أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـهـا















المزيد.....


أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـهـا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 394 - 2003 / 2 / 11 - 02:53
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


 

 

 

من المـفـارقـات أن تعـبـيـر "الحركـة الـديـمـوقـراطـية الـسـوريـة" دخـل التـداول للـمـرة الاولـى عـام ،2002 ليـعـلـن خبـر أزمـة يعـانـي منـهـا ذلـك الطـيـف المـتـنـوع من تـجـمـعـات مثـقـفـيـن وجمـعـيـات حقـوقـيـة ومنـتـديـات وأحـزاب عـادت الـى الـوجـود او تشـكـلـت عنـد منـعـطـف تغـيـر العـهـد الـحـاكـم فـي الـبـلـد. كـانـت انشـطـة الـمـثـقفـيـن ومبـادراتـهـم قـد هـيـمـنـت علـى العـام الاول من نشـاط الـحركـة الديـمـوقراطـيـة الـذي يكـاد يطـابـق عمـر "ربيـع دمشـق". لذلـك خـلـّف انـحـسـار دورهـم إثـر هـجـمـة أيـلـول 2001 فـراغـاً مـحـسـوسـاً وخـيـّم شـعـور عـام بالازمـة لـم يـجـد مـا يبـدده.

 

يلتقي في اسباب الازمة التقادم السريع لاساليب عمل المرحلة الاولى من بيانات ومحاضرات ومنتديات... مع ضعف دور الاحزاب السياسية المعارضة وعدم قدرتها على تسلم زمام المبادرة، وبالطبع مع استمرار سياسة المنع وإضفاء الطابع الامني على أي نشاط عام مستقل.

ندرك اليوم أنه كان لا بد لانشطة "ربيع دمشق" أن تتقادم سريعاً حتى لو لم تقع الضربة السلطوية الاستباقية والجزِعة. اذ لا يمكن الربيع ان يستمر سنوات، فاذا لم يتحقق رهانه الطبيعي بتغير قواعد عمل النظام السياسي، فسيكون عليه أن يتحول الى معارضة سياسية منظمة لكي يستمر والا "يصيّف" ويذبل. وهذه هي المعضلة التي واجهت "لجان إحياء المجتمع المدني" التي تمثل اكثر من غيرها استمراراً لـ"ربيع دمشق" بعد انتهاء موسمه. فاذا لم يتدمقرط النظام السياسي السوري، ولم تتحول هي الى منظمة سياسية، وقعت في حالة دوران حول الذات لا يبدو لها مخرج واضح.

وللعامل الاخير، أعني المنع او التضييق الامني على العمل العام المستقل، تأثيره المهم في الحد من اتساع قاعدة الحركة الديموقراطية بانضمام قادمين جدد من الاجيال الشابة. فتخويف الشبان أسهل من تخويف الكهول من  المعتقلين والملاحقين السياسيين السابقين الذين يشكلون ركناً اساسياً في بنيان الحركة الديموقراطية السورية. يفسر هذا العامل الشكوى المتكررة في اوساط هذه الحركة من الاكتهال وضعف مشاركة جيل  الشباب، ويفسر اكثر من ذلك جانباً من ضعف فاعلية المعارضة وما يظهر عليها من خمول ووهن. اذ بدون زيادة في حجم تنظيماتها ستكون فرص تجديد دمائها وتنشيط عملها أضعف. ومثل ذلك ينطبق على امكان تطوير هياكلها التنظيمية. فمن الصعب الاستفادة من مزايا تقسيم العمل حين يكون حجم المنظمات صغيراً. وفي هذه النقطة ايضاً تشكل تجربة "لجان إحياء المجتمع المدني" مثالاً "مخبرياً".

بيد ان هناك مبالغة في حضور الخوف والضغط الأمني في سوريا خلال الاعوام الاخيرة. سوريا اليوم بعيدة جداً عن الهستيريا الامنية لثمانينات القرن السابق، العقد الذي اصبح فيه السجن والتعذيب والموت العنيف تجربة سورية مألوفة وجزءاً من الروتين الوطني العادي. وخلال عهد الرئيس بشار الاسد لم تجر حملة اعتقالات جديرة بهذا الاسم الا حملة العشرة في ايلول .2001 ولم نكد نسمع عن عمليات تعذيب او موت في السجون. فضلاً عن أن معظم المعتقلين، من العشرة او غيرهم، قُدّموا بعد وقت غير طويل الى المحاكم، ونالت قضاياهم جميعاً، وخصوصاً العشرة، تغطية اعلامية ممتازة تفوق مجموع التغطية الاعلامية للألوف المؤلفة ممن اعتقلوا وعذبوا وقتلوا خلال الثمانينات.

لماذا يستمر الحديث عن الخوف اذاً؟ بفعل مبدأ القصور الذاتي اولاً; ثم كنوع من التبرير الذاتي والتغطية المناسبة على التقاعس وضعف الاداء المعارض ثانياً; وأخيراً لأنه ليس ثمة سياسة أمنية منسجمة، وهناك شعور واسع الانتشار بأن بعض اهل الاجهزة الامنية يتمنون عودة "ايام العز" حين كانوا "يحيون ويميتون"، ولأنه لا أحد يضمن استحالة عودة كهذه. يبقى أكيداً مع ذلك تغير نوعية الحضور الامني وتأثيره. فلم يعد "الأمن" يتمثل اليوم في اعتقال اعضاء التنظيمات السياسية وتدميرهم جسدياً ومعنوياً، ولا في حرق الارض الاجتماعية لمنع نمو الاحزاب السياسية عليها، بل ربما في توليد الحذر ودفع الناس الى التردد و"العد للألف" قبل الانضمام اليها. في اختصار ليس محور السياسة الامنية اليوم كسر الرؤوس فما فوق بل، بالاحرى، ليّ الأذرع او ما دونه.

لعله بالتوازي مع هذه التحولات بات الكلام المرسل عن الخوف وغياب جيل الشباب غير دقيق على الاقل. وهو يعني ضرورة البحث عن اسباب اخرى لشيخوخة المعارضة المنظمة. اليوم يرصد المراقب اتساعاً كبيراً في مشاركة الشبان في الاهتمام بالشأن العام من موقع معارض، لكن ربما لا يجدون أطر النشاط العام القائمة جذابة ومقنعة. وتلفت النظر كثيراً شكوى بعضهم من أن الكهول هم الذين يركزون على الخوف حين يلخصون كل تجربتهم السياسية بما تعرضوا له من سجن مديد طال فترة تقارب كل عمر هؤلاء الشبان. وليست اقل لفتاً للنظر ايضاً شكوى بعض الشبان الجامعيين او المتخرجين حديثاً من لا ديموقراطية المعارضة. وبينما قد تعكس هذه الشكوى تشككاً قبلياً عند الشباب إزاء سيطرة جيل الآباء، وبعداً من ابعاد هويتهم كشباب، او قد تكون طريقة للتمرد والرغبة في الاستقلال وتحدي المعوقات، فإن أطر عمل المعارضة الراهنة لم تساعدهم في التخفف من هذا الشعور ولم تقدم ما يقنع بعكسه.

 

التقصير والافتقار الى النواة

القضية التي أريد سوقها هنا هي أن العامل الأهم في أزمة الحركة الديموقراطية السورية منذ بداية "ربيع دمشق" هو، للمرة الاولى منذ ربع قرن، "العامل الذاتي"، أي تقصيرها المتعدد الابعاد في إثبات حضورها كلاعب على المستوى الوطني. ويجتمع في هذا التقصير افتقارها الى تصور واضح عن وضعها ودورها (وعي الذات)، ونقص الشجاعة والايمان المتجرد بقضية التغيير الديموقراطي (وعي الهدف)، اضافة الى فقر فكري ومعرفي لا يني يتراكم. وبدوره يعود هذا الفقر المتعدد الابعاد الى التكوين التنظيمي والايديولوجي الموروث للفاعلين الحزبيين وغير الحزبيين في الحركة الديموقراطية.

ولعل القضية الأهم من وجهة النظر العملية هي افتقار الحركة الديموقراطية الي نواة او مركز مبادرة سياسية ديناميكي. وكان يمكن العناصر الحزبية في الحركة الديموقراطية السورية، أي الاحزاب المنضوية في اطار التجمع الوطني الديموقراطي، ان تقوم بدور المركز القيادي الديناميكي، وخصوصاً بعد انتهاء "ربيع دمشق" الذي تصدره المثقفون، الا أنها قصرت عنه من جميع النواحي.

 

مبادرات منشِّطة

تشير تجربة العامين ونصف العام الاخيرة في سوريا الى ان تنشيط الحياة العامة قام على مبادرات شجاعة من افراد او مجموعات صغيرة. وكان لرياض سيف (فك الله اسره) دور مميز حين بادر الى تأسيس "منتدى الحوار الديموقراطي" في منزله ممهدا الطريق الذي سيسلكه كثيرون من بعده، اضافة الى اعلانه عن نيته تشكيل حزب سياسي تحت اسم "حركة السلم الاجتماعي" حين يصدر قانون الاحزاب (كان يفترض استنادا الى وعود رسمية انه وشيك الصدور في شباط 2001 حين اعلن سيف مشروعه)، ثم شجاعته في مواصلة عمل المنتدى بمحاضرة مهمة للدكتور برهان غليون منتهكا "الاجراءات التنظيمية" التعجيزية التي اعدمت المنتديات في شباط ،2001 وقد كلفته هذه الشجاعة الاعتقال ثم حكما بالسجن خمس سنوات. لكن رياض الترك هو الذي قدّم برنامجا حقيقيا للانتقال نحو سوريا جديدة عبر مبادرة المصالحة الوطنية التي طرحها في محاضرته في منتدى الاتاسي في 5/8/.2001 وهو محق تماما في قوله انه اعتقل بسبب هذا الطرح المعتدل بالذات لا بسبب حدة عبارته هنا  او هناك.

ومن اللافت ان التجمع الوطني الديموقراطي استطاع في اواخر عام ،2001 اي بعد قرابة خمسة أشهر من محاضرة الترك واربعة اشهر من محاضرة برهان غليون ونحو عام من مشروع رياض سيف، ان يقدم "برنامجا" بلا برنامج وبلا حس سياسي، وبلا شعور بالزمن; كان يمكن تقديمه قبل عشر سنين وقد يمكن تقديمه بعد عشر سنين ايضا. وبعد اكثر من عام من صدوره لا يبدو ان وجوده احدث فرقا عن عدمه. فإما ان قيادة التجمع لم تلتزم به، وإما - وهذا ارجح - ليس في عمومياته ما يمتحن التزامها به او يفيدها في تسديد عملها. وكان يمكن لو حاز قيمة برنامجية حقيقية ان يعوض عما يأخذه عليه رياض الترك من مخالفاته للائحة عمل التجمع وعدم اقراره من مؤتمر رسمي.

استمدت مبادرة رياض الترك اهميتها لا من مضمونها وصدقية صاحبها فحسب، ولكن من علانيتها وما نالته (بفضل صدقية الرجل بلا ريب) من تغطية اعلامية اوصلتها الى جمهور واسع من السوريين والمهتمين بالشأن السوري. خلال شهر واحد، آب ،2001 وصل صوت رياض الترك الى عدد من السوريين يفوق عدد الذين سمعوا منه او به خلال عمره السياسي المديد. ليس هذا درسا في صالح العلانية لأنه لم يعد ثمة احد يدافع عن السرية في العمل السياسي. هو بالاحرى درس في فائدة العلانية من اجل قول الحقيقة للشعب وإسماع السوريين صوتا آخر غير المونولوغ الممجوج الذي يسمعونه منذ عقود. ولا شك اننا نهدر هذا الدرس اذا كان ثمن العلانية خطاباً فقيراً بلا روح ولا ملامح ولا حتى نبرة مختلفة.

لكن الدور الاساسي للترك يتمثل في انه انتزع شرعية الموقف المعارض ودفع نحو خلخلة مطابقة سوريا مع نظامها باسمها. كما كان له المساهمة الشخصية الكبرى في النطق باسم تضحيات الشعب السوري الجسيمة ومنعها من السقوط في النسيان.

 

مأسسة المبادرة السياسية

الارجح ان دور الافراد (وهو لا يقتصر على الترك وسيف قطعا) يبرز حين تكون اطر العمل الجماعية ضعيفة او مشلولة. لكن ليس من الممكن التعويل على هذا الدور دائما، ولا من الملائم الاعتماد عليه سياسيا في غير مراحل انتقالية موقتة.

بات من الضروري الآن مأسسة المبادرة السياسية، وبلورة سياسة ديموقراطية معارضة. وما افتقرت اليه سوريا خلال الاعوام الاخيرة هو احزاب سياسية نشطة تقوم بهذين الدورين، اعني تكون مركزا او مراكز للمبادرة والدينامية وتبلور سياسة ديموقراطية تتجاوز استهلاك الخطاب الديموقراطي الذي يفتقر اكثر واكثر الى مضمون سياسي تغييري - نحو برنامج متكامل للبناء الوطني. ومن المفترض ان يغطي هذا البرنامج الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والامنية والدفاعية ومسألة الاحتلال الاسرائيلي والمسألة الفلسطينية وقضايا التعاون العربي والوضع الاقليمي، فضلا عن اقتراح قواعد جديدة لممارسة السلطة في البلاد. ليس ما يحول دون ذلك نقص الامكانات او ضعفها. في النهاية نحن لا نضع الا البرنامج الذي يعكس امكاناتنا وقدراتنا، وبالتأكيد لن نستطيع التصدي لمشكلات لا نعرف كيف نطرحها ونفرزها ونصوغها. الحائل الأهم هو بالاحرى تشوش رؤية الحركة الديموقراطية السورية وفقدها الاعتبار الذاتي.

ولعل الرؤية المناسبة لتوجيه العمل السياسي المعارض وحفزه في سوريا هي السعي نحو الارتقاء بالحركة الديموقراطية المشتتة اليوم الى مستوى قطب ديموقراطي، او بما يؤهلها لتكون "رقما صعبا" في المعادلة الوطنية عصيا على الحذف والتجاهل. بالطبع ليس تطلع الحركة الديموقراطية الى ان تكون قطبا سياسيا في بلدها هو الذي سيجعلها تصير قطبا، لكن من شأن افتقارها الى هذا التطلع ان يبقيها كمّا منفعلا غير قابل للنمو.

 

من الأزمة الى التأسيس

ما السر في هزال اطر العمل الجماعي الحزبية وغير الحزبية؟ لعل جذر الازمة هو "انتهاء صلاحية" صيغ العمل السياسي القائمة. فحين تتراكم اداء واخفاقات اداة عمل معينة، سواء كانت حزبا سياسيا ونظرية فكرية او مؤسسة اجتماعية، قد يستحسن ان لا نتأخر في استنتاج ان "عمرها الافتراضي" قد انتهى. واول هذه الصيغ هو نظام الحزب العقائدي الواحد نفسه مع عقيدته وملحقاته "الشعبية" والجبهوية، وبالتبعية المنطقية يشمل ذلك كل عناصر الجسم السياسي السوري التي حرمها النظام فرص النمو والتطور الحر. فبقدر ما اضطر النظام اطر العمل السياسي المعارضة الى ان تبرمج عملها وطرق تفكيرها وانماط حلولها واساليب تكيفها على كيفية البقاء على قيد الحياة في عقدي القرن العشرين الاخيرين، ارتهن مصير هذه بمصيره وامسى تحولها مرهونا بتحولاته. لكن تلك الاحزاب ليست علبا سوداء تسجل الحوادث تسجيلا سلبيا من دون ان ترد عليها. انها ذات بنية داخلية وخيارات سياسية. ووضعها وارتهانها اليوم يعكسان تفاعل اضطراراتها واختياراتها وبنياتها.

لنلق نظرة ختامية على هذه البنية. تشترك الاحزاب وارثة الشيوعية والناصرية والبعثية (والاسلامية؟) في عقائديتها المتفاوتة التشدد، وبناها التنظيمية المركزية ذات التراتبية الصارمة وشبه العسكرية (التنظيم اللينيني)، وميلها الى العمل السري. لم يعد احد يقتنع اليوم جديا بالعقائد الخلاصية المقدسة او شبه المقدسة، وبذلك فقدت التنظيمات المركزية "العلم" المتفوق الذي تمتلكه وتحتكر سبل نقله الى جمهور غير متمايز وغير متعض وخسرت من ثم عقيدة انتظامها وترتيبها، وبخسارة الرسالة والتنظيم لم يعد ثمة ما يسوّغ النضال السري.

يفترض ان يعني ذلك ان ثمة بعدا تأسيسيا في كل عمل سياسي في سوريا: تأسيس ادوات جديدة للعمل السياسي، تأسيس قواعد جديدة لممارسة السلطة، واعادة ترتيب الهوية الوطنية السورية. هذا التأسيس السياسي والاجتماعي والثقافي "ليس من حق [ولا من قدرة] حزب او تيار سياسي في عينه مهما كانت صبغته الايديولوجية"، كما يقول رياض الترك. لكن لن يؤسس سوريا الجديدة غير السوريين القدماء انفسهم. ومستقبل الحركة الديموقراطية السورية رهن بجعل التأسيس والتجديد مطلب اكثرية هؤلاء السوريين.


--------------------------------------------------------------------------------

 

عــن الــتــرجــمــة

عـقـــل الـعـويـط

 

في الستينات من القرن الفائت، ازدهرت حركة نقل الشعر الحديث الى العربية، من الفرنسية والإنكليزية، وحيناً من الأسبانية والبرتغالية والألمانية. وكانت مجلة "شعر" الرائدة الأساسية في هذا الباب الوسيع حين ترجمت قصائد وأعمالاً ما كان يمكن حركة الأدب العربي الحديث أن تكون إنسانيةً لولاها. وكان ثمة عدد كبير من القرّاء والكتّاب العرب لا يحسنون سوى العربية، ولا يستطيعون قراءة الأدب من مصادره اللغوية الأصلية. وقد شكلت تلك الترجمات على أيدي الشعراء والكتّاب، رافداً مهماً من روافد الثورة الأدبية، ومفصلاً مهماً في حركة تطور الشعر العربي الحديث.

وإذا كانت تلك الترجمات ركزت على النقل من الفرنسية والإنكليزية فلأنهما اللغتان اللتان كان يحسنهما الأدباء المترجمون. قام ذلك الجهد غير المسبوق في نوعه على أيدي الشعراء والكتّاب والمتأدبين، ومنهم جبرا ابرهيم جبرا وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وأدونيس ورينه حبشي وسركون بولص وعصام محفوظ وفؤاد رفقة ومصطفى الخطيب ونذير عظمة ومنير بشور وجورج خوري وفواز طرابلسي وهاني أبي صالح ونديم نعيمة والياس عوض وآخرون. وقد ردموا هوة عميقة وفتحوا جسراً من التواصل الشعري بين الأدب العربي والأدب العالمي، فصار أهمّ الشعر الفرنسي ــ وهو الأساس في حركة قصيدة النثر العالمية ــ في متناول أيدي المهتمين وجزءاً من تراثهم الأدبي، وعنصراً يساهم في إضفاء دينامة جديدة على اللغة الشعرية العربية وتقنيات التعبير فيها.  ثم تابع المهمة بول شاوول وعبد القادر الجنابي وعبده وازن وبسام حجار واسكندر حبش وآخرون.

المسألة التي أودّ أن أثيرها هي هل يكفي ما نُقل من شعر أجنبي الى العربية في الستينات وما بعد لإلقاء السلاح، أم أن هناك حاجة منهجية ماسة لترجمة منظمة ومبرمجة لروائع الشعر العالمي الحديث بكاملها، أو حتى إعادة ترجمة هذه الروائع وغيرها؟

أعتقد أن الجواب حاسم: لا بدّ من القيام بذلك، والآن. إلاّ أن هذه المسألة تستلزم، في جملة ما تستلزم، موجبات وجهوداً أكاديمية ومنهجية وتقنية، كما تفترض مواهب أدبية ساطعة لإدراك روح القصائد وتحديات الترجمة من جهة، مثلما تفترض ــ أولاً وأخيراً ــ النقل من اللغة الأصلية لا من لغة وسيطة.

فثمة في سوريا ولبنان ومصر وغيرها من البلدان العربية، حركة واسعة لنقل الشعر والرواية من دون أن يمتلك الناقلون ــ أو بعضهم ــ المواهب الأدبية ونواصي الموجبات الأكاديمية والتقنية الدقيقة. وثمة في الوقت نفسه من ينقل الشعر والرواية من لغات وسيطة. وهذه طامة كبرى في زمننا المعولم هذا. فإذا كان مقبولاً في لحظة محددة من تاريخ الحداثة العربية حصول مثل هذا الأمر، فإن استمراره إنما يسيء الى الأدب المنقول والى الأدب المنقول إليه على السواء. والأمثلة لا تحصى.

فإذا كانت الترجمة في رأي الكثيرين، وخصوصاً أهل الشعر، هي فعل خيانة للنص الأصلي في معنى ما، أفلا تكون الترجمة عن الترجمة فعلاً خيانياً مزدوجاً؟ فكيف إذا زيد على ذلك، ما يُشاع هنا وفي الجوار عن ترجمات تشوّه معنى النصوص الأصلية وروحها ولغتها، وتسيء الى اللغة العربية في آن واحد؟!

يطرح هذا السؤال المزدوج نفسه بإلحاح عظيم، لأن الكاتب والقارىء يحتاجان الى معرفة الأدب من مصادره. فإذا كان الناقل لا يملك موهبة الأدباء ولا يتقن اليابانية أو الاسبانية أو الإيطالية أو الألمانية، أفيجوز أن يتنطح الى نقل أدب هذه اللغات من لغة وسيطة هي الفرنسية أو الإنكليزية لأنه لا يتقن سواهما؟

هذا بالتأكيد خطأ جسيم. وإذا كان مقبولاً في الزمن الذي فات أن يحصل هذا الأمر لضرورات أدبية وتاريخية و"ثورية"، فلم يعد من المقبول اليوم الاكتفاء بذلك والاستمرار في عملية النقل من غير اللغة الأصلية.

إن إتقان اللغات بات أمراً ملحاً، وفي غياب هذا الاتقان يتعرض الادب لانتهاكات خطيرة وسؤ فهم لمعانيه ومبانيه.

وهذا يوجب عدم نقل الأدب الا من مصادره مباشرة، لا من لغة وسيطة، رغم أن العولمة اللغوية تفرض الانكليزية كلغة أممية شبه وحيدة. وهذه ديكتاتوريه فاشلة لأنه يغيب عن بال هذه العولمة اللغوية ما يُرتكب باسمها من جرائم وفضائح عندما "تفرض" نقل الأدب عن غير لغته الأصلية.

لهذا تستوجب الترجمة أن تأخذ مجراها كنشاط أدبي وأكاديمي كامل، كالكتابة الأدبية بالذات، وأن تُفرض فرضا في الجامعات وفي دور النشر وفي الجرائد والمجلات والدوريات الأدبية، وأن تواصل الدور الأول لمجلة "شعر"، وأن تطوّره وتمنهجه لتجعل منه ركناً صلباً من أركان اللحظة الأدبية الراهنة والمستقبلية. وبيروت هي اليوم في أشد الحاجة الى مثل هذا الدور بعدما تراجعت فيها عملية النقل الأدبي ــ مواهب وتقنيات ــ تراجعاً خطيراً قد يؤدي في المستقبل القريب ربما الى "إغلاق" بيروت أمام الترجمة بسبب السيول الجارفة من الكتب المنقولة عشوائياً والمتضمنة في الكثير من الأحيان أخطاء جسيمة وخروجاً فاضحاً على المعاني والمباني.

لاجل ذلك يجب وضع خطة شاملة تكون بيروت مقرّها لقيام حركة ترجمة واسعة من خلال مترجمين موهوبين ومتخصصين في اللغات الحية الأساسية (ابتداء بالفرنسية والإنكليزية، مروراً بالأسبانية والإيطالية والألمانية والبرتغالية والفارسية ــ ولِمَ لا اليابانية والصينية والهندية!!)، على أن يفهم القائمون بذلك أهمية أن يكون المترجم "متأدباً"، أي ملماً بروح العملية الأدبية. وبروح اللغات. وإلاّ لا معنى للترجمة على الإطلاق.

شاءت الصدف، أن أقرأ كتاباً للشاعر الإيطالي الكبير أونغاريتي منقولاً الى العربية عن... الفرنسية. عجباً! وشاءت اهتماماتي أن أقرأ أعمالاً مترجمة من الأسبانية والبرتغالية والألمانية تواً لهنري فريد صعب وعيسى مخلوف وأنطوان خاطر وفؤاد رفقة، ولآخرين بالتأكيد. الى أن نقلت زميلتنا الشاعرة جمانة حداد لـ "الملحق" قصائد مترجمة مباشرة من الإيطالية، والى أن صدر أخيراً ديوان "لمسات الظل" للشاعر الإيطالي إيمانويل ميناردو منقولاً من الإيطالية وحاملاً توقيع زميلتنا نفسها (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر). وكان عليَّ أن أقيم مقارنة بسيطة في العربية بين الأدب المنقول بواسطة لغة وسيطة والأدب المنقول تواً من لغته الأصلية، لأكتشف مغزى أن يُنقل الشعر من جذوره وروحه وبيته وجسده، ومغزى أن يكون الناقل المدقق شاعراً أو أديباً أو متأدباً موهوباً.

وما دام الأمر هكذا، فلِمَ لا نبدأ من هذه اللحظة بالذات، ولِمَ لا نبحث عن دور نشر أو جامعات تتولى هذه المهمة (وهي موجودة بالتأكيد، وهي مهمة مدعوة إليها في شكل أساسي "دار النهار" وأهلها ومدرسة الترجمة في جامعة القديس يوسف)، ما دام عندنا مترجمات ومترجمون كزميلتنا الشاعرة التي عرفنا أنها نقلت أخيراً قصائد لبعض أكبر الشعراء اللبنانيين الى الأسبانية، والتي تتقن عدداً جمّاً من اللغات اللاتينية يخوّلها أن تفكر جدياً في وضع خطط لإصدار أنطولوجيات شاملة حول النقل الأدبي المباشر من هذه اللغات الحية.

خلاصة ذلك، أننا محتاجون الى ناقلين يلمّون إلماماً أدبياً وأكاديمياً بالإيطالية والأسبانية والألمانية والبرتغالية، وغيرها من اللغات التي ذكرت. ولا أعتقد أن هؤلاء قلائل بين ظهرانينا، لكن أعباء الترجمة الموهوبة والموثوق بها تنوء بها الأكتاف عندما تنافسها سيول من الترجمات الركيكة التي تغزو السوقين الإقليمية والمحلية.

نحن محتاجون الى حركة ترجمة واسعة، تأخذ على عاتقها في مرحلة أولى إعداد أنطولوجيات شعرية موثقة وكاملة من أدب هذه اللغات المذكورة، كي نحيا من جديد بالأدب الذاتي وبالأدب العالمي، وبالشعر خصوصاً، وكي نجدده، وكي تعود مكتبتنا الأدبية عامرة بالترجمات الأكيدة والموثوق بها والعارفة في الوقت نفسه لا عبقرية اللغة العربية واللغات الأخرى فحسب، بل لاوعيها اللغوي أيضاً. وهذه مهمة عظمى تحتاج الى جنود عظام.
 



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأبعاد الإقليمية للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط
- نهاية عصر الحكام الأقوياء في المشرق العربي
- حصة العرب من المستقبل تقاس بمقدار حصتهم من بناء داخل خاص ب ...
- عصر تنظيمات- أمريكي؟
- المسألة العربية: دم ودموع وبترول
- وعي الذات في عالم يصنعه الغير
- نهاية نظام القطبين وانهيار توازن العالم
- نهايات الاتحاد السوفياتي العديدة
- أمريكا والعالم: أمن بلا أمن
- على ضوء التطورات-: التجمع الوطني الديمقراطي يقرر انتخاب نفسه ...
- تغيير الأنظمة- و-إعادة رسم الخرائط-
- التجمع الوطني الديمقراطي .. إلى أين؟
- من منع الهجوم على العراق إلى تجديد الحياة السياسية العربية
- نقاش أمريكي في الشأن عراقي
- سورية في إطار الحملة على العراق
- تأملات على أعتاب شرق أوسط جديد
- نظرية الرؤوس الحامية وفلكلور الخطاب
- موقع الدول العربية على مقياس التنمية الإنسانية
- بعض جوانب إشكالية المجتمع المدني في سورية
- ازمة المعارضة السورية: لا معارض بل عدو


المزيد.....




- تتمتع بمهبط هليكوبتر وحانة.. عرض جزيرة في ساحل اسكتلندا للبي ...
- خبير الزلازل الهولندي الشهير يحذر من ظاهرة على سواحل المتوسط ...
- فيديو.. الشرطة الأميركية تباشر بتفكيك احتجاج مؤيد للفلسطينيي ...
- مزيد من التضييق على الحراك الطلابي؟ مجلس النواب الأمريكي يقر ...
- صحة غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 34596 قتيلا ...
- الجيش الأوكراني يحقق في أسباب خسائر كبيرة للواء رقم 67 في تش ...
- مسافر يهاجم أفراد طاقم طائرة تابعة لشركة -إلعال- الإسرائيلية ...
- الكرملين يعلق على مزاعم استخدام روسيا للأسلحة الكيميائية ضد ...
- بالفيديو.. طائرات عسكرية تزين سماء موسكو بألوان العلم الروسي ...
- مصر.. -جريمة مروعة وتفاصيل صادمة-.. أب يقتل ابنته ويقطع جثته ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - أزمـة الـحـركـة الـديـمـوقـراطـيـة الـسـوريـة ومـسـتـقـبـلـهـا