أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - فن الشعر في ملحمة گلگامش















المزيد.....


فن الشعر في ملحمة گلگامش


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 2092 - 2007 / 11 / 7 - 11:58
المحور: الادب والفن
    


عن دار المدى للثقافة والنشر والتوزيع في سوريا، صدر قبل أيام كتاب جديد للشاعر العراقي صلاح نيازي تحت عنوان (فن الشعر في ملحمة گلگامش) وقد تم تخصيصه بالكامل (183 صفحة من القطع المتوسط) لمناقشة جانب واحد فقط من الجوانب المتعددة التي تزخر بها هذه الملحمة الانسانية الخالدة، ألا وهو تقنيات وأساليب الانشاء الشعري التي اعتمدها مؤلف (أو ربما مؤلفو) هذا النشيد الشعري العظيم.
وملحمة گلگامش أو جلجامش أو كلكامش أو قلقامش أو قلقميش، بحسب اختلاف ضبط الاسم في مشارق الأرض العربية ومغاربها وما بينهما، هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على أحدَ عشرَ رَقيماً طينياً اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثريّ اكتشف بالصدفة وعُرف فيما بعد أنه لم يكن سوى المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى شمال العراق ويحتفظ بالألواح الطينية التي كُتبَتْ عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الرُّقُمُ الطينية مكتوبة باللغة الأكدية وتحمل في نهايتها توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.
في رسالة له عام 1916 قال الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه ان ملحمة گلگامش مذهلة وانها من أهم ما يمكن أن يصادفه الانسان في حياته. ويكمل قائلا (لقد اغرقت نفسي فيها فرأيت في تلك القطع الهائلة من الألواح المفخورة أنظمة وأشكالا تنتسب الى الأعمال المتقنة التي أنتجتها الكلمة الساحرة على طول تاريخها).
وهنا يتساءل مؤلف الكتاب الشاعر صلاح نيازي عن السر في عظمة هذه الملحمة، أهو في تأريخيتها؟ وهي، أي الملحمة، ليست تاريخية؟ أم يا ترى في خيالاتها الخرافية، وهي ليست خرافية؟ أم ترى يكون السر في أسئلتها الفلسفية، وهي ليست كتابا فلسفيا؟ أم في هذا المزيج العجيب من التاريخ والخرافة والفلسفة؟ ليكن الأمر كذلك.. غير ان التاريخ والخرافة والفلسفة، كما يقول صلاح نيازي، لا تكون مؤثرةً فنياً إن لم تمر بتقنيات مختلفة مبتكرة ومتطورة. ويؤكد نيازي في هذا الصدد ان مؤلف ملحمة گلگامش لابد ان يكون شاعرا حاذقا، فتقنياته في صناعة الشعر لا تقل دقة عن تقنيات أي شاعر معاصر، عربيا كان أم أجنبيا.
ربما بهذه التقنيات قد انسحر الشاعر الألماني (ريلكه) كما انسحر وانبهرالشاعر الانكليزي المعاصر (ديفيد ميتشيل) الذي ترجم مؤخرا ملحمة گلگامش الى اللغة الانكليزية شعرا.
لكن ما من أحد، على حد علمنا المتواضع وعلم المؤلف أيضا، خصص دراسة خاصة لهذه التقنيات وأساليب الانشاء الشعري التي اعتمدها مؤلف (أو ربما مؤلفو) هذا النشيد الانساني العظيم. فصلاح نيازي، الرائد في هذا المجال، يقر بأن ملحمة گلگامش لا تبشر بفكرة أو فلسفة أو دين، انما يعزو انتشارها الواسع وتأثيرها العميق حتى في الآداب العالمية المعاصرة، الى ما يسميه (مَلَكَةَ التأليف وبلاغة التوقيت) والمقصود بالتوقيت هنا التكنيك الفني، مع ذلك، لم يفطن الا القليل من النقاد، كما يقول نيازي، الى التقنيات المدهشة التي استعملها شاعر ملحمة گلگامش بحيث اصبحت هذه القصيدة وكأنها نص عصري.
وبالفعل، كان صلاح نيازي حريصا منذ البداية أن يجيب على (كيفية القول) لا عن (دوافعه)، عن (تأثيره) لا عن (شرعيته). بكلمات أخرى، كان الهم الأول والأخير لمؤلف هذا الكتاب أن يكشف لنا عن موهبة الشاعر الرافديني الأول في التأليف قدر المستطاع: كيف كتب مثلاً رثاء گلگامش لصديقه انكيدو؟ كيف صوّر الطوفان، وما هي الأدوات والأجهزة التي استعملها؟ كيف صوّر الخوف؟ كيف صوّر خيبة الانسان التامة؟ كنتُ أسعى، يوضح لنا صلاح نيازي، مؤلف كتاب (فن الشعر في ملحمة گلگامش)، الى اكتشاف تقنيات هذا الشاعر الخصيب.
عبر فصول الكتاب الإثنتي عشر، يأخذنا الكاتب في رحلة ممتعة بحقّ، الى تلمّس ما سبقَ لهُ وأن قدمه تنظيرا عن أساليب الإنشاء الشعري لملحمة گلگامش، تلمساً يكاد يكون تطبيقيا بشكل مدرسي، وذلك من خلال الاستشهادات الكثيرة والأمثلة المضروبة، هنا وهناك، والعودة الدائمة الى مَتْنِ النص الاصلي للملحمة، بالترجمة العربية الخالدة للعلامة العراقي الدكتور طه باقر، مع تعديلات وتصويبات قام بها صلاح نيازي بعد أن أجاز ذلك لنفسه، حيث أصلح بعض الارتخاءات الاسلوبية دون الإخلال بالمعنى إذ كان المرحوم طه باقر عالما وليس بشاعر أو أديب، كما يقول نيازي في الصفحة 28 من الكتاب.
إن المعرفة والصداقة ومواجهة الموت، هي الأركان الثلاثة التي تنتظم ملحمة گلگامش بنيوياً، متوسلةً في ذلك أسلوباً حوارياً بوجهة نظر أخلاقية غائية، مبثوثة في نسيج نص مفعم بالألغاز والطقوس المثيرة. إنها في غالبيتها مكتوبة بطريقة الشيفرات أو الأكواد، بلغتنا المعاصرة، كما يقول (روبرت تامبل) أحد أهم شراح ملحمة گلگامش في الإنكليزية. فهي من ناحيةٍ تشبه قصةً دنيوية زاخرة بالاحداث، ومن ناحية أخرى، تفسح في المجال للكهنة والعلماء أن يخفوا معانيها الأعمق بواسطة استعمال التورية والترميز.
وتشكل صيغة الأسئلة الاستنكارية، واستعمال الحوار الخارجي، أي الديالوغ، بمثابة رَدّ فِعلٍ على الحوار الداخلي، أي المونولوغ.. والبكاء على الأطلال، وتقديس الأشجار، والتشاؤم من الطيور، والمساجلات بين وجهات نظر متباينة، والمنافرة، وهي أن يفتخر رجلان كلّ على صاحبهٍ، ثم يحكّمان بينهما رجلاً آخرَ.. واعتماد صيغة التكرار، وكثرة التشبيهات، ودلالة النور والظلام والأبواب، وتكنيك الوزن الشعري، ونقل الحدث من الماضي الى الحاضر، وجعل الخرافة واقعا ملموسا، تشكل هذه بمجملها، مجموعة من الحيل الأدبية واللمح الفنية التي تجعل من نصّ مَاْ نَصّاً أدبياً، وليس أي شئ آخر.
وقبل أن نتابع نجاح الشاعر صلاح نيازي في تبيان عناصر شعرية بل وشاعرية ملحمة گلگامش، عبر ما تقدم من إشارات تجدون مزيد تفصيلاتها بين دفتي الكتاب الذي نعرض له اليوم، لابد من اعطاء القارئ الكريم نبذة ميسرة عن ملحمة گلگامش وبطلها ملك أوروك وعموم العراق القديم.
تبدأ الملحمة بالحديث عن گلگامش ملك أوروك الذي كانت والدته إلهة خالدة ووالده بشرا فانيا ولهذا قيل بأن ثلثاه كان إلهً والثلث الباقى كان بشراً سويا. وبسبب هذا الجزء الفاني منه، يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. تجعل الملحمة گلگامش ملكا غير محبوب من قبل شعب أوروك حيث تنسب له ممارسات سيئة منها ممارسة الجنس مع كل عروس جديدة وأيضاً تسخير الناس في بناء سور ضخم حول أوروك.
ابتهل سكان أوروك للآلهة بأن تجد لهم مخرجا من ظلم گلگامش فاستجابت الآلهة وقامت إحدى الآلهات واسمها أرورو بخلق رجل وحشي كان الشعر الكثيف يغطي جسده ويعيش في البرية يأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات أي أنه كان على النقيض تماما من شخصية گلگامش. ويرى بعض المحللين في هذا ترميزاً إلى الصراع بين المدنية وحياة التمدن التي بدأ السومريون بالتعود عليها تدريجيا بعد أن غادروا حياة البساطة والزراعة المتمثلة في شخصية أنكيدو.
كان أنكيدو يخلص الحيوانات من شباك الصيادين الذي كانوا يقتاتون على الصيد فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك گلگامش الذي أمر إحدى خادمات المعبد بالذهاب ومحاولة إغراء أنكيدو ليمارس الجنس معها وبهذه الطريقة سوف تبتعد الحيوانات عن مصاحبة أنكيدو ويصبح أنكيدو مُرَوّضاً وَمَدنياً. حالف النجاح خطة الملك گلگامش وبدأت خادمة المعبد وكان اسمها شامات وتعمل خادمة في معبد الآلهة عشتار بتعليم أنكيدو الحياة المدنية من كيفية الأكل واللبس وشرب النبيذ ثم تبدأ باخبار أنكيدو عن قوة گلگامش وكيف أنه يدخل بالعرائس قبل أن يدخل بهن أزواجهن وعندما يسمع أنكيدو هذا الشئ يستشيط غضبا ويقرر أن يتحدى گلگامش في مصارعة كي يجبره على ترك تلك العادة. يتصارع الإثنان بشراسة حيث أن الإثنان متقاربان في القوة ولكن في النهاية تكون الغلبة لگلگامش ويعترف أنكيدو بقوة گلگامش وبعد هذه الحادثة يصبح الأثنان صديقين حميمين.
يحاول گلگامش دائما القيام بأعمال عظيمة لكي يبقى اسمه خالدا فيقرر في يوم من الأيام الذهاب إلى غابة من أشجار الأرز أو السدر، ويقطع جميع أشجارها ولكي يحقق هذا يجب عليه القضاء على حارس الغابة الذي هو مخلوق ضخم وقبيح اسمه خمبابا. ومن الجدير بالذكر أن غابة الأرز أو السدر كانت هي المكان الذي تعيش فيه الآلهة ويعتقد أن المكان المقصود يقع الآن في منطقة ما بين إيران والبحرين، ويرجح البعض انها ربما تكون منطقة عربستان أو الأحواز جنوبي غرب ايران الحالية.
يبدأ گلگامش وأنكيدو رحلتهما نحو غابة أشجار الأرز أو السدر بعد حصولهما على مباركة شَمَشْ إله الشمس الذي كان أيضا إله الحكمة عند البابليين والسومريين وهو نفس الإله الذي نشاهده في مسلة حمورابي المشهورة وهو يناول الشريعة إلى حمورابي الملك. وأثناء الرحلة يرى گلگامش سلسلة من الكوابيس والأحلام لكن أنكيدو الذي كان في قرارة نفسه متخوفا من فكرة قتل خمبابا حارس الغابة، يطمئن گلگامش بصورة مستمرة على أن أحلامه تنبئ بالنصر والغلبة.
عند وصولهما الغابة يبدآن بقطع أشجارها فيقترب منهما حارس الغابة خمبابا ويبدأ قتال عنيف ولكن الغلبة تكون لگلگامش وأنكيدو حيث يقع خمبابا على الأرض ويبدأ بالتوسل اليهما كي لا يقتلاه ولكن توسله لم يكن مجديا حيث أجهز الإثنان على خمبابا وأردياه قتيلا. أثار قتل حارس الغابة غضب إلهة الماء أنليل حيث كانت أنليل هي الآلهة التي أناطت مسؤولية حراسة الغابة بخمبابا.
بعد مصرع حارس الغابة الذي كان يعتبر وحشا مخيفا يبدأ اسم گلگامش بالانتشار وتطبق شهرته الآفاق فتحاول الآلهة عشتار التقرب منه بغرض الزواج من گلگامش ولكن گلگامش يرفض العرض فتشعر عشتار بالإهانة وتغضب غضبا شديدا فتطلب من والدها آنو، إله السماء، أن ينتقم لكبريائها فيقوم آنو بإرسال ثور مقدس من السماء لكن أنكيدو يتمكن من الامساك بقرن الثور ويقوم گلگامش بالإجهاز عليه وقتله.
بعد مقتل الثور السماوي المقدس تعقد الآلهة اجتماعا للنظر في كيفية معاقبة گلگامش وأنكيدو لقتلهما مخلوقا مقدسا فتقرر الآلهة قتل أنكيدو لأنه كان من البشر أما گلگامش فكان يسري في عروقه دم الآلهة من جانب والدته التي كانت إلهة فيبدأ المرض المنزل من الآلهة بإصابة أنكيدو الصديق الحميم لگلگامش فيموت بعد فترة.
بعد موت أنكيدو يصاب گلگامش بحزن شديد على صديقه الحميم حيث لا يريد أن يصدق حقيقة موته فيرفض أن يقوم أحد بدفن الجثة لمدة أسبوع إلى أن تفسخت وبدأت الديدان تخرج من جثة أنكيدو فيقوم گلگامش بدفن أنكيدو بنفسه وينطلق شارداً في البرية خارج أوروك وقد تخلى عن ثيابه الفاخرة وارتدى جلود الحيوانات. بالإضافة إلى حزن گلگامش على موت صديقه الحميم أنكيدو كان گلگامش في قرارة نفسه خائفا من حقيقة أنه لابد من أن يموت يوماً ما لأنه بشر والبشر فانٍ ولا خلود إلا للآلهة. بدأ گلگامش في رحلته للبحث عن الخلود والحياة الأبدية. ولكي يجد گلگامش سرّ الخلود عليه أن يجد الانسان الوحيد الذي وصل إلى تحقيق الخلود وكان اسمه أوتونابشتم والذي يعتبره البعض مشابها جدا أن لم يكن مطابقاً لشخصية (نوح) في الأديان اليهودية والمسيحية والإسلام. وأثناء بحث گلگامش عن أوتونابشتم يلتقي بإحدى الإلهات واسمها سيدوري التي كانت إلهة النبيذ وتقوم سيدوري بتقديم مجموعة من النصائح إلى گلگامش والتي تتلخص بأن يستمتع گلگامش بما تبقى له من الحياة بدل أن يقضيها في البحث عن الخلود وان عليه أن يُشبع بطنه بأحسن المؤكولات ويلبس أحسن الثياب ويحاول أن يكون سعيدا بما يملك، لكن گلگامش كان مصرا على سعيه في الوصول إلى أوتونابشتم لمعرفة سر الخلود فتقوم سيدوري بإرسال گلگامش إلى أورشنبي صاحب المركب أو العَبّارة، أي (البلاّم) بلغة أهل العراق، أو (المعداوي) بلغة أهل الكنانة، ، ليساعده في عبور بحر الأموات ليصل إلى أوتونابشتم الإنسان الوحيد الذي استطاع بلوغ الخلود.
عندما يجد گلگامشُ أوتونابشتمَ يبدأ هذا الأخير بسرد قصة الطوفان العظيم الذي حدث بأمر الآلهة. وقصة الطوفان هنا شبيهة جداً بقصة طوفان نوح. وقد نجا من الطوفان أوتونابشتم وزوجته فقط وقررت الآلهة منحهما الخلود. بعد أن لاحظ أوتنابشتم إصرار گلگامش في سعيه نحو الخلود قام بعرض فرصة على گلگامش ليصبح خالدا. فإذا تمكن گلگامش من البقاء متيقظا دون أن يغلبه النوم لمدة ستة أيامٍ وتسع ليالٍ فإنه سيصل إلى الحياة الأبدية ولكن گلگامش يفشل في هذا الاختبار إلا أنه ظل يلح على أوتونابشتم وزوجته في إيجاد طريقة أخرى له كي يحصل على الخلود. تشعر زوجة أوتونابشتم بالشفقة على گلگامش فتدلّهُ على عشبة سحرية تحت البحر بإمكانها إرجاع الشباب إلى گلگامش بعد أن فشل مسعاه في الخلود. يغوص گلگامش في أعماق البحر ويتمكن من اقتلاع العشبة السحرية.
بعد حصول گلگامش على العشبة السحرية التي ستعيد اليه نضارة الشباب يقرر أن يأخذها إلى أوروك ليجربها هناك على رجل طاعن في السن قبل أن يقوم هو بتناولها ولكن وفي طريق عودته وعندما كان يغتسل في النهر سرقت العشبة إحدى الأفاعي وتناولته فرجع گلگامش إلى أوروك صفر اليدين وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أوروك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه. في النهاية تتحدث الملحمة عن موت گلگامش وحزن أوروك على وفاته.
وكما يتبين من العرض المبتسر أعلاه لأهم ما يحدث في الملحمة الكبرى هذه، فإنه من السهل أن نلاحظ ان ملحمة گلگامش تبتدئ بأوروك وتنتهي بأوروك. ولكن هل لهذا الملمح من دلالة؟ هل يشكل نواة وحدة بنائية تخترق النصّ بأجمعه معلنةً عن بوادرَ واضحةٍ لِبِنْية التكرار بوصفها انعكاساً لفكرة (العود الأبدي) والدورة اللانهائية للزمان؟ هل ان ما كان يبحث عنه گلگامش في التاريخ والاسطورة قد تجسد في الخطاب الشعري لنشيد الخلود؟
في معرض اجابته عن تساولات كهذه يجيبنا المؤلف بشكل قطعي ان دلالات التكرار في ملحمة گلگامش ليست واحدة، وان كان ثمة دلالة لهذا التكرار فإنه دلالة على الاختلاف وليس على التماثل. وبينما يكون التكرار أحد أهم ميزات ملحمة گلگامش، إلا ان لكل تكرار غاية فنية كذلك، وأساليبه منوعة. فقد يكون تكرارا لكلمة أو عبارة أو صفة. وكمثال على هذا التكرار اللفظي، ما قاله الآله (أيا) لكوخ القصب بعد أن قرر الآلهة الخمسة إحداث الطوفان:
(يا كوخ
يا كوخ القصب
يا جدار
يا جدار
اسمع
يا كوخ القصب
وافهم
افهم يا جدار..)

يقول لنا المؤلف ان في هذا التكرار حيلة بارعة لجأ اليها شاعر ملحمة گلگامش لإيصال مبتغاه. فقد يكون التكرار هنا كما يتبادر الى الذهن لأول وهلة، لأن كوخ القصب لا يسمع والجدار لا يسمع. لكن الحقيقة غير ذلك. إذ حينما قررت الآلهة الخمسة، ودائما مع صلاح نيازي، إحداث الطوفان، تعاهدوا على كتم السر عن أي انسان كان. إلا ان الآله (أيا) عطف على الانسان وأراد أن يخبره بقرار الآلهة لكن من دون الإفشاء بالسر فخاطب الكوخ والجدار حيث يسكن أوتونابشتم. والتكرار هنا هو للتأكد من ان أوتونابشتم لديه الوقت – من جراء التكرار – للاستماع الى ما سيأتي بعد ذلك.
ثمة تكرار أيضا في هذه الملحمة يكون بمثابة صوت ورجع صدى. صوتٌ وَتَصَادٍ. صدى الراوي وهو ينقل صوت شكوى الشعب من بطش گلگامش، ثم تصادي الآلهة حين استجابتها لدعاء الجماهير، والبدء بخلق ضديد گلگامش، ألا وهو أنكيدو.
وبحسب ما يقول مؤلفنا د. صلاح نيازي، فإنه ثمة تكرار خاص جدا يتميز به شعر وادي الرافدين القديم ولا يدخل تحت أي باب رغم أهميته ورغم وجوده بكثرة.
الشاعر في هذا النوع من التكرار يعتمد أولا على الموسيقى. فيضع نغمة ثم يعيدها، ثم يضيف اليها نغمة ثانية، ثم يعيدهما، ويضيف اليهما نغمة ثالثة، وهكذا دواليك، كمن يتكلم وهو يبكي. الكلمة الاولى تنقطع بالنشيج. يعيدها ويضيف اليها كلمة ثانية وثالثة.
والشاعر في هذا النوع من التكرار يعتمد ثانيا على الحركة. حركة (دردور) كما يحلو لصلاح نيازي ان يسميها. حركة دورانية على نفسها. خطرها في دورانها على نفسها. ينتقل الدردور الى صدر القارئ ورأسه. يسبب له ثَمَلاً وَخَبَلاً وانخطافاً.
هذا النوع من التكرار في الموسيقى والحركة، يُعلّمُنا صلاح نيازي، أشبه ما يكون بنقر إزميل النحات. كل نقرة لها مقاسها. بنقرات الإزميل المتوالية يفصح الصخر عن مكنوناته التي في داخله. النقر تكرار خلاق، وشاعر الملحمة يقلد النحات والدردور. يكرر كأنه ينحت، ويكرر كأنه يتكلم بتقطع وهو يبكي. يستعيدها من النشيج فتضيع في نشيج آخر:
(صديقي العزيز
الحصان الفحل السريع
الأيل المتوحش
النمر الذي يجوب الصحارى
انكيدو، عزيزي،
الحصان الفحل السريع
الأيل المتوحش
النمر الذي يجوب الصحارى
معا قطعنا الجبال معا
ذبحنا الثور السماوي
معا قتلنا خمبابا
حارس غابة الإرز ..)

ويختتم صاحب كتاب (فن الشعر في ملحمة گلگامش) حديثه المهم هذا قائلا انه على أية حال ما زلنا نجد التكرار وهو اختراع عراقي قديم في معظم فنوننا المعاصرة، من اللازمة الغنائية الى الكورال الى النساء النادبات الى التهجدات الصوفية الى هدهدات الأطفال.
____________________________________
هوامش ضرورية/

الكتابة المسمارية/ Cuneiform ، هي نوع من الكتابة تنقش فوق ألواح الطين والحجر والشمع والمعادن وغيرها وكانت متداولة لدى الشعوب القديمة بجنوب غربي آسيا. وتم اختراع الكتابة التصويرية في بلاد ما بين النهرين قبل العام 3000 قبل الميلاد حيث كانت تدون بالنقش علي ألواح من الطين أو المعادن أو الشمع وغيرها من المواد. و تطورت الكتابة من استعمال الصور إلى استعمال الأنماط المنحوتة بالمسامير والتي تعرف بالكتابة المسمارية. وبحلول عام 2400 قبل الميلاد تم اعتماد الخط المسماري لكتابة اللغة الأكدية، كما استعمل نفس الخط في كتابة اللغة الآشورية واللغة البابلية، وهي لغات سامية مثل اللغتين العربية والعبرية. وكان البابليون والسومريون والآشوريون بالعراق يصنعون من عجينة الصلصال Kaolin (مسحوق الكاؤولاين) ألواحهم الطينية الشهيرة التي كانوا يكتبون عليها بآلة مدببة من البوص بلغتهم السومرية فيخدشون بها اللوح وهو لين. بعدها تحرق هذه الألواح لتتصلب.

آشوربانيبال/ (توفي في 627 ق.م.) كان آخر ملك للإمبراطورية الآشورية القديمة. عرفه اليونانيون باسم ساردانابالوس (Sardanapalos)، بينما تشير إليه النصوص اللاتينية والنصوص الأخرى في القرون الوسطى بمسمى ساردانابالوس (Sardanapalus). وسمي في التوراة أوسنابير. حكم آشوربانيبال بين عامي 669 و 627 ق.م. لم تكن آشور في عهده معروفة بقوتها العسكرية فقط، بل أيضاً بالثقافة والفنون. فتأسست أول مكتبة مجمعة بشكل منظم في عهده بنينوى شمال العراق، حيث جمعت كل الأدب المسماري المتوفر في ذلك الوقت.

الأكّدية/ (لِشَانُم أَكّديتُمْ) هي لغة سامية ظهرت في بلاد الرافدين، العراق حاليا، منذ 3000 سنة قبل الميلاد وانتشرت لتصبح لغة المراسلات الرسمية في الهلال الخصيب، وهي تصنف ضمن مجموعة اللغات السامية الشرقية. قبلها، كانت لغة العراق اللغة السومرية، وهي لغة غير سامية وغير مرتبطة (حسب معرفتنا الحاضرة) بأي لغة أخرى، وبعدها أصبحت اللغة الآرامية هي لغة الهلال الخصيب والعراق ضمناً حتى دخول المسلمين العرب ودخول اللغة العربية معهم إلى الهلال الخصيب . كانت تدون بالخط المسماري فوق ألواح الطين التي يرجع تاريخها للنصف الأول للألفية الثالثة ق.م. قبل عام 2000 ق.م كانت لهجتان من الأكدية متداولة هناك هما البابلية في جنوب الرافدين والآشورية في شمالهما. وقد ظلتا سائدتين حتى ظهور المسيحية.

گلگامش/ Gilgamesh يعتبر خامس ملوك أوروك حسب قائمة الملوك السومريين كان گلگامش لزمن بعيد يعتبر شخصية اسطورية ولكن الأعتقاد السائد الآن انه كان بالفعل موجودا وذلك بعد اكتشاف الواح طينية ذكرت فيها اسم ملك كيش انمين باركاسي الذي ذكر ايضا في ملحمة گلگامش ولكن الاساطير تشكل جزءا مهما من المعلومات المتوفرة عن گلگامش. استنادا على الأساطير السومرية كانت والدة گلگامش من الآلهة واسمها نينسون وكان والده بشرا عاديا واسمه لوگالباندا وكان لوگالباندا ثالث ملوك أورك وحسب ملحمة گلگامش فان گلگامش هو الملك الذي أمر ببناء سور حول مدينة أوروك الذي دمر فيما بعد من قبل سرگون الأكدي. بالرغم من عدم توفر أدلة مباشرة على كون گلگامش شخصية حقيقية الا ان معظم خبراء الأثار والباحثين في مجال الدراسات الشرقية القديمة لا يعارضون احتمال كون گلگامش شخصية تاريخية حقيقية, في حال كونه ملكا حقيقيا فإن أغلب الظن انه عاش في القرن 26 قبل الميلاد وبعض الألواح الطينية السومرية ذكرت اسمه على صيغة بلكامش وليس گلگامش.

أوروك أو أورك أو أرك/ هي مدينة سومرية تبعد عن مدينة أور 35 ميلا. وتسمي في العراق الوركاء. ظهرت فيها حضارة ماقبل التاريخ حيث كان يصنع بها الفخار علي الدولاب (عجلة الفخار). كما صنعت الأواني المعدنية. إخترعت بها الكتابة المسمارية وكانت عبارة عن صور بسيطة للأشياء علي ألواح طينية وكانت تحرق. كان خامس ملوكها گلگامش وكانت موئلا لعبادة الإله أتو حيث لعبت دورا هاما في ملحمة گلگامش. وكان بها معبد (أي أنا) الأبيض وكان عبارة عن مصطبة. واشتهرت بالأختام الاسطوانية. وكانت المدينة عاصمة لإقليم بابل السفلي. إلا أنها فقدت أهميتها بعد ظهور دولة أور. وبها بقايا زقورات.

نوح/ شخصية ورد ذكرها في الكتب المقدسة لأتباع الديانات اليهودية والمسيحية و الإسلام بالإضافة إلى ورود ذكر شخصية مشابهة لنوح في أساطير بلاد الرافدين. الإعتقاد السائد حسب هذه الديانات هو أن نوح كان شخصية تاريخية حقيقية وكان الحفيد التاسع أو العاشر لآدم وإنه كان الأب الثاني للبشرية بعد نجاته ومن معه من الطوفان العظيم الذي، وحسب المعتقدات الدينية و الأساطير السومرية، قد أباد البشرية جميعا بإستثناء الذين نجوا من الطوفان لإستعمالهم سفينة عملاقة إشتهرت بأسم سفينة نوح. كلمة نوح تعني "إستراحة" باللغة العبرية وإستنادا على الموسوعة الكاثوليكية فإن والد نوح لاميخ أطلق عليه هذا الإسم لقناعته بأن نوح سوف يخلص البشرية من العقوبة التي أنزلها الخالق الأعظم على آدم ويوصل الإنسانية إلى حالة من الطمأنينة والأستراحة. وهناك أيضا قصص مشابهة في الأساطير اليونانية القديمة تتحدث عن شخص يدعى ديوكاليون قام بإنقاذ ذريته ومجموعة من الحيوانات من الطوفان بواسطة سفينة وهناك أساطير من أيرلندا عن ملكة أبحرت في سفينة مع مجموعة لمدة 7 سنوات ليتجنبوا الغرق نتيجة الطوفان الذي عم أيرلندا.

(لندن 31/10/07)
_________________________________________
المؤلف في سطور: ولدَ صلاح نيازي عام 1935 في مدينة الناصرية جنوبي العراق، ويقيم الآن في لندن بعد أن عمل كإذاعي لسنين طويلة في هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي مذيعاً ومعداً ومقدّم برامج حتى تقاعده. صدر له عام 1962 في بغداد أول ديوان شعر باسم "كابوس في فضة الشمس" تلاها "الهجرة إلى الداخل" بغداد 1977 .. " نحن" بغداد 1979.. " المفكر .." القاهرة 1981 وهي قصيدة طويلة. ثم صدر له "الصهيل المعلب" لندن عام 1988.. "وهم الأسماء " لندن 1996 .. " أربع قصائد" لندن 2003.. " ابن زريق وما شابه" بيروت 2004. وبالإضافة إلى ذيوع اسمه كشاعر وإذاعي فقد عُرِفَ نيازي بكونه مترجماً من الطراز الأول، حيث قدم للمكتبة العربية مسرحية مكبث لشكسبير، و رواية ابن المستر وانسلو لتيرانس راتيجان والعاصمة القديمة لكواباتا ويوليسيس لجيمس جويس.



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- Marcella
- ذكرى أبي القاسم
- مفاهيم سبتمبرية جديدة حول الإرهاب والحروب الإستباقية وحقوق ا ...
- د. الطيب البكوش: إن مساعدة الشعب العراقي أعسر تحت الاحتلال، ...
- بين الهندسة والبستان: قصيدة نثر طويلة عن المساءات الخمسة عشر
- غرفة في فندق الراحة أو مديح العذراء كريستينا ستوكهولم السعيد ...
- المفكر التونسي د. فتحي بنسلامة في حوار مع حكمت الحاج
- سبعُ قصائد
- البيت قرب البحر كالمجهول باهر وساطع
- التّحليل النّفسيّ على محك الإسلام
- حساب الغبار
- كلام عن سينما ما بعد الحداثة
- لا تذهَبْ أبداً
- بدم بارد
- إنصاف
- مائة وهم حول الشرق الاوسط أم مائة اكذوبة؟
- كاسيت لأغاني سليمة مراد
- مقاربة وسائطية ميديالوجية للتراث
- خنجر أكادير
- عمارة يعقوبيان بين الفيلم والرواية وحياة الواقع


المزيد.....




- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - فن الشعر في ملحمة گلگامش