أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - أرباب الرعب















المزيد.....

أرباب الرعب


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 2075 - 2007 / 10 / 21 - 09:37
المحور: الادب والفن
    


إلى إبن أختي الشهيد: محمد حازم مرتضى*

عند منعطف زقاق يفضي إلى شارع عريض تأخرتُ عنه قليلاً فسبقني إلى الرصيف المضيء. في اللحظة التي شرع فيها بالالتفات صوبي، انقضوا عليه وسحبوه إلى باطن سيارة مفتوحة الأبواب. هالني المشهد فتراجعتُ ذعراً، مأخوذاً بمزيج من المشاعر والأحاسيس، رعب وفداحة عجز مخزي.. إنهم يأخذون ابن أختي، الذي بمثابة ولدي فقد ربيته بين يدي حتى شب وأصبح يافعاً.. إنهم يضيعون قطعة من قلبي في المجهول.. إنهم يلتفتون صوبي يا ربي.. ها هم قادمون.. إنهم يقتربون.. عيونهم تقدح شرراً.. أين المهرب يا رب السجون والمعتقلات؟. إلى أين أتوجه يا رب التعذيب؟.
استدرتُ على أعقابي، وركضتُ بين أزقة ضيقة مخترقاً دهاليز حالكة تشبه الأنفاق. أتضرع في لهاثي المحموم إلى رب الرأفة، عله يقيني شرهم الماحق الذي ذقت أواره منذ سنين. أركض في شوارع غريبة تارة، أليفة تارة أخرى. لا بيت يأويني من العيون المنبثة في المداخل والأسواق، والتي أضطر إلى اجتيازها مجبراً في دوراني المجهول.. عيون كثار، عيون من نار، تعرفني منذ آماد بعيدة، عيون تلاميذ كانوا معي في المدرسة الابتدائية، عيون رفاق طفولتي. من أين يا إلهي أنفذ إلى مكان آمن؟ من أين؟ أحتمي بأجساد المارة المزدحمين، محني الرأس. أقرفص أحياناً بين الأرجل، كأنني أبحث عن شيء سقط مني متوارياً عن أزواج عيون أحاطت بي دون أن ترصدني. ألبث في قبوعي الذليل إلى حين، مرتعداً، هاجساً بالأيادي التي ستنقض علي، رائياً اللحظة الرهيبة تلك، مبتدأ العذاب، كوة الألم، بوابة العالم السفلي، بأقبيته وأنفاقه الحالكة، الموحلة العطنة، وصمتها القبري الذي يضج بغتة بالصراخ المتقطع الخافت الداوي.. أي امتداد لانهائي للحظة الماحقة تلك.. وأي الخيالات والأماني تحتشد فيها. تخيلت ابن أختي عارياً، معصوب العينين، مكبل القدمين، موثوق اليدين من الخلف، ملقى في وحل زنزانة ضيقة كتلك التي استضافوني فيها آخر مرة، يلبث في سديم اللحظة بانتظار دورة الهلع، وآلهة الشر المشغولة بفريسة بشرية تئن بين يديها. يصبر نفسه بالمعاني والكبرياء باعثاً روح المقاومة، ومغالباً رعدة الهلع، كحالي في أول اعتقال. تخيلتُ نفسي عارياً يرمونني جواره. تخايلت أنفاسهم تحرق قفا عنقي.. إنهم يمدون أذرعهم. تمنيت نفسي نملة ألج ثقباً في الأرض، كائناً من كائنات ألف ليلة وليلة بحوزتي طاقية إخفاء.. لا ليس واحدة بل عشرات أوزعها على من تبقى من الأحبة والأصدقاء.. لا.. لا.. بل مئات الآلاف.. لا.. ملايين من الطاقيات أحمي بها المساكين من جور الظالمين. كدتُ أنصهر وراحة كف تربتُ على كتفي برقة. أنهم هكذا يبدون أول الأمر أدباً جماً، لكنهم يستنمرون ما أن تقاوم الفريسة. انكمشتُ متجمداً. لم أرفع رأسي إلا حين سماع صوت يسألني بود:
ـ أخي.. أتحتاج إلى مساعدة؟.
تمالكتُ نفسي. شكرته على عجل. تلفت حولي، وغصت ثانية في الزحام. أفكر بملجأ يضمني. مررت بدكاكين أعرف أصحابها.. هذا عمي خليل الحلاق رآني من خلف الواجهة الزجاجية وتجاهلني. توقفت قبالة الواجهة عله يراني لكن دون جدوى. قررت اقتحام الدكان كي أخبره بضيق حالي.. لكن الباب الموصد صدني.. أذلني. قرعتُ بجموع كفي زجاج الواجهة الشفاف الصلد.. رحت أصرخ.. وأصرخ.. ممعناً في القرع حتى كلت يداي. كان ينظر عبري إلى الشارع الضاج ويتحدث مع الزبائن المالئين المحل، وكأنني من أثير. ثمة عيون تتقادح خلفي على الرصيف المقابل، وأُخر تحتل ناصية الجسر الخشبي القديم، تدور محاجرها القاسية متفرسة في وجوه المارة. وسعتُ خطوي مبتعداً. أسير لصق الجدران. جبتُ شوارع المدينة. قرعتُ أبواب بيوت الأقارب، واجهات محالهم. أنكرتني وجوه الأعمام والأخوال، المعارف والأصدقاء المنشغلين بشؤونهم عن محنتي. من ورطني معهم.. من؟.. ليس لدي أية مشكلة، ولم أتورط في العمل مع أي حزب سري، كما فعل أخي الصغير الذي ضيعوا أثره قبل عشر سنين. وفي كل مرة يخطفوني فيها من الشارع، يطلقون سراحي بعد أيام.. آي ي ي ي.. إنها الحرب التي ألقوني في جحيمها.. لا.. لا أريد الموت.. لا أريد.. أحب الحياة.. الحياة.. الحياة.. لكن أين أنا الآن؟ أين زوجتي.. بنتي .. ولدي؟ أين أصدقائي؟ أأكون واهماً.. أيكون كل ما مر ليس عمراً، بل مجرد أوهام وأحلام؟ وإلا ما معنى هذه الأمكنة والبشر الصم البكم، أين بيتي؟ وما هذا المزيج من الأمكنة الأليفة والغريبة؟ من أين قدمتُ.. وإلى أين أبغي؟ ولم انقضوا على محمد بتلك الوحشية؟ وما هذه العيون المخيفة؟.
أنا في قعر طلاسم قديمة.. في أحجية كتب السحر.. في زوايا مدن ألف ليلة وليلة.. مدن الروايات. اختلط علي الماضي بالأخيلة بالأحلام، الحاضر بالهواجس بالأوهام. دخلتُ في عنق زقاق ضيق. خضتُ بوحله، لأتيه بباطن أقنية تصعد وتنزل، تتطوى وتستقيم، تؤدي إلى بعضها في متاهة بدت لا نهاية لها. أحدق بخشب الأبواب الموصدة، عل واحد من هذي المنافذ ينفتح، ويأخذني إلى أحضان دافئة، حنونة. تلوثت ثيابي بأوحال الدهاليز النازة، وامتلأ صدري بروائح الرطوبة العفنة، مستغرباً من خلو الأزقة التي يدوي برأسي ضجيجها القديم، ضجيج الصبية والأطفال، صياح النسوة وهن ينادين على أطفالهن المشاكسين، أو يتخاصمن متبادلات بذيء من الكلام، نداءات باعة اللبلبي والباقلاء المسلوقة والرمان وشعر البنات وبيض اللقلق والعسلية والدوندرمة. صمت. هسهسة. صمت. لهاث أنفاسي. صمت. فحيح. أخوض في الأوحال اللزجة متمسكاً بالحيطان المتآكلة. أخوض في السكون والظلام. ومن فجوة نفق أشد حلكة سمعتُ صوتاً طفولياً يناديني بخفوت. اقتربتُ من فمها بوجل، وسكنتُ مرهفاً السمع:
ـ خالو.. خالو.. خالو..
أرجفت قلبي نبرته الأليفة، وأولجتني في ضيق النفق الواطئ السقف.
ـ خالو وين تيهتني؟ خالو..
وشرع بالنحيب. أيقظني نحيبه من تشوش ذاكرتي، فاندفعتُ باتجاه مصدر الصوت وجلاً فرحاً، موقناً إنه محمد ابن أختي وداد الجميلة، الذي اعتقدتُ أنهم أخذوه قبل لحظات.. لا.. قبل أيام.. قبل.. لا أدري.. قبل دهور.. لا.. في الكابوس.. فها هو أمامي ملتصقاً بالجدار، يختض رعباً، ما أن رآني حتى اندفع من جلسته راكضاً، ودفن وجهه بين ساقي مردداً:
ـ خالو.. حبيبي.. وين عفتني؟.
حملته بين ذراعي، كان نظيف الثياب وكأنه لم يكن يتوسد أرضاً موحلة، ويممتُ صوب كوة ضوء. امتصتني الزحمة والعيون. أمعنتُ في ضمه والعيون القادحة تدرس خطوي. كنت مغتبطاً بدفئه اللصيق رغم فداحة رعبي، مكذباً مشهد خطفه قبل لحظات. دلفتُ إلى أول محل صادفني، كان محلاً لبيع لعب الأطفال. زحزح جسده وانزلق بين ذراعي راكضاً صوب درج خفيض، صُفتْ عليه سيارات صغيرة ملونة. تناول واحدة وضمها إلى صدره. كنت مشدوهاً أنقل نظراتي بين المارة ومحمد، هلعاً من خاطر قدومهم وأخذنا معاً. انتابتني رعدة ومخيلتي تتمثل لحظة الإطباق علينا، فهببتُ إليه. حملته عنوة، واندفعتُ نحو الزحام، باحثاً عن مخلص مستحيل يقيني أرباب الرعب المتحكمين بصحونا، منامنا، أحلامنا..
ـ سأعود به إلى بيت أختي.
قلت لنفسي، وانطلقت في متاهة الأزقة. حدقت إليه، كان ساكناً بين ذراعي المعروقتين، غافياً مثل ملاك، وعندما عثرت على منعطف الزقاق المؤدي إلى دارهم هبط علينا مساء غريب، بمزيج ألوانه القاتمة، فضية وقمرية ونارية معجونة بالرماد، مساء مثل غبش معتم، ليل مثل نهار، وسكون حجري أجوف لف الأزقة التي أقفرت بغتة. وأنا أستدير به، رأيت امرأة وحيدة ممزقة الثوب، تخمش بأظافرها الصدر العاري، الوجنتين، البطن، وتنود مثل سكرانة، ولصق الجدار يبرك رجل أسمر، شعره بلون الفجر، يفرك بشرته بالآجر، جمدتُ مبحلقاً في المشهد الصامت، في النود الأخرس، في صندوق خشبي مغلق يمتد مستطيله بمواجهة باب بيت أختي المفتوح، في ميلها لتغطي بجسدها التابوت. تلمستُ جسده الغض الغافي، لكني أحسستُ بليونته تشف.. وتشف.. وتشف متحولاً إلى دخان.. طار بأجنحته نحو المرأة الحاضنة صلادة الخشب، الساكنة فوقه سكون الموتى لينسل خلال الشقوق إلى عتامة الصندوق.. إلى حضنها.. غائراً من جديد في بحره الأول.
30/3/ 1995 الدانمارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• محمد حازم مرتضي
• مواليد 1972
• شارك في أنتفاضة أذار 1991 وظل مختفيا بين بغداد وكردستان والديوانية
• أعتقل في صيف 1994 في الديوانية
• أعدم وسلمت جثته إلى أهله في صيف 1995





#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طوبى للعراق الموحد في صف أدرس فيه العربية في كوبهاجن كمتطوع
- وجهك المأمول حجتي رسالة عاشق مخذول تحول إلى سكير حالم حتى قا ...
- حوار بين الشاعر علي الشباني وسلام إبراهيم
- قولبة شخصيات النص في أبعاد معدة سلفاً رواية أيناس لعلي جاس ...
- أقواس المتاهة مجموعة عدنان حسين أحمد القصصية المغزى في النص ...
- بنية روائية تؤسطر الوقائع وتدفعها إلى حافة الجنون قلعة محمد ...
- المنفى هو منفى أبدي بعد مجيء الطير مجموعة إبراهيم أحمد القصص ...
- بنية قصصية تبحث عن دلالتها بالرمز -ما يمكن فضحه عن علاقة أبي ...
- كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا مصاطب الآلهة مجموعة محم ...
- مجلس جالية أم مجلس أحزاب الجالية؟!
- المولود في المنفى كائن مكونٌ من الحكايات -أمسية صيفية-* مجم ...
- المنفي ميت حي -البيت الأخضر - مجموعة عبد جعفر القصصية
- قاب قوسين مني- مجموعة -هدية حسين- القصصية تصدع بنيان المجتمع ...
- أصغي إلى رمادي لحميد العقابي الذات حينما تدمرها الطفولة والح ...
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة5
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة 5
- ما بعد الحب رواية هدية حسين 1
- ما بعد الحب رواية هدية حسين2
- الحرب خربت كل شيء كم كانت السماء قريبة- رواية -بتول الخضيري-
- الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة2


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - أرباب الرعب