إنتفاضة القدس: درس المقاومة الشعبية والتدين الوطني


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5596 - 2017 / 7 / 30 - 10:04
المحور: القضية الفلسطينية     


إنتفاضة القدس العارمة والمتواصلة التي اجبرت إسرائيل على التراجع عن اتخاذ إجراءات امنية اضافية ضد الفلسطينين ومقدساتهم فاجأت القادة الإسرائيليين في المقام الاول، كما فاجأت القيادات الفلسطينية في رام الله وغزة، وقدمت دروساً بالغة العمق والأهمية. الدرس الأول هو مركزية المقاومة الشعبية وفعاليتها المُدهشة في المرحلة الراهنة من النضال الفلسطيني. في مرحلة اوسلو وما تلاه (خاصة خلال وبعد الإنتفاضة الثانية 2000 إلى 2005) تم إخراج االشعب الفلسطيني وأي فعل شعبي مؤثر من ميداني السياسة والمقاومة معاً. السياسة تم خصخصتها وإحتكارها من قبل سلطة اوسلو التي انخرطت في مشروع مفاوضات لانهائي دمغه كبير متحدثيها ومفاوضيها بعنوان سوريالي هو "الحياة مفاوضات". والمقاومة تم اولا عسكرتها ثم خصخصتها واحتكارها من قبل حماس، التي انكفأت ومقاومتها على مشروعها الحزبي بعد السيطرة العسكرية على قطاع غزة سنة 2007، فأختلطت مقاومتها بسلطتها هناك فترسملت بعد ان كانت قد أُحتكرت. في الحالتين وجدت غالبية الفلسطينين انفسهم في غربة عن المشروعين المُحتكرين: المشروع السياسي المتمثل في سلطة اوسلو وهو الذي تآكلت اية شعبية اولية له بعد وضوح فشل المغامرة برمتها، وتحويل اسرائيل السلطة إلى مجرد أداة امنية تخدم الكولونيالية الاسرائيلية الاستيطانية اولاً وأخيراً. تأنف الفلسطينيون من السياسة المُنتجة من اوسلو وسلطتها وابتعدوا عنها، وانتهوا مُحيدين ومعهم اي فعل شعبي حقيقي إما طوعا او كرهاً. المشروع المقاومي (المسلح) الذي مثلته وقادته حماس قاد أيضا إلى تحييد غالبية الفلسطينين، سواء بسبب عمليات حماس الإنتحارية في المرحلة الاولى، او تحولها إلى انماط عسكرية وصاروخية اخرى في مراحل لاحقة. في كل هذه المراحل لم يكن للناس العاديين اي مجال للمشاركة في مثل هذا النوع من المقاومة المسلحة، فضلا عن التخوف المتوقع، وبالتالي تم اخراج غالبية الفلسطينين من ميدان "المقاومة" كما كانوا قد أخرجوا من ميدان السياسة. وفي الحالتين السياسية والمقاومية تسيد الوضع الفلسطيني من ناحية عملية الوضع الجبروت والغطرسة الإسرائيلية (الامريكية) سواء سياسياً ضد سلطة اوسلو او عسكرياً ضد مقاومة حماس، وذلك في سياق ميزان قوى تقليدي كان يحسم الصراعات السياسية والمعارك العسكرية سلفاً. لا يكسر اي ميزان قوى تقليدي سوى اجتراح قوى غير تقليدية وفرضها على الصراع، واهمها في الحالة الفلسطينية قوة المقاومة الشعبية ضد سياقات الإحتلال العسكري الإستيطاني كالإسرائيلي. خبر الفلسطينيون هذه القوة بالغة التأثير في الإنتفاضة الاولى 1987 إلى 1992 والتي كان أثرها مدوياً، كما كانوا قد خبروها في النصف الاول من القرن العشرين في ثوراتهم ضد البريطانيين والمشروع الصهيوني معا، سواء في ثورات عقد العشرينات اوثورة 1936. في كل مرة كان تدخل فيها السياسيون في هذه الثورات، إما بهدف "التهدئة"، او استجابة ساذجة لوعود من القوى المحلتة، او لإستعجال قطف ثمار غير ناضجة، او لإمتطاء موجات الإنتفاضات الشعبية كقيادات تخشى مواقعها من صعود قيادات ميدانية بديلة، في كل هذه الحالات كانت الانتفاضات تُجهض. وفي كل مرة كان يدخل فيها السلاح بقوة على العمل الشعبي لأهداف متعددة ايضا او بشكل يستعجل الثمار، او سقوطاً في إغواء السلاح ذاته، كان الثمن الباهظ هو خروج الناس من المقاومة واقتصارها على مجموعات مبعثرة من المقاومين المسلحين الذين سرعان ما يتم محاصرتهم والسيطرة على مقاومتهم عسكريا، او توظيفها سياسيا.
انتفاضة القدس تعيد تدوير الدرس التاريخي للفلسطينين مرة اخرى: المقاومة الشعبية تشل ميزان القوى العسكري التقليدي، وإستدامة عشرات الوف الناس في الشوارع تجمد الرصاص سواء في سلاح المُحتل او سلاح المُستبد الذي بات مكشوفاً في الوقت الحالي تحت الوف الكاميرات التي تنقل الحدث حياً وعلى الهواء. مقدسياً إذن، غابت القيادات السياسية الحزبية الفلسطينية والسلطوية عن المشهد فلم يكن هناك مجال للمساومات السياسية وممارسة احتكار السياسة كما هو الديدن خلال ربع قرن من المفاوضات والسلطة العقيمة، بما يؤدي إلى إقالة الناس إلى بيوتهم تحت مخدر ان القيادة تقوم بالواجب. كما غابت القيادات "المقاومية" ومعها انماط المقاومة الانتحارية التي قد تؤذي فردا من افراد العدو هنا او هناك لكنها توفر له المسوغ لإطلاق وحشه العسكري والقمعي بلا حدود، وكان لغياب محتكري السياسي ومحتكري المقاومة الاثر الكبير في بقاء الناس في الشوارع وفي تجميد الوحش العسكري وشل قدرته.
وهكذا، فإن جانباً مريرا من المفارقة الكبرى في الإنتصار المقدسي الراهن على إسرائيل يكمن في غياب القيادات السياسية السلطوية الرسمية، والقيادات المقاومية "الرسمية": القدس التي لا تخضع لسلطة رام الله ولا تخضع لسلطة غزة هي الي تنتفض شعبياً وتجبر العدو على التراجع. الفلسطينيون الخاضعون لسلطة رام الله ولسلطة غزة لا يستطيعون الإنتفاض شعبياً لأن قيادات المكانين احتكرت السياسة والمقاومة، واخرجت الفلسطينين ومقاومتهم الشعبية من قلب الحراك والنضال ضد المحتل.

الدرس الثاني العميق والذي لا يقل اهمية هو بروز وفعالية ما يمكن وصفه ب "التدين الوطني" المختلف تماماً عن "التدين الرسمي" المتكلف من قبل السلطات، او "التدين الحزبي الحركي" المُحتكر من قبل معارضي السلطات. التدين الوطني يتسم بالتعايش والتسامح العفويين من دون تنظير او تعصب او إقصاء أو احكام مُسبقة، وهو ما عهده الناس في انفسهم عبر قرون طويلة وقبل حلول انواع الاسلمة السياسية وتمزيقها للمجتمعات وثقافاتها. التدين الوطني هو التدين الشعبي الذي ينطلق عند الحاجة من قلب الناس للدفاع عن حقوق الناس المنتهكة، وليس لإنتهاكها. وفرادة التدين الوطني وفعاليته تتبدى في أن الدين يُوظف من قبل الناس لخدمة الناس، على عكس الشائع حيث يُوظف الدين لخدمة السلطة او ايديولوجيتها او لخدمة من يعارضها واحزابهم وايديولوجياتهم. بل يمكن القول بأن كل التوظيفات المختلفة للدين، مع عدا توظيفه من قبل الناس لخدمة الناس، تقع تحت العنوان العريض ل "الإسلام السياسي"، وهذا الاخير هو السمة الأبرز لإستخدامات الدين سواء من قبل الانظمة او معارضيها او اصحاب الأدلجة الشمولية. واهم تمثلات "التدين الوطني" هو عدم تعقد وتعقيد مكونه الديني مقابل عمق وترسخ بعده الوطني. في حالة انتفاضة القدس والاقصى تجسد التدين الوطني في صور مُذهلة اهمها الإندفاعات الشعبية المتواصلة التي تحلقت حول الحرم القدسي بإعتباره رمزاً وطنياً جسد عدالة قضية فلسطين، وكشف عن بقاء ديمومة النضال لأجل تلك العدالة وسط الأجيال الشابة العريضة التي راهنت اسرائيل على أنها قد نسيت القضية وعدالتها. تجسد التدين الوطني في الوف الشباب غير المتدينين الذين التحقوا بالصلوات الخمس وهم في سراويل جينز ممزقة وبعضهم بقصات "شعر المارينز"، وبعضهم لا يعرف كي ان يصلي اصلاً، وذلك كله في تعبير وطني لا يحدث إلا بعيداً عن سماجات القيادات الرسمية او التدين المتعصب الذي لا يقبل هؤلاء الشباب في صفوفه. بل واكثر من ذلك تجسد التدين الوطني مقدسياً في التحاق مسيحيين بصفوف الصلاة المقدسية يقفون كتفا بكتف إلى جانب مقدسيين آخرين تصورهم الكاميرات وتقلع بصورهم تلك عين السلاح الإسرائيلي الذي وقف مشلولاً أمام الإرادة الجماعية. حدث ذلك بعيداً عن مماحكات التوظيف السياسي الأسلوي لزعامات لم تجروء ان تطأ الاقصى خشية ان تُلفظ من قبل الناس العاديين، وحدث بعيداً عن مزايدات التدين الحمساوي الحزبي الذي ما كان ليسمح بعفوية التدين الوطني ان تفيض كما فاضت. درسا القدس العميقين: المقاومة الشعبية والتدين الوطني يجب ان يبقيا بوصلة العمل الفلسطيني في المرحلة الحالية.