|
بوتين يرى العالم بعين لا يغشاها وهم!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2187 - 2008 / 2 / 10 - 11:03
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
فَرْق المصالح الاستراتيجية والدولية بين بوتين وبوش هو ما يحملهما على تصوير حقائق الوضع الدولي، والسياسة الدولية، تصويراً متناقضاً، ويزداد تناقضاً في استمرار. والفَرْق بينهما (بما يمثِّلان) في طرائق وأساليب ووسائل الدفاع عن تلك المصالح هو ما يجعل بوتين يجنح لـ "الموضوعية"، وبوش لـ "الذاتية".
بوتين صوَّر عالمنا اليوم، بوجهه الاستراتيجي، على أنَّه عالم يشهد صراعاً (أو "قتالاً ضارياً" على ما قال) لم يعرفه منذ زمن طويل (نسبياً) على "الموارد الطبيعية"، المتقلِّصة نسبياً، أي نسبة إلى الاحتياجات الصناعية (وغير الصناعية) إليها. وبحاسة الشمِّ القوية التي يملك، والتي لا نملك منها نحن العرب ما يكفي للتأسيس لسياسة تنبع من مصالحنا الواقعية، يَشْتَم بوتين "رائحة النفط والغاز" في غير صراع، وفي كثير من التوجُّهات الفعلية والحقيقية للسياسة الخارجية (لكثير من الدول في مقدَّمها الولايات المتحدة).
إنَّه صراع لا يمكنه إلاَّ أن يكون ضارياً، ويُسْتَخْدَم فيه كثير من "الحديد والنار"، وكثير من الخداع والتضليل والطلاء (الإيديولوجي) بالتالي، ما دامت "الموارد الطبيعة"، وفي مقدَّمها النفط والغاز، "العربي" منهما على وجه الخصوص، في تقلُّص متزايد، نسبةً إلى الحاجات الصناعية لقوى دولية عدة.
تلك هي السمة الأولى لعالمنا اليوم، على ما صوَّره بوتين تصويراً تَغْلُب فيه "الموضوعية" على "الذاتية" التي تَطْبَع كثيراً بطابعها الخطاب السياسي لإدارة الرئيس بوش. أمَّا سمته الثانية، والتي هي في اتحاد لا ينفصم مع سمته الأولى، فهي استئناف الولايات المتحدة (مع قوى غربية أُخرى) لسياسة، أو لنهج، "سباق التسلُّح (مع روسيا على وجه الخصوص)"، أو لِمَا يؤدِّي، حتماً، إلى سباق تسلُّح جديد، كتوسيع حلف شمال الأطلسي في الجوار الإقليمي لروسيا، ونشر نظام للدفاع الصاروخي في على مقربة من الأراضي الروسية بدعوى درء مخاطر الترسانة الصاروخية الإيرانية.
وليس ببعيد عن الحقيقة والواقع أن نَفْهَم استئناف الولايات المتحدة، وحرصها على استئناف، سباق التسلُّح مع "روسيا ـ بوتين"، على أنَّه جزء لا يتجزأ من ذلك الصراع الضاري على الموارد الطبيعة، وفي مقدَّمها النفط والغاز، فالقوَّة العظمى في العالم، والمثخنة بجراحها العراقية في المقام الأول، ترى في هذه "الأداة"، أي "سباق التسلُّح"، الأداة الفضلى لإفقاد الاقتصاد الروسي مقاومته (المتزايدة) لسيطرتها على الموارد الطبيعية والنفطية والغازية الروسية المهمة، فبوتين نجح في إحكام قبضة روسيا السيادية على مواردها تلك.
بوتين، الذي حمَّل الولايات المتحدة مسؤولية استئناف سباق التسلُّح الذي بدا كارِهاً له، والذي التزم، مع ذلك، مواجهة هذا التحدِّي، حَرِص على جَعْل القوَّة العسكرية والاستراتيجية لروسيا تَضْرِب جذورها عميقاً في الاقتصاد، فهو دعا روسيا إلى أن تَقِف ضد كل محاولة لـ "الوصول إلى مواردها"، وإلى أن تبذل، في الوقت نفسه، وسعها لـ "إنهاء اعتماد اقتصادها على صادرات المواد الخام (كالنفط والغاز)"، فَمَن يؤسِّس لاقتصاد يعتمد اعتماداً كلياً، أو شبه كلي، على صادرات النفط والغاز لن يتمكَّن أبداً من أن يشارِك في الصراع العالمي الضاري على الموارد الطبيعية بما يعود عليه بالنفع والفائدة، أو بما يدرأ عنه مخاطر الهيمنة الغربية.
وإذا كان الصراع، واحتدام الصراع، على الموارد الطبيعة هو جوهر السياسة الدولية، في عالمنا اليوم، ومحتواها الأساسي والفعلي، فإنَّ "الحرِّية"، و"المجتمع المفتوح"، وما يتفرَّع منهما، ويُكْملهما، من شعارات، هو اللبوس الإيديولوجي والقيمي الذي يلبسه هذا الصراع في الخطاب السياسي ـ الفكري للولايات المتحدة.
ونحن لم نسمع، ولا نتوقَّع أن نسمع، بوش يتحدَّث عن حقائق الوضع الدولي، والسياسة الدولية، كما تحدَّث بوتين، فبوش يَعْرِف ما يَعْرِفه بوتين من حقائق، وإنْ حَظَرَت عليه مصالحه الاعتراف بها، فهو لم يتحدَّث قط، ولن يتحدَّث أبداً، عن "قتالٍ (دولي) ضارٍ" على الموارد الطبيعية، وعلى النفط والغاز منها على وجه الخصوص، وكأنَّ القوَّة الدولية التي يقود ليس لديها من المصالح والأهداف والدوافع إلاَّ ما يجعلها منزَّهة عن صراعٍ كهذا، فـ "الحرِّية"، مع ما يتفرَّع منها من قِيَمٍ ومُثُلٍ، هي التي في سبيلها "يُجاهِد" جيش الولايات المتحدة هنا، وهناك، وهنالك، وهي "الغاية النبيلة" التي من أجلها، وتوصُّلاً إليها، لا بأس من القضاء على سيادة دُوَل، وإغراقها في "الفوضى البناءة" مع ما يخالطها من اقتتال وحروب أهلية!
و"الحرِّية"، التي تنادي بها إدارة الرئيس بوش، وتتغنى، إنَّما هي، في حقيقتها الواقعية، كل ما من شأنه أن يَضْمن لها "حرِّية الوصول إلى الموارد الطبيعية"، و"إلى عقول وقلوب الناس" في البلدان ذاتها، أي في البلدان التي تريد الولايات المتحدة لمواردها الطبيعية أن تكون في قبضها، وقبضة شركاتها. وليس من سبيل إلى ذلك سوى أن تُكْرِه حكومات تلك الدول على "تحرير" الموارد الطبيعية والعقول والقلوب من قبضتها حتى تقع في قبضة القوة العظمى في العالم مع شركاتها الاقتصادية والسياسية والفكرية والإعلامية..
ولكل من يشكِّك في تدخُّل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للدول نقول ها هو بوتين، الذي يقود قوَّة عالمية، هي روسيا، يشكو "المحاولات الأجنبية غير الأخلاقية، وغير المشروعة، للتدخُّل في شؤون روسيا الداخلية"، فإذا كانت دولة بحجم ووزن وأهمية روسيا عُرْضة لمحاولات كهذه فهل من المنطق في شيء أن ننزِّه الولايات المتحدة عن التدخُّل في الشؤون الداخلية لدول أقل حجماً ووزناً وأهميةً؟!
ولو كانت "الحرِّية" تَزِن في الواقع ما تزنه في الخطاب الإيديولوجي لإدارة الرئيس بوش لَمَا سمعنا كبار مسؤوليها، وكبار القادة في الحزب الجمهوري، يتحدَّثون عن بقاءٍ في العراق، مدَّته عشرات السنين، أو مئة عام!
حتى هذا الذي يعانيه الدولار من تراجع في سعر صرفه، أو في قيمته النسبية، أي نسبة إلى اليورو، يمكن ويجب النظر إليه على أنَّه جزء من الصراع المحتدم على الموارد الطبيعية، فالدول المصدِّرة للنفط تبيع نفطها بالدولار لتَخْسَر كثيراً عند شرائها البضائع الأوروبية، فلا خيار لديها لاجتناب هذه الخسارة إلاَّ أن تشتري بضائعها من دولة الدولار ذاتها.
وأحسب أنَّ بعضاً من الخيار الاستراتيجي الجديد لإيران يمكن فهمه هو أيضاً على أنًَّه جزء من الصراع على الموارد الطبيعية، فإيران، ولو صدَّقْنا أنَّ برنامجها النووي ليس لأغراض عسكرية، تَعْلَم هذه الحقيقة (الصراع على الموارد الطبيعية) التي بسطها بوتين، وتُعِدُّ نفسها لأنْ تكون لاعباً مهماً. إنَّها تريد لاقتصادها أن يكون أقل اعتماداً على صادرتها من النفط والغاز، فتشغيل اقتصادها، بطاقة كهربائية، نووية المَصْدَر، إنَّما يكسبها مزيداً من القدرة على التأثير في "القتال (الدولي) الضاري على الموارد الطبيعية" بما يجعلها بمنأى عن أضراره، فالذي يريد جَعْل مياه خليج هرمز تجري بما لا تشتهي ناقلات النفط ينبغي له أن يؤسِّس لاقتصاد أقل تبعية لصادراته النفطية.
لقد هَدَرْنا، نحن العرب، كثيراً من الوقت والجهد في "التفسير الإيديولوجي" لسياسة الولايات المتحدة، مع أنَّنا في أمسِّ الحاجة إلى أن نشاطر بوتين وجهة نظره، ونَفْهَم الصراع على الموارد الطبيعية على أنَّه النابض الخفي لسياسة القوَّة العظمى في العالم، فالنفط، وليس العداء الديني للإسلام والمسلمين، أو الرغبة في نشر الحرِّية والديمقراطية عندنا، هو الذي يَحْكُم سياستها، وهو المُفَسِّر لِمَا يكتنفها من تناقض في المنطق.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مع الحكيم
-
إعادة فتح وتشغيل معبر رفح هي التحدِّي الأول!
-
الحركة والسكون في الكون
-
حتى لا يأتي هدم -الجدار- بما تشتهي إسرائيل!
-
طريقان متوازيتان يجب أن تلتقيا
-
بوش: للاجئ الفلسطيني الحق في التعويض عن حقِّه في العودة!
-
رئيس بونابرتي أم لحود ثانٍ؟!
-
-بقرة بوش- لن يَحْلبها غير إسرائيل!
-
-الحُجَّاج- مشكلة تُحل بتعاون الفلسطينيين ومصر
-
-الإعلاميُّ- و-الحاكِم- عندنا!
-
اللعب الإسرائيلي على الحَبْلين الفلسطينيين!
-
عاصمة -الغلاء العربي-!
-
فساد ثقافي وتربوي!
-
-متى- و-أين-.. فيزيائياً وفلسفياً
-
هل أعاد بوش السيف إلى غمده في مواجهة إيران؟!
-
-تسونامي- السنة الجديدة!
-
ولكم في -قِصَّة إبليس- حِكْمَة يا أولي الألباب!
-
قنوط رايس!
-
قرار صبُّ الزيت على نار التضخم!
-
هل تريدون مزيداً من -الإيضاحات- الإسرائيلية؟!
المزيد.....
-
مشهد مؤلم.. طفل في السابعة محاصر في غزة بعد غارة جوية إسرائي
...
-
-رويترز-: مايك والتز أجبر على ترك منصبه
-
-حادثة خطيرة- في غزة والجيش الإسرائيلي ينوي استخلاص الدروس م
...
-
زاخاروفا تعلق على احتجاز مراسل RT في رومانيا وترد على شائعات
...
-
تقارير إعلامية تفضح -كذب- نتنياهو بخصوص حرائق القدس
-
أوكرانيا: نارٌ ودمار وإجلاءٌ للمدنيين إثر غارات روسية على مد
...
-
حكمت الهجري يطالب بحماية دولية بعد اشتباكات صحنايا وريف السو
...
-
المرصد يتحدث عن عشرات القتلى في اشتباكات -طائفية- بسوريا.. و
...
-
إيران تعلن تأجيل جولة المفاوضات المقبلة بشأن برنامجها النووي
...
-
في عيد العمال.. اشتباكات في إسطنبول ومغربيات يطالبن بالمساوا
...
المزيد.....
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
/ محمد مراد
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|