أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - رياض سيف والإصلاح السوري















المزيد.....


رياض سيف والإصلاح السوري


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 651 - 2003 / 11 / 13 - 03:29
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


في تعليقه على البيان الوزاري لحكومة ميرو الأولى في 29/5/2000، قال رياض سيف: "إنها من أسعد الحكومات في العالم، حيث لا أحزاب معارضة تؤرقها، ولا إضرابات عمالية تحرجها، ولا سلطة قضائية تحكم ضدها، ولا سلطة تشريعية تراقبها، ولا صحافة فضولية تكشف أخطاءها. وإن هذا المناخ الذي يتوفر للحكومة هو مناخ لا بد أن يسبب الاسترخاء والكسل واللامبالاة كما يشكل بالضرورة أرضا خصبة لنمو الفساد".
الرجل سجين منذ 6/9/2001 بتهمة "الاعتداء على الدستور بطرق غير مشروعة"، وهي تهمة "ستاندارد" رمي بها سجناء "ربيع دمشق" العشرة (8 حاليا بعد الإفراج عن رياض الترك في تشرين الثاني من العام الماضي، وعن حسن السعدون في 9 أيلول الجاري). عن هذه التهمة قال رياض سيف يوم الحكم عليه في نيسان 2002 إنه "سجين عقود الخليوي وليس سجين الاعتداء على الدستور". ومعلوم أنه نشر في آب 2001  كراسا من 96 صفحة من القطع الصغير بعنوان "صفقة عقود الخليوي" يبين فيه أنه يضيع على الدولة من خلال الأعوام الخمس عشرة القادمة، مدة العقد، 400 مليار ليرة سورية (حوالي 8 مليار دولار أميركي)، وأن الشركتين المتعاقدتين اللتين تعود ملكيتهما لشخص واحد تحققان أرباحا احتكارية وغير عادلة تبلغ 200 إلى 300 مليار ليرة سورية. ويشرح سيف في كراسه مغزى هذه الأرقام، فيقول: "إن مبلغ 200 مليار ل.س يعادل كتلة الرواتب والأجور والتعويضات لجميع العاملين في وزارات العدل والتعليم العالي والتربية والصحة والشؤون الاجتماعية والعمل، والذين يعيلون ما يقارب المليون مواطن سوري على مدى خمسة عشر عاما".
يريد هذا المقال أن يتخذ من مقولة سيف المقتبسة في صدره مدخلا إلى تناول مسائل الإصلاح والسلطة والفساد في سورية. ولعل تواقت مرور عامين على المعتقلين الثمانية مع تغيير حكومي شعاره "الإصلاح الإداري" مناسبة للتفكير مجددا ببنية الراهن السوري من وجهة نظر الإصلاح.
والقضية التي يطرحها المقال ويدافع عنها هي أن الفساد في سورية عنصر في إطار أوسع هو العلاقة غير المتكافئة  بين الدولة والمجتمع المدني، وأنه نتيجة مباشرة لاختلال موازين القوى بين الطرفين. وهذا الاختلال يرتد على كل من طرفي المعادلة، إذ يَرْجَح في الدولة المتغلبة على مجتمعها الطابع الجهازي مقابل المؤسسي، والإكراهي مقابل الطوعي والتعاقدي، والفئوي مقابل العام؛ كما يفقد المجتمع المغلوب مدنيته وعموميته ويتحول طوائف من الولاءات والمصالح الخاصة لا يجمعها جامع. وتضع هذه العلاقة السياسية، التي تشكل الدستور الفعلي للبلاد، سقفا واطئا لأية توقعات إيجابية من "مكافحة الفساد" أو الإصلاح الاقتصادي أو الإداري. وهو ما يعني أن فرص النجاح في أي منها مشروطة بتغيير "الدستور" وتعديل موازين القوى الاجتماعية والسياسية باتجاه نظام أكثر توازنا وتعددا.

أصول "الحكم السعيد"
يرجع سيف "سعادة" الحكومة السورية إلى تحررها التام من أية قيود تضبطها أو سلطات تراقبها. فغياب الأحزاب السياسية، سواء في السجون أو في الجبهة الوطنية التقدمية (وهذه بالفعل مقبرة جماعية للحياة السياسية في البلاد)؛ ومصادرة حق التفاوض الجماعي والدفاع الجماعي عن الذات والاستقلالية النقابية خلال عقود كانت الدولة فيها رب العمل الأساسي؛ وتبعيث القضاء واستتباعه وإنشاء أجهزة عدالة استثنائية عهد إليها الانتقام من المعارضين السياسيين؛ ثم تدهور الوظائف التمثيلية والتشريعية والرقابية لمجلس الشعب (وهو بدوره مقبرة جماعية للتمثيل الاجتماعي) عبر هيمنة السلطة التنفيذية والأمنية عليه؛ وأخيرا غياب الصحافة الحرة التي "تكشف الأخطاء"؛ كل ذلك، حسب النائب السجين، يضع جهاز السلطة السياسي في موقع حصين متعال على القانون ومتحرر من المساءلة والرقابة الاجتماعية. وجوهر العلاقة غير المتكافئة، من وجهة نظره، هو تجريد المجتمع المدني من وسائل تمثيل ذاته ومراقبة سلطة الدولة، بل استخدام هذه الوسائل بالذات، أي الأحزاب والنقابات والصحف والقضاء والسلطة التشريعية، ضده بعد تفريغها من مضمونها واستقلاليتها.
تستند هذه العلاقة السياسية إلى تاريخين تأسيسيين، هما عام 1963 الذي أرسى نظام الدولة الحزبية المحصن بحالة الطوارئ والمحمي بالدستور، ثم عام 1980 الذي كان بمثابة حالة طوارئ مضاعفة أو طوارئ في الطوارئ، والذي حقق الانتقال من سيطرة بسيطة للدولة الجهازية الحزبية على المجتمع المدني إلى سيطرة مركبة إن جاز التعبير. وتتميز هذه السيطرة المركبة بمزيج من تدمير التعبيرات السياسية والأهلية للمجتمع واحتواء وإلحاق جميع أشكال الانتظام الذاتي الموروثة أو المكتسبة التي لم تُدمَّر، إضافة إلى "تَغوُّل" السلطة وارتدادها في الوقت نفسه إلى عنصرها القمعي الإكراهي. ومعروف أن ذلك العام كان "أوكازيونا" للاعتقال السياسي الجماعي والفردي، المنظم والاعتباطي، فضلا عن حل النقابات المهنية وتشكيلها من جديد من الموالين، وإصدار قوانين غير دستورية مثل القانون 49 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب إلى الإخوان المسلمين. وإلى ذلك كله وقعت طفرة في نظام كتابة "التقارير" وتشجيع وشاية الجميع بالجميع، وقد شكلا نظام تقاض فعال أسهم في تخريب القضاء وتحطيم ما لا يحصى من حيوات الناس، وأسكن الخوف في القلوب كافة. 
ولم يكن من الغريب أن ذلك العام والعقد الذي تلاه شهد طفرة في الفساد وغيابا تاما للمحاسبة والمساءلة العامة، ولو بصيغة "لجنة التحقيق في الكسب المشروع" التي تشكلت عام 1978 ووئدت سريعا حين تبين أن الفساد يحتل الدولة، وأن هذه باتت في الواقع لجنة عليا لتحقيق الكسب غير المشروع.
جوهر ما حصل في الثمانينات هو حقن منطق الدولة الحزبية الامتيازي والفئوي بقوة إكراه عنيفة وغير منضبطة لم تنشأ عن هذا المنطق الامتيازي بحد ذاته. فقد نشأ بعد عام 1980 فساد من طراز جديد، أكثر عريا وفظاظة، يتوسل الاستيلاء والانتزاع والخوات والأتاوات والنهب والغنيمة دون أن يجرأ أحد على اعتراض سبيله. ويرتبط هذا الطراز العنيف والاغتصابي من الفساد مع مستوى نوعي جديد من اختلال التوازن بين الدولة والمجتمع جعل العلاقة بينهما أقرب ما تكون إلى علاقة فتح وإخضاع. والنتيجة الفعلية تعادل ثورة اجتماعية حقيقية، ثورة غير عقلانية ومضادة للمجتمع وللإنتاج، أنبتت طبقة من العدم. وإليها يعود الفضل في وجود ما بين 80 و120 مليار دولار من الأموال السورية في الخارج وفقا لما قاله وزير الاقتصاد غسان الرفاعي بالذات. وليست هذه أموالا خاصة هرب به "برجوازيون" خوفا من التأميم الزاحف كما جرى في الستينات، ولا هي أموال رجال أعمال محتالين "ضربوا وهربوا" كحال الأموال الهاربة المصرية، إنها بالأحرى أموال عامة مهربة أودعها "اشتراكيون"، وهم في مناصبهم، في مصارف سويسرا وجزر العذراء وغيرهما. فالمال المنهوب لا يأمن البقاء في موطن نهبه خلافا للمال المحصل بالعملية الانتاجية. وهذا ما يجعل هذه الطبقة غير وطنية تكوينيا. وإذا كان هناك شخصية يتجسد فيها منطق الإكراه والانتقام والاستيلاء الأرعن فهي بلا شك رفعت الأسد، ملك الفساد الاستيلائي، الذي اندفع وراء منطقه حتى محاولة انتزاع السلطة من أخيه الرئيس الراحل. أما الشخصية التي تجسد منطق الفساد اللصوصي فهي محمود الزعبي (ومثله نائبه سليم ياسين ووزير النقل في حكومته مفيد عبد الكريم، وهما يقضيان حكما بالسجن لمدة عشر سنوات)، والثلاثة لصوص صفقة الإيرباص الشهيرة. فيما يتمثل الفساد الامتيازي أو "المشروع" في قاعدة حزب البعث والأحزاب التابعة له في الجبهة.
ويمكن القول إن الفساد الامتيازي حزبي، وقد تأسس عام 1963 وشرع نفسه في دستور 1973 (المادة الثامنة التي سنشير إليها لاحقا)؛ أما الفساد اللصوصي فهو إداري أو حكومي، وقد أخذ بالازدهار بمواكبة التحول الثابت في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني لمصلحة الأولى منذ منتصف السبعينات؛ فيما الفساد الاستيلائي أمني أو ميليشياوي، واقترن بعقد الثمانينات. يمكن القول أيضا أن المستفيد من الفساد الاستيلائي، وهو أعلى اشكال الفساد وأقواها سلطة، مستفيد بالضروة من الشكلين الأولين أيضا، فيما لا تستفيد القاعدة الاجتماعية العريضة للفساد الحزبي إلا من هذا الفساد المبتذل وحده. وقد تقتصر استفادتها على بضع درجات تضاف للناجحين البعثيين في البكلوريا وتعطيهم هامشا أوسع لاختيار الفرع الجامعي من زملائهم غير البعثيين. على أن هناك تداخلا بين أشكال الفساد والمستفيدين بفضل تداخل الأدوار وتشابك الصلاحيات بين أجهزة الدولة من جهة، وتدخل الشبكات القرابية والجهوية والأهلية المتنوعة من جهة أخرى. هذا التداخل الواسع لا يترك أحدا من السوريين مهما يكن قراره الذاتي خارج شبكة الفساد. فبكل بساطة ليس لهذه الشبكة خارج. ويستحيل أن يكون أحد قد اضطر إلى إجراء معاملات مع أية جهات حكومية دون أن "يدفع"، إلا إذا كان مستندا إلى شكل آخر من أشكال الفساد: ابن فلان أو "تبع" فلان.

تحت خط الفقر السياسي
والنتيجة أن بنية المؤسسات العامة في سورية، من المدرسة حتى الجامعة، ومن الإدارة حتى الجيش، ومن المنظمات الشعبية حتى الحكومة، استبطنت مستوى جديدا، إكراهيا، من علاقة القوة التي تأسست عام 1963، هو مستوى العنف السائل والاعتباطي الذي غمر البلاد في الثمانينات. وترجمت علاقة القوة الجديدة بصورة فورية ومحسوسة، فقد صار الطالب أضعف أمام "اتحاد الطلبة"، والأستاذ أمام إدارة الجامعة، والمواطن أمام الموظف الحكومي، وعابر الشارع أمام أي محرس أو دورية أمنية، والمدنيون (أساتذة جامعة، موظفون كبار أو صغار، وزراء ، أعضاء أحزاب الجبهة وحزب البعث ذاته، فضلا عن عامة الناس...) أمام الأمنيين والميلشياويين. ونال طلاب الثانوية والجامعة الميلشياويين (كتائب مسلحة، مظليين، ..) امتيازات نخرت النظام التعليمي السوري بمستوييه المدرسي والجامعي. وبات لكل مؤسسة اجتماعية، تعليمية أو إنتاجية أو إعلامية أو إدارية أو عسكرية، وظيفة ولائية متقدمة على وظيفتها التخصصية النوعية، ودخل في تكوين كل منها مكون أمني يحتل فيها مكان الصدارة. لقد تم "تدويل" هذه المؤسسات جميعا، اي أضحت ركائز جديدة لسلطة الدولة، فيما خرجت منها بالحركة نفسها السلطة الاجتماعية المستقلة المستندة إلى وظائفها النوعية. وتحولت السلطة الإكراهية مبدأ التماسك الوحيد لمجتمع محروم من إمكانية التعضي الذاتي. وهكذا فقد سبق الإفقار السياسي، أعني مصادرة حق الانتظام المستقل وإنتاج السلطة الاجتماعية، الفقر المادي وأسس له. وإذا كانت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر المادي تقدر بحوالي 60% من السوريين فإن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر السياسي تنافس نسبة التسعات الأربعة الاستفتائية الشهيرة التي باتت فولكلورا وطنيا. بالمقابل، إن أغنياء اليوم هم أغنياء بالسلطة أولا، وهم يستخدمون غناهم هذا لنيل أفضليات متعددة في مجال الاغتناء المادي كما لحراسة الفقر السياسي العام ومنع الناس من الاعتراض والاحتجاج والدفاع عن أنفسهم.

"لن نحاسب ماضينا"
الفساد قانون وشريعة مستقرة وليس مجرد وظيفة لنظام سياسي غير متوازن بنيويا واجتماعيا كحال الأنظمة التسلطية والشمولية واشباهها. فنظام السلطة في سورية مبني على "حق" غير تعاقدي متعارض مع مفهوم الدولة الحديثة كدولة لجميع مواطنيها. فالمادة الثامنة من الدستور تمنح حزب البعث دورا "قائدا للدولة والمجتمع"، دون أن تمنح المجتمع أية وسيلة لمراجعة هذا الدور أو مراقبته. هذا الامتياز تأسيس لدولة فئوية وامتيازية صراحة إذا كان للكلام اي معنى. والفساد ليس خروجا على هذا المنطق الامتيازي بل التزام به وإخلاص له.
 وما كان لأربعين عاما من السلطة الحزبية التي لم تحكم يوما واحدا دون حالة طوارئ، ولا لثلاثين عاما من تقنين السلطة الحزبية، ولا لعشرين عاما من ممارسة السلطة الإكراهية وتطبيع الخوف، إلا أن تترك أثارها على ثقافة النخبة الحاكمة وتكوينها النفسي والفكري. فهي تشعر أنها هي الدولة، ولا تميز بين مصالحها الخاصة وبين المصلحة الوطنية العامة، ولعمق ما استبطنت موقعها الامتيازي ترفض أية مراجعة لسياساتها دون أن تشعر أنها متعصبة أو متطرفة. "لن نحاسب ماضينا"، قال رئيس مجلس الشعب السابق في عام 2000 وكأن البلد ملك يمينه، وكأن "ماضينا" لا يصادر مستقبل السوريين جميعا. ولا يستطيع إلا رجل له هذا التكوين أن يبلغ درجة إعجاز وزير المواصلات السوري حين يقول: "وعندما تكتمل لدينا وسائل تعامل الرقابة مع الإنترنت والتي هي غير موجودة حالياً في سورية ستكون هناك إنترنت مفتوحة وشفافة". فهو فوق الرقابة، ومن موقعه العالم كله مفتوح وشفاف.
 والحال أن فكرة الدولة كإطار للعام الاجتماعي، مستقل ومتعال على المصالح الخاصة والهويات الفئوية والتيارات الإيديولوجية، غريبة بالفعل على وعي النخبة القيادية، الحزبية والأمنية والحكومية، في النظام السياسي السوري. وبقدر ما هي تتصور الوظيفة العامة سلطة وامتيازا فإنها لا تتخيل أن يعارضها أحد إلا طمعا في الحلول محلها ورغبة في احتلال المناصب التي تحتلها هي.
وسترسخ العقود المتمادية هذا الوضع كنظام طبيعي في وعي السوري المتوسط. وسيميز عامة السوريين بين المسؤول الذي "يستنفع ويُنفِّع"، أي يفيد معارفه أو أبناء محلته..، وبين من "يستنفع ولا ينفع"، متقبلين الأول ومستنكرين أنانية الثاني، ومساهمين في تثبيت هذه الثنائية التي تستبعد فكرة الخدمة العامة المتجردة.
وإذا كان صحيحا أنه لا عقد الثمانينات ولا حكم البعث هما اللذان اخترعا العلاقات الزبونية، فإن الأصح أنها ارتقت في ظلهما إلى مستوى نظام سياسي واجتماعي مستقر. وسيتم الاستناد إلى هذه النظام لغرس ثقافة وتقاليد زبونية مضادة لمفهوم الخدمة العامة، ثم لا يلبث القائمون عليه أن يستنبطوا نظامهم من هذه الثقافة والتقاليد بعد أن يضفوا عليهما الجوهرية والثبات بوصفها ثقافتنا وتقاليدنا. وبقدر ما إن التسليم بكون الوظيفة العامة مصدرا للانتفاع الخاص، وربما تنفيع المحاسيب، يعكس غياب فكرة المصلحة العامة، فإنه من جهة أخرى يندرج في تصور للدولة لا كحيز للعام بل كغنيمة يفوز بها الأقوياء. وغياب مفهوم المصلحة العامة والمفهوم المؤسسي للدولة يترك الوطنية خطابا فوقيا أجوف بلا رصيد واقعي، وظيفته حجب الغربة الحقيقية التي تعيشها الأكثرية المغلوبة. 
 وبتفاعل غياب المنافسة مع أولوية قيم السلطة جنح النظام الاجتماعي في البلاد بصورة منهجية نحو موقف متشكك أو عدائي لقيم الجهد والكفاءة والعمل والإنتاج والمعرفة. فهذه القيم فضيحة لنظام "الاسترخاء والكسل واللامبالاة" الذي راح رياض سيف ضحيته. ومن الطبيعي أن يكتب البقاء في هذا النظام للأسوأ، للإمّعات والفاسدين ومعدومي الضمير، فيما يتعرض الأفراد والمجموعات النشطة إلى الإقصاء والعزل، وصولا إلى التدمير. وهكذا بات نظامنا العام محكوما بدافع نهم إلى التدمير الذاتي شخّصه الفنان علي فرزات مرة بكاريكاتير معبّر يصوِّر سلطويا نموذجيا يأكل المال والناس والأراضي الزراعية والعمارات إلى أن ينتهي إلى أكل نفسه.
هذه هي ملامح البنية العامة لنظام السلطة في سورية: بنية امتيازية استدمجت في سجلها الوراثي، إن جاز التعبير، علاقة الإخضاع القسرية التي تعرض لها المجتمع المدني السوري طوال عقود أربعة من حالة الطوارئ منها عقد من العنف الأرعن في الثمانينات. الفساد ليس نتيجة لهذه البنية بل هو هذه البنية بالذات. وهو ما يفسر أن حملة مكافحة الفساد كانت أفسد من الفساد نفسه لأنها جمعت طرف النزاهة والقانون من المجد إلى طرف الحفاظ على بنية امتيازية فئوية تختزن تاريخاً من العنف. وهو ما يفسر أيضا أن الدخل السنوي للفرد في سورية تجمد عند مستوى أقل من ألف دولار خلال أكثر من عشرين عاما. ففي عام 1979 كان الدخل السنوي للفرد في سوريا حوالي 910 دولارا فيما كان دخل المصري 320 دولارا والجزائري 1110 دولارا. وفي عام 2001 بلغ دخل المصري 1490 دولارا والجزائري 1580 دولارا فيما ارتاح دخل السوريين عند مستوى 950 دولارا في العام حسب د. نبيل سكر. وهو لا يفوق إلا دخل السودانيين والموريتانيين واليمنييين بين العرب، ويقل عن ربع دخل اللبنانيين الذين عاش بلدهم حربا دامت 16 عاما، ولا يزيد إلا قليلا على نصف دخل الأردنيين. هذا علماً أن مصر لا تشكو من قلة النهب وتهريب الأموال، وأن الجزائر تغرق منذ 12 عاما في حرب أهلية دامية، وأن لبنان لا يعاني من قلة الفاسدين ولا من نقص تمتعهم بالحصانة.

إنها السياسة يا...عطري!
هنا الاقتصاد ليس اقتصادا، والإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يكون إصلاحا إن لم يكن سياسيا وبالمعنى البنيوي لكلمة سياسة، أي يستهدف إصلاح "الدستور" الفعلي الذي ينظم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني السوري. إدراك هذا الواقع معيار أداء الحكومة و...الحكم.
في مداخلة له في 8/5/2001 بمناسبة اجتماع الهيئة العامة لغرفة صناعة دمشق رأى رياض سيف أن "الحكومة منشغلة في توزيع الأرزاق على عدد من المحظوظين، حيث تقوم بتفصيل القرارات والقوانين على قياسهم ليستأثروا بمغانم عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق، بعد أن استأثروا بمغانم فترة الاقتصاد الموجه ومغانم أخرى في فترة ما سمي بالانفتاح". ومن نافل القول أن "توزيع الأرزاق" عبر "تفصيل القرارت والقوانين" على "المحظوظين" هو تقنين للفساد وحماية له، الحماية التي تعكس استمرارية علاقة القوة ذاتها وراء تبدل السياسات الاقتصادية.
وخلال العامين وأربعة اشهر المنصرمة منذ مداخلة سيف حول محظيي الحكومة تحولت مرجعية "القرارت والقوانين" من الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الإداري فيما بقي "محظوظو" الاقتصاد الموجه هم أنفسهم محظوظي التوجه نحو اقتصاد السوق. ولا يشير ما نسب إلى رئيس الوزراء المكلف من أن سياسة حكومته ستفوم على اعتبار القطاع العام "رائداً وعموداً فقرياً" وعلى إطلاق "الاصلاح الاداري ليكون مدخلاً للاصلاح الاقتصادي" إلى أن الرجل يدرك اتجاه الدينامية الاقتصادية في بلاده والتراجع المطرد لوزن القطاع العام في الاقتصاد السوري، وهما يجعلان الكلام عن الريادة والعمود الفقري بلا معنى. وهو على كل حال كلام يحيل إلى انفصال مرجعية رئيس الوزراء المكلف البعثية عن مرجعية القوانين والقرارات التي صدرت خلال السنوات الماضية. وليس وضع عطري سياسة حكومته في سياق سياسة الرئيس الراحل حافظ الأسد الخاصة بـ"تحصين سورية في مواجهة التحديات" إلا تأكيدا على ثابت عميق من ثوابت الإصلاح السوري خلال الأعوام الثلاث أو الثلاث ونصف المنصرمة: الاستعداد الطيب لتغيير كل شيء بشرط أن يبقى كل شيء على ما هو عليه!
يعرض الوضع الراهن للاقتصاد السوري مزيجا من غياب المنافسة المميزة لاقتصاديات القطاع العام ومن الخصخصة المميزة لاقتصاديات السوق، أي احتكارا تحرسه السلطة ويعود بالنفع على بعض النافذين. وخدمة الهاتف الخليوي هي المثال الأبرز على ذلك، لكن الإعلام مثال آخر أقل شهرة. فعدد من أهم الصحف المستقلة ملك أبناء خاصين لآباء عامين. وهو ما يشير منذ الآن إلى طابع سلطة الجيل البعثي الثالث. فبعد جيل المؤسسين وعقيدته الثورية، جاء جيل الآباء الذي جمع السلطة والثروة، واليوم يتدرب الجيل الثالث على جمع السلطة والثروة مع السيطرة على وسائل الإعلام ومصادر المعلومات.
أي نوع من الإصلاح والتنمية في ظل هذا الوضع؟ لقد أثبت جوزف ستيغليتز أن اقتصاد السوق (والحكومة السورية لا تملك مرجعا آخر للإصلاح الاقتصادي غيره) لا يتوافق مع التنمية إلا إذا كان تنافسيا بالفعل، وبوجود مؤسسات قضائية مستقلة قادرة على البت في النزاعات وضمان عدالة العقود والصفقات، وبتوفر حق متكافئ للجميع في الوصول إلى المعلومات ومصادر المعلومات، بما في ذلك إعلام يقوم على الشفافية.
رياض سيف أوضح بما لا لبس فيه أن عقود الخليوي لم تكن تنافسية فعلا، ولم يدحض أحد كلامه أمام الراي العام. ومحاكمته، وأكثر منها محاكمة د. عارف دليلة (والحكم عليه عشر سنوات بناء على تسجيل سري في السجن) تثبت الوضع البائس للجهاز القضائي السوري. وهو ما تثبته أيضا أحكام انهيار سد زيزون التي راى كثيرون أنها كانت أسوأ من انهيار السد ذاته. وفي العمق هناك دائما حقيقة أن الاقتصاد والقضاء والإعلام (والتعليم والإدارة والثقافة..) هي ميادين لعلاقات سلطة غير متوازنة.

مزيد من السلطة
إذا صح التحليل المقدم هنا فإن مصير الإصلاح السوري مرهون بتعديل موازين القوى بين الدولة والمجتمع المدني. وهو ما يعني في السياق السوري استعادة المجتمع السوري لمدنيته وقدرته على إنتاج سلطات اجتماعية مستقلة توازن سلطة الدولة. فجوهر المجتمع المدني في كل مكان هو إنتاجيته لسلطات اجتماعية متنوعة: أحزاب، نقابات، جميعات، اتحادات من مختلف الأنواع. والمجتمع المدني السوري أكثر من ضعيف، إنه غير موجود بفعل عقود من الحصار والخنق والاختراق الجهازي العنيف. وهو محتاج إلى "دفعة محركة أولى" تساعده على تلمس طريقه نحو الاستقلال والتماسك. ولا يمكن لهذه الدفعة الأولى أن تكون إلا بالتصدي مباشرة لأحدث أصول علاقة القوة غير المتكافئة، وقد اقتفينا آثارها عودا إلى عقد الثمانينات. وهذا النسب المباشر يمنح الأولوية لمعالجة الملفات المترابطة التي أدت بالمجتمع السوري إلى الاختناق خلال ربع القرن الأخير: ملف الاعتقال السياسي، ملف المنفيين الطوعيين أو المكرهين، ملف المحرومين من الحقوق المدنية، ملف المفقودين، أي جملة ما نسميه إنهاء مرحلة الثمانينات. هذا ممر إلزامي لأي مسعى إصلاحي يستحق اسمه.
ليس المطلوب إنقاص السلطة الحالية أو توزيعها أو تقاسمها، المطلوب بالأحرى إفساح المجال للمجتمع السوري لينتج المزيد من السلطة. وفيما عدا ما أشار إليه رياض سيف من سلطات حزبية ونقابية وصحفية وقضائية وتشريعية تفتقر إليها البلاد، هناك ضرورة في أن يتدرب من يحكمون البلاد على فكرة الدولة وحس الدولة كشيء أعلى من السلطات الجزئية، كمؤسسة مستقلة عن أية مصالح وولاءات حزبية أو فئوية أو قرابية. إذ ليس للدولة كمقر للسلطة العليا، السيادية والمحتكرة للعنف، أن تقمع سلطات غير سيادية وغير إكراهية أو تدخل في منافسة معها دون أن تفقر المجتمع سياسيا وترجع هي محض جهاز للإكراه.
 المجتمع المدني والدولة المؤسسية كل واحد، كما هما كل واحد المجتمع المفكك والمخترق والدولة الجهازية الفئوية. والتوجه نحو المجتمع المدني ومأسسة السلطة هو جوهر عملية تمدينية تشكل الأفق الحقيقي لأي إصلاح في سورية. أما مكافحة الفساد مرة، والإصلاح الاقتصادي مرة، والإصلاح الإداري مرة، فهي التهاء بما لا طائل من تحته.
 
دمشق 16/9/2003

 



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسطيني الذي فجّر الهويات
- السلطة و... التوبة
- السياسة المبدئية والسلطة والدستور
- الاستبداد والطغيان تأملات سياسية
- المكاسب العالمية من المساواة
- سورية وعراق ما بعد صدام: التفاعلات الإيديولوجية لسقوط نظام ا ...
- سورية وعراق ما بعد صدام: الآثار الجيوسياسية للسيطرة الأمريكي ...
- انفصال الأكراد هو الحل
- ما وراء حرب البترول الثالثة
- الحرب الأمريكية والديمقراطية العراقية
- حوار مع خطـاب الرئيـس بشار الأسد
- الشارع ليس في الشارع
- أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـه ...
- الأبعاد الإقليمية للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط
- نهاية عصر الحكام الأقوياء في المشرق العربي
- حصة العرب من المستقبل تقاس بمقدار حصتهم من بناء داخل خاص ب ...
- عصر تنظيمات- أمريكي؟
- المسألة العربية: دم ودموع وبترول
- وعي الذات في عالم يصنعه الغير
- نهاية نظام القطبين وانهيار توازن العالم


المزيد.....




- مصر.. نجل وزير سابق يكشف تفاصيل خطفه
- ذكرى تحارب النسيان.. مغاربة حاربوا مع الجيش الفرنسي واستقروا ...
- لبنان.. لقطات توثق لحظة وقوع الانفجار بمطعم في بيروت وأسفر ع ...
- القبض على الإعلامية الكويتية حليمة بولند لاتهامها بـ-التحريض ...
- مصر.. موقف عفوي للطبيب الشهير حسام موافي يتسبب بجدل واسع (صو ...
- -شهداء الأقصى- التابعة لـ-فتح- تطالب بمحاسبة قتلة أبو الفول. ...
- مقتل قائد في الجيش الأوكراني
- جامعة إيرانية: سنقدم منحا دراسية لطلاب وأساتذة جامعات أمريكا ...
- أنطونوف: عقوبات أمريكا ضد روسيا تعزز الشكوك حول مدى دورها ال ...
- الاحتلال يواصل اقتحامات الضفة ويعتقل أسيرا محررا في الخليل


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - رياض سيف والإصلاح السوري