|
-قل لي كم مضى على رحيل القطار- فضح لخطايا التمييز العنصري
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 2050 - 2007 / 9 / 26 - 10:11
المحور:
الادب والفن
يبرز التمييز العنصري، مع ما يتصل به من ظلم وقسوة وألم، موضوعةً رئيسة في الروايات التي يكتبها الكتاب الملونون في أميركا. ومنذ ( كوخ العم توم ): الرواية التي لقيت رواجاً منقطع النظير في القرن التاسع عشر، ونبهت إلى حقيقة التمييز الواقع ضد مكوّن من المجتمع الأميركي، والأميركيون المتحدرون من أصول أفريقية يأخذون أدوارهم في بنية النصوص الروائية الكبرى بعدّهم بشراً أيضاً، لهم حاجاتهم وآمالهم ومشاعرهم وكرامتهم وحقوقهم مثل أي كائن إنساني آخر. في الوقت الذي راح كتّاب سود يساهمون بالكتابة في هذا الصدد عاكسين وجهة نظرهم كضحايا للتمييز، من حقهم أن يقولوا لا أن يُقوَّلوا. ولعل أشهرهم ريتشارد رايت وجيمس بولدوين وتوني موريسون. يقدم لنا جيمس بولدوين في روايته ( قل لي كم مضى على رحيل القطار )* سرداً ثرياً لا بثيمته المركزية وحسب وإنما بخوضه في خبايا النفس البشرية وملامستها لأعمق غرائز الإنسان وعواطفه.. ما يعلن عنه، وما يخفي ويكبت.. ينتزع القناع ليفضح الطبيعة التي وراءه بنواياها وأشواقها وإحباطاتها وخطاياها.. إنها رواية صريحة حد الوقاحة في الكشف عن اللغز البشري، فهي تتكلم عن تلك المناطق المعتمة والمحتجبة من نفوس البشر المائجة بالرغبات المحرمة وغير المحرمة، بالنوايا السيئة والطيبة، بموجهات السلوك القويم والمنحرف. وذلك الصراع المحتدم الضاري في الأعماق بين الخير والشر.. هناك حيث تنبثق الأفكار والتصورات والأحلام والأوهام والكوابيس. من العسير فصل الأحداث الجارية في الرواية عن خلفيتها المتمثلة بسياق التاريخ الأميركي، منذ تأسيس الكيان الأميركي دولة ومجتمعاً، بتعقيداته ومظالمه وبطولاته وإخفاقاته. والرواية تحكي عن الوجه الآخر للحلم الأميركي.. الوجه الكالح والمأساوي.. عن ضحايا تحقق ذلك الحلم، وعن الجانب الوهمي منه والكاذب. يستعير بولدوين في روايته هذه لغة حادة، ناتئة أحياناً، مكشوفة لا تتوانى عن انتزاع الغلاف الهش عن الوجه الإنساني بروعته ودناءته وجماله وقبحه.. لغة تقترب من الواقعية المكشوفة، وأكاد أقول القذرة. فبولدوين يسترسل في السرد وينغمس في التفاصيل، عبر صوت الراوي الوحيد ( ليو برودهامر ).. تفاصيل قد تكون مملة، في بعض الأحيان، لكنها ضرورية لنكأ الجرح والوصول إلى العظم، إلى موضع الغنغرينا في الجسد الاجتماعي. وقد برع المترجم الدكتور علي عبد الأمير صالح في الاحتفاظ بالطاقة الشعرية السلسة والأخاذة للغة الرواية، حيث تتدفق لغة الراوي في جمل قصيرة رشيقة موحية غالباً، مطنبة أحياناً غير أنها تؤدي وظيفتها بقوة في تعريفنا على حياة الشخصيات وسبر أغوار نفوسهم. تشغل الراوي ( ليو ) منذ طفولته هذه القضية الشائكة؛ الفالق المأساوي بين البيض والسود، كما لو أن لا أمل في إقامة أية جسور بين الطرفين. كما لو أن الهوّة قدرية وأزلية ولا سبيل قط لردمها.. إن ما يهم وما يعنينا هنا هو عقابيل القضية من سوء فهم وسوء نية وكراهية وحقد وعلاقات عداء وسلوكيات وإجراءات وسياسات. والأخطر؛ صورة عن الآخر تستحوذ على الذهن هي مموهة وباطلة. إن ممارسة التمييز ضد فئة من البشر تخلق لدى تلك الفئة نفسها،تحت وطأة الشعور بالقهر والذل رد فعل مؤداه كراهية الآخر واحتقاره وتحين الفرص للنيل منه، وربما ممارسة التمييز والقهر ضده إذا ما انقلبت الموازيين. بعد أن توقف الشرطة ليو الصغير مع شقيقه الأكبر كاليب في الشارع وتستجوبهما وهما عائدان في ساعة متأخرة من الليل إلى البيت، يقول كاليب: "لأنني أسود. هو ذا السبب. لأنني أسود وبما أن الحكومة تدفع لهم الأجور كي يضربوا المؤخرات السود... هم يعتبرون السود جميعاً مجرد براز. تذكر ذلك دوماً. أنت أسود مثلي وهم سيكرهونك ما دمت حياً لمجرد كونك أسود. هم غير طبيعيين. هم مصابون بمرض معين. أتمنى أن يهلكهم الله جميعاً" ص66. ثمة خداع في عملية التمييز على أساس اللون، وثمة أفكار وتساؤلات تشغل الراوي وبعض الشخصيات الأخرى في الرواية: فحين نقول ( الملونون )؛ أليس الأبيض نفسه لوناً؟ في مقابل أن الأبيض ليس أبيض تماماً، ولا الأسود أسود، والزنوجة يمكن أن تكون فكرة في الذهن وحالة نفسية وموقفاً وجودياً كما أراد فرانز فانون أن يبين في كتابه ( معذبو الأرض ). وفي النهاية سيؤذي التمييز كلا الطرفين؛ الذي يميز، والذي يقع عليه وضده التمييز. والأخير سيجد نفسه أسير نظرة الآخر له، يُصنّف ذاته على أنه مختلف، وينظر إلى الآخر مختلفاً كذلك. ولمّا يسأل ليو أخاه كاليب إن كان البيض بشراً يجيبه: "كل ما أود أن أخبرك به يا ليو هو.. حسن، هم لا يظنون أنهم بشر مثلنا" ص67. ألا يعني هذا خللاً ما في تكوين العالم؟، ألن يكون على المرء أن يناضل في سبيل "إن لم يكن تغيير العالم، فعلى الأقل، تغيير حالة بعض الناس في العالم" ص108. وجعل العالم مسكناً آدمياً يتسع للجميع، ويضمن للجميع الحرية والكرامة وفرص العيش وتحقيق الذات؟. يتعايش ليو في دخيلته مع تلك العقدة المستعصية؛ كونه مصنفاً كائناً أسود، أي من درجة أدنى، معرَّضاً في كل حين للإهانة والاحتقار.. يغذي هذه العقدة فيه أبوه وشقيقه، ولا سيما شقيقه كاليب. وكاليب شخصية ذات تأثير هائل على ليو، على تفكيره ومزاجه وحياته عموماً. لكاليب سطوته في الشارع، له جماعته المتمردة وعشيقته.. يتعاطى بالممنوعات وله أسراره التي يخفيها عن أهله، ويكتشف شقيقه الصغير ليو بعضها.. يُتهم بجريمة قتل من غير أن يكون مرتكبها، ويُسجن. وحين يخرج من السجن يساق للالتحاق بالجيش الأميركي الذي يحارب في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد تجربة قاسية ومرّة يطرأ عليه تغير هائل، فهناك سيكتشف الرب وآثاره على أقدار البشر، وعلى قدره خصوصاً، فينتهي كاهناً في الكنيسة، يرى العالم من منظور الكتاب المقدس.. يقول: "ليو، حين تكون في ذلك الوادي، حين تتصارع مع الملاك، تتغير. تتغير. الجميع يصلون ذلك الوادي، لكن ليس جميعهم يصعدون. محبة الله رفعتني. وأخيراً تحررت" ص369. غير أن لليو دربه المختلف، هذا ما يدركه بوضوح "لن يفعل الله لي ما فعله لكاليب أبداً. لن يفعل لي" ص371. يخرج ليو برودهامر من حي هارلم الذي يسكنه الزنوج في نيويورك.. انتماؤه إلى عائلة زنجية فقيرة لا يضمن له أفقاً مفتوحاً لمستقبل زاهر، لكن إصراره ودأبه، وبعض الحظ الذي يرافقه في مسيرته ينتهي به فناناً مسرحياً وسينمائياً مشهوراً. تبدأ الرواية مع إصابة ليو بنوبة قلبية وهو في غرفة تبديل الملابس في المسرح.. يُنقل إلى المستشفى فيكون موضع اهتمام وعناية وقلق زملائه وأصدقائه عليه والأطباء، وكذلك الجمهور والصحافة.. هنا يشرع ليو بالسرد كما لو أنه يحاول إعادة ترتيب فوضى ذاكرته.. الرجوع إلى اللحظات الأكثر حميمية والأكثر إيلاماً في حياته.. إلى عائلته ( أبوه وأمه وشقيقه كاليب )، إلى الرجال والنساء الذين التقاهم وأقام علاقات من أنماط مختلفة معهم.. إلى المطبات التي اعترضت طريقة والفرص التي ضيعها.. إلى ذكريات الصداقة والحب، والجنس بشقيه الطبيعي والشاذ.. إلى أحزانه وإنجازاته وحماقاته والبؤس الذي عرفه والطرق التي سلكها. منذ أيام فقره وتسكعه ارتبط بعلاقة حب مع بربارة، وهي علاقة كانت عفوية لكنها راسخة، انبنت على تفاهم عميق على الرغم من فواصل فتور وخلاف وتباعد تخللتها. وبربارة بيضاء، ممثلة موهوبة، متمردة تركت بيت أبويها البرجوازي متخلية عن امتيازات كثيرة مقابل أن تحوز على مغامرتها الخاصة، وحريتها في أن تصوغ كينونتها مثلما تشاء، على الرغم من أن الحياة لن تكون يسيرة معها على الدوام. في علاقتها بليو شيء من الالتباس.. تتخلى عن صديقها الأبيض جيري وترتبط بليو الأسود.. يعترف لها ليو بأنه ثنائي الجنس بيد أنها لا تتفاجأ. وكلاهما سيدهش الجمهور ويصنع مجده الفني. وبحسب بيراندللو: سيحيان مسرحيتهما وسيمثلان حياتهما. كان ليو سعيداً في علاقته ببربارة، لكنه لم يكن يرى أي مستقبل لتلك العلاقة وهما يمضيان الوقت معاً في مواجهة عداء العالم لهما، لعلاقتهما، بسببها قطعاً. كان يرى فيها فتاة يافعة، موهوبة وجميلة، ومتفانية، في انتظار أن تتألق وهي تصعد القمة. ويبدو أنه كان يثق بقدرتها وموهبتها أكثر من ثقته وإيمانه بقدراته وموهبته. وإذ ذاك ماذا سيحصل، يفكر ليو: "ماذا ستفعل بحبيبها الحزين؟ داكن البشرة، وهو مجرد فتى اُصطيد في الوقت الخاطئ، في المكان الخاطئ، ذو الطموحات الخاطئة في الجلد الخاطئ" ص327. كان هذا قبل أن ينال هو أيضاً الشهرة والمجد، وأن يكون، معها، تحت الأضواء. صارت بربارة موضع كراهية عائلة ليو، لأن لهذه الأخيرة نظرتها الخاصة إلى البيض، وهي نظرة مشوهة، تفتقر إلى الصفاء، لا ترى الصورة أمامها بل تلك التي كونتها وابتدعتها تحت عبء دراما التاريخ.. صورة مسبقة تفضي حتماً إلى أحكام مضللة. ففي سبيل المثال فإن بربارة من وجهة نظر كاليب عزلاء في سجن للبغايا العنيدات اللاتي لا يمكن إصلاحهن "عنيدة لأنها بيضاء، بغي لأنها امرأة، سجينة لأنها بغي وبيضاء معاً" ص312. وتنتهي الرواية وبطلها/ راويها الممثل ليو برودهامر واقف في الكواليس يستعد لدخول المسرح.. وهذه كناية عن استئنافه لحياته، مرة أخرى، على مسرح الواقع. ليست رواية ( قل لي كم مضى على رحيل القطار ) معنية فقط بمشكلة التمييز العنصري فمن الممكن قراءتها على أنها رواية عن الحب، والجنس والشذوذ.. أو هي رواية عن شخصية عصامية موهوبة تشق طريقها، على الرغم من الظروف والشروط المعيقة، لتحقق ذاتها. وفي الأحوال كلها فإن تجربة كاتبها جيمس بولدوين انعكست في الرواية كما لو أن الرواية ظل لسيرته الذاتية، فجيمس بولدوين هو الابن الأول لعائلة فقيرة من السود، لم يكمل دراسته الجامعية. وتنقّل بين مهن عديدة وكان أبوه كاهناً بروتستانتياً. وقد تعرض لأزمة قلبية في العام 1967 وهو في لندن. وبدأبه وكفاحه استطاع أن يرسّخ اسمه واحداً من أهم كتّاب الرواية الأميركية في القرن العشرين. * ( كم مضى على رحيل القطار ) رواية: جيمس بولدوين.. ترجمة: علي عبد الأمير صالح.. المجلس الأعلى للثقافة/ مصر، المشروع القومي للترجمة.. ط1/ 2003.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في التعبير عن الحب
-
-البيت الصامت- رواية أجيال وآمال ضائعة
-
-صورة عتيقة-: رواية شخصيات استثنائية
-
حكم الضمير
-
مأزق المثقفين: رؤية في الحالة العراقية
-
في ( بذور سحرية ): نايبول يكمل مسار ( نصف حياة )
-
منتخبنا الوطني، لا الطائفي
-
العدالة أولاً
-
سحر السرد
-
حدود العراقي
-
في مديح الشعراء الموتى: أديب أبو نوار.. وداعاً
-
المثقف الآن
-
أبيض وأسود
-
البانتوميم نصاً أدبياً: محاولات صباح الأنباري
-
ابنة الحظ لإيزابيل الليندي؛ رواية حب ونهوض مدينة
-
تحوّل الاهتمامات
-
أنا وحماري لخوان رامون خيمينث: بلاتيرو في العالم
-
من لا يتغير؟
-
مصالح
-
الاستشراق والإسلام قراءة أخرى لشؤون الشرق
المزيد.....
-
قناديل: أرِحْ ركابك من وعثاء الترجمة
-
مصر.. إحالة فنانة شهيرة للمحاكمة بسبب طليقها
-
محمد الشوبي.. صوت المسرح في الدراما العربية
-
إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري!
...
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
-
-مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|