الحاجة كريستينا ... وحرب -العم- بلفور


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5689 - 2017 / 11 / 5 - 18:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



تتهادى الفتاة العشرينية الجميلة مع حقيبة سفر بنية متوسطة الحجم في طريق رملي يتفرع عن محطة سكة حديد غزة في احد صباحات فبراير 1958، سائرة خلف عامل المحطة الاربعيني الشهم الذي ادهشه وصول هذه الفتاة وحدها من مصر، والذي سوف تكتشف لاحقا بأنه العم منصور احد معارف عائلتها في يافا قبل حرب النكبة واللجوء. رأسها تحتله افكار مشوشة واسئلة لا نهاية لها. ها هي تعود إلى "الوطن" بعد احد عشر عاما من مغادرتها له كطفلة لم تتجاوز عامها الحادي عشر. اذهلتها واخافتها صحراء سيناء الرملية التي لهث قطار القاهرة طويلا كي يكتشف نهاياتها او على الاقل يفكك بعضا من غموضها. وصل القطار مُنهَكاً إلى غزة، ومُنهِكاً من حملهم إليها، ومعهم كريستينا التي تفاقمت في داخلها الاسئلة وغموض ما تحمله لها الايام. حياتها التي بدأت عادية ووئيدة ومليئة بالحب في يافا تبعثرت على ايد قدر ماجن شاء ان يتسبب لها بورم خبيث في ابهامها هدد حياتها وما كان له حل إلا البتر، ولا مكان كان يُضمن فيه البتر إلا بريطانيا ومستشفياتها. كان ذلك قبل حرب 1948 بأسابيع قليلة حين وافق ابوها عوني السعيد على ارسالها مع صديقه المقرب والمخلص جورج إلى لندن. جورج، خريج اكسفورد في الدراسات الشرقية والمقيم في فلسطين، وعد عوني بأن ابنته ستكون بخير وان المسألة كلها لا تتعدى عدة اسابيع وتكون "فضة" قد عادت إلى يافا.
برغم تأكيداته وجهده النبيل فإن جورج الذي وصل لندن مع فضة كان يُخفي قلقاً متزايداً في داخله جراء تسارع الاحداث السياسية. كانت تصله اخبار لا تُنشر عن طريق قريبه عضو البرلمان، وكان شبح وعد بلفور يتطاول ويتجسد على الارض كما لم يتجسد طيلة الثلاثين سنة التي تلت يوم إصداره المشؤوم. ال "بضعة اسابيع" السريعة التي كان من المُفترض ان تقضيها فضة في لندن وتتعالج فيها ثم تعود إلى حضن ابيها وامها استطالت إلى احد عشر سنة على ايقاع تنفيذ الجريمة البلفورية على الارض. بقيت "فضة" الجريحة والمبتورة الإبهام والمبتورة عن اهلها في لندن، في كنف جورج الذي عاملها كإبنته وسماها كريستينا، الاسم الذي عُرفت به في المدرسة وفي حياها الجديدة.
اما هناك في الوطن الذي سُلب فقد كان البتر اشد واقصى. بُترت عائلة "فضة" وهُجرت مع مئات الالوف شمالا او جنوباً، وانتهت عائلات واقارب العائلة في مخيمات نصبت على عجل في شمال قطاع غزة. وأثناء حرب البتر الجماعية تلك وبعيدها قضى الام والاب. "فضة" كانت لا زالت تحلم بالعودة إلى والديها حتى لو لم تكن تلك العودة إلى بيت يافا الدافىء. عرفت من جورج ان اهل يافا طُردوا منها وان والديها وعائلتها قد استقرت على الاغلب في غزة. لم تكن تعلم ان البتر كان اعمق كثيرا مما تخيلته. كان عليها ان تعيش حلم الارتماء في احضان امها وابيها احد عشر عاما اخرى، قبل ان تبتلع المرارة الخانقة لحظة وصولها مع العم منصور إلى المخيم بعد ان لفظها ذلك القطار الاهوج في محطة سكة حديد غزة. آنذاك عرفت ان كل ماضيها الطفولي الجميل دمرته بريطانيا التي ينتمي إليها جورج النبيل، والذي اضطرت بعد وفاته مباشرة ان تغادر بيته الذي كان يضيق عليها بسبب نفور بعض افراد عائلة جورج لها وعدم استساغتهم لبقائها بينهم. منذ لحظة ابتلاع المرارة في المخيم واكتشاف عمق البتر الذي حصل في حياتها صارت "كريستينا" ابنة المخيم. وفيه عاشت وعملت تجذرت اكثر من نصف قرن تحولت خلاله إلى "الحاجة كريستينا"، حيث اضفى عليها العمر والحكمة والتجربة هالة سحرية، صارت بها جميعا قرة عين المخيم، ووجعه، وبؤره مجلس نسائه.
هذه هي بعض خيوط ومرارت البتر التي مرت بها "الحاجة كريستينا" كما يخبرنا عاطف ابو سيف، الكاتب والاكاديمي والناشط السياسي والروائي الفلسطيني، ابن غزة، في رحلة مريرة ورصينة الصياغة عبر روايته الاخيرة "الحاجة كريستينا" (الصادرة عن دار الاهلية، عمان، 2016). هنا يعيد ابو سيف سرد نكبة الفلسطينين ولجوئهم واوجاعهم من زاوية جديدة وملفتة. في "حياة معلقة"، روايته السابقة التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية، سلط ابو سيف مجهره الروائي على حيوات الناس التي "عُلقت" في مدن ومخيمات القطاع بعد النكبة، حيث انحشروا في خيم الانروا وغرف الصفائح الضيقة والحقيرة تاركين افئدتهم مبتورة نصفين على جانبي الاسلاك الشائكة التي صارت تفصلهم عن فردوساتهم المفقودة. ظلوا معلقين عقوداً مريرة من السنين وهم يحصون اشعة الشمس وماء البحر بإنتظار عودتهم إلى بيوت تركوا ابوابها مفتوحة، بمظنة ان مغادرتهم لها ستكون قصيرة وسريعة.
ابو سيف المولود في مخيم جباليا في غزة كبر على حكايات جدته "عائشة" بنت يافا وعاشقتها، والتي كتب مرة بأنه يتمنى ان يكتب قصتها وان يكون وفياً لعشقها لمدينة البحر وحكاياتها. لنا ان نقرأ الآن جانبا من حياة وذاكرة وعشق "عائشة" لحارتها وناسها ومدينتها المفقودة في "الحاجة كريستينا". فهذه الاخيرة وبعد ان ادمنت الوجع والمرارات تحولت إلى شبه قديسة، لا تعتاش على حكايات الماضي اليافوي واللندني وحسب، بل تصنع حكاياتها الخاصة، وحكايات من حولها. تعيش عوالم عديدة مرت بها، فلسطين ما قبل النكبة، بريطانيا الناكبة وسنوات ما بعد النكبة، ثم مخيمات غزة ونكباتها المتتالية وصولا إلى حرب اسرائيل على القطاع عام 2009. وفي وسط هذه العوالم تحتفظ بزيارة دورية لما يُعتقد بأنه قبر أدموند الشقيق الاكبر لجورج النبيل، والذي قتل في الحرب العالمية الاولى في حروب البريطانيين مع الاتراك ودفن في مقبرة الانجليز في غزة.
الحاجة كريستينا، وكما كانت الجدة عائشة، ليست إمرأة عادية، ولا فرداً عابراً في زمن ومكان معينين، هي الصورة البطيئة لمشهد "البتر" وتخليق حواضر للبشر مفصومة عن مواضيهم بتدخل الغريب ـ الوعد ومنفذيه. قارىء "الحاجة كريستينا" لا يستطيع فصلها عن ثيمة "البتر"، اللعنة التي لاحقتها منذ يفاعتها وظلت رفيقتها في الحياة، تتجدد في مراحل عمرها ف "تبتر" قريبة معمرة لها هنا، او صديقة مخلصة لها هناك، وتأتي لها بأخبار كلها مبتورة، قصص عصية على الإكتمال، واحلام مشطورة ل "فريال" و"سلطانة"، وتمنيات يبلعها البحر كما هي تلك القوارب الفقيرة لصيادي غزة، منخورة بالتآكل مثل قارب "حمدي" المتهالك بعد ستين سنة من الصيد. يتواصل "البتر" في حياة "الحاجة كريستينا"، وشعبها، ويتواصل على الضفة الاخرى من السلك الشائك ترسخ الوعد البلفوري الذي قصم ضهر "فضة" وحولها إلى "كريستينا" ومعها قصم ضهر شعب بأكمله. لا تتوقف قصة البتر واللاكتمال في غموضها وتقلب رواياتها، فتختفي في يوم ما الحاجة كريستينا من المخيم. يقول شهود انهم رأوا سيارة تابعة للسفارة البريطانية تنقلها من بيتها وسط ضجيج قنابل الطائرات الحربية وزعيقها والانفجارات التي تدوي في طول وعرض القطاع. الحاجة كريستينا تحمل جواز سفر بريطاني من سنوات عيشها هناك، وهي مسجلة كواحدة من الرعايا البريطانيين في غزة، والسفارة مهجوسة بتأمين وترحيل رعاياها. يندهش الناس ويتساؤلون: لماذا تقبل كريستينا المغادرة وهي قد صمدت امام ويلات كبيرة واكبر واجهت غزة في العقود الخمسين الماضية. لماذ تقبل "البتر" طواعية هذه المرة ولا تواصل نشر ابتسامتها الساحرة في المخيم، وبسط الجسر الدافىء الذي تصل به بين عوالمها الداخلية، وعوالم من حولها. بلفور لم يأخذ فلسطين ويمنحها لليهود فحسب بل سرق ايضا جزءا من قلب "فضة" ومزق ما تبقى من اجزاء.