أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - من أجل تأسيس تحالف وطني ديمقراطي علماني يدافع عن الطبقات الشعبية في سورية















المزيد.....



من أجل تأسيس تحالف وطني ديمقراطي علماني يدافع عن الطبقات الشعبية في سورية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 2154 - 2008 / 1 / 8 - 11:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


}تعيش سورية وضعاً مربكاً، ومنذراً بتغيّرات عميقة نتيجة تراكب أخطار متعددة. حيث تتفاقم الأزمة الاجتماعية نتيجة الوضع المعيشي الصعب الذي باتت تعيشه الطبقات الشعبية، بعد التسارع الذي حكم عملية الخصخصة وتعميم الاقتصاد "الحر"، لكن المهيمن عليه من قبل الرأسمالية الجديدة (مع حصة للرأسمالية القديمة). وتشتد التخوفات من الدور الإمبريالي الأميركي بعد أن لمست تلك الطبقات أن التدخل الأميركي لا يأتي سوى بالفوضى والقتل والحرب الطائفية، كما يبدو واضحاً في العراق. وتقف استبدادية السلطة في وجه كل محاولات تفعيل الحراك المجتمعي. ولأن المعارضة معنية بأن تلعب دوراً فاعلاً من الضروري بلورة تصور لعمل تحالفي يقوم على أسس تعبّر عن الطبقات الشعبية تلك، في مواجهة الاستبداد والنهب، ومن أجل مواجهة المشروع الإمبريالي{.
*******************
إنحكم الوضع السوري منذ تسعينات القرن العشرين لمتغيّر عالميّ، تمثّل في انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، وبالتالي تحوّل الولايات المتّحدة إلى «القطب الأوحد» وميلها للتفرّد في تقرير مصير العالم مستندة إلى تفوّقها العسكري المطلق. بعد أن كان قد إنبنى الوضع منذ الخمسينات على أساس التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية، أو بين الولايات المتّحدة والإتحاد السوفييتي، في إطار ما أُسمي الحرب الباردة، التي سمحت بنشوء ميزان قوى عالمي ساعد البلدان المتخلّفة على أن تستقلّ وأن تطمح بتحقيق أهداف كانت السيطرة الإمبريالية تمنعها بالقوّة في الغالب، من هذه الأهداف: التطوّر الاقتصادي وبناء الصناعة، الطموح لتحقيق التوحيد القومي، تطوير القدرات العسكرية، واستقلالية دور الدول في العلاقات الدولية.
بمعنى أن هذه البلدان تمتّعت بحرية المناورة إلى أبعد مدى، كما باللعب على التناقضات. وهذا ما سمح بتحقيق تطوّر معيّن، حيث جرى تدمير البنى الاقتصادية الاجتماعية القديمة ( الإقطاعية )، وبُدِء ببناء الصناعة وتطوير الاقتصاد. لكن طبيعة الفئات التي حكمت، أسّست لنشوء سلطة استبدادية عِبْرها كان يتمّ تحقيق مصالح تلك الفئات، من خلال نهب الرأسمال المتراكم في يد الدولة، والذي نتج عن التأميم والمصادرات، وبالتالي توظيفها في «البناء» الذي بات مشوّهاً نتيجة ذلك. ولكن كانت الحركة السياسية بمجملها تتدمّر، ونشأت أجيال لم تولِ اهتماماً للشأن العام، وبالتالي لم تدخل ميدان النشاط السياسي.
1) وإذا كانت الدول الرأسمالية ( الأميركية/ الأوروبية/ اليابانية ) عملت على الإفادة من انهيار المنظومة الاشتراكية، والعودة إلى فرض سيطرتها على العالم من خلال تعميم الليبرالية الجديدة تحت شعار العولمة، وبالتالي سعت لفرض شروط جديدة تخدم مصالحها على حساب مصالح الشعوب. وإذا كانت اليابان قد سعت لمدّ أسواقها عبر مشاريع التجارة الحرّة، وإذا كانت أوروبا قد طرحت مشروع الشراكة الأورومتوسطية في هذا السياق. فلقد قاد التفرّد الأميركي إلى رسم إستراتيجية أميركية تهدف إلى تصفية آثار الحرب الباردة، وبالتالي تهدف إلى تغيير كلّ النظم التي خرجت عن آليات النمط الرأسمالي وشكّلت منظومة متحالفة مع الإتحاد السوفييتي ( منظومة باندونغ )، وإنْ كانت لم تقطع مع النمط الرأسمالي. وكان هذا الميل لتغيير هذه النظم ينطلق من العداء ورفض ثلاثة عناصر جوهرية، هي: التصنيع، والميل القومي، والاستقلال. وهذه مسائل يجب أنْ نلحظها بغضّ النظر عن رأينا في النظم التي حكمت. كما يجب أن نشير إلى التوافق بين الولايات المتحدة وكلّ الرأسماليات حول ذلك.
و هذا هو الجانب السلبي، أي ذاك الذي يرفض وضعاً تسعى الأمم المخلّفة إلى تحقيقه، حيث أن السيطرة الرأسمالية على العالم كانت ولازالت تهدف إلى صياغة الأمم المتخلّفة لحظة بدء الاستعمار بما يتوافق مع مصالح الرأسمالية ذاتها. لهذا أُبقيت كدول متخلّفة، وبالتالي باتت مخلّفة. لكن السياسة التي تتبعها الدولة الأميركية اليوم، على ضوء ما سبق، والتي تهدف – من زاوية – إلى تحقيق ذاك الغرض، تقوم على فرض شكل للعالم ينطلق من ثلاثة عناصر، هي: السيطرة على النفط، تحقيق مصالح الشركات الأميركية متعدية القومية عبر «فتح الأسواق» وشركات السلاح ( المجمّع الصناعي العسكري )، منع تطوّر الأمم التي لم تصبح حديثة بعد، ووقف تطوّر الأمم التي تحاول ذلك ( مثل الصين وروسيا وربما الهند كذلك )، وكلّ ذلك يوضع تحت بند «المصلحة القومية الأميركية». وكانت أزماتها الاقتصادية من جهة، وإختلال ميزان التنافس في الإطار الرأسمالي لغير مصلحتها على ضوء تطوّر قدرات أوروبا واليابان من جهة أخرى، والخشية من نشوء قوى جديدة منافسة مثل الصين من جهة ثالثة، هو الدافع إلى التفرّد الأميركي وإلى الميل للسيطرة العسكرية واحتلال المناطق الإستراتيجية سواء من الزاوية الاقتصادية أو من الزاوية الجيوسياسية.
الأمر الذي دفعها إلى نشر جيوشها في العالم، والبدء بسياسة تقوم على الاحتلال. ولقد ساعدت أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 في تمرير ذلك عبر دعم شعبيّ أميركي. كما صنّفت الدولة الأميركية دول العالم إلى دول معها وأخرى ضدها، ووسمت كلّ الدول التي حاولت التطوّر بأنها «دول مارقة»، ومن ثَمّ حدَّدت «محور الشرّ»، والآن حدَّدت «محور الاستبداد». ووُضعت قائمة الدول التي يجب أن «تتغيّر» لأنها تشكّل «بقعاً سوداء» في العولمة، كما جرى تحديد الأولويات حيث أفغانستان أوّلاً ثمّ العراق ثانياً، والآن سوريا وإيران. وكذلك طُرح مشروع «الشرق الأوسط الموسّع» الذي يشمل المنطقة من المغرب العربي إلى آسيا الوسطى. وهي المنطقة التي تحتوي على معظم النفط العالمي، والتي تشكّل سوقاً مهمة، إضافة إلى موقعها الإستراتيجي في إطار الصراعات الدولية ( ضد الصين وروسيا، ولحصار أوروبا الحليفة ).
و لقد بُدِء باحتلال أفغانستان ثمّ العراق، واستسلمت ليبيا رعباً أو حفاظاً على السلطة، وسعت النظم الأخرى إلى التكيّف مع الموجة الأميركية، بما في ذلك النظام في سوريا. لكن مشروع «الشرق الأوسط الموسّع» يحمل معايير جديدة هي التي تحدِّد طبيعة النظم الجديدة، انطلاقاً من السيطرة الأميركية المباشرة عليها عبر الاحتلال أو دونه. والعراق مثال واضح في هذا المجال. ولقد قصدت الإدارة الأميركية التأكيد على أنه مثال لكلّ المنطقة، ومثال يجب تعميمه. حيث جرى تشكيل دولة فيدرالية على أساس طائفي إثني، وسلطة برلمانية تقوم على حكم الأغلبية الطائفية. الأمر الذي أسّس لنشوء دولة هشّة، مسيطر عليها من الخارج، وقابلة للتفكّك داخلياً. دولة محتلّة ذات واجهة سياسية «وطنية».
مما يشير إلى أن الجغرافيا السياسية للوطن العربي باتت معرّضة للتغيير، وليس النظم فقط، بل أن تغيير النظم يأتي في هذا السياق. وهذه نقطة أولى أساسية في إطار مشروع «الشرق الأوسط الموسّع»، حيث أن مضمونه يتمثّل في التواجد العسكري المباشر ( الاحتلال والقواعد العسكرية )، والنظم الدمى وكذلك الهشّة، وحيث إبراز التنوّع الديني والطائفي والإثني كفسيفساء يحكمها التناحر وتميل إلى الاستقلال. وبنى مجتمعية من القرون الوسطى تحتاج إلى «رسل الحرّية والحداثة» لنشر «قيم الحضارة الغربية».
النقطة الأخرى تتمثّل في دور الدولة الصهيونية في إطار النظام الأمني الأميركي، وبالتالي في إطار «الشرق الأوسط الموسّع». ولاشكّ في أن المسألة الأولى هنا تتمثّل في دمج الدولة الصهيونية في المنطقة عبر الاعتراف الكامل بها من قِبل كل النظم العربية والإسلامية، والتعامل «العادي» معها سواء في الإطار الدبلوماسي أو على المستوى الاقتصادي والسياسي، وهذا ما بدأ يتوضّح خلال الفترة الماضية عبر الدور التركي وإلتحاق باكستان، ولكن عبر العلاقات المباشرة مع العديد من الدول العربية، وتكيّف النظام المصري مع المطالب الأميركية بدور «فلسطيني»، والإشارات إلى دور أردني لربطه «بقايا» الضفة الغربية به، و«إنفلات» خليجي نحو الدولة الصهيونية، إضافة إلى موريتانيا وتونس والمغرب. وهذا يفرض تنازلات عربية أساسية تحت شعار السعي لتحقيق «السلام».
لكن الأخطر هنا هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة الصهيونية ضمن الإستراتيجية الأميركية، حيث ستكون مرتكزاً أساسياً للدور العسكري/ الاقتصادي الأميركي، وجزءاً عضوياً في كلّ النشاط الأميركي للسيطرة على المنطقة، سواء بشكل علنيّ وهو الغالب، أو في الخفاء. الأمر الذي يشير إلى عودة دورها العسكري ( أي حروبها ) ضد المحيط ( سوريا ولبنان )، ويمكن أن نتوقّع أن تسهم في الجهد العسكري الأميركي مباشرة. حيث يمكن أن تتحوّل إلى مرتكز إمبريالي هو إمتداد للدولة الأميركية.
و نشير هنا إلى أن «الهدف التالي» بعد العراق يتمثّل في ترتيب الوضع المحيط بالدولة الصهيونية. لهذا باتت سوريا هي هذا الهدف التالي، الذي تعمل الإدارة الأميركية عليه مباشرة على الأقلّ منذ بداية العام 2005، والذي توضّح في خطاب بوش الابن في خطابه حول «حال الأمة». وبالتالي فإن أخطاراً حقيقية تواجهنا الآن، حيث سيكون الهدف الأميركي هو تغيير الوضع وفق الأجندة وفي الصيغة التي أشرنا إليها قبل قليل فيما يخصّ العراق، أي تشكيل دولة هشّة ودمية وقابلة للتفكّك الداخلي، مع سيطرة أميركية مباشرة. دون أن يعني ذلك أن تحقيقه يتطلّب احتلال سوريا كما جرى في العراق، لكنه يتطلّب الإتيان بسلطة موافقة وخاضعة، بغضّ النظر عن السيناريو الممكن هنا، وهل يتطلّب ذلك «عملاً جراحياً» يتمثّل في توجيه ضربة عسكرية ( إسرائيلية أو أميركية ) أم لا؟ ومنْ هي القوى التي ستحققه؟
فإذن نحن هنا إزاء خطر حقيقيّ، يتمثّل في السيطرة الأميركية والتفاهم مع الدولة الصهيونية، ويقود إلى تغيير آليات الاقتصاد بما ينسجم مع مصالح الشركات الاحتكارية الأميركية، الأمر الذي يعني تعميم الإفقار والبطالة والتهميش. ليمتدّ الاحتلال الأميركي للعراق إلى كلّ المنطقة، وتصبح الهيمنة شاملة.
2) لاشكّ في أن انهيار المنظومة الاشتراكية ونهاية الحرب الباردة، قد وضعتا السلطة السورية في مأزق، حيث انتهت الظروف التي كانت تسمح بالمناورة، وبالتالي تحدّد الخيار في الخضوع للقطب الأوحد أو مقاومته، ولأن خيارات السلطة إنبنت على التوازن الدولي فقد باتت تميل إلى التكيّف منذ الاشتراك في الحرب الأميركية الأولى على العراق سنة 1990/ 1991، رغم أن السياسة الأميركية ظلّت تضعها في موقع ملتبس.
لكن المتحوّل العالمي كان عنصراً واحداً، حيث يمكن أن نلمس المتحوّل الداخلي. فقد قادت التجربة ذاتها إلى مشكلات حقيقية، وإلى وضع غير مستقرّ، أو يميل إلى التأزّم. وبات الوضع هشّاً وقابلاً للحراك.
فإذا كانت الإجراءات التي قامت بها السلطة في المرحلة الأولى قد أوجدت قاعدة اجتماعية عريضة تستند إليها، بفعل قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم، وكلّ الإجراءات التي تتعلّق بحقّ العمل والضمان الاجتماعي ومجانية التعليم. وحيث بدا أنها تحقِّق تطوّراً في المجتمع. فقد بدأت الأمور تتوضّح بعد إذ، حيث سنلمس ثلاثة مسائل أساسية حكمت صيرورتها: أ) فقد تبلورت كسلطة فردية دكتاتورية تعتمد على حكم الأجهزة الأمنية، وتأسّست في شكل شموليّ هيمن على كلّ مفاصل المجتمع، من الإدارات البيروقراطية وإحتياجات المواطن العادية إلى النقابات والإتحادات، إلى الحياة العادية للمواطنين ( الولادة والزواج والوفاة والحصول على الهوية والمشروع التجاري.....)، بحيث تغلغلت في مسام المجتمع وأصبحت حاضرة في كلّ مكان. وإذا كانت قد سمحت بكلّ نشاط شخصيّ، بما في ذلك السرقة والرشوة، فقد حرّمت النشاط السياسي حتى على القوى التي شكّلت «الجبهة الوطنية التقدمية». وبهذا فقد كانت تتعامل بعنف مع كلّ المعارضين، وتنهي المجال السياسي بشكل تامّ، في الوقت الذي كانت تلغي دورها كدولة لها مهمات تتعلّق بخدمة المواطن وتسهيل نشاطه العادي وتطبيق القانون.
و من هنا نبع الميل للتأكيد على الحريات الأساسية، وحقّ النشاط السياسي والديمقراطية، حيث أن نمط السلطة هذا كان تدخّلياً في المستوى السياسي والإداري إلى أبعد مدى، الأمر الذي قاد إلى توجيه ضربات عنيفة إلى أحزاب المعارضة أنهت بعضها، وهمّشت الآخر. كما قاد إلى حصر نشاط أحزاب الجبهة في إطارات محدودة أضعفتها إلى حدٍّ كبير. بحيث باتت الحركة السياسية تشكِّل هامشاً في الصورة العامة.
ب) وإذا كانت قد تحسّنت أوضاع فئات اجتماعية واسعة في المرحلة الأولى، حيث حصلت على أرض أو على عمل وعلى حقوق، وبالتالي أحسّت بتحسّن كبير في وضعها، تحسّن يوازي النقلة، فإن السنوات الماضية أعادت فرز الوضع الإجتماعي بحيث لم يعد تطوّر الأجور يوازي تصاعد أسعار السلع والاحتياجات الأساسية للحياة، لأن توزيع الثروة أصبح مختلاً لمصلحة فئة محدودة عملت على نهب موارد الدولة، وكانت تستفيد من المشاريع التي تمتلكها الدولة لتحقيق مصالحها الخاصة عبر طرق مختلفة كانت تودي بالمشاريع ذاتها وتنعكس خسارة على الدولة وبالتالي على المجتمع، وهو الأمر الذي يؤسّس الآن للحديث عن تراكم ديون تلك الشركات، وعن ضرورة خصخصتها لأنها أصبحت عبئاً على الدولة دون الإشارة إلى السبب الجوهريّ في ذلك، ألا وهو النهب، ودون التأكيد على أن هناك خيار آخر غير الخصخصة يمكن أن يُتّبع ويجب أن يُتّبع. وبالتالي فقد كان نشاط الدولة الاقتصادي، الذي أفاد قطاعات واسعة من مختلف الطبقات، مجالاً لنهب هذه الفئة للتراكم الرأسمالي الذي من المفترض أنه ملك للمجتمع، وتحويله إلى ثروة خاصة وُضعت غالباً في البنوك الأجنبية، الأمر الذي دمّر صيرورة التطوّر ذاتها وأوصلها إلى مأزق حتميّ.
و لقد أصبح واضحاً أن فئة قليلة باتت تمتلك ثروة هائلة بينما أفقرت قطاعات شعبية كبيرة، وتضعضع وضع الفئات الوسطى، مما بدأ يشكّل قطيعة بين هذه القطاعات ( التي كانت تشكّل قاعدة السلطة ) والسلطة ذاتها. وباتت أوضاعها سيئة، وهي في مرحلة يمكن أن يزداد السوء فيها نتيجة ارتفاع الأسعار دون ارتفاع موازٍ للأجور، ونتيجة الخصخصة والانفتاح على العولمة وتعميم الليبرالية الجديدة. كما سيقود ذلك إلى ازدياد هائل في عدد العاطلين عن العمل، وفي الحاجة إلى التعليم. وسيقود كذلك إلى تراجع الضمان الإجتماعي وتردّي الوضع الصحّي. وهذه كلها تفرض طرح مطالب جدّية وضرورية، وهي كلها ستكون أساساً لنشوء أزمات اجتماعية حقيقية، خصوصاً إذا تسارع تخلّي الدولة عن دورها عبر خصخصة سريعة، وانفتاح متسارع على «العالم الرأسمالي» كما حدث خلال سنوات 2006/2007.
جـ) والوضع الآن يشير إلى توقّف «التنمية»، حيث أن الميل الليبرالي فرض تراجع دور الدولة الاستثماري، دون أن يكون ممكناً أن يلعب القطاع الخاص الدور الضروري لتشغيل قوّة العمل الفائضة، ولتحقيق «التنمية» عبر التوظيف الضروري في القطاعات المنتجة. وربما يؤدي الاندماج بالعولمة إلى انهيار ما بُنيَ وقطْع الطريق على أيّ ميل لبناء القوى المنتجة.
وبالتالي فإن القوّة التي إمتلكتها السلطة خلال مراحلها الأولى آخذة في التآكل، وأصبحت أضعف بعد أن إنحسرت قاعدتها الاجتماعية. لكن وضع الحركة السياسية ضعيف، وفاعليتها محدودة، وتميل في الغالب نحو موقف ديمقراطيّ ليبراليّ، وبالتالي تبدو أنها تتكيّف مع الميل «الموضوعي» نحو «انتصار الليبرالية» والتبعية للنمط الرأسمالي.
إن تناقضات الوضع الداخلي تتصاعد نتيجة تمركز الثروة وإفقار الطبقات الشعبية، وهو الأمر الذي فرض بدء حراك بطيء لكنه متصاعد. كما أن ضعف السلطة يفرض أن يتحوّل الحراك إلى فعل، وأن يتصاعد كلما تنامى ضعف السلطة. الأمر الذي يشير إلى انفتاح أفق الصراع الداخلي. لكن كلّ ذلك يحدث لحظة الدور الأميركي من أجل التغيير، وبالتالي يفرض مواقف واضحة من هذا الدور لأنه سوف يجلب مشكلات أعمق في كلّ الأحوال. ولقد قاد استبداد السلطة إلى ضعف الحراك السياسي إلى الحدّ الذي يجعل مواجهة الفعل الأميركي محدودة بعد أن دمّرت السلطة الفعل السياسي، وهي أيضاً ضعفت إلى حدٍّ بعيد.
3) وهذا التحديد للسلطة يعني أننا لا نشير إلى السلطة بالمعنى السياسي فقط ، بل نشير إلى الفئات التي نهبتها والتي أفقرت المجتمع ودمّرت «القطاع العام»، والتي بدأت مصالحها تتشابك مع الرأسمال العالمي. لهذا كانت تميل إلى التفاهم مع الدولة الأميركية والتكيّف مع سياساتها، رغم أن قصر النظر السياسي لديها جعلها ( أو جعل قطاعات متنفّذة منها ) لا تفهم حدود القوّة الأميركية ولا طبيعة سياساتها، وقرارها فيما يتعلّق بالسلطة ذاتها. الأمر الذي دفعها إلى ممارسة تكتيكات خاطئة أسهمت في تورّطها، عبر محاولتها توهّم دور لم يعد ممكناً، ووجود لم يعد متاحاً.
و كان تناقضها المجتمعي، وليس السياسي الذي تمثّل في استمرار السياسة الأمنية ومنع السياسة في المجتمع فقط، بل تناقضها الطبقي كذلك الذي بات واضحاً عبر تحوّل الفئات الحاكمة إلى «طبقة» بالغة الثراء، نتيجة النهب الذي مورس طيلة العقود الأربعة. قد أوجد «بؤر تفجّر» اجتماعيّ ذات خطورة. بمعنى أن المسألة لم تعد مسألة سلطة تسلّطية فقط ، حيث يمكن تغيير آلياتها باتجاه ديمقراطي، بل غدت مسألة صراع طبقيّ يتخذ أشكالاً طائفية أو قومية أو طبقية صريحة، يمكن أن تتطوّر بتسارع بالتوازي مع خطوات تلك الفئات الحاكمة إلى تسريع النهب، أو التحوّل نحو اقتصاد السوق وإنهاء دور الدولة الرعائي.
هذا الوضع يجعل التناقض بين تلك الفئات والطبقات الشعبية متفاقماً، دون مقدرة على تمويهه أو تحييده. ويجعل تلك الفئات، وبالتالي السلطة، غير قادرة على تخفيضه، لأن ذلك يعني وقف النهب وتوظيف أموال طائلة لتحسين وضع الطبقات الشعبية ذاتها، هي غير موجودة لأنها هُرّبت إلى البنوك الأجنبية، إضافة إلى أن هذه الفئات لم تعد تفكّر أو تمتلك المقدرة على ذلك. وهو الأمر الذي يجعلها لا تميل إلى تقديم تنازلات جدّية داخلية لإعادة ترتيب التناقضات، حيث أن ذلك يفترض تقديم تنازلات جوهرية في المستوى الاقتصادي عبر رفع سريع للأجور بما يحقّق مستوى معيشيّ أفضل، وضبط العلاقات الاقتصادية من أجل التحكّم بالأسعار ( وهي تفعل العكس من ذلك )، كما إلى التوظيف الاستثماري بما يسمح بامتصاص البطالة الحالية وإستيعاب العمالة الوافدة سنوياً، وبتحريك عجلة التطوّر من جديد. وتنازلات في المستوى السياسي تفرض إنهاء كلّ ما هو استثنائي، وإلغاء الطابع الاستبدادي التدخّلي الشمولي للسلطة، وتحقيق الحرّيات العامة، والاتجاه نحو تأسيس نظام برلماني ينطلق من إلغاء الدستور الحالي وصياغة دستور جديد ديمقراطي ويكرّس العلمانية. وتنازلات أخرى في المستوى الإجتماعي تتعلّق بالتعليم والصحة والضمان الإجتماعي ( أي بدور الدولة الرعائي ). لكي يؤسّس كلّ ذلك لتحييد التناقض الكامن بين السلطة والطبقات الشعبية، من أجل توافق على مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.
وهذا الوضع هو الذي جعل السلطة تفكّر في التكيّف مع السياسات الأميركية وليس «التنازل» للطبقات الاجتماعية.
و إذا كانت الدولة الأميركية تسعى إلى تغيير السلطة، وتهديد البلد في إطار رؤيتها للوضع الجيوسياسي في المنطقة، فإن المقدرة على التفاهم بين السلطة والطبقات الشعبية لا تبدو ممكنة، حيث أن التناقض العميق في المستويين السياسي ( الاستبداد ) والاقتصادي ( الوضع المعيشي )، يفرض تنازلات كبيرة من السلطة وهو ما لا تميل إلى تحقيقه، رغم أن الميل العام لتلك الفئات الحاكمة هو التفاهم مع الولايات المتحدة والتكيّف مع مشروعها، وهو خيارها الوحيد لأن مصالحها باتت تفرض ذلك.
إذن، سيكون التناقض قائماً في مستوى أوّل بين الطبقات الشعبية والسلطة بصفتها تمثّل فئات مافياوية نهبت «القطاع العام»، وأفقرت تلك الطبقات، وأيضاً بصفتها دكتاتورية انطلاقاً من أن الدكتاتورية هي الغطاء الذي سمح بتحقيق كلّ ذلك النهب، وبالتالي أوجد التمايز الطبقي ( التفارق الطبقي ). لكن التناقض في مستوى ثانٍ هو بين الطبقات الشعبية والمشروع الإمبريالي الأميركي ( أو الإمبريالي بقيادة أميركية )، نتيجة «الطابع العام» للرأسمالية كونها تنهب المجتمعات والطبقات، وتفقر الشعوب وتمنع تطوّرها. وكونها تنزع نحو الحروب البربرية وتميل لاحتلال دول. ونتيجة كونها ( بالتالي ) تحتلّ العراق وفي ترابط لا ينفصم مع الدولة الصهيونية التي تحتلّ فلسطين، وكذلك مجمل سياساتها العامة تجاه الوطن العربي وكسر طموحه نحو الاستقلال والتحرّر والتوحّد ( وهذا هو نتاج الشعور القومي العام لديها ). وثالثاً نتيجة إستهدافها سوريا وسعيها إلى صياغة النظام السياسي الاقتصادي بما يتوافق مع مشروعها الإمبريالي الصهيوني. ولاشكّ في أن الإحساس بالخطر الأميركي حقيقة واضحة لدى تلك الطبقات.
و في مستوى ثالث فإن «التناقض» بين الفئات الحاكمة والإمبريالية نتج، في لحظة، عن رؤية كلّ طرف لدوره، وبالتالي لدور الآخر، إقليمياً وعربياً. وعن عدم تطابق ميل الرأسمالية الإمبريالية لفرض الليبرالية الجديدة المتوحّشة، وبالتالي إطلاق هيمنتها على البنى الاقتصادية ( بما في ذلك تدمير بنى قائمة – الصناعة مثلاً – وإعادة صياغتها ) هذا من جهة، وميل الفئات الحاكمة إلى «الهدوء» في تكييف انفتاحها وخضوعها ( الذي أُسمي التباطؤ في الإصلاح ) من جهة أخرى. لكن يبدو أن الرؤية الأميركية لوضع السلطة لا يقف عند حدّ تغيير السياسات، الأمر الذي جعل «التفاهم» غير مطروح مع السلطة. لكن في وضع السلطة القائمة، فإن مصالح كتلة الفئات التي أثْرت تميل إلى التكيّف، وبالتالي التخلّي عن كلّ العناصر «المعاندة» ( أو المرفوضة )، سواء في المستوى السياسي أو في المستوى الاقتصادي، وهو الأمر الذي يشير إلى هشاشة بنية السلطة وعدم تماسكها أمام الضغوط الأميركية.
و إذا ما نشأ ميل لتخفيض التناقض مع الطبقات الشعبية، إنْ تبلور لدى طرف، فسوف يشقّ الفئات الحاكمة ذاتها، لأن مصالحها لم تعد تتوافق مع ذلك، رغم أنها يمكن أن تميل إلى قبول الشقّ السياسي ( وإنْ في صيغة مشوّهة )، لكن يمكن أن يتحقّق ذلك في إطار سعيها للتكيّف مع «الإرادة الأميركية»، في سياق تطبيق «التصوّر الديمقراطي الأميركي» القائم على تأسيس نظام برلمانيّ فيدراليّ طوائفيّ، يُضعف الدولة ويؤسِّس لتفككها، ويؤسِّس سلطة هزيلة ملحقة.
لهذا فإن تحالف الطبقات الشعبية مع الفئات الحاكمة لمواجهة «الخطر الأميركي» يبدو صعباً. وفي كلّ الأحوال فإن قدرات وقف التكيّف مع السيطرة الإمبريالية الأميركية ( بغضّ النظر عن شكل هذا التكيّف ) يبدو صعباً كذلك، لأن السلطة ليست متماسكة وتميل في الغالب إلى التكيّف. ولهذا فهي لازالت تقمع الحراك السياسي عموماً بما فيه الحراك المناهض للإمبريالية الأميركية، ولازالت تشلّ كلّ إمكانية لتنظيم القوى الهادفة إلى مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.
في هذا الوضع تنطرح مسألة صياغة التحالفات، والتكتيك الضروري الآن. فالتناقض مع المشروع الإمبريالي الأميركي غير قابلٍ للحلّ إلا عبر الصراع، وبالتالي من المنطقي التفكير الجدّي بالمقاومة، وبرؤية عربية للمقاومة مادام المشروع الإمبريالي يطال كلّ الوطن العربي ( إضافة إلى آسيا الوسطى وأيضاً العالم ). وهذه مسألة تعزِّز الإطار القومي الديمقراطي للعمل.
لكن، وأمام هذا التناقض، لا يبدو ممكناً تشكيل تحالف مع السلطة نتيجة ما سبق، لهذا يمكن الانطلاق الآن ( وكلمة الآن مهمة هنا ) من التالي:
أ) التأكيد على مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي، والتأكيد على رفض تدخّله وصيغته لتكوين الدولة والمجتمع في سوريا والوطن العربي ( والعالم ). وهذا المستوى يتخذ شكلاً دعاوياً تحضيرياً، لأن «التلامس» لم يحصل بعد. وسيصبح ملموساً لحظة التدخّل سواء في شكل عسكريّ أو في شكل إقامة سلطة خاضعة.
ب) إن الصراع من أجل انتزاع الديمقراطية وحقوق الطبقات الشعبية يظلّ أساسياً في الممارسة العملية مادامت السلطة مستمرّة، ولهذا يكون الهدف هو تحقيق التغيير الديمقراطي العلماني الذي يحقِّق مطالب الطبقات الشعبية.
جـ) لكن وجود الخطر الأميركي يفرض ضمن ما ورد في الفقرة السابقة، التحشيد لمواجهته. والعمل لتفعيل الحراك الإجتماعي هو المدخل لتحقيق التغيير الوطني الديمقراطي العلماني، وتحضير القوى لمواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي.

4) انطلاقاً من ذلك يمكن أن نلمس إشكالين يحكمان المستوى السياسي المعارض، ينتجان عن «عقل أحاديّ» يضع المسائل في إطار مبسّط يقوم على ثنائية السلطة أو أميركا، الاستبداد الداخلي أو الخطر الأميركي. الإشكال الأوّل يتمثّل في الميل لاعتبار «الخطر الأميركي» هو التناقض الرئيسي، وبالتالي السعي لـ «الالتفاف» حول السلطة وتمتين «الوحدة الوطنية» من أجل مواجهة «المخططات الإمبريالية». وربما كان هذا الميل هو استمرار للمنطق الذي ساد في الحزب الشيوعي السوري، الذي كان يغلّب التناقض الخارجي على التناقضات الداخلية، ويعتبر أن مواجهة الإمبريالية هي التي تحظى بالأولوية بغضّ النظر عن كل «الملاحظات» على الوضع الداخلي، حتى إذا تناقضت الوقائع مع كلّ التوافقات التي تحدَّدت في «ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية».
هذا الميل الذي كان في السابق وينشأ الآن، يقوم على تبخيس المشكلات الداخلية التي تكوّنت خلال العقود السابقة، والتمايز الطبقي الذي تبلور خلال ذلك، على عكس الوضع حينما تحقّق التحالف مع السلطة، حيث كان الاختلاف الجوهري يتمثّل في مسألة طبيعة السلطة فقط، لأن السياسات الاقتصادية التي كانت تنفذ آنئذ لم تكن تخدم المعارضة، وكانت تهيئ لتحالف قوى تحت شعار «مواجهة الإمبريالية والصهيونية». لكن الظرف الراهن يؤشّر إلى تناقض داخليّ عميق لا إمكانية لجسره من أجل تحالف يواجه الخطر الأميركي، خصوصاً أن السلطة مستمرّة في آليات ممارساتها في المستوى السياسي و في المستوى الإجتماعي الاقتصادي، ولا يبدو أن مصالح الفئات الحاكمة تسمح بذلك كما أشرنا للتو. الأمر الذي يجعل التحالف إلتحاقاً بسلطة هشّة، وعلى أبواب تغيير بفعل دوليّ وأميركيّ خصوصاً. في وضع لا تضيف القوى السياسية شيئاً في ميزان القوى بعد أن دُمّرت بفعل القمع المديد، وبفعل التحوّلات المجتمعية المشار إليها سابقاً، كما بفعل مشكلاتها الذاتية. وأيّ فعل يفترض فتح السلطة لحرّية الحراك السياسي الاجتماعي من أجل تهيئة القوى لمواجهة الخطر الأميركي.
كما أن «التحالف» الآن، والسلطة هي التي تمارس القمع والنهب، والخطر الأميركي لازال غير ملموس ولا أمر واقع وغير محدَّد الشكل ( أي الاحتلال أو التغيير الداخلي )، يجعله إلتحاقاً من جديد كما كان سنة 1972 حين تأسست الجبهة الوطنية التقدمية، لكن دون جدوى، ودون قبول عام ليس من الأحزاب فقط بل من الطبقات الشعبية كذلك. لهذا سيبدو أن مواجهة الخطر الأميركي سوف تتحقّق فقط بعد أن يكون قد أصبح أمراً واقعاً، وليس قبل ذلك، حيث أن شروط التحالف القادر على المواجهة الآن ليست قائمة، وهي تتعلّق بتنازلات عميقة تقوم بها السلطة بالتحديد.
و ربما نتج هذا الميل عن موقف «غريزيّ» تبلور نتيجة النظر الأحادي الذي تحدَّد في «التناقض الرئيسي»مع الإمبريالية. وهو الخطاب الذي ولّد معكوسه نتيجة هشاشته وتبسيطيته الفظّة، والتي بدت واضحة أمام تطوّرات الوضع الداخلي، وتفاقم الاستبداد والنهب وبالتالي التمايز الطبقي. ولأن المسألة باتت «غريزية» فقد جرى غضّ النظر عن التحوّلات الداخلية ( التي كانت تترافق بإمتيازات لأحزاب معيّنة). وظلّ الشعار العام هو: مواجهة الإمبريالية.
و الآن ماذا يمكن أن يضيف أيّ تحالف بعد أن بدت كلّ القوى هشّة، والوضع الداخلي غير قادر على الفعل؟ يمكن أن يضيف فقط اتخاذ موقف يضعف إمكانات المستقبل عبر وضع تلك القوى الداعية إلى ذلك في موقع الالتباس، وربما الشكّ نتيجة تقاربها من السلطة. وبالتالي فإذا كانت مواجهة «الخطر الأميركي» ضرورة، لكنها لا تفرض التحالف مع السلطة، بل تفرض التعبئة وتحضير القوى المجتمعية للمواجهة حين تصبح قائمة. ومن أجل ذلك ستبرز أهمية الديمقراطية، لأن السعي لمواجهة ذاك الخطر مترابط مع العمل لتحقيقها، كما أن تحقيقها مترابط مع التحضير لمواجهة ذاك الخطر كما أشرت سابقاً.
في المقابل، ينشأ الإشكال الثاني الذي يتمثّل، على العكس، في «الإتكاء» على «الخارج»، وتصوّر أن إنهاء الاستبداد و«نشر الحرّية» لن يكونا إلا بفعل خارجيّ، أميركيّ تحديداً. ولاشكّ في أن القمع العنيف الذي مارسته السلطة، والسجون، وأيضاً الهيمنة الأمنية على المجتمع، كلّها مسائل أسّست لـ «وعي» يقوم على أن التغيير الداخلي مستحيل، حتى أن شعار «إلى الأبد» إنغرس في وعي كلّ الذين باتوا يراهنون على «الخارج»، ويتوهمون بأنه يحمل «المنّ والسلوى» الديمقراطية. وإذا كانت طبيعة السلطة الاستبدادية الشمولية مؤذية ومدمّرة، لاشكّ في ذلك، إلا أن الوضع يحتاج إلى أبعد من رؤية هذه «النقطة»، سواء فيما يتعلّق بفهم الوضع الداخلي الآن ( وليس في العقدين السابع والثامن خصوصاً )، وكذلك فيما يتعلّق بفهم طبيعة «الخطاب الديمقراطي الأميركي»، وبالتالي الأهداف الأميركية المبنية على المصالح وليس على القيم.
لقد أنتج الشعور بـ «العجز» والميل لـ «الرد»، الميل إلى رفض كلّ ما قالت به السلطة ( الخطاب الأيديولوجي، حتى بكلماته )، وكلّ ما بنته. وبدت أنها «الشرّ المطلق» الذي ليس من خيار لهزيمته سوى عبر «مخلّص»، وهو ذاك الذي تكون له مخططات لتغيير السلطة ومناصبتها العداء، بغضّ النظر عن كلّ أهدافه أو مصالحه وممارساته. كما قاد رفض الشعارات التي أطلقتها السلطة إلى قبول الشعارات المعاكسة، حيث بدل الاشتراكية (التي كانت توسم بها السلطة ، وحتى لدى الذين لم يقرّوا سابقاً أنها كذلك، حيث أصبحت الآن هي كذلك) كانت الليبرالية، وبدل القومية كانت «الدولة الوطنية» و«المتحد الوطني». وبدل مواجهة الإمبريالية النوم في حضنها 0000 الخ.
هذا الخطاب ينطلق من الغريزة في وعي الواقع، وبالتالي ينطلق من ردود الفعل، الأمر الذي يحوّلها إلى «عملية إنتقام شخصي» أكثر منها عملية صراع سياسيّ ، وربما مسألة مصالح كذلك. مما يخفض السياسة إلى مسألة «ذاتية»، و«وعي غريزيّ». وهو الأمر الذي يقود إلى وعي الدور الأميركي كـ «إله منتقم»، وإلى بوش كـ «مخلّص» يحمل رسالة أخلاقية تتمثّل في «نشر الحرّية والديمقراطية» على دبابة. دون الحاجة إلى النظر إلى ما يجري في العراق، وكيف أن وعود الديمقراطية والحرّية تحوّلت إلى فوضى، و«ديمقراطية طوائف» تقوم على المحاصصة، والليبرالية تحوّلت إلى دمار طال البنى التحتية والصناعة 000 الخ. إن الغريزة التي ترفض ما هو قائم تقود إلى قبول الآخر دون وعي بماهيته. فالرفض هو الأساس دون الحاجة لتحديد البديل أو التدقيق في المشاريع المطروحة.
و هنا تقود مواجهة خطر الاستبداد إلى أخطار كبيرة كذلك، دون التأسيس لدور ذاتيّ مستقلّ، يعي ما يريد، ويعمل من أجل تحقيقه. إنه ينتظر المخلّص لتحقيق «الحلم» الذي بدا كـ «الحلم الاشتراكي» السابق والمحمول على الدبابة السوفييتية، لكن بشكل معكوس هذه المرّة.
هذان الإشكالان يعبّران عن نزعات من الضروري أن تُكشف وأن تُنقد في سياق السعي لبلورة رؤية جدية. لكن سنلمس أنه في المستوى النظري/ السياسي يمكن أن نلمس إشكالين كذلك، يحتاجان إلى خوض صراع فكريّ معهما، رغم الالتقاء في بعض النقاط، لكنهما يمثّلان اتجاهين لا يسمحان بتحقيق التطوّر ، بل يكرّسان التخلّف والتبعية. واحد في المستوى الاقتصادي ( التيار الليبرالي ) والآخر في المستوى المجتمعي ( التيار الأصولي الإسلامي )، وبالتالي فهما يتوافقان في نقاط أساسية. وربما كانا يهيمنان على وعي النخب ( في السلطة والمعارضة ). ولاشكّ في أن التحوّلات القادمة سوف تجعل منهما تياران قويان، وينشئ «الصدام» معهما، بسبب النتائج الواقعية لدورهما.
فالليبرالية، التي بدأت تصبح خيار النخبة الحاكمة وخيار قوى أساسية في المعارضة، باتت تشكّل تياراً سوف يطبع المرحلة القادمة، ليس على المستوى الفكري فهو أهزل من أن يقدّم فكراً، بل في المستوى العملي عبر تعميم اقتصاد السوق المنفلت، أي دون حساب للواقع ودون ملاحظة إنعكاس تعميمه على الطبقات الاجتماعية، وعل مجمل الاقتصاد الوطني، كما على القرار السياسي ودور سوريا العربي والعالمي. الأمر الذي سوف يقود إلى إعادة ربط سوريا بالنمط الرأسمالي العالمي من موقع التبعية، وبالتالي تدمير كلّ القطاعات الاقتصادية التي تشكّلت خلال العقود الماضية، دون بناء قطاعات منتجة جديدة، وبالتالي تعميم الاقتصاد الطفيلي. وهو الأمر الذي سوف يفرض تعميم البطالة والفقر، وإنهاء عملية التطوّر المتوقّفة منذ زمن.
و إذا كانت الفئات الحاكمة قد مالت إلى الليبرالية بعد أن نهبت وأصبحت ذات مصالح خاصة، فإن أزمة الصراع مع السلطة أنتجت الاتجاه ذاته في الحركة السياسية. فقد فرض «العقل الأحادي» الذي إعتبر أن السلطة هي سلطة اشتراكية، فرض أن تصبح الليبرالية هي البديل الوحيد ( البديل المقدّس، فهو نهاية التاريخ ). كما أن الإنتماء للماركسية ( وأساساً للمنظومة الاشتراكية ) فرض التحوّل إلى الليبرالية لحظة انهيار تلك المنظومة، حيث بدت الاشتراكية كوهم والليبرالية كواقع راسخ.
و لاشكّ في أن هذا التيار يتقاطع مع الميول التي تراهن على «الخارج»، وربما كانت تلك الميول تعبّر عن الحدّ المتطرّف في التيار الليبرالي، رغم أن هذا التيار يتكيّف في إطار العولمة، ولا يرى إمكانية غير ذلك، دون أن يتوافق بكليته تماماً مع السياسات الإمبريالية الأميركية.
نحن هنا إزاء تيار يسعى لفرض التكيّف مع السيطرة الرأسمالية والاندماج في العولمة، وبالتالي الإلتزام بكل السياسات العولمية، خصوصاً تعميم الليبرالية الجديدة وتهزيل دور الدولة، وتمييع مفهوم السيادة الوطنية والاستقلال الوطني. الأمر الذي سوف يفرض تفاقم الأزمات الاجتماعية على ضوء انهيار البنى الاقتصادية القائمة. انهيارها بفعل المنافسة القوية من قِبل الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي باتت تفرض شروطها، وتصيغ الظروف التي تخدم احتكارها.
و نحن هنا إزاء صراع على تحديد اختيارات تمسّ عملية التطوّر أو تنفيها، وبالتالي تمسّ كلّية المجتمع. وتتمحور هذه الاختيارات حول دور الدولة الاقتصادي الرعائي بالأساس، أو السعي لفرض حرّية مطلقة للسوق وللنشاط الرأسمالي يؤسِّس لتنافس غير متكافئ مع احتكارات عالمية قادرة على أن تفرض منطقها على شعوب العالم. ونحن هنا ننطلق من الدفاع عن ضرورة التطوّر الذي لن يتحقَّق إلا عبر دور الدولة الاقتصادي ( مع كلّ الملاحظات التي يمكن أن تُقال عن دورها الماضي والراهن، والإشكاليات التي أنتجتها، والسعي لتجاوز هذه الإشكاليات )، ودورها الرعائي لمصلحة الطبقات الشعبية. دون أن يعني ذلك رفض كلّ دور للرأسمال الخاص، أو فرض «التخطيط المركزي» كما كان يُطبّق في البلدان الاشتراكية، حيث يجب أن يمارس الرأسمال الخاص نشاطه في إطار آليات سوق تقوم على شكل من أشكال التخطيط ( الذي يسمّى التخطيط التأشيري )، الذي هو أمر ضروري من أجل عملية التطوّر، وفي إطار دور حمائيّ تمارسه الدولة لتخفيف إنعكاس اللاتكافؤ على الاقتصاد الوطني. ولكي يكون الرأسمال الخاص جزء من عملية التطوّر ذاتها بدل أن ينشط في القطاع الهامشي أو الطفيلي، أو في الخدمات والتجارة فقط.
لهذا، ولأن هذا التيار يدفع الوضع في هذا المسار، لابدّ من مواجهة فكرية معه، لأنه يقود في حال انتصاره إلى انهيار اقتصادي اجتماعي شامل, وإذا كان هذا التيار يتناقض الآن مع السلطة، فهو يتناقض في المستوى الاقتصادي مع الزوايا التي يجب الحفاظ عليها ومحاسبة المسئولين عن فشلها، كما يتناقض مع عملية التطوّر المجتمعيّ ذاتها ( والمسألة هنا تتعلّق بـ «القطاع العام»، وبدور الدولة الاقتصادي)، وإذا كان يتبنّى الديمقراطية ( وهو ما يمكن التوافق عليه )، لكنه يطرحها في إطار مشوّش وينفي الديمقراطية ذاتها، نتيجة أنه يطرحها منطلقاً من رفض الاستبداد فقط وليس من وعي ماهية الديمقراطية. وهذا ما يجعل هدف الليبرالية الأساسيّ هو تعميم اقتصاد السوق المنفلت، وإنهاء دور الدولة الاقتصادي الرعائي والحمائي. أما الديمقراطية فتتبلور في النهاية في شكل مشوّه، ومختزل في ممارسة شكلية ( رغم أهمية بعض جوانبها ) تتمثّل في حرّية الأحزاب والصحافة وحقّ الانتخاب وتداول السلطة، حتى وإنْ إنبنت على أساس «مكوّنات» المجتمع التقليدية، وعلى تهميش الطبقات الشعبية. حيث إن حدود الديمقراطية الممكنة في إطار سيطرة الليبرالية لا تتجاوز تداول السلطة بين الفئات من النمط ذاته، لتعيد إنتاج السلطة ذاتها، مع كبح نشاط كلّ التيارات التي تسعى لتجاوزها، وكبح الحراك المجتمعي.
و إذا كان من تقاطع حول الديمقراطية مع هذا التيار، فهو لا يسمح بتأسيس تحالف، بل قد يفرض التنسيق في حدود النشاط الديمقراطي فقط . ويجب أن نلاحظ أن هذا التيار يتوافق من حيث التوجّه مع قسم هام من الفئة الحاكمة التي نهبت في تحوّلها الليبرالي، ويمكن أن يكونا، وبالترابط مع الفئات البرجوازية التقليدية التي استفادت أيضاً من السلطة طيلة العقود السابقة، هم النخب الحاكمة القادمة. وبالتالي فإن التناقض مع هذا التيار يتوسّع، وسيكون ذا طابع فكريّ وسياسي حالما يتحوّل إلى سلطة.
أما التيار الأصولي، أي جماعة الإخوان المسلمين، فهو يحمل مشروعاً متكاملاً، يقوم على أسلمة المجتمع. وإذا كان يتبنى الديمقراطية كخيار في الوقت الراهن، فإن مشروعه لا يقف عند هذا الحدّ، ولا يمكن تلخيصه أو إختزاله في هذه النقطة فقط، لأنه يحمل مشروعاً ليبرالياً على المستوى الاقتصادي ( وكان ضد الإصلاح الزراعي وضد التأميم من منطلق الحقّ المطلق في الملكية التي لا يجوز بالتالي مصادرتها )، ومحافظاً على المستوى الإجتماعي ( حيث يميل إلى فرض قيم تسمّى إسلامية رغم أنها متخلّفة وباتت من الماضي )، واستبدادياً على المستوى الشخصي ( عبر التدخّل في تفاصيل حياة البشر )، وبراجماتياً على المستوى السياسي والوطني ( وقبوله الديمقراطية نابع من ذلك )، وأيضاً مثيراً لتعصّب ديني وطائفيّ على المستوى العملي ( نتيجة انطلاقه من تمثيل فئة إسلامية دون غيرها )، حتى وإنْ أشار إلى التسامح واحترام الآخرين، وتأكيده على قبول الطوائف والأديان الأخرى.
و بهذا فإن الاختلاف معه لا يقف عند مستوى، ومجالات التناقض معه أعلى لأنها تطال مستويات متعدّدة، أو بالتحديد لأنها تطال مشروع شموليّ يطال كلّ التكوين المجتمعي، من الدولة إلى الاقتصاد إلى البنية المجتمعية، ومن التدخّل في السياسة إلى التدخّل في كلّ مكوّنات الشخص/ الإنسان.
و بالتالي فإن التوافق على المطلب الديمقراطي الآن ( مع كل الملاحظات التي يمكن أن تُطرح على صيغة الديمقراطية التي يتضمّنها مشروعه )، يترابط مع التناقض العميق الآن وفي الفترة اللاحقة، فيما يتعلّق بمجمل المشروع الذي يطرحه. الأمر الذي يؤسِّس لتقاطع محدود في إطار النشاط الديمقراطي، وتناقض أعلى في إطار التوجهات. فالحقوق الشخصية وحقوق المرأة مسألة صراعية جدّية، والموقف من الليبرالية مسألة أخرى، وفرض الاستبداد الديني مسألة ثالثة، والتدخّل في التعليم ورسم السياسات التعليمية مسألة رابعة، ومسائل كثيرة أخرى يمكن أن تكون مجال صراع جدّي. فالمسألة هنا تتعلّق بالصراع بين مشروعين: مشروع تقليديّ يسعى لإعادة سيطرة البنى التقليدية ( بما فيها المؤسسات الدينية، والشريعة )، ومشروع آخر يهدف إلى تحقيق الحداثة والتطوّر. وغالباً ما يكون التقاطع بين المتناقضين محدوداً. وإن كان الصراع هنا لا يعني الحرب والعنف، بل يعني الصراع في المستوى الفكري السياسي.
في المقابل، هناك قوى أصولية بدت وكأنها تحمل لواء الحرب ضد الإمبريالية الأميركية ( الغرب المسيحي وفق مصطلحاتها )، وهي واقعياً تقول أنها تشتبك مع الولايات المتحدة. ولقد أصبحت لها قاعدة ما في سوريا. وهي بلاشكّ أشدّ سلفية من الإخوان المسلمين رغم إعتمادهما على المراجع الفقهية ذاتها ( الغزالي وإبن تيمية، وإبن عبد الوهاب وحسن البنا، وسيد قطب خصوصاً ). وأقلّ ثقافة ووعياً ومعرفة بالسياسة. وتطرح علناً مسألة السلطة الدينية ( الخلافة ). كما أنها تخوض «الحرب» ضد الولايات المتحدة من منطلق ديني وعلى أساس ديني، رغم أنها كانت في تحالف وثيق معها في إطار المعركة العالمية ضد الإلحاد كما كانت تُسمّى، وكانت صنيعة الولايات المتحدة والنظم العربية معاً في مواجهة الإتحاد السوفييتي، وهي نتاج الثقافة الوهابية التي تعممها السعودية منذ عقود. كما تنطلق من موقع طائفيّ واضح معادٍ للطوائف الأخرى.
و إذا كانت لم تدخل بعد في النسيج السياسي السوري، فإنها مرشّحة لذلك في المرحلة القادمة. الأمر الذي يفرض تفكيك خطابها، حتى وهي تحارب الولايات المتحدة، لأن هذا الخطاب وتلك الممارسة يفكّكان المجتمع ويدمّرانه، وبالتالي فهي الوجه الآخر للتدمير الإمبريالي الأميركي نتيجة مشروعها التفكيكي التدميري ، رغم «صراعها» الراهن مع الولايات المتحدة،. مع ملاحظة أنها تحوي أفراداً معنيين بالحرب ضد أميركا، ينتمون إليها نتيجة غياب التيارات الأخرى المصممة على قتال الجيوش الأميركية المحتلّة. ولهذا يجب العمل على استقطابهم لأنهم جزء من القوى التي باتت تقاتل من أجل هزيمة المشروع الإمبريالي.
يبقى أن نتناول المسألة الكردية التي باتت عنصراً فاعلاً في الواقع السياسي الراهن، ومجال تجاذب وأساس أوهام. والمسألة تأخذ أهميتها نتيجة وجودها أولاً، لكن أيضاً نتيجة التقوّلات الناتجة عن كبت التعبير عنها طيلة عقود، ونشوء مشكلة المجرّدين من الجنسية التي أخذت تتفاقم دون حلّ طيلة تلك العقود.
و إذا كانت بعض الميول تربط وضع الأكراد في سوريا بكلّ مناطق كردستان (في العراق وتركيا وإيران)، كونهم شعب واحد، وكونها أرض واحدة، فإن العرب يعتبرون أن هذه الأرض من سوريا (و أخرى تمتدّ جنوب تركيا من حدود العراق إلى البحر المتوسط، بما فيها الإسكندرون) هي جزء من الوطن العربي، كما أن السريان يعتبرونها أرضهم على مرّ التاريخ. وإذا كانت العلاقة بين السريان (الآراميون عموماً) والعرب تحتاج إلى بحث كون رابط عميق يربطهما، ليبدو العرب كأبناء للآراميين –و كلّ ما يطلق عليه: الساميون-، وتبدو الحضارة العربية كوريثة لكلّ الحضارات الأسبق (ومنها الآرامية)، فإن وضع الأكراد يحتاج إلى تدقيق، كما إلى بحث تاريخيّ، ومن ثَمّ إلى عقلانية عالية كيلا تكون أساس تناقض يقود إلى صراعات عبثية.
و يمكن الإشارة هنا إلى أن وضع الأكراد في العراق واضح، حيث أنهم يقيمون ضمن حدود أرضهم التاريخية, وكذلك في إيران وتركيا. لكنهم في سوريا يقيمون على أرض جديدة، هي تاريخياً أرض عربية. ولقد قادت الإضطهادات في تركيا إلى رحيل معظمهم إليها في عقود متأخرة (و هذا ما يمكن أن يظهر في أيّ بحث في الوثائق)، الأمر الذي يفرض السؤال عن وضعهم، وبالتالي عن حقوقهم.
و إذا كانت الأحزاب الكردية تطرح الحقوق الديمقراطية في برامجها، وتطالب بإعادة الجنسية إلى المجرّدين منها، فإن ميولاً تظهر لربط المنطقة التي يتواجدون عليها بكردستان «التاريخية»، لتصبح القضية الكردية في سوريا هي قضية «أرض وشعب». ولاشكّ في أن ذلك يؤسِّس لأزمة قابلة للانفجار، ويعزّز الميول المتعصّبة المقابلة، حيث لم تكن منطقة الجزيرة السورية جزءاً من كردستان التاريخية في أيّ وقت من الأوقات. لهذا كان الوجود الكردي فيها حديثاً. رغم وجود أقليات كردية في مناطق أخرى من سوريا منذ عقود طويلة (في دمشق والجولان وريف حلب).
و بالتالي فهم، كما التركمان والأرمن والشركس، أقلية تسكن ضمن حدود الأرض العربية. وهذا يجعل لهم، بخلاف حقوق الأكراد في العراق وتركيا وإيران التي تتمثّل في حقهم في الاستقلال والتوحّد في دولة كردية واحدة، يجعل لهم حقوق أقلية: أي حق المواطنة، ومجمل الحقوق الثقافية واللغوية. أي حق التعبير عن ثقافتهم وعاداتهم، والتكلّم بلغتهم. ويمكن كذلك أن يحصلوا على حق التمثيل السياسي ضمن حدود المناطق التي تشهد كثافة في التواجد، لكن ضمن إطار الدولة السورية.
و بهذا فإن مطالب الأكراد تندرج ضمن المطالب الديمقراطية العامة. وبالتالي فهي مطالب في صلب البرنامج الديمقراطي، كما كلّ الأقليات الأخرى.

5) هذه الصورة لواقع التيارات تفرض النظر إلى التيارات الأخرى، الماركسية والقومية الديمقراطية والإسلامية المتنوّرة، التي يمكن أن تتوافق على مشروع للتغيير الوطني الديمقراطي العلماني، والمدافع عن الطبقات الشعبية. الأمر الذي يفرض العمل على تأسيس تحالف واسع من كلّ القوى والهيئات المجتمعية والشخصيات والمثقفين، المعنيين بتحقيق التغيير وبمواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي، مع أولوية السعي لتحقيق التغيير لأنه وحده الذي يسمح بتحشيد القوى من أجل المواجهة، وتأسيس مقاومة جادّة له. إذن ( إلى الآن ) تكون الأولوية لتحقيق التغيير المنطلق من:
• التغيير السياسي، بالسعي لتأسيس نظام ديمقراطيّ علمانيّ ينطلق من إقرار مبدأ المواطنة ومن أن الشعب هو مصدر التشريع، وفصل الحيّز الديني عن الحيّز السياسي، ليقرِّر الحريات العامة وفصل السلطات واستقلالية القضاء وحقّ الإنتخاب، وتداول السلطة ، ودور الهيئات المجتمعية في الرقابة على نشاط الدولة السياسي والاقتصادي، وتأكيد حقوق المرأة انطلاقاً من المساواة بين الجنسين واستصدار قانون للأحوال الشخصية مدني، وحلّ مسألة الأقلية الكردية حلاً ديمقراطياً عبر الاعتراف بحقوقها الثقافية وبكون الأكراد هم مواطنون سوريون لهم حقّ المواطنة ككلّ السوريين وحقّ الأقليات في التعبير عن لغتها وثقافتها.
• تحقيق مصالح الطبقات الشعبية بتكريس حقّ العمل وإنهاء مشكلة البطالة، وتحسين المستوى المعيشي برفع الأجور بما يناسب واقع الأسعار، والعودة إلى تحقيق التوازن بين الأجور والأسعار، وتكريس الضمان الصحي والاجتماعي وضمان الشيخوخة، والتعليم المجاني، مع تطوير كلّ ذلك وجعله لائقاً بالتطوّر المعاصر. وبالتالي التأكيد على ضرورة التنمية من أجل تحقيق التطوّر الاقتصادي بما يؤسِّس لنشوء قاعدة صناعية زراعية خدمية متطوّرة. وهو ما يفرض إعادة بناء "القطاع العام" على أسس جديدة، وبما يخدم هدف تحقيق التنمية. عبر تطوير الزراعة ودعم المزارعين، والتركيز على بناء الصناعة، والبنى التحتية.

و هذه كلها تفرض الحاجة لنضالات مطلبية وديمقراطية ، تبدأ بتفعيل الحراك الإجتماعي ( حراك الطبقات الشعبية )، وتنظيمه على أسس جديدة تُخرجه من هيمنة السلطة. ولاشكّ في أن الضغط من أجل مواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي ودعم المقاومة في فلسطين والعراق، هو جزء من هذا الحراك. ولهذا فإن مطالب الحراك المجتمعي تتمثّل في ثلاثة أهداف جوهرية، الأوّل: هو الموقف من الرأسمالية والعولمة التي تفرضها، وبالتالي سياسة السيطرة والاحتلال التي تمارسها الدولة الأميركية خصوصاً، والتي تستهدف سوريا كما إستهدفت العراق ( وإنْ بشكل آخر )، والتأكيد على ضرورة المواجهة والضغط من أجل تحضير القوى وتنظيم دعم المقاومة في فلسطين والعراق، والثاني: الموقف من طبيعة السلطة، كسلطة مستبدّة ونهّابة، وبالتالي ضرورة التأكيد على فكفكة السلطة الشمولية وإنهاء طابعها الاستبدادي، والتأكيد على الديمقراطية والنضال من أجلها. والثالث: الموقف من وضع الطبقات الشعبية التي باتت مفقرة وتعاني من أزمات عميقة وتميل للحراك. والتأكيد على المطالب التي تطرحها، سواء مطالب العمال والموظفين بتحسين الأجور وتطوير الضمان الصحي والاجتماعي، أو مطالب الفلاّحين بتكريس الإصلاح الزراعي ( وليس إلغاءه )، وتدخّل الدولة لدعم الزراعة وبناء الصناعات الضرورية لاستيعاب المنتجات الزراعية، وإيجاد الأسواق لهذه المنتجات، وتوفير البذور والسماد والأدوية. وأيضاً توفير ظروف أفضل للفئات الوسطى.
وهذه الأهداف هي أساس أيّ تصوّر لتفعيل الحراك الإجتماعي وترتيب الخطوات الضرورية لمواجهة الهجمة الإمبريالية الأميركية، ولبناء نظام ديمقراطيّ علمانيّ ، والرقابة على موارد الدولة، وكذلك تحقيق مصالح الطبقات الشعبية.

إن السعي لتأسيس تحالف وطني ديمقراطي علماني يدافع عن مصالح الطبقات الشعبية يجب أن يكون هو الهدف الراهن، وأن يكون أساس توافق كلّ القوى الديمقراطية والعلمانية والشيوعية والإسلامية المتنوّرة. من أجل تحقيق الديمقراطية والدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية، والدفاع عن البلد في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني، وتحرير الجولان وإسترجاع لواء الإسكندرون، ودعم المقاومة في فلسطين والعراق من أجل تحريرهما. في إطار مشروع راهن لكنه ينطلق من أن قدرات القوى الآن لا تسمح بتغيير سريع بعد أن قاد الاستبداد وقادت مشكلات القوى ذاتها إلى تهزيلها وتهميش دورها. الأمر الذي يجعل الهدف المباشر هو بناء التحالف الوطني الديمقراطي العلماني في سياق النضال اليومي من أجل تفعيل الحراك المجتمعي عبر الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية التي تشكّل «الكتلة التاريخية» حاملة مشروع الاستقلال والتطوّر والديمقراطية. كما في مواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني الذي بات يهدّد الوطن العربيّ كلّه.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعلان دمشق في منعطف جديد
- تعقيب على تعقيب ياسين الحاج صالح: مسألة -بناء الأمة- في سوري ...
- ملاحظات عابرة على مقال الصديق ياسين الحاج صالح ) التفكك الوط ...
- التفكك الوطني والطيف الحداثي (تعقيباً على ياسين الحاج صالح)
- نقاش في النقاش (ملاحظات على رد الصديقين عادل ومسعد)
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي - مناقشة الصديق ...
- ورقة حوار حول المسألة الفلسطينية
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي (مناقشة مع الصد ...
- الدولة الديمقراطية العلمانية والحل الاشتراكي (مناقشة مع الصد ...
- سياسة تقسيم العراق مرة أخرى -2
- الباحث الفلسطيني :تصاعد التيارات الأصولية سببه تراجع دور الي ...
- سياسة تقسيم العراق مرة أخرى-1
- ورقة حول مهمات حركة مناهضة العولمة
- متابعات الوضع الفلسطيني
- المجزرة تكتمل: اقتتال من أجل السلطة يدمر القضية -2
- حول توحيد الشيوعيين في سوريا
- سياسة تقسيم العراق
- المجزرة تكتمل: اقتتال من أجل السلطة يدمر القضية -1
- تنظيم القاعدة في العراق
- اليسار والموقف من حزب الله


المزيد.....




- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل فلسطينيين اثنين في جنين بعد مهاجم ...
- رئيسي يندد بالعقوبات الغربية المفروضة
- إزالة 37 مليون طن من الحطام المليء بالقنابل في غزة قد تستغرق ...
- توسع الاتحاد الأوروبي - هل يستطيع التكتل استيعاب دول الكتلة ...
- الحوثيون يعرضون مشاهد من إسقاط طائرة أمريكية من نوع -MQ9-.. ...
- -الغارديان-: أوكرانيا تواجه صعوبات متزايدة في تعبئة جيشها
- هجوم صاروخي من لبنان يستهدف مناطق في الجليل الأعلى شمال إسرا ...
- السيسي يوجه رسالة للعرب حول فلسطين
- الأمن المصري يضبط مغارة -علي بابا- بحوزة مواطن
- نائب نصر الله لوزير الدفاع الإسرائيلي: بالحرب لن تعيدوا سكان ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - من أجل تأسيس تحالف وطني ديمقراطي علماني يدافع عن الطبقات الشعبية في سورية