إبراهيم الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 2165 - 2008 / 1 / 19 - 08:59
المحور:
الادب والفن
هذه المدينة صارت ضيقة وقبيحة ، دخان المصانع ، وأبواق السيارات ، ونداءات الباعة الجائلين ، وضجيج الورش والمقاهي والمطاعم والزحام ، والطرق المتربة والغبار والبيوت التي تركب أنفاسي ، والحواري شرايين مكدسة بالقمامة ونفايات البشر ورائحة العرق وحصار صهد الصيف .
وكنت أتطلع من شرفة بيتنا ، علي مدد الشوف ، إلي بقعة ظل أو خضرة ، التنفس .. التنفس .. شجرة واحدة يا الله .
كان أمام بيتنا ، وحوله ، حديقة للبرتقال والليمون والجوافة والعنب والبرقوق ، والزهور : زهور حمراء وصفراء وبيضاء وخضراء ، وكنت أعشق الجلوس في الشرفة ، عندما يكون الربيع مكتملا ، والنهار ينبلج ، والأوراق الخضراء مبتلة بالندي ، والشمس وردتنا تصعد الأفق .
وكان أبي في الليالي القمرية ، يأخذنا ، نتسلق الشجر ، ونقطف الثمار ، ثم نأتي ، نتجمع حوله ، وهو يوزع أنصبة أبناء عمومتي وخالتي والأصدقاء والجيران ، نحملها إليهم في سلال صغيرة ، نعود بها ممتلئة ، بالخضار والبيض والجين والزبد واللبن .
وكنت أختار من الفواكه الليمون ، فأنا أحب الليمون ، وأمضى أتمدد بمفردي علي العشب ، تحت شجرة كثيفة ، أطوح الليمون إلي أعلى ، ثم أتلقفه بيدي ، علي ضوء القمر ، الذي يتسلل عبر الغصون والأوراق ، وأدير ليمونة تلو ليمونة ، بين شفتي ، وأتحسسها بلساني ، إلي أن تطرى ، تنهض ذكورتي ، أمص وأمص ، حتى تبتل ملابسي ، ويهب النسيم .
وذات خريف ، والأشجار عارية ، وكان أبي ميتا منذ شهور ، علي أثر هزيمة يونيو ، جاء نفر من الرجال ، ظلوا يعملون بمناشير كبيرة وبلط ، إلي أن اجتثوا حديقتنا ، ووقف بيتنا القديم هذا عاريا ، تتآكل جدرانه وتتشقق ، وتبهت ألوانه .
وكان في ما مضى جميلا شامخا ومهيبا ، تدب الحياة ، في كل جنباته ، أثناء الليل والنهار ، فأنا لي أربعة أعمام ، كان جدي يتأملهم بزهو وفرح ، انتحر أكبرهم عبد العال ، عاد ، ذات ظهيرة ، من جولته ، علي ظهر حصان أشهب ، في أملاك جدي ، التي كانت ستباع صباح غد ، في مزاد علني ، لبنك الخواجات ، بعد أن أكل ، من غيطان أبيه : عشرين رطل طماطم ، وعشرة أرطال قته ، وعشرة أرطال خيارا ، وذبح بمطواته – قرن الغزال- دجاجتين وحمامتين وإوزة وذكر بط وعنزة ، أتي عليهم حتى العظام ، وضاجع زوجتيه مرات ومرات ، ثم توارى وحيدا .
ولما دخلت جدتي الزريبة , كان لسانه يتدلى , وعيناه جاحظتين , وجسده تطوحه رياح خماسينية.
يومها كان أبي يساق مكبلا بالحديد إلي السجن , بعدما باغت مندوب البنك , وطعنه بخنجر جديد , طعنات نافذة ومتتالية , أردته قتيلا , وظل أبي أربع سنوات , يكسر الحجارة في الجبل , وفي الليل يتكوم بين جدرانه .
أما الثاني أحمد , مات وراء أبي بسبعة شهور , وكان فرانا ماهرا , والوحيد من أبناء جدي , الذي يفك الخط , ويقرأ الجورنال , وقد عهد أبي إليه , دون إخوته , فهو أكثرهم خبرة بالمهنة وأهل المهنة , بإدارة أهم مخابزه , بوغت به أبي , مساء ليلة شتوية , متورم القدمين , في مقهى الصنايعية, بباب الشعرية :
- أنا جعان وعطشان يا مندور .
فظلا رفيقين , وجابا معا أرجاء القطر , من أقصاه إلي أقصاه , بحثا عن القوت والعمل , تزوج امرأتين , ولم ينجب إلا طفلا , نزل من فرج أمه ميتا , وكان أكثر أبناء جدي طولا ونحافة , محدودب الظهر من كثرة الانحناء أمام الفرن , كثيرا ما كان يهجر الفرن , ويأتي , في ليالي الصيف المقمرة , حديقة بيتنا , ينام تحت الشجر , يأكل من ثماره , ويتغوط خلف جذوعه , ودائما يقول أبي :
- دعوه وشأنه .
فقد مزق عقدا للمشاركة في كل أملاكنا , قدمه إليه أبي , وقال :
- يا مندور , لا أريد أن أكون مالكا إلا لنفسي .
وقد فوجئت به صباح 5 يونيو , يوقظني من نومي , وقال :
- هات الخريطة .
أتيت له بها .
قال وهو يشير بسلخة من جريد :
- من هنا تهجم جيوش مصر , ومن هنا تهجم جيوش سوريا , ومن هنا تهجم جيوش الأردن , نحن نحاصرهم , وسوف نحرر فلسطين .
ولما سمع خطاب التنحي , لم يذهب إلي قصر القبة كغيره , بحث عن أقرب بار , ولم يغادره إلا يوم جنازة أبي , التي عاد منها إلي حديقة بيتنا ,وظل بها إلي أن وجدناه , صباح أربعاء , ميتا بين فروع شجرة برتقال كبيرة .
والثالث من أبناء جدي محمود , لونه بني محروق,
كان جدي يناديه :
- يا عبد .
وهو من بعده ينادي احدي بناته :
- يا جارية !!
ولما ضاعت ما بين الحربين الكبيرتين أملاك جدي , أبى , دون أخوته , أن يهجر دمهوج , موضع رأسه , وعمل فلاحا من طلعة الشمس لغروبها , في غيطان الآخرين , وعندما يندر العمل , وتشح اللقمة , وتطول به القعدة , يسب الدنيا والدين , ويتسلل في أنصاف الليالي , يسرق الدجاج والبط , إن لم يتمكن من الحمير , التي يلونها ويبيعها في الأسواق البعيدة , ثم يعود ألي جدي , ويقول :
- خذ يا أبي , نحن خيرنا عليهم جميعا .
ويغيب بضعة أيام , ليظهر فجأة , ويقول :
- التفاهم مع الأموات أفضل كثيرا من هؤلاء .
ويشير بسبابته ألي دور دمهوج , ويصمت , يصوم عن الكلام مع البشر , بضعة أيام , لا يفتح خلالها فمه , ولا يحرك لسانه , إلا لازدراد الطعام , وشرب المياه , وتدخين الجوزة , ورشف الشاي الأسود , تزوج امرأة , فظة , غليظة القلب , أنجب منها ثلاثة أولاد وبنتين , غرق أكبرهم في ترعة الاسماعيلية , يوم أربعين أبي .
ولما فتح الله علي أبي بالمخابز والمحلات , وحاز الأرض والحديقة والبيوت والسيارات النقل والأجرة والملاكي , ولاه الأرض , رفض , اشترت له أمي وزوجات أعمامي ثلاث بقرات وجاموسة شرك , باعهم في سوق الخميس , وقال:
- البهايم ماتت .
أعطاه أبي فدانا , وقال :
- هذا لك طول .
بنى به خصا , وأقام هناك الليل والنهار , ألي أن جاء عمي الرابع , لبناء بيت مكان دار جدي التي تهدمت , اختفى يومين , ثم عاد من القبور , وقال:
- أبي لم يوافق علي بناء الدار .
قطع أبي عنه المرتب ستة شهور , وذهب إليه , وقال :
- هات لنا أباك , يقول لنا ذلك .
وشيد عمي الرابع بيتا لنا وله بالطوب الأحمر والخرسانة , ودارا لعمي محمود بالطين والقش .
إذا رأيت أحدا ينحني علي الأرض , ليلتقط مسمارا أو صامولة أو حديدة صدئة أو قطعة خشب متآكلة , هو بالتأكيد عمي الرابع , شريك أبي في أملاكه , أراد أن يتزوج أمي , بعد وفاة أبي , ولما رفضت , قال :
- أنتم في طريق , وأنا في طريق .
دائما ما قال جدي عنه :
- مدكور براوي لا يحب أهله .
الوحيد من أبناء جدي , الذي كان قبل وفاة أبي , يحب الاستحمام والعطور والوقوف فترات طويلة أمام المرآة , وارتداء الثياب الفاخرة , وأكل المانجو , وهو دون أخوته , دخل الجيش أثناء الاحتلال البريطاني , رأته زوجة قائد المعسكر , أبيض البشرة , ملون العينين , وقوي البنيان , فتنت به , واختارته للقيام بأعمال البيت , وحراسته من هجمات الفدائيين , وهناك خالط الإنجليز والفرنساوييين والطليان واليونانيين , وظل طوال خدمة الجيش , علي سرير القائد , وفي أحضان زوجته , يتعلم الرقص وسماع الموسيقي والغناء , ويتمتع معها , في غياب القائد , بفنون الجنس والهوى , وظلت تأتيه بعد خروجه من الجيش , حيث هو , في دمهوج أو قليوب أو بهتيم , إلي أن رحلت بعد عدوان 1956 , لكنها للآن لا زالت تتبادل معه الرسائل .
ولما خرج أصابته حصوة في الكلى , جعلته يجأر كحيوان جريح , في ليالي الشتاء الطويلة , فشق الطبيب بطنه , وقال :
- تلزمه راحة دائمة والا عاوده المرض كل بضعة شهور .
تزوج امرأة , قصيرة , شديدة الدهاء , أنجب منها أربعة صبيان وبنتين , ولما أهدانا أحد كبار المسئولين بالدولة تليفزيونا , قبل أن يدخل التليفزيون مصر , استأثر به , أوثقه أبي بالحبال , وجره إلي مدافن بهتيم , وقال :
- إنه للجميع وألا دفنتك حيا .
وشاء السرطان أن يحمل هو جثة أبي , في جنازة مهيبة إلي القبور , وحين عاد , فوجئت به , يصفعني علي وجهي , ويرفسني بقدمه , حتى جرح رئتي , وكسر أحد ضلوعي , وأقعدني علي هذه الدراجة لا أتحرك .
#إبراهيم_الحسيني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟