فرويد وميثولوجيا الحرب والتلذذ بالدمار (١ من ٢)


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5569 - 2017 / 7 / 2 - 10:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     


في تأمله للمعضلات المُستبطنة في عُمق الحضارة الغربية (وتنطبق على غيرها وربما بشكل اكبر) اعتبر فرويد ان الميل نحو العنف والاعتداء هو اكبر العوائق في وجه تلك الحضارة. يُرجع فرويد هذا الميل إلى تجذر فطري ولاواعي بالرغبة في الموت، وجزء من هذه الرغبة يتم تصديره إلى خارج الذات الفردية، عنفاً ضد افراد آخرين، او خارج الذات الجمعية، عنفاً على شكل حروب واعتداءات ضد دول ومجتمعات اخرى. حاولت المجتمعات ونظمها الثقافية والدينية والقانونية اخضاع نزعات عند الافراد للمراقبة والمحاسبة، لكن ما ظل عصياً على المراقبة والمحاسبة هو فيضان العنف إلى شكل حرب ضد الآخرين يتم فيها توريط المجتمع كل وليس فقط افرادا منه. هنا تقع المجتمعات (والتي اصبحت دولاً) في سعار العنف الجماعي الموجه للخارج، ويهدف وإن كان بلا وعي إلى تفريغ العنف المُختزن الداخلي وتصديره لفضاء خارجي، كما يهدف وبوعي هذه المرة إلى تقوية "الوحدة الوطنية" داخلياً بإفتعال عدو براني يلتف الجميع حول بعضهم لمواجهته. قبل فرويد كان توماس هوبز فيلسوف السياسة الانجليزي في القرن السابع عشر وابو الواقعية السياسية في اقصى (واقسى) صورها قد رأى وبتشاؤمية مفرطة أن "الحال الطبيبعي" للبشر والمجتمعات والدول هو العيش في "حرب الكل ضد الكل". فالحرب، من منظور هوبزوي صلد، هي الإطار والسياق الطبيعي لحياة البشر وتواريخهم على هذا الكوكب وهي، والاستعداد الدائم لها ثم خوضها وتحمل نتائجها الكارثية، في اول ونهاية المطاف ما يعمل على تشكيل وعيهم ووجودهم الجمعي والدولتي على وجه التحديد. العنف والحرب هما البداية والنهاية.
وبرغم إكتمال معرفة البشر بذلك وتحوطهم له إلا انهم لا ينوا يكررونه. وتتفاقم المفارقة إذ يسخرون من هوام الليل وهي تطير مسرعة نحو اي نار تلحظها فلا تجد سوى حتفها، وهم يقومون بذات الفعل مع الحرب. حال البشر المختالين ب "عقلهم وتعقلهم" مع الحرب والعنف لا يختلف كثيرا عن تلك الهوام التي يسترذلونها. هل تلغز فهم العنف على البشر منذ المقتلة الاولى بين ابناء ابيهم آدم، ثم تطور مع تكاثرهم إلى حرب صارت هي القلم الأعرض لكتابة تاريخهم. لغز الحرب وغموضها الفادح وغرابتها يكمن في الإنجذاب المُدمر لها من قبل الساسة والمفتونين بالقوة برغم انفضاح كل اسرارها وجوانبها البشعة والتدميرية. واحد من اهم الاسرار المفضوحة للحرب هو ان الإندراج إليها سهل لكن الخروج منها صعب، ودمارها ينمو ويكبر كوحش خفي يلتف على رقبة الغازي كما على المغزي. يفيض التاريخ بقصص قادة وامبرطوريات عظمى ارهق عظمتها وحش الحرب الخفي الذي اغواها بالمجد فلم تجد بعد الإنهاك إلا سرابه. تقول نهاية كل قصة انه "بعد فوات الأوان" اكتشف اولئك القادة او تلك الامبرطوريات تفاهة إنجذابهم لغرور القوة. لكن، وهنا جانب آخر من نفس السر المفضوح، نكتشف أن "الاوان حان" لقادة اخرين وقوى اخرى كي تكرر نفس القصة المكرورة، يتدافعون إلى حرب هنا وعنف هناك بلا سبب بحثا عن ذات السراب، ليلاقوا الإنهاك والتفتت المعثور عليه من قبل من سبقهم إلى النار. العنف المُختزن في البشر، افرادا وجماعات ودول، سر غامض رغم إنكشاف الكثير من جوانبه وآليات إغوائه وإملاءاته ومآلاته، ومع ذلك لا زال يحتل قلب سيرورات البشر، وربما يقودهم في لحظة مستقبلية ما إلى نهايتهم الإنتحارية الجماعية خاصة مع تطور تقنية العنف النووي والوف قنابله التي قد تقيم قيامة كوكب الارض في ساعات وتحيله دماراً مطبقا.
العام الماضي اصدر فيل توراس، باحث واكاديمي امريكي، كتاباً مثيراً حاول فيه استكناه الهوس الانساني في فكرة "نهاية العالم" سواء عند الاديان والمتدينين او عند غير المتدينين و"العلميين"، وخاصة في مجالات البيوتكنولوجي والروبوتات حيث يتم إعادة تركيب البشر ب "قطع غيار" آلية ذات ذكاء اصطناعي. عند كلا الجانبين ثمة هوس بفكرة فناء العالم، إما على شكل قيامي مسيحاني مهدوي او على شكل إنفلات السيطرة على العلم وخضوع العالم وبشره لكائنات آلية صنعها البشر انفسهم. وإلى قائمة المنضوين تحت عنوان فناء العالم بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي تنتمي شريحة من المُغالين في توقع هلاك العالم بسبب تغيير المناخ والإنحباس الحراري. والتمثل الاشهر والاوسع نطاقاً لهوس شرائح عديدة وواسعة في فكرة الفناء ونهاية العالم يتجسد في العدد الهائل من افلام هوليود التي تصور تلك النهاية في كل كيفية وخيال ممكن. فهي قد صورت دمار العالم عبر الكوارث الطبيعية وفيضانات المحيطات التي اغرقت المدن الكبرى وخنقت كل ناسها، وعبر حروب كونية ونووية افنت كل من على وجه الارض، وعبر اوبئة فتاكة انتشرت بسرعة الريح فقضت على البشر، وعبر غزو كائنات فضائية احتلت كوكبنا وقامت بإفناء من عليه، وهكذا دواليك. والشيء المُدهش والذي لاحقته دراسات سيكولوجية لا تُحصى هو غموض عمق التلذذ الداخلي، المخلوط بالخوف نعم لكن المهجوس اصلا بالميل نحو النهاية، الراكن في منطقة اللاوعي عند المشاهدين والجمهور العريض الذي تستهويه هذه الافلام، وهي دراسات تؤكد الفكرة الفرويدية الأولى التي تتلذذ بمشاهد الفناء الكبرى. وهنا تحظى مشاهد إنهيار الابراج العالية ودمار الجسور وإنهدام المدن الكبرى وغرقها في المياه بمتابعة لصيقة وشغوفة تعكس ذلك التلذذ الداخلي. لنتخيل مثلاً ان فيضانات وزلازل تضرب مدينة كبرى ومتقدمة وهدمت كل بناياتها وناطحات سحابها واغرقتها ثم بقي برج واحد يتأرجح وتضربه المياه من كل جانب وتميد الارض تحته، عندها تجد ثمة ترقب وتشوق للحظة نهاية وانهيار هذا البرج لأن سقوطه يكمل مشهد الفناء والدمار الكلي.
في احد فصول كتاب حديث صدر من اسبوعين بعنوان "الخوف والحرية: كيف غيرتنا الحرب العالمية الثانية" The Fear and Freadom: How the Second World War changed us يفكك المؤرخ البريطاني كيث "لاو" الكثير من التصورات والإرث والاساطير والقناعات شبه الدينية التي ورثتها المجتمعات الغربية عن الحرب العالمية الثانية، التي كانت ابشع حروب البشرية واكثرها دموية وضحايا. وفكرة "نهاية العالم" كانت واحدة من تلك التصورات التي سيطرت على كثيرين واستهوتهم ايضاً وهم في قلب المعاناة من تلك الحرب. ينقل لنا "لاو" ردود الفعل المؤرخة والمكتوبة التي كانت تصف مشاهد الدمار الكلاني الذي شمل مئات المدن وأتى عليها كلياً، وبين سطور تلك الردود والاوصاف كان ثمة إعجاب خفي ورغبة مُستبطنة بالتسريع في نهاية وإنهاء العالم. هناك اوصاف مُرعبة عن "جماليات الدمار" الذي حل بهيروشيما وناغازاكي بعد ضربهما بالقنابل الذرية، واوصاف لا تقل عنها رعبا حول محارق اللهب التي انتجها القصف البريطاني لمدن درسدن وهامبورغ ودوسلدورف، فضلا عن التوصيف الدقيق لجرائم النازية ومحارقها ضد اليهود وكيف اتسمت "صناعة الموت" بهندسة وتقنيات بالغة الدقة. ينقل "لاو" مقتبسات مطولة عن الصحافة الامريكية ومبالغاتها في وصف الدمار والتدمير، وهي المبالغات التي كادت تصل إلى حد التعبير عن الإعجاب. بل إن بعض "الغيرة" كان قد حل ببعض مخططي المدن الامريكية، كما يشرح "لاو" في فصل مختلف، جراء "فرصة الدمار" التي اتيحت لكثير من المدن الاوروبية ووفرت لها فرصة "النهاية من اجل بداية جديدة". كما الامر في الحرب العالمية الثانية تقف وراء نزعات الحروب والعنف رغبات فرويدية دفينة في التلذذ بتدمير ما هو قائم ورؤية نهاية سريعة له في تجسيد غريب وغامض ومخيف لمكنونات البشر التي ما زال الكثير منها قيد الإكتشاف.

[email protected]