عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 2035 - 2007 / 9 / 11 - 10:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هل القرآن كان في اللوح المحفوظ , وأنزل على محمد دفعة واحدة , وما المقصود باللوح المحفوظ وما هو تعريف القرآن في المفهوم الديني وفي مفهوم اللغة 0
(00إن الكلام عن اللوح المحفوظ من تتمة البحث المتقدم في إنزال القرآن , لأن بعضهم قال : إن جبريل تلقفه تلقفاً روحانياًَ من الله ونزل به (5) 0 ومنهم من قال : أخذه من اللوح المحفوظ ونزل به (6) , فلذا رأينا أن نتكلم شيئاً عن اللوح المحفوظ فنقول :
من الأمور التي شط بها علماء الدين عن الحقيقة واليقين ما قالوه في اللوح المحفوظ من الأقوال الواهية 0 فقد قال جماعة منهم إن القرآن أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت السماء الدنيا ما يقال له بيت العزة فحفظه جبريل (1) , وغشي على أهل السموات من هيبة كلام الله فمر بهم جبريل وقد أفاقوا وقالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق , يعني القرآن , وهو معنى قوله : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) (2) فأتى جبريل إلى بيت العزة فأملاه على السفرة الكتبة , يعني الملائكة , وهو معنى قوله تعالى : ( بأيدي سفرة * كرام بررة ) (3) 0
إن هذا الكلام قد نقلناه لك من كتاب الإتقان لجلال الدين السيوطي , ولنضعه تحت مجهر من التدبر والتفكير , ولننظر ماذا فيه ومن أين حصل وكيف لفق , وعندئذ تتبين لنا الحقيقة كما هي 0 أولاً : إن قولهم بأن القرآن نزل جملة واحدة في ليلة القدر قد علمنا منشأه ومبلغه من الحقيقة في ما مر من الكلام , فلا حاجة إلى أعادته 0
ثانياً : إن اللوح المحفوظ قد دلهم عليه القرآن فأخذوه وفهموه فهماً ما أنزل الله به من سلطان , ولم أقف على من دلهم على بيت / 888/ العزة , فمن أين أخذوه وكيف عرفوا اللوح المحفوظ من آخر آية سورة البروج : ( بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ ) (5) 0 ولنتكلم أولاً في اللوح ماذا يراد به في القرآن ثم نأتي على ما يقوله هؤلاء 0
يطلق اللوح في اللغة على كل صحيفة عريضة من خشب أو عظم أو غير ذلك , وكانوا في الزمان الأول يكتبون فيما وجدوه من ألواح الحجارة والخشب والعظام وغيرها لفقد القرطاس عندهم أو لقلته , فيقال كتب في اللوح , حتى قيل إن اللوح مأخوذ من أن المعاني تلوح فيه بالكتابة 0 وهذا القول صحيح بالنظر إلى استعمالهم اللوح للكتابة كالقرطاس , وإلا فاللوح في أصل اللغة لا يطلق إلا على ما فيه عرض واتساع , ولذا يطلق اللوح ( بفتح اللام وبضمها ) على ما بين السماء والأرض من الهواء أي الفضاء لانبساطه واتساعه 0
ولما كان اللوح يستعمل للكتابة عندهم , صح في الاستعمال اللغوي إطلاقه على الكتاب كما هو في هذه الآية , ويدل على ذلك أن القرآن استعمل الكتاب بدل اللوح في آية أخرى من سورة الواقعة فقال : ( إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون ) (6) أي مصون , فاللوح والكتاب في الآيتين شيء واحد 0
الكتاب
قد علمنا أن المراد باللوح المحفوظ وبالكتاب المكنون شيء واحد , ولننظر الآن في معنى الكتاب في أصل اللغة , ما هو وماذا يراد به في الاستعمال , فنقول : الكتاب مصدر كتب كتباً وكتاباً وكتبة وكتابة , فهذه أربعة / 889/ مصادر قد أطلقوا الثاني منها وهو الكتاب على المكتوب أيضاً تسمية بالمصدر , وهو كثير في كلامهم 0
أما المعنى المصدري لكتاب في أصل اللغة فنستطيع أن نفهمك إياه بثلاث كلمات متقاربة في معانيها : وهي الجمع والضبط والحفظ , فالذي نفهمه من هذه الكلمات الثلاث بمجموعه هو المعنى المصدري للكتاب كما يدل عليه الاستعمال اللغوي , فقد قالوا : كتب الكتاب إذا صور فيه اللفظ بحروف الهجاء 0 ولا ريب أن تصور الألفاظ بالحروف يتضمن جمعها وضبطها وحفظها من الضياع أو النسيان 0 وقالوا أيضاً : كتب السقاء إذا خرزه أي خاطه بسيرين , وكتب القربة إذا شدها بالوكاء وهو الرباط الذي يربط فيه فمها , وقالوا : كتب الناقة إذا ظأرها أي عطفها على ولد غيرها فخرم منخريها وشدها بشيء لئلا تشم البو (1) 0 وإيضاح ذلك أن الناقة شديدة الحنين على حوارها فإذا مات أخذوا جلده وحشوه تبناً ووضعوه في جنبها فتشمه , وهذا هو البو 0 فإذا أرادوا منعها من شم البو كتبوها0 وقالوا : كتيبة لجماعة من الجيش أو من الخيل لتجمعها وتحيزها وانضمام بعضها إلى البعض , إلى غير ذلك مما يطول إذا استوعبناه 0 وكل هذا نفهم منه ما هو معنى الكتابة في أصل اللغة (2) 0
إذا علمنا هذا ونظرنا في المعنى المراد من قضاء الله في الأزل ( سيأتي الكلام عن القضاء ) رأينا بينه وبين الكتاب تقارباً في المعنى وتشابهاً في القصد 0 فالكتاب يجمع ويضبط ويحفظ , وكذلك القضاء الأزلي , فإن الحادثات الكونية بأسرها مجموعة فيه مضبوط أمرها محفوظ من التخلف حدوثها , فلذلك نعم استعمل الكتاب في القرآن بمعنى قضاء الله في الأزل 0 / 890/
وقد أشرنا فيما مر إلى أن القرآن له اصطلاح خاص في استعمال الكلمات فقد يخرج في استعمالها بعض الخروج عن معانيها اللغوية المعروفة , ومن ذلك إطلاقه الكتاب على قضاء الله في الأزل 0 على أن الكتاب قد أطلق في اللغة أيضاً على الفرض والحكم وعلى القدر , كما هو مسطور في كتب اللغة , فبهذا قد علمنا ما هو اللوح المحفوظ 0 وها نحن نذكر لك بعض ما جاء في القرآن من استعمال الكتاب بمعنى قضاء الله في الأزل 0
قال في سورة الحجر : ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) (3) , فكتابها هنا أجلها الذي سبق قضاء الله به في الأزل 0 وقال في سورة الأنعام : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (1) ما تركنا وما أغفلنا شيئاً من الكائنات في قضائنا الأزلي الذي مشينا فيه بكل كائن يكون 0 وفي الأنعام أيضاً : ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) (2) أي في قضائه الأزلي فهو عالم بكل شيء , وكيف لا يعلمه وقد جرى به قضاؤه وقدره في الأزل 0 وفي سورة الإسراء : ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطوراً ) (3) أي مقضياً به في الأزل لا يتبدل ولا يتغير كأنه مسطور في كتاب 0 وفي سورة هود : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ) (4) أي كل ذلك مضبوط في قضائنا الأزلي 0 وفي سورة الملائكة : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) (5) أي قضاء قضاه وقدر قدره 0 وفي سورة الحديد /891/ : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) (6) أي هي قضاء قضى به الله في الأزل من قبل حدوثها ووقوعها 0
فالكتاب في هذه الآيات لا معنى له سوى قضاء الله في الأزل , وإنما سماه كتاباً لأن معنى الكتاب من أصل اللغة الضبط والجمع , كما مر ّ آنفاً , والكائنات بأسرها مضبوطة في قضاء الله وإرادته , فهو أي قضاء الله بمنزلة الكتاب الذي كتبت فيه الألفاظ والحروف أي جمعت وضبطت لكي لا تنسى ولا تضيع 0 أما وصفه هذا الكتاب بأنه محفوظ أو مكنون أي مصون فلأنه لا يقبل التبديل و التغيير , فهو منزه من أن تناله يد بشيء من ذلك , لا كما يقولون من أنه محفوظ من وصول أيدي الشياطين إليه 0 فمن هذا تعلم أنه ليس عند الله لوح أو كتاب بالمعنى الذي تفهمه عامة الناس , وأنه ليس لهذا الكتاب كتبة يكتبونه ويستنسخونه , وهم السفرة البررة أي الملائكة كما تقول الحشوية 0
القضاء والقدر
فإن قلت : قد فهمنا هذا ولكن ماذا يراد بالقضاء الذي جعله محمد كتاباً مكتوباً فيه كل كائن يكون , وماذا يراد بالقدر ؟
قلت ُ : إنني كتبت رسالة في آراء أبي العلاء المعري في لزومياته , فتكلمت فيها عن الجبر وعن القضاء والقدر , وها أنا أنقل لك ههنا ما قلته لأنه كاف ٍ لأن يكون جواباً لسؤالك هذا0 / 892/
إن كل حادث في الكون لا يكون إلا مسبباً عن حادث آخر قبله , إذ لا يأتي شيء من العدم إلى الوجود , كما لا يذهب شيء من الوجود إلى العدم , فكل حادث لا يحدث إلا مسبباً عن حادث آخر قبله يكون سبباً لحدوثه , وعندئذٍ يكون السبب هو الحادث الأول والمسبَّب هو الثاني 0 ويجوز أن يكون السبب خفياً غير ظاهر لنا فلا نراه ولا نعلم به , ولكن لا يجوز ولن يجوز أن يكون معدوماً لا موجوداً , بل هو ضروري الوجود لا بد منه , لأن بداهة العقل تحكم حكماً جازماً بأنه لا يكون مسبب بلا سبب 0 ثم إن ذلك الحادث الأول الذي كان سبباً للثاني لا يكون أيضاً إلا مسبباً عن حادث آخر قبله يكون سبباً له , وهكذا تمتد الأحداث في جهة الماضي متسلسلة إلى الأزل فيكون كل واحد منها حلقة من حلقات تلك السلسلة وتكون كل حلقة منها مسببة عما قبلها وسبباً لما بعدها , وهكذا حتى تصل السلسلة في الأزل إلى السبب القديم الأول الذي هو سبب الأسباب كلها وهو الله 0
فبهذا قد حصلت لنا سلسلة من الحادثات ذات طرفين : أحدهما : هو الطرف الأخير عندنا , والآخر : وهو الطرف الأول في الأزل 0 أما الأزل ( بفتحتين ) فهو القدم , ويطلق في الماضي على ما يقابل الأبد في المستقبل , وهو مأخوذ من الأزل ( بفتح فسكون ) بمعنى الضيق , فجعل أسماً لما يضيق القلب عن تقرير بدايته , كما أن الأبد اسم لما ينفر القلب من تقدير نهايته مأخوذ من الأبود وهو النفور 0
أتدري أيها القارئ الكريم ما هو القضاء والقدر ؟ هما طرفا هذه السلسلة التي صورناها لك 0 فالطرف الذي في الأزل هو القضاء / 893/ الصادر عن مسبب الأسباب وعلى العلل كلها , والطرف الذي عندنا هو القدر 0
قال علماء الكلام : إن تعلق الله بأمر من الأمور في الأزل هو القضاء , وإن إيجاد ذلك وإظهاره في الوجود على الوجه الذي أراده الله في الأزل هو القدر 0 فالسبب القديم الأول الذي ليس له ابتداء كما أنه ليس له انتهاء هو الله 0 وتعلق إرادته في الأزل هو القضاء الذي هو مسبب الأسباب , والأقدار كلها مسبَّبة ( بفتح الباء ) عنه بالتسلسل على الوجه الذي ذكرناه 0
هذا ما نقوله في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون الوارد ذكرهما في القرآن 0 أما ما يقوله علماء التفسير ورواة الأحاديث فلا نطيل عليك فيه , وإنما نلخصه لك في أنه لوح , وأنه محفوظ من أن تصل إليه الشياطين , وأنه فوق السماء السابعة تحت العرش , وأن القرآن مكتوب فيه , وأن أحرف القرآن مكتوبة فيه كل حرف منها بقدر جبل قاف , وأن تحت كل منها معاني لا يحيط بها إلا الله , إلى غير ذلك من الأقوال التي ذكرها صاحب الإتقان (1) 0 ولنذكر لك بعد هذا بعض ما قالوه في كيفية إنزال القرآن من اللوح المحفوظ تكملة لما ذكرناه فيما تقدم 0
لقد تعددت أقوالهم في كيفية إنزال القرآن من اللوح المحفوظ , فقال الطيبي كما في الإتقان لعل نزول القرآن على النبي أن يتلقفه الملك من الله تلقفاً روحانياً , أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول فيلقيه عليه (2) 0
ملاحظة
نرى الطيبي متردداً في أن يأخذه الملك من اللوح المحفوظ , وما أدري إلى أي دليل يستند /894/ في الوجهين اللذين تردد فيهما , فإن كان الذي حمله على القول بأخذه من اللوح المحفوظ هو امتناع أخذه من الله ولو بطريق التلقف الروحاني كما قال , فلا بد أن أخذه من اللوح لا يكون إلا بأمر من الله , فكيف تلقى الأمر من الله وبأي طريق أخذه 0 ويظهر من قول الطيبي هذا أنه ليس من القائلين بإنزال القرآن في أول المر جملة واحدة إلى المساء الدنيا , لأنه يقول : إن الملك يتلقفه من الله أو يحفظه من اللوح فينزل به إلى الرسول لا إلى السماء الدنيا 0
وفي الإتقان قال القطب الرازي في حواشي الكشاف : الإنزال لغة بمعنى الإيواء , وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى أسفل , وكلاهما لا يتحققان في الكلام , فهو مستعمل فيه بمعنى مجازي , فمن قال القرآن معنى قائم بذات الله فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ 0 ومن قال القرآن هو الألفاظ فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ , وهذا المعنى مناسب لكونه منقولاً على المعنيين اللغويين , ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ , وهذا مناسب للمعنى الثاني (3) 0 ) يتبع 00
(1) الإتقان , 1/ 40 – (2) سورة القدر , الآية : 1 – (3) الإتقان , 1/ 41 – (4) اعتمد المؤلف في كتابة هذا الفصل , على الجزء الأول من الإتقان , 1/ 39 – 43 – (5) الإتقان , 1/ 43 – (6) الإتقان , 1/ 40 – (1) الإتقان , 1/ 40 – (2) سورة سبأ , الآية : 23 – (3) سورة عبس , الآيتان : 15 – 16 – (4) الإتقان , 1/ 44 – (5) سورة البروج , الآيتان : 21 – 22 – (6) سورة الواقعة , الآيتان : 77- 78 – (1) أنظر لسان العرب , كتب ؛ والقاموس المحيط , كتب – (2) أنظر لسان العرب , كتب ؛ والقاموس المحيط و كتب – (3) سورة الحجر , الآية : 4 – (1) سورة الأنعام , الآية : 38 – (2) سورة الأنعام , الآية : 59 – (3) سورة الإسراء الآية : 58 – (4) سورة هود , الآية : 6 – (5) سورة فاطر , الآية : 11 – (6) سورة الحديد , الآية : 22- (1) الإتقان , 1/ 43 – (2) الإتقان , 1/ 43 – (3) الإتقان , 1/ 43 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب والشاعر الأديب – معروف الرصافي 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟