لم تمتد إلى الطبقة العاملة، لم تتوسع في الوسط العمالي، بل ظلت على هامشه، وربما جرت محاولات للتوسع إلا أنها كانت تجهض نتيجة عجز الحركة عن التعبير عن مطامح هذا الوسط. إذ لم يكن برنامجها معبّراً عن مصلحته ( في إطاره المطلبي، وفي إطاره السياسي مما كان يجعلها تستقطب أعداداً محدودة ليست من أكثر فئات الطبقة صلابة ونشاطاً في غالب الأحيان). المشكلة الأولى إذن، تكمن في توسع الحركة في الوسط البورجوازي الصغير، وانحسارها في الوسط العمالي. مما جعل الطابع البرجوازي الصغير هو المهيمن في مجمل الحركة.
الشق الثاني: هو أن دور الوسيط، الذي هو دور فئات مثقفةمن البورجوازية أو من البورجوازية الصغيرة ظل غائباً فلم تستطع هذه الفئات أن تقوم به، سواء نتيجة غياب الثقافة (الوعي) لديها في المرحلة الأولى، أو نتيجة تشوش مفاهيمها و"تنظيرها" بعيداًَ عن المشكلات الحقيقة للطبقة العاملة. وبالتالي نتيجة عجزها عن امتلاك المنهجية الماركسية، الجدل المادي، فلم تمتلك الوعي الشمولي، الذي يجعلها كلما ازدادت ثقافة، ازدادت وعياً للمشكلات الواقعية، ومقدرة على تحديد المهمات التي تفضي إلى تحقيق التقدم وتعبّر عن مصلحة الطبقة العاملة، والجماهير الشعبية.
لهذا ساد الحركة "خطاب" قاصر اتخذ في البدء طابعاً "اقتصادياً" (التركيز على التطوير الاقتصادي بقيادة البورجوازية). ثم اتخذ طابعاً ليبرالياً ( التركيز على التطوير الاقتصادي بقيادة البورجوازية). ثم اتخذ طابعاً ليبرالياً (التركيز على التحديث الأيديولوجي). وأخيراً اتخذ طابعاً أيديولوجياً (التركيز على حرفية النصوص الماركسية) ناسب مصلحة فئة من البورجوازية الصغيرة، في كل هذه التلوينات. وبالتالي غاب الخطاب العمالي بالقدر الذي غاب فيه دور الطبقة العاملة في هذه الحركة.
إذن غاب الخطاب العمالي، غابت مصالح الطبقة العاملة لا الآنية التي كانت تطلّ برأسها أحياناً في ثنايا الخطاب السائد، بل الاستراتيجية، التي تعني تغيير قانون توزيع الثروة، لمصلحتها، في إطار سياسة تحقق مصلحة المجتمع ككل. وبالتالي ينطرح في هذا السياق دور الطبقة العاملة في الصراع الطبقي / السياسي، وموقفها من مسألة السلطة، ورؤيتها لمختلف مناحي الحياة، وللتقدم، وهذا ما يجب أن نبحث فيه من أجل تأسيس "المشروع الماركسي"، مشروع التقدم العربي في الوضع الراهن، والخطوة الأولية نحو الاشتركية.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضد اعتقال هؤلاء - تضامن مع معتقلي الرأي في سورية
- ماركس وحده لا يكفي لكنه ضروري - تعقيب على رد الصديقين عادل و ...
- وحدة الشيوعيين ضرورة لكن كيف؟
- مناقشة لسياسات جديدة - حول تصريحات رياض الترك الأخيرة
- من أجل تأسيس تحالف وطني ديمقراطي علماني يدافع عن الطبقات الش ...
- إعلان دمشق في منعطف جديد
- تعقيب على تعقيب ياسين الحاج صالح: مسألة -بناء الأمة- في سوري ...
- ملاحظات عابرة على مقال الصديق ياسين الحاج صالح ) التفكك الوط ...
- التفكك الوطني والطيف الحداثي (تعقيباً على ياسين الحاج صالح)
- نقاش في النقاش (ملاحظات على رد الصديقين عادل ومسعد)
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي - مناقشة الصديق ...
- ورقة حوار حول المسألة الفلسطينية
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي (مناقشة مع الصد ...
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي (مناقشة مع الصد ...
- سياسة تقسيم العراق مرة أخرى -2
- الباحث الفلسطيني :تصاعد التيارات الأصولية سببه تراجع دور الي ...
- سياسة تقسيم العراق مرة أخرى-1
- ورقة حول مهمات حركة مناهضة العولمة
- متابعات الوضع الفلسطيني
- المجزرة تكتمل: اقتتال من أجل السلطة يدمر القضية -2


المزيد.....




- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الأساس الطبقي في أزمة الماركسية العربية