أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - الفلسطيني الذي فجّر الهويات















المزيد.....

الفلسطيني الذي فجّر الهويات


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 650 - 2003 / 11 / 12 - 01:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


العالم مكان أفقر وأكثر إثارة للإكتئاب وأقل بعثا للأمل دون أمثال إدوار سعيد ونعوم تشومسكي وآخرين أقل شهرة. هؤلاء الأشخاص المتعبون لأنفسهم ولغيرهم يمنعون تسلل التعب والضجر إلى الحرية، حرية الضمير والعقل. نحن أقل حرية بغيابهم، لا لأن الغياب يقلل ثروتنا من التنوع، فغياب كنعان مكية يقلل هذه الثروة أيضا، ولكن لأنهم يمنعونا من الغرق في الدناءة والصغار الذين يتجسدان في مكية وأضرابه من منتحلي الحرية.
والعرب والفلسطينيون بخاصة أفقر وأضيق آفاقا دون إدوارد سعيد الذي غادر إلى ما وراء السماء السابعة في 25/9 /2003. ساعدنا مؤلف "الثقافة والامبريالية" أن نرفض التبعية للأميركيين، أعني للسلطة، دون أن نستسلم لإغراء القومية الضيقة أو الأصولية المنغلقة؛ أي لسلطات "القبيلة" ووعي "القبيلة" كما كان يمكن له أن يقول؛ ساعدنا أن نرفض بوش دون أن نلتحق بصدام أو بابن لادن كما يفعل بعضنا. لكنه ساعدنا أيضا أن نرفض صدام وبن لادن دون أن نلتحق ببوش على غرار ما يفعل مكية وشركاه. والثلاثة، الامبراطور والطاغية والظلامي، هم الذين يحتلون آفاقنا منذ عقود.
يخترق عمل إدوارد سعيد كله توتر لا يقبل التسوية بين وعي المثقف ووعي القبيلة، بين التضامن والنقد، بين الجمالي والاجتماعي، بين الأخلاقي والسياسي، بين المعرفة والسلطة. "لم أشعر مطلقا بحاجة إلى إغلاق الفجوة، لكنني آثرت أن أتركهما كمتناقضين، ودائما شعرت بأن لوعي المثقف الأولوية علي وعي القبيلة"، قال سعيد في مقابلة مع صحيفة الغارديان في 10/12/2001. لم يشعر بحاجة إلى إغلاق الفجوة لأنه يسكن فيها. هذه الفجوة هي نفسها التوتر الذي شخصه تيوديور أدورنو بين الجمالي والاجتماعي، ورأى إنه توتر واسم للحداثة وممتنع على التسوية (مقالة إدوارد سعيد: الدور الاجتماعي للكتاب والمثقفين، ذا نيشن، 11 ايلول 2002).
ولم يمنعه تضامنه مع "قبائله" الفلسطينية والعربية، وغير الغربية عموما، من إعمال مبضع نقده في السطات والهويات وسياسات الهوية في هذا المجال ما بعد الكولونيالي المضطرب. بل إنه لم يتضامن مع هذه القبائل إلا بقدر ما هي مضطهدة ومفترى عليها، بقدر ما هي ضحية للسلطة الامبريالية وللتمثيلات التي تنتجها. لكن تضامنه من النوع التعاقدي: أتضامن محتفظا بحقي في النقد، باستقلال ضميري وعقلي. إذ "لا تضامن بلا نقد". لكن سعيد لا يبيح لنفسه أن ينتقد إلا لأن تضامنه مع المضطهدين لا جدال فيه. فالتضامن بلا نقد تعصب وقبلية، والنقد بلا تضامن عداء وتجريح مجاني. 
 هذا هو الفرق الجوهري، الذي لا يقبل التقليص، بينه وبين عبيد القوة الأدنياء من أضراب كنعان مكية وفؤاد عجمي. فهو لا ينتقد المضطهدين من موقع الالتحاق السياسي والثقافي بمضطهديهم، لكنه كذلك لا يمنح المضطهدين صك براءة من ارتكاب أسوأ ما يفعله مضطهديهم. وهو يصدر، ضمنا، عن مبدأ تصادق عليه كل تجارب حركات مقاومة السلطة في عصرنا: أن تكون على حق لا يعني أنك محق في كل ما تفعل. فشرعية القضايا لا تضمن في شيئ شرعية الوسائل كما قال القس ديزموند توتو ( رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوبي أفريقيا، في سياق ما تضمنه تقرير لجنته من الإشارة إلى وسائل "غير عادلة" لجأ إليها المؤتمر الأفريقي في مقاومته لنظام الفصل العنصري). من هذا الباب كان موقف إدوارد سعيد السلبي من العمليات التفجيرية الفلسطينية ضد المدنيين الإسرائيليين. فقد كان يسعى على الدوام إلى استعادة السمو الأخلاقي للقضية الفلسطينية، ولم يستطع ان يفهم كيف نكافح من أجل الحياة بوسائل تقضي على الحياة. وفي هذا السياق أسهم إلى جانب مصطفى البرغوثي وحيدر عبد الشافي في إلإطلاق "المبادرة الوطنية الفلسطينية" الداعية إلى استخدام وسائل غير عنيفة في مقاومة الاحتلال. ومن باب التضامن النقدي أيضا دفاعه عن العرب، الدفاع الذي لم يمنعه من صب كل احتقاره على رؤوس حكامنا المفلسين أخلاقيا وسياسيا. ولعلنا سنفتقده، أكثر وأكثر، في هذه المرحلة التي تلتقي فيها أطراف متنوعة على الحط من شأن العرب وتشويه صورتهم أمام أنفسهم وأمام العالم وتشكيكهم بجدارتهم الإنسانية والحضارية. وعن الخلفية ذاتها يصدر دفاعه عن الإسلام، فهو يرى أن التمثيلات الغربية للعرب والمسلمين والفلسطينيين، وسائل مكملة لعلاقة السيطرة والفتح التي واكبت العلاقة الامبريالية الحديثة.
والأصح، في الحقيقة، أن نقول إنه يقاوم وبكل قواه مختلف أشكال التشويه والإساءة للفلسطينيين أو العرب أو الإسلام أكثر من القول إنه يدافع عنهم. فهو يحامي عنهم لا بوصفهم بني قومه بل كمضطهدين ومحتقرين وخاسرين، ولذلك كان أيضا متضامنا مع معاناة اليهود حين كانوا في صف الضحايا. وأكثر ما كان يثير حنقه ذلك الموقف الذي يشكك في اضطهاد اليهود السابق. فهذا التشكيك يوحي بأننا لسنا ضد الاضطهاد إلا حين نكون نحن ضحاياه، وهو ما لا ينبغي أن يرتضيه "ضحايا الضحايا" السابقين. ولا شك أن كون الفلسطينيين والعرب "قبيلته" سهل عليه فهمهم والتعاطف معهم، لكنه أبدا لم يجعل من الهوية منهجا للمعرفة ولا "القبيلة" شرعة أخلاقية ولا التضامن دستورا لفكره وعمله. "لم أشعر قط أني انتمي حصرا إلى بلد واحد بعينه، كما لم أستطع أن أتماهى إلا مع القضايا الخاسرة"، كتب في مجلة "ذا نيشن" الأميركية عام 1991.  
ليس إدوارد سعيد سياسيا، لكن السياسة التي يغيب عن أفقها هذا اللاسياسي الميؤوس منه تنحط كسياسة. أو لنقل إن السياسة أهم من أن تترك للسياسيين، وبخاصة بالنسبة لشعب يتعرض لإبادة سياسية ومعنوية غير مسبوقة مثل الشعب الفلسطيني. هنا ثمة بعد تأسيسي في كل عمل سياسي، وكل عمل سياسي لا يستوعب هذا البعد ما وراء السياسي لن يفضي، من موقع الضعف الحالي، إلى نتائج تختلف عن الوضع الحالي.
 نكسب فلسطين مرتين إذا وضعنا الكفاح الفلسطيني في سياق القيم الإنسانية الكونية وسياق الكفاح التحرري العالمي: نكسبها لأننا نحرر فلسطيننا الداخلية، جدارتنا بها واستحقاقنا لها، حين نضعها ضمن هذين الإحداثيين؛ ونكسبها لأن فرص استعادة فلسطين الخارجية تغدو أكبر. ونخسر فلسطين مرتين إذا جعلنا منها سلما للسلطة وتسليم حياة أجيالنا للطوارئ وأحوالها وحكامها: مرة بترك شعبها بين يدي قتلة عنصريين، ومرة بمنح أمثال شارون فرصة للتفوق الأخلاقي. قد لا نستطيع أن نستعيد فلسطين لأهلها، لكننا قبل ذلك لن نستطيع استعادة الأهل لفلسطينهم إلا بقدر ما نتابع عمل إدوارد سعيد لاستعادة الجوهر الأخلاقي لفلسطين كقضية حرية وعدالة.
فلسطين اليوم هي الاسم الآخر للحرية في العالم بقدر ما اتجهت إسرائيل لأن تصبح الإسم الآخر للأمن (و"مفتاح الأمن العالمي كله"، كما زايدت قبل زمن غير بعيد غوندوليزا رايس). وحكوماتنا وسياستنا إسرائيلية كثيرا وفلسطينية قليلا بصرف النظر عن العلاقات والسفارات و"التطبيع". فالعلاقات والتطبيع نتيجة "الإسرائيلية" وليست سببها. وإذا كان تاريخ العقود الثلاثة الأخيرة هو تاريخ اندحارنا السياسي والعسكري أمام إسرائيل وحلفائها، فإنه قبل ذلك تاريخ اندحارنا الأخلاقي والقيمي والثقافي، أي تاريخ "أسرلتنا" كما تجسد في مسوخ اجتمعت لهم وفيهم والقسوة والجهل والحقد من شاكلة صدام حسين ونظرائه.
مشكلة اللاسياسي إدارود سعيد هي مشكلة السياسة في عصرنا: هل السياسة ممكنة دون "قبيلة" ودون عدو؟ دون هوية توحدنا "نحن" وتميزنا عن "هم"؟ دون أوطان وحدود وأمن؟ هل هناك سياسة لا ترتد في النهاية إلى سياسة هوية؟ هل هناك سياسة لا تستبطن الحرب؟
لكننا قد نقترب من فهم عمل إدوارد سعيد إذا تبينا طابعه الإرهابي: فاستراتيجيته لا تتوسل رفض الهويات لمنع الحرب، بل تسريب الحرب والتنازع داخل كل هوية مستقرة. التهجين والتنازع والتركيب والتوتر هي الألغام التي أدخلها الفلسطيني المحروم من الأمن في الهويات التي لا تعترف به ولا تمنحه أمنا. 
دمشق 30/9/2003

 



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلطة و... التوبة
- السياسة المبدئية والسلطة والدستور
- الاستبداد والطغيان تأملات سياسية
- المكاسب العالمية من المساواة
- سورية وعراق ما بعد صدام: التفاعلات الإيديولوجية لسقوط نظام ا ...
- سورية وعراق ما بعد صدام: الآثار الجيوسياسية للسيطرة الأمريكي ...
- انفصال الأكراد هو الحل
- ما وراء حرب البترول الثالثة
- الحرب الأمريكية والديمقراطية العراقية
- حوار مع خطـاب الرئيـس بشار الأسد
- الشارع ليس في الشارع
- أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـه ...
- الأبعاد الإقليمية للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط
- نهاية عصر الحكام الأقوياء في المشرق العربي
- حصة العرب من المستقبل تقاس بمقدار حصتهم من بناء داخل خاص ب ...
- عصر تنظيمات- أمريكي؟
- المسألة العربية: دم ودموع وبترول
- وعي الذات في عالم يصنعه الغير
- نهاية نظام القطبين وانهيار توازن العالم
- نهايات الاتحاد السوفياتي العديدة


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - الفلسطيني الذي فجّر الهويات