إذلال العرب: كلما -اعتدلنا- إزادوا تطرفاً


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5723 - 2017 / 12 / 10 - 09:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


سوف يسجل التاريخ ان وصول دونالب ترامب إلى سدة الرئاسة الامريكية مثل اهم ارتكاسة في الربع الاول من القرن الحادي والعشرين نحو الغرائزية السياسية والرعونة وما يرافقهما من دمار. بحسب العديد من التحليلات الغربية والامريكية الرصينة يمثل ترامب، بعد نزع الرتوش التجميلية التي سرعان ما تسقط عند اول اختبار، التجسيد الاهم للأيديولوجية الامريكية البيضاء العنصرية القائمة على خليط تشويهي للمسيحية الانجليكانية مع الإفتخار العنصري بالذات الامريكية التي تمثل إرادة الله على الارض، مُضافا إليه هوج وتطرف سياسي من طراز فريد. لا تهتم هذه الايديولوجية، كسائر الايديولوجيات الدينية والسياسية المُتعصبة، بالنتائج التي تترتب على قراراتها وسياساتها الهوجاء، لأنها تعتقد ان "يداً إلهية" تصحبها وتبارك خطواتها، او ان "حكمة" خفية بارعة يمتلكها قادتها. في احوال وظروف كهذه يتم إسترذال السياسة والواقع والمحددات والمساومات التي تفرضها هذه كلها على الاطراف المختلفة وتدفعها إلى التعقل.
عندما تتحالف رؤى دينية مسيحانية مُتعصبة مع عجرفة القوة والدولة يقود ذلك في ما يقود إلى مسألتين: يتم التطويح بالسياسة والتسيس ودفعهما في مهاوي التطرف وردود الفعل القصوى، ويتم تسعير إذلال الطرف الآخر وتغذية كل نوزاع العنف فيه. ورغم فداحة هذا الدرس الرهيب والدامي في تواريخ البشر والبلدان وعلى رأسها التاريخ الغربي نفسه، إلا ان صفاقة القادة المتطرفين وفي حالات كثيرة غباءهم وعدم اطلاعهم، معطوفا على تسرعهم وانبهارهم بذواتهم تدفعهم لتجاوز الدرس والوقوع في محذوراته من جديد. دونالد ترامب ليس الأول ولن يكون الأخير من هؤلاء القادة المهووسين بعظمتهم، والذين يظنون ان التاريخ والجغرافيا يُمكن ان يُغيرا بالحبر والقرارات والاوراق، وان الشعوب وإرادتها يمكن ان يداسا بالتصريحات او حتى بالمعاهدات المُذلة. الدرس الغربي الحديث لا زال طازجاً: الإذلال المُضاعف من قبل الطرف المُنتصر للطرف المهزوم لن يؤدي إلا إلى إختزان الغضب والثورة والحنق عند الطرف المهزوم، ثم قيامةُ انتفاضته التي لا يمكن لأحد ان يتنبأ بمساراتها. المانيا النازية وحنقها وغضبها وتطرفها وعنصريتها هي نتاج الإذلال الذي تعرض له الألمان في معاهدات فرساي بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الاولى والشروط التي بالغت في إهانة وتركيع المانيا ووضعها لعقود طويلة تحت حذاء الطرف المُنتصر. فاز هتلر في انتخابات ديموقراطية برغم شعاراته المتطرفة والعنصرية لأنه استغل مشاعر الحنق والثورة المختزنين عند الألمان على الإذلال المفروض عليهم.
علاقتنا نحن العرب مع الغرب الحديث قائمة على استدامة الإذلال منذ الغزو النابليوني لمصر في اواخر القرن الثامن عشر. حتى خلال الحكم العثماني في قرنه الاخير او اكثر بدأ مسلسل الإذلال من خلال نظام الوصاية على مسيحيي الشرق والإمتيازات والحصانات التي صارت تتمتع فيها القنصليات الاجنبية سواء في تعاملها مع هؤلاء المسيحيين وفصمهم عن مجتمعاتهم ام غير ذلك من تعاملات. مع انهيار العثمانيين وتوالي دخول جيوش الاستعمار البريطاني والفرنسي الحواضر العربية الكبرى، لم يتردد "الفاتحون" الجدد من ترصيع الصفحة الاولى من احتلالاتهم بجملة إذلالية هنا او هناك: إدموند اللنبي، قائد الجيش البريطاني الذي دخل القدس سنة 1917 قال "الآن انتهت الحروب الصليببية"، والفريق هنرى غورو القائد الفرنسي الذي دخل دمشق سنة 1920 ركل قبر صلاح الدين بقدمه قائلاً "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
منذ بداية اللحظة الاستعمارية تلك ومسلسل الإذلال لم يتوقف إلى اليوم وحتى لحظة اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. وإسرائيل نفسها كانت صنيعة غربية استعمارية في قلب المنطقة لتعزيز وضمان دور ونفوذ بريطانيا في المنطقة وقريبا من قناة السويس وتنافساً مع فرنسا، فضلا عن التخلص من المسألة اليهودية التي كانت ضاغطة في اوروبا. تأسيس اسرائيل ورعايتها ومدها بكل شرايين الحياة رغم دعم العرب لبريطانيا وميولهم نحو اكتساب حضارة وتمدن الغرب هربا من قرون التكلس العثماني، احبط كل التوجهات الحداثية والليبرالية العربية ودفعها نحو التطرف دفعا. وخلال العقود الثمانية الماضية لم تمر على المنطقة العربية فكرة من الافكار التغييرية او نزعة ايديولوجية حملت املا هنا او هناك إلا ودُفعت دفعا نحو التطرف والراديكالية بسبب إيغال الغرب في إذلال العرب من دون توقف. فقد تطرفت القومية العربية وتطرفت الماركسية وتطرفت الليبرالية وتطرفت الاسلاموية وتطرفت الطائفية والعوائلية، وكل اصناف التطرف ذاك تعود جذوره بشكل او بآخر إلى فجاجة السياسة الغربية التي سهرت على اهانة العرب وتقوية اسرائيل ضدهم، والسيطرة على ثرواتهم، وتعزيز استبداد انظمتهم حتى يسهل قيادهم. خلال تلك العقود الطويلة، أمد العرب الغرب بالطاقة التي قامت عليها حضارة وصناعة الغرب، وخلالها ايضا امد الغرب اسرائيل بالقوة والدعم اللذين قام عليهما إذلال الفلسطينين والعرب.
والشيء المُدهش في مسيرة علاقة العرب بالغرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وخاصة مع امريكا، ان كل محطة من محطات "الإعتدال" العربي الرسمي كانت تُقابل بزيادة الإذلال والتطرف من قبل الولايات المتحدة واسرائيل، ومن ورائهما الغرب كله. ولأن دافع الحديث هنا هو قرار ترامب الاخير حول القدس، يكفي التأمل في منحنى "الإعتدال الفلسطيني" مقابل منحنى "التطرف الامريكي ـ الاسرائيلي" المُدهش. كلما قدم الفلسطينيون تنازلاً ازداد الامريكيون والاسرائيليون تطرفاً. منذ اواخر ثمانينات القرن الماضي وعندما قبل الفلسطينيون ضمنا من خلال "إعلان الدولة الفلسطينية" في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر فكرة حل الدولتين، ومنحنى التشدد الامريكي والاسرائيلي يتصاعد، مُنجزاً امراً رئيسياً مهما وهو تعزيز الإذلال المُفضي إلى تراكم الغضب والنقمة وتخليق البيئة لكل خطابات التطرف والراديكالية. بعد ذلك بسنوات قليلة إنحدر الفلسطينيون اكثر وقبلوا بإتفاق اوسلو عام 1993 والذي كان مليئا بالألغام والتأويلات والتأجيلات للقضايا الاساسية ومنها القدس. تعهد الامريكيون آنذاك بعدم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وبأن القدس الشرقية على الاقل ارض محتلة (مع ان القدس الغربية ذاتها ارض محتلة ايضا حتى بمعايير قرار التقسيم عام 1947 الذي اعتبر القدس منطقة دولية لا تخضع لسيادة اي طرف من الاطراف). وضعت جزرة "السلطة" في مقدمة عربة تسير سريعاً بينما أُجلست في المقعد الخلفي الرسمية الفلسطينية ومن ورائها الرسمية العربية، وبقي الجميع يلهث وراء تلك الجزرة من دون الإمساك بها. وخلال ما يقارب من نصف قرن اوسلوي حافل بالسنوات العجاف ظلت العربة تدور في حلقات مفرغة ولم تتمكن لا السلطة الفلسطينية ولا الحكومات العربية من الإمساك بتلك الجزرة اللعينة والتي تعفنت اساساً خلال تلك السنوات. لكن العملية الموازية للدوران في الحلقات المفرغة كان اكثر اذلالا: تضاعف التهام اسرائيل الاستيطاني للاراضي الفلسطينية المُخصصة نظرياً ل "جزرة الدولة الفلسطينية" العتيدة، وزاد تهويد اسرائيل للقدس وضمها لها واخراجها من "الجزرة" إلى ان وصلت الامور لإعتراف ترامب بها عاصمة لإسرائيل، واشتراط اسرائيل من الان فصاعدا ان اي اتفاقية "سلام" يجب ان تتضمن الاقرار بما اقره ترامب وبيهودية الدولة، وزاد تهميش قضية اللاجئين وشطب ملف العودة من اي حديث عن "الجزرة"، وذوت كل الافكار لتحوم حول حكم ذاتي و"سلام اقتصادي" يشرف عليه زوج ابنة ترامب المراهق سياسيا والجاهل بتاريخ وجغرافيا المنطقة. توزاى مع ذلك كله تنازلات فلسطينية وعربية متواصلة كي ترضى الولايات المتحدة واسرائيل ولإثبات حسن النية العربي الجماعي، وقُدمت لإسرائيل خطة سلام عربية اعتبرها باراك اوباما الرئيس الامريكي السابق حلماً وعرضا تكون اسرائيل غبية ان لم تلتقطه. كل ذلك الاعتدال الفلسطيني والعربي قوبل ولا زال يُقابل بزيادة التطرف الامريكي والاسرائيلي، والذي يُقابل تحت الارض بتعميق الإذلال والمهانة اللتان لا يعرف احد كيف يموران تحت السطح ومتى ينفجران وبأي اتجاه.