التطبيع ... والرخاوة الأيديولوجية في الخليج


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 6037 - 2018 / 10 / 28 - 10:01
المحور: القضية الفلسطينية     


في هذه الايام البائسة حيث يتضاعف عدد الشهداء في قطاع غزة على يد الإجرام الاسرائيلي، ويتفاقم الحصار والتجويع على سكانه، تمتد يد المجرم الاكبر وراء كل ذلك لتصافح مسؤولين وقادة في الخليج. يمكن ان نسمي هذا الاسبوع وأيامه ب "الاسبوع المقيت للتطبيع في الخليج". ففيه تواجدت إسرائيل و"نشيدها الوطني" وتعبيراتها السياسية والتمثيلية في ثلاث عواصم عربية: ابو ظبي، الدوحة، ومسقط. ولنا ان نضيف انها تواجدت في الرياض ايضا عن طريق الزيارات المكوكية لجاريد كوشنر للعاصمة السعودية الغارق حتى قمة رأسه في الدفاع عن اسرائيل ومصالحها في المنطقة والعالم، متصهيناً اكثر بكثير من اشد الصهاينة تعصباً. ليس هناك اية مسوغات يمكن قبولها من اي من حكومات هذه العواصم مهما كانت، فزيادة التطبيع مع اسرائيل خاصة في هذا الوقت الحساس يدعم اسرائيل ضد الفلسطينيين ولا يمكن اعتباره إلا طعنات في ظهورهم. إنه الوقت الذي تواقحت وتصهينت فيه الادارة الامريكية إلى درجة غير مسبوقة، معترفة بالقدس عاصمة لإسرائيل، وساحبة اعترافها بمسألة اللاجئين، ومطالبة من الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، ومقرة قانون القومية العنصري النازي الذي صادق عليه الكنيست. وفوق ذلك كله هو الوقت الذي تتواصل فيه نازية اسرائيل ضد مليونين من الفلسطينيين في قطاع غزة حصارا، وتجويعاً، وقتلا يوميا.
لكن، لماذا هذا التسابق الخليجي على على من يفتح البوابات الاوسع لإسرائيل والتطبيع معها؟ الخطاب الرسمي العربي في الدول التي وقعت معاهدات سلام مع اسرائيل يحاول ايجاد مسوغات تحوم حول استعادة اراضٍ احتلتها اسرائيل عن طريق تلك المعاهدات، وما ترتب عليها من علاقات دبلوماسية وسوى ذلك. ذات المسوغات بشكل او بآخر توظفها منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة المُتولدة عن اتفاق اوسلو، التي هي حصيلة "خيار السلام" الذي تم تبنيه، ليس عن وفرة في الخيارات بقدر ما كان ممراً شبه اجباري. لا يعني هذا قبول تلك المسوغات، لكن استدعاءها هنا يأتي في سياق طرح التساؤل الكبير عن "مسوغات" هذا اللهاث الخليجي على التطبيع مع اسرائيل ... مع بقاء وترسخ وتفاقم كل احتلالاتها وكل جرائمها في كل الاتجاهات؟

ابتداءً، وبالرغم من معاهدات السلام تلك وخاصة بين إسرائيل من جهة، ومصر والأردن من جهة أخرى، وبالرغم كذلك من العلاقات السرية بين الدولة اليهودية وعدد من الحكومات العربية، فقد ظل "التطبيع" محصوراً في الدوائر الرسمية، وانسدت كل أوجه التطبيع الشعبي في وجه المحاولات الإسرائيلية. كان السبب وراء ذلك الإنسداد هو تسيد المشهد النخبوي والسياسي والثقافي المصري والاردني والعربي بعامة من قبل خطابات صلبة من الإرث القومي العربي والماركسي والناصري والإسلاموي. كل تلك التوجهات الأيديولوجية، وعلى اختلافاتها الجذرية مع بعضها البعض، كانت تتفق على موقف رافض لإسرائيل والصهيونية، وغير خاضعة لرغبات وخطابات الحكومات التي قد تريد ترجمة التطبيع الرسمي إلى تطبيع شعبي. بيد أن مرحلة ما بعد الأيديولوجيا التي نعيشها الآن، تشهد أفول الأيديولوجية القومية العربية وكذا الماركسية، وتهلهل الأيديولوجية الليبرالية العربية وتسطحها رسمياً، وتبعثر الأيديولوجيا الإسلاموية بين العنف وغياب البوصلة والإنجاز الحقيقي. في المقابل تنهض أيديولوجيا ضيقة الأفق عائلية وقبلية واستبدادية يمكن تسميتها بـ"أيديولوجيا المحافظة العربية"، ومعقلها الخليج ومصر، وإلى درجة اقل الاردن والمغرب. وتتصف هذه "الأيديولوجيا" بتحوصلها على ذاتها وتركز همها الاساس حول المحافظة والدفاع عن الوضع القائم والحفاظ على الحكم. وليس لدى هذه الايديولوجية المحافظة اية افكار او مواقف صلبة ومتماسكة تجاه إسرائيل أو غيرها من التحديات الكبيرة، وينعكس ذلك على استسهال مسألة التطبيع مع اسرائيل، واستسهال التحالف مع الدول الغربية ورشوتها بمئات المليارات وتبذير الثروات الوطنية في سبيل بقاء حكم العوائل المالكة.
وهكذا، فإن الفراغ الأيديولوجي الناشئ في المنطقة العربية في اللحظة الراهنة، ومعه الخطاب المعادي لفكرة الأيديولوجيات أزاح مع بروزه المتصاعد المواقف الصلبة والمبدئية إزاء إسرائيل، بكونها دولة كولونيالية استيطانية واحتلالية قائمة على الظلم، وتعتمد أيديولوجيا صهيونية، اعتبرتها الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي فكرة عنصرية بحتة. وعوضاً عن ذلك تسللت إلى المشهد واحتلته الخطابات المحافظة التي تسيطر على الاعلام الخليجي بشكل اساسي والتي تظن نفسها "ليبرالية" او"براغماتية" أو "دولتية" تابعة للنخب العائلية الحاكمة وتدور معها حيث تدور، وكل ذلك يتصف جوهريا بالرخاوة الايديولوجية والهشاشة والسطحية الفجة، وينظر دعاته إلى إسرائيل كـ "دولة عادية" في المنطقة، على غير ما ترى غالبية شعوب ونخب العالم بأسره.
الملكيات الخليجية الحاكمة تستند إلى تنويعات من تلك "الليبرالية" السطحية، و"البراغماتية" الرخيصة، و"الدينية" الموالية التي يقوم تنظيرها على طاعة ولي الامر واللحاق به ولو قرر إبادة الوطن واهله ورميهم في جهنم. خلاصة ذلك حقوقيا و مبدئيا، ان هوامش هذه الخطابات المتشظية تؤدي إلى تسيد الموقف المُتراخي تجاه إسرائيل، والمتبلور في خلفية العديد من مواقف الحكومات العربية والخليجية، وهذا يشكل تحدياً حقيقياً للمخلصين من العرب قبل الفلسطينيي وتجب مواجهته، لأنه يريد أن يسحب خلفه الرأي العام العربي والخليجي الذي يتبنى مواقفَ أكثر مبدئية ونقاءً من مواقف النخب السياسية. ومن المهم، هنا، التفريق الواضح والكامل بين مواقف الحكومات والأصوات الممالئة لها من نخب سياسية وإعلامية ودينية، ومواقف الشعوب العربية والخليجية، وعدم الجمع بينها في النقد والتفكيك.

email: [email protected]