عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2072 - 2007 / 10 / 18 - 12:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كيف يتم تطويع المعنى والمبنى في القرآن ؟ وكيف يتم المعنى في الجملة المعربة , وما مدى قدرة اللغة القرآنية على أن تستوعب المعاني في مفهومها الاطلاقي في تحديد ذلك ؟
(000 (17) وفي سورة الأنعام : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) (3) 0 لا يتجه المعنى في هذه الآية اتجاهاً مرضياً , فيعترض عليها من وجهين , الأول : أن محمداً كان يقول للكفار أنه ينزل عليه ملك وهو جبريل , والكفار يعلمون من هذا الادعاء , فلا معنى لقولهم : ( لولا أنزل عليه ملك) , ولكن يقال على هذا :إنهم ينكرون نزول جبريل عليه لأنهم لا يرونه , ولا يصدقون بما يقول محمد من أن جبريل ينزل عليه 0 وحينئذ يقال : إذا كانوا يعلمون أن محمداً يدعي نزول جبريل عليه إلا أنهم لا يصدقونه , كان ينبغي أن يقول : لولا ظهر لنا هذا الملك الذي ينزل عليه فنراه بأعيننا , لا أن يقولوا لولا أنزل عليه ملك 0
الثاني : قوله:( ولولا أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) (1) , لا بد هنا من تقدير كلام هكذا : ولولا أنزلنا ملكاً ولم يؤمنوا به لقضي الأمر ثم لا ينظرون , أي يهلكون ولا يمهلون طرفة عين 0 وهنا يسأل فيقال: لماذا يكون المر بهلاكهم مقضياً عندئذ ٍ ؟ فيقال في الجواب : لأنهم بنزول الملك تقوم عليهم الحجة الدامغة لأنه آية لا شيء أبين منها, وعند قيام الحجة إذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم كما يقول الزمخشري في تفسيره (2) 0 ويعترض على هذا بأن الحجة قد قامت عليهم بالمعجزة الباهرة وهي القرآن الذي عجزوا عن الإتيان بسورة مثله وهم أهل البلاغة والفصاحة و فلماذا لم يهلكهم 0 فإذا لم يجب / 954/ إهلاكهم بعد إنزال الملك أيضاً , وقد كان الكفار من حين لآخر يطلبون من محمد أن يأتيهم بآية من آيات الأنبياء التي يذكرها لهم القرآن , فلم يكن من محمد إلا أن يعتذر لهم بهذا العذر وأمثاله المذكورة في القرآن 0
(18) وفي سورة الأنعام أيضاً : ( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وبصركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ) (3) 0 الضمير المفرد يعود إلى السمع والإبصار والقلوب , فكان يجب أن يقول بها لا به , والزمخشري يقول (4) : إنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة , أي من يأتيكم بذاك , ولو كان هذا في غير القرآن لما قبلوه 0 وكذلك في سورة الأنعام أيضاً : ( قل أرأيتم عن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ) (5) , فإن البغتة لا تقابلها الجهرة بل البغتة قد تكون جهرة والجهرة قد تكون بغتة , ولذا اضطروا أن يفسروهما ليلاً أو نهاراً (6) حتى يستقيم المعنى 0 نعم , إن البغتة هي وقوع الأمر من دون أن تشعر به من دون أن تظهر أماراته , فيجوز إطلاقها على ما يقابل الجهرة بطريق التوسع في المعنى , ولكن مثل هذا لا يقوله إلا المتساهل في الكلام , وأما البيلغ المتأنق فلا , فكان الأولى أن يقول خفية بل بغتة 0
ومن هذا القبيل أيضاً قوله في سورة الكهف : ( الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً * قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ) (1) 0 العوج بكسر العين اسم من العوج بفتحها , وهو في معناه ضد الاستقامة , والقيم المستقيم , فنفي العوج يثبت بالاستقامة , فكان من الجائز الاكتفاء بأحدهما إلا أنه جمع بينهما للتأكد 0 ولكنه جاء بهما على وجه لا يتمشى مع البلاغة / 955/ العليا فأخر " قيماً " الواقع حالا من الكتاب , فكان تأخيره سبباً لأن يكون منصوباً بفعل مضمر دل عليه قوله : ( ولم يجعل ) أي جعله قيماً , ولم يجز نصبه على الحال لأن قوله : ( ولم يجعل له عوجاً ) معطوف على أنزل صلة الموصول فهو داخل في حيز الصلة , ولا يجوز الفصل بين الحال وذوي الحال ببعض الصلة , وليس هناك من داع إلى هذا العناء الحاصل من التأخير 0 فإن وجه الكلام في الآية هو أن يقول الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً , وهذا ما تقتضيه البلاغة الخالصة من كل شوب يكدر صفوها في الكلام 0
(19) وفي سورة النساء : ( وإن خفتم أن لا تقسوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) (2) 0 إن تعليق هذا الحكم بالشرط المتقدم عليه غير مفهوم ولا معقول عندما تقرأ الآية وأنت خالي الذهن , ولكنك عندما ترجع إلى كتب التفسير وتقف على أسباب النزول وتعلم ما حدث من الأمور التي دعت إلى نزول الآية التي علق الحكم فيها بالشرط المذكور, تفهم المعنى المقصود , ولكن لا من الآية نفسها من كتب التفسير 0 ولا شك أن المقصود بيانه هو حكم من أحكام الشرع فكيف يجوز أن يساق على هذا النحو مبهماً غير مفهوم 0 أما سبب تعليق هذا الحكم بالشرط المذكور فقد قال فيه المفسرون (3) 0 : إنه لما نزلت أية اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير0 أخذ أولياؤهم يتحرجون من ولايتهم ويتجنبوها مخافة من أن يلحقهم الحوب بترك العدل في حقوقهم , وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهم 0 فقيل لهم / 956/ بهذه الآية : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى , فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات 0 وقال بعض المفسرين قولاً غير هذا 0 قال: وكانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى , فقيل لهم : إن خفتم الجور في حق اليتامى , فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات 0
فيكون المراد من الآية على القول الأول دعوتهم إلى العدل بين النساء بتقليل عدد الزوجات 0 وبعبارة أخرى أمرهم بتقليل عدد الزوجات ليتمكنوا بذلك من العدل بين النساء 0 وعلى القول الثاني يكون المراد من الآية منعهم من الزنا بنكاح الحلائل 0 أما بيان عدد الزوجات فليس بمقصود , وإنما جاء ذكره في الآية عرضاً 0 إلا أنه لم يزد على الأربع كما كان عندهم , ولعله جعل عددهن أربعاً , ولم يقصرهن على واحدة , ترغيباً لهم في النكاح وتأكيداً لبيان أنهم يستطيعون التحصن والامتناع من الزنا بتعدد الحلائل المنكوحات 0 ومهما يكن فليس من البلاغة أن يساق الكلام في مثل هذا الحكم على هذا الوجه المبهم الذي لا يتجلى فيه مراد الشارع بوضوح 0
(20) من الكلام ما لا يليق أن يقوله إلا لله , ومنه لا يليق أن يقوله الله , ولا يليق أن يقال عن الله 0 وكلا هذين النوعين من الكلام موجود في القرآن 0 فمن الأول قوله : ( وقيل " والقائل هنا هو الله " يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ) (1) , ومن ذلك أيضاً قوله : ( يا أيها الذين أوتو الكتاب آمنوا بالذي نزلنا مصدقاً / 957/ لما معكم قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها ) (2) وقد تقدم الكلام عن هاتين الآيتين في أول هذا الفصل 0
ومن الثاني قوله في سورة الرحمن : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) (3) , وهو كلام يتضمن التهديد كقول الرجل لمن يتهدده سأفرغ لك أي سأتجرد للإيقاع بك من ما يشغلني عنك حتى لا يكون لي شغل سواه 0 ولا يليق أن يقول هذا القول إلا من تشغله الشواغل عن الانتقام من عدوه 0 وأما أن يقوله الله الذي : ( أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) (4) كما يقول القرآن , فلا 0 ونريد أن نقول لك هنا كلمة عن سورة الرحمن التي منها هذه الآية على سبيل الاستطراد , فنقول :
في سورة الرحمن آية تكررت فيها من أول السورة إلى آخرها وهي : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) (5) , والمخاطب فيها الثقلان من الإنس والجن 0 ولو كان تكرار هذه الآية مقصوراً على أن يكون بعد الآيات المتضمنة ذكر نعم الله التي أنعم بها على عباده من الإنس والجن لكان له وجه وجيه , ولكنها تكررت بعد الوعد الذي سوف يأتي إنجازه كقوله : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي 000* ذواتا أفنان * فبأي 000 * فيها عينان تجريان * فبأي 000* فيها من كل فاكهة زوجان * فبأي 000 ) (6) , كما أنها تكررت بعد الوعيد الذي سوف يأتي يوم إيقاعه كقوله : ( فيومئذ ٍ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان * فبأي 000* يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواحي والأقدام * فبأي 000* هذه جهنم التي يكذب فيها المجرمون* يطوف بينها وبين حميم آن * فبأي 000) (1) , والأنسب هنا أن يقول في الآية المتكررة : فبأي عقاب ربكما تكذبان , كما أن / 958/ الأنسب بعد قوله : ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار , وخلق الجان من مارج من نار ) (2) أن يقول : فبأي قدرة ربكما تكذبان , كما أن الأنسب بعد قوله : ( رب المشرقين ورب المغربين ) (3) أن يقول : فبأي عظمة ربكما تكذبان , ولكنه كرها على هذا النحو من أول السورة إلى آخرها حتى أنه يذكر الشيء فيكررها ثم يذكر صفته فيكررها أيضاً فيقول : ( ومن دونهما جنتان * فبأي 00 * مدهامتان * فبأي 00 ) (4) , وقد صار هذا التكرار سبباً لقصر الآيات في سورة الرحمن حتى صارت من آياتها ما هو مؤلف من كلمة واحدة مثل ( مدهامتان) (5) , فإنها تعد آية قرآنية وهي كما تراها كلمة واحدة , وقد قالوا : لا يوجد في القرآن آية هي كلمة واحدة سوى هذه الآية 0 فكأن المقصود من السورة كلها إنما هو تكرار : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) (6) وأما غيرها من الكلام فإنما جيء ليكون وسيلة لتكرارها ليس إلا 0 وما أدري أي نوع من أنواع البلاغة هذا 0 انتهى الاستطراد 0
ومما لا يليق أن يقوله الله أو أن يقال عن الله قوله في سورة يونس : ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون ) (7) 0 جاء في سورة يونس قبل هذه الآية قوله : ( ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) (8) , ثم قال : ( قل أتنبئون000 ) , فهو في هذه الآية يرد على المشركين ما تضمنته الآية الأولى من قوله في الأصنام : هؤلاء شفعاؤنا عند الله , فهو يريد أن يقول لهم إن الله لا يعلم شفعاء عنده من هؤلاء في السموات ولا في الأرض , فكيف يخبرونه بكونهم شفعاء وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله , / 959/ وإذا لم يكن معلوماً له لم يكن شيئاً لأن الشيء ما يعلم ويخبرعنه , فكان هذا القول منكم خبراً ليس له مخبر عنه كما في الكشاف للزمخشري (9) 0
إن هذا الرد غير مناسب من وجهين , الأول : أنه لا يليق أن يقول الله ولا أن يقال عن الله أنه لا يعلم , لما فيه من سوء التعبير , والثاني : أن العرف والعادة عند الناس أنهم لا يخبرون بشيء إلا من لا يعلمه , لأن إخبار العالم بما يعلمه عبث واستهتار , فاستنكار إنبائهم غير صحيح , فكان الأولى أن يقول بدل " أتنبئون" أتقولون ما لا يعلم الله أو نحو ذلك 0 وعلامَ كل هذا الارتباك في رد فريتهم التي رد القرآن أمثالهم بنفي العلم عنهم ولا عن الله , وقال: ( إنهم يقولون مالا يعلمون ) , كما قال في سورة النور : ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم )(1) , وقال في سورة الأنعام : ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) (2) , ولم يقل: إن الله لا يعلم له بنين وبنات , فكان الأنسب والأولى أن يجري في رد هذه الفرية أيضاً على ما جرى عليه من غير موضع من القرآن بأن يقول لهم أتنبئون الله بما لا تعلمون 0 ويا ليت شعري هل من البلاغة العليا العدول عن هذا إلى كلام لا يليق أن يقوله الله ولا أن يقال عن الله 000) يتبع
(1) أنظر تفسير الآية : 35 من سورة النمل في القرطبي , وابن كثير والكشاف 0- (2) سورة البقرة , الآية : 47 ؛ والآية : 122- (3) سورة الأنعام , الآية : 8 – (1) سورة الأنعام , الآية : 8 – (2) الكشاف , تفسير الآية 8 من سورة الأنعام – (3) سورة الأنعام , الآية : 46 – (4) الكشاف , تفسير الآية 46 من سورة الأنعام – (5) سورة الأنعام , الآية : 47 – (6) تفسير الآية 47 من سورة الأنعام في القرطبي وابن كثير والكشاف – (1) سورة الكهف , الآيتان , 1-2 (2) سورة النساء , الآية : 3 – (3) انظر تفسير الآية في القرطبي وابن كثير والكشاف – (1) سورة هود , الآية : 44 – (2) سورة النساء , الآية : 47 – (3) سورة الرحمن , الآية : 31 – (4) سورة يس , الآية 82 – (5) سورة الرحمن ,الآيات : 13- 16 – 18 – 21- 23- 25 – 28 – 30 – 32 – 34 – 36 – 38 – 40 , 42 – 45 – 47 – 49 – 51 – 53 – 55 – 57 – 59 – 61 – 63 – 65 – 67 – 69 – 71 – 73 – 75 – 77 0 – (6) سورة الرحمن , الآيات : 46 – 53 – (1) سورة الرحمن , الآيات : 39 – 45 – (2) سورة الرحمن , الآية : 15 – (3) سورة الرحمن , الآية : 17 – (4) سورة الرحمن , الآيات : 62 – 65 – (5) سورة الرحمن , الآية : 64 – (6) انظر الهامش رقم (5) الصفحة السابقة – (7) سورة يونس , الآية : 18 – (8) سورة يونس , الآية : 18 – (9) الكشاف , تفسير الآية 18 من سورة يونس – (1) سورة النور , الآية : 15 – (2) سورة الأنعام , الآية : 100 –
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر العراقي – معروف الرصافي – 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟