أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - السلطة و... التوبة














المزيد.....

السلطة و... التوبة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 650 - 2003 / 11 / 12 - 02:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أفرج في مصر عن 2000 سجين سياسي من الإسلاميين بمناسبة "الذكرى الثلاثين لنصر أكتوبر المجيد". ومن بين المفرج عنهم كرم زهدي أحد المتهمين بالمشاركة في اغتيال الرئيس السابق أنور السادات، والذي قضى في السجن عامين إضافيين فوق عقوبته القانونية المقررة. وقيل في الأخبار أنه تأكد لأجهزة الأمن أن المفرج عنهم "تابوا وعادوا نهائياً عن الافكار المتطرفة ونبذوا العنف تماماً". تابوا، وعادوا...نهائيا، ونبذوا...تماما!
تابوا؟ لا ينتقل مدرك التوبة من اللغة الدينية إلى اللغة السياسية إلا لأن العلاقة بين السلطة والسجناء تماثل العلاقة بين الناس وربهم. يتوب السجين إلى السلطة كما يتوب العبد إلى ربه، والسلطة تستتيب "الخاطئين" كما يستتتيب قائمون على الإسلام المخالفين لهم. ولعله من عناصر السيادة الباقية للدولة المصرية( ودول عربية أخرى) أن تستتيب إسلاميين مستتيبين بدورهم، أي أن تحتكر لنفسها ممارسة الاستتابة المشروعة. 
أنهى زهدي مدة عقوبته المقررة البالغة عشرين عاما، وزاد فوقها عامين، ولم يفرج عنه إلا بعد أن جال السجون المصرية وقاد- بتنسيق مع أجهزة الأمن- حملة واسعة "لاقناع الآلاف من أركان الجماعة التي يتزعمها وتنظيمات وجماعات اصولية أخرى بالمبادرة التي أطلقها عام 1999 بالمشاركة مع عدد من القادة التاريخيين لهذه الجماعات والمنظمات لوقف العنف، بل ادانة العمليات المسلحة التي شهدتها الساحة المصرية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بما فيها اغتيال السادات". الحملة انطلقت إذاً عام 1999، ومع ذلك لم يفرج عن زهدي وقتها ولا حتى حين أنهى سنواته العشرين.
هل نقول إن السلطة تحتقر عدالتها وتدوس على القوانين التي وضعتها هي بالذات؟
إنها تفعل ذلك لأن حقيقتها أسوأ بكثير من عدالتها، لأنها مضادة لكل عدالة حتى لو لفقتها على مزاجها. ليست حقيقة هذه السلطة في شيئا غير الاعتباط المطلق، والاغتصاب والحقد والقسوة. وإذا احتفظت بـ"المجرمين" حتى بعد أن تكفلت عشون سنة من الحبس بإحقاق "العدل"، فلأن حقيقتها الاغتصابية تتلقى الدعم من توازن القوة المختل لصالحها ضد المجتمع الذي تحكمه، ومن نوعية مصالحها غير القابلة للانضباط. ليست هذه السلطة غير قانونية بل هي مضادة للقانون، وليست غير شرعية بل هي مضادة للشرعية، وليست غير عادلة بل ليس هناك أي معايير يمكن أن تكون عادلة وفقا لها. وليس العفو من شيم السلطة التوابة أو المستتيبة، لكن في عرفها لا أحد يخرج من السجن إلا لأنها منّت عليه بالعفو. وإنما تكريما للنصر عفونا عن رجل قضى اثنين وعشرين عاما في السجن من أصل حكم مدته عشرون عاما قضت به عدالة محكمة أمن الدولة.
ليس صحيحاً هنا القول إن السلطة لا تحتمل اعتراضا، فهي بالأحرى تطلب القبول والتسليم وتنالهما غصباً. لذلك لا تكتفي بالعقاب (قصاصا من المعترضين وزجرا للاعتراض) بل تتعداه نحو التوبة ("استئصال" التائب لنفسه). فالعقاب جزاء "جريمة" ارتكبها الشخص مع بقائه هو نفسه، أما التوبة فهي تبديل للشخص ذاته، هي قلب شخصيته من الداخل. وبينما يعاقب القانون الشخص على فعل أتاه، فإن التوبة "تعاقب" كيان الشخص وقوام شخصيته.
والعقاب غير العقلاني الذي تنزله السلطة التوّابة، العقاب الذي يجتمع فيه الهول والإفراط واللاتناسب المطلق مع "الجريمة" من جهة، واستحالة التوقع وانفلات المصير التام من يد الضحية البائس من جهة أخرى، يخلق لديه الذاكرة الصحيحة ويرسخ المنعكسات الشرطية المناسبة، التي تضمن أن يعود ... تماما، وينبذ ... نهائيا. وتتويج صناعة الذاكرة هذه هو التوبة التي تمثل لحظة القطيعة لا مع الماضي المختلف للسجين بل مع اختلافه المؤسس لشخصيته. فالتوبة بالفعل فعل إخصاء، بل اغتصاب روحي ونفسي. وقد أضحى المتمرد الآن معقما، نهائيا وتماما، من نوازع العنف والأفكار المتطرفة. إنه الخروف الوطني الأمثل، المرياع الخصي الذي لا ينطح ولا ينكح، الذي يتبع الراعي كظله ضاربا القدوة الحسنة للقطيع.


تصادر التوبة حق الناس في تغيير أفكارهم، وهو حق يتسع للتحول عنها إلى غيرها أو عكسها، لكن يتضمن أيضا تطويرها كثيرا أو تعديلها قليلا أو إدماجها في رؤية أوسع. فحرية الاعتقاد هي حرية تغيير الاعتقاد. وفرض التخلي عن المعتقدات قسراً، مثل فرض المعتقدات قسراً، ليس اعتداءاً على الحرية بل هو كذلك اعتداء على الاعتقاد ذاته (الاعتقاد دون حرية اعتقاد هو تقليد). ولا يكون التوابون خير الخطائين إلا أن تابوا بحريتهم.
والوجه الآخر لمصادرة الحق في تغيير الرأي والاعتقاد هو جعل السلطة معيارا للحقيقة، للرأي الصحيح والاعتقاد الصائب. السجين مخطئ بالضرورة لأن السلطة على حق بالبداهة، هي الحق ذاته.
من الوارد جدا أن تكون اعتقادات التائبين كلها خاطئة من وجهات نظر متعددة، لكن هذا أمر خارج الموضوع تماما. فليس هناك أحد ليس مخطئا من وجهات نظر متعددة. لكن خطأ السجين ليس مسألة وجهات نظر مشروعة على قدم المساواة مع غيرها بقدر ما هو مسألة "وجهة قوة" وحيدة تحتكر تحديد الشرعية والصواب.
"التوبة" المصرية، وما يسمى في سورية "الانسحاب والتعاون" (من الحزب المعارض ومع أجهزة الأمن على التوالي)، وفي العراق البعثي "البراءة" (من الحزب ..أيضا)، لا تصلح اعتقادات خاطئة بقدر ما تحجبها وتغطي عليها. بل هي تلغي فرص تصحيح الأخطاء ومراجعتها الحرة وتحرم المجتمع من تمثل تجاربه وتصحيح أخطائه وإنتاج أو تطوير معاييره.
والمجتمعات التي لا تنتج معاييرها تبقى مخطئة ...دائما، وكسيحة... تماما، ومستعبدة... نهائيا.  

دمشق 8/10/2003



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السياسة المبدئية والسلطة والدستور
- الاستبداد والطغيان تأملات سياسية
- المكاسب العالمية من المساواة
- سورية وعراق ما بعد صدام: التفاعلات الإيديولوجية لسقوط نظام ا ...
- سورية وعراق ما بعد صدام: الآثار الجيوسياسية للسيطرة الأمريكي ...
- انفصال الأكراد هو الحل
- ما وراء حرب البترول الثالثة
- الحرب الأمريكية والديمقراطية العراقية
- حوار مع خطـاب الرئيـس بشار الأسد
- الشارع ليس في الشارع
- أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـه ...
- الأبعاد الإقليمية للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط
- نهاية عصر الحكام الأقوياء في المشرق العربي
- حصة العرب من المستقبل تقاس بمقدار حصتهم من بناء داخل خاص ب ...
- عصر تنظيمات- أمريكي؟
- المسألة العربية: دم ودموع وبترول
- وعي الذات في عالم يصنعه الغير
- نهاية نظام القطبين وانهيار توازن العالم
- نهايات الاتحاد السوفياتي العديدة
- أمريكا والعالم: أمن بلا أمن


المزيد.....




- شاب يهرب من الشرطة بسرعة ويتسبب بحادث مروري.. شاهد أين استقر ...
- مصر.. وزارة الأوقاف تعلن حظر تصوير الجنائز نهائيا وقت دخولها ...
- الجيش الإسرئيلي يعلن توسيع نطاق إخلاء الأحياء في شرق رفح، وت ...
- الاضطرابات النفسية في اليمن ـ بين المسكوت عنه وغياب الإمكاني ...
- علماء ألمانيا يقولون لك -اسمع كلام أمك- يطول عمرك!
- المبيدات في اليمن.. سموم تفتك بالبشر والكائنات وتدمر البيئة ...
- الإمارات تقدم لمشفى ميداني في غزة سيارة إسعاف وجهاز أشعة
- الجيش اللبناني يشتبك مع مهربين على الحدود مع سوريا ويقتل ويص ...
- ارتفاع حصيلة قتلى حرب غزة إلى 34971 فلسطينيا
- الحكومة المصرية: 80? من إجمالي المساعدات الإنسانية إلى قطاع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - السلطة و... التوبة