خلط الدين والسياسة ... والجدل المُستمر


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5458 - 2017 / 3 / 12 - 11:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


كاتب واكاديمي عربي


أي تأملُ في مآلات تجارب عديدة خلطت الدين مع السياسة في المنطقة العربية والإسلامية خلال القرن ألماضي على اقل تقدير يؤدي إلى نتيجة واحدة: تشويه الدين وتدمير السياسة. يحدث ويتواصل حدوث هذا بسبب التوظيف السياسي للدين. هذه النتيجة ليست محصورة في العصر الحديث بل مكرورة تاريخياً بشكل مُذهل، ولا هي وقف على التاريخ الإسلامي، بل كونية التمثل وتتجسد في كل الثقافات والأديان والأزمان. منذ عهود اباطرة الرومان وتلاعبهم بالمسيحية وتدوير السياسة وولاءات الشعوب وفق ما يرتأيه هذا الملك او ذلك الامبرطور من مصالح سياسية مرورا بكل تواريخ البشر والطوائف، ووصولا إلى الإسلاموية الراهنة ممثلة بجماعات او تنظيمات او دول والقصة ذاتها تكرر بلا توقف، والنتيجة نفسها تُعاد من دون تغيير كثير في جوهر نهاياتها.
معنى ذلك ان الجدل الحقيقي في هذه المسألة يجب ان يتمركز في قراءة وتأمل التجربة التاريخية والشواهد العملية لتوظيف الدين في السياسة، وليس في السجال النظري والفكري التجريدي كما تشهده مطارحات وأدبيات الإسلامويين حول "نجاعة" و"ضرورة" إدارة السياسة بالدين او ما هو قريب من ذلك. في أي نقاش راهن ثمة من ينبري للهجوم بكل نضالية وشراسة على فكرة فصل الدين عن السياسة واسترذالها وإعادة تدوير الفكرة المتهافتة التي تحصر إمكانية الفصل هذه في التجربة الغربية فقط، وبأن التجربة الإسلامية مُختلفة وان الفصل غير ممكن، وتُلحق بذلك كل المسوغات والتبريرات. ينجرف الحديث إلى طوباوية لا علاقة لها بالواقع تحلق في علياء المقارنات النظرية بين الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والفروقات بينها جميعا والإسلام، بغية توكيد "إستثنائية" و"جوهرانية" علاقة الدين بالسياسة في الإسلام والسياقات الإسلامية. ولا تنال التجربة العملية المعاصرة والراهنة (فضلا عن تجارب الماضي والتاريخ) والتي تفرض نفسها على تفاصيل المشهد السياسي الإهتمام الحقيقي في السجال.
العشرات من التجارب السياسية الحالية والتي يُمكن إدراجها تحت مسمى "الإسلام السياسي" تشمل تنظيمات سياسية حركية بتنويعات لا حصر لها، ودول وكيانات حديثة نشأت على أسس تحالفية مع قوى دينية منحتها الشرعية، بل وايضا قوى عُظمى انبهت لفاعلية "توظيف الدين في السياسة"، كما هو حال الولايات المتحدة والغرب في إفتعال وتأسيس "الجهاد الإسلامي" ضد الإتحاد السوفياتي في افغانستان، وليس إنتهاءً بداعش. هذه التجارب والشواهد التي تفيض عن الحاجة للإستدلال تُهمش في السجال المتواصل حول "الدين والسياسة" وتصبح وكأنها ليست واقعا ملحاً يفترض التأمل فيه والإستفادة منه. عوض ذلك يُدفع النقاش في "الجدل النظري" ومن خلال بهلوانيات لغوية وبلاغية، إلى سؤال مُفتعل حول "صلاحية الإسلام للسياسة" يهدف إلى الإحراج أكثر مما يهدف إلى البحث عن إجابة. بعيداً عن تفاهة اسلوب "إحراج الخصم" عبر إلقاء هذا السؤال المُلتهب المُستقوي اصلا بمناخ مأزوم تنعدم فيه حرية التعبير، فإن طرح السؤال نفسه بهذه الفجاجة يعكس ضحالة معرفية. فمن ناحية اولى ما هو بالضبط الإسلام الذي يحيل عليه السؤال، وما هي السياسة بالضبط؟ الإسلام الوارد في التساؤل هنا لا يمكن فصله عن فهم السائل، بمعنى ان الإخواني سوف يكون الإسلام بالنسبة له هو "الإسلام الإخواني"، او كما يفهمه الإخوان المسلمون، وعلى ذات الشاكلة سيكون هناك "الإسلام السلفي"، و"الإسلام التحريري"، و"الإسلام القاعدي او الداعشي"، و"الإسلام الدولتي"، الذي تتبناه هذه الدولة او تلك. وهناك ايضا "الإسلام الشيعي الثوري"، و"الإسلام الشيعي غير الثوري"، و"الإسلام الحوثي"، إضافة لنسبيات اوسع حول "الإسلام العربي" و"الإسلام الآسيوي" و"الإسلام الافريقي"، وقائمة لا تنتهي من تعريفات منسوبة لكل فئة او جماعة او دولة تقول بأنها هي وحدها التي تعرف وتفهم وتقدم "المعنى الصحيح" للإسلام. ويتناسل عن كل تعريف من تلك التعريفات عشرات التعريفات التأويلية والإنشقاقية التي يزعم كل منها بأنه يقف على "جوهر الإسلام" وبناء على ذلك الجوهر يبني علاقة مُفترضة مع السياسة ويموضع الدين إزاءها، وبالتالي ينافح بعماء ايديولوجي عن تعريف أحادي خلافي ليس إلا، ويريد لذلك التعريف ولموقع السياسة منه ان يكون ويصير "الدين" نفسه.
معضلة تعدد الأفهام والتعريفات للدين، مرة اخرى، ليست حصرية بالعرب والمسلمين بل طالت كل الأديان بلا استثناء، وكانت في محل ما احد الآليات الدافعة لتحرير السياسة من الدين والدين من السياسة في اكثر من سياق، واهمها الاوروبي. فقد تبدى لكثير من المفكرين ان السمة السائلة والطيفية لتعريف وتأويل الدين حيال السياسة بحسب الطرف او الجماعة او الفئة او الدولة، تعني شيئاً واحدا فقط وهو شرعنة الفعل السياسي دينياً واستقواء طرف سياسي معين بالدين ضد اطراف أخرى. وعلى هذا الإيقاع قامت الحروب الدينية الطاحنة داخل كل حضارة او ثقافة، وكانت اكثر دموية في العديد من الأحيان من الحروب ضد الحضارات والاديان الاخرى. وهذه الحقيقة الواقعية والتاريخية في زمن البشر، اي دموية الحروب الداخلية في إطار الحضارة او الدين او الثقافة الواحدة، هي اهم ما ينقض اطروحة صدام الحضارات سيئة الذكر التي روجها بخفة المفكر الامريكي الراحل صاموئيل هانتنغتون. المهم هنا هو الإشارة إلى تكاثر الشواهد والتجارب التي تؤكد هذا الإستنتاج وذلك كله دفع للخلاصات النهائية والصعبة التي رأت ان سياسة البشر تقودها المصالح والمساومات والتوافقات بعيدا عن الدين الذي سيظل ويبقى مكونا اساسيا من مكونات البشر الثقافية والروحية وملجأهم الأهم للخلاص الفردي وتقديم اجابات وجودية.
لكن الشيء بالغ الأهمية والأثر في الثقافات الدينية ليس الماضي كما حدث والتجربة كما وقعت، بل هو المخيال الجمعي والتاريخ المُتخيل لما حدث. فدائماً ما يُعاد صوغ التاريخ وخاصة الديني/السياسي منه في حبكات معاصرة وحديثة تستهدف خدمة اهداف ومشروعات سياسية، او فهم محدد ومعين للدين. وتبعاً لهذه النقطة يمكن القول ان احد اهم "انجازات" (=أوهام) الإسلاموية الحديثة تمثل في تسويق "تاريخ اسلامي مُتخيل" عن ماض العرب والمسلمين يتصف بالتسطيحية الهائلة وتخليق آلية رياضية مباشرة بين "سبب ونتيجة" تقولان ان "تدين المجتمعات واسلمتها يعني النصر والتقدم والإزدهار"، ونشر ذلك كأحد مكونات الثقافة العامة. لقد تسلل هذا التسطيح الفادح من الثقافة الحزبية الحركية إلى المناهج المدرسية ثم اصبح "مسلمة" اجتماعية. ثم طُبقت هذه "المسلمة" بإنتقائية افدح على مراحل وحالات من التاريخ الاسلامي للتدليل على صحتها، لكنها اغفلت الشطر الاعرض والزمن الاوسع والاكثف والاكثر غناء وخلافية من التواريخ العربية والاسلامية التي كانت الغلبة فيها للسياسة على حساب الدين، وبلغ الازدهار و"النصر" فيها ذرى عالية في وقت كان فيه تدين الساسة والحكام كما تدين العامة ايضا في ادنى نقاطه. بإختصار لم يكن خلفاء بني امية وبني العباس سواء في المشرق او الاندلس، ثم سلاطين بني عثمان، ولا ملوك الصفويين في ايران، او سلاطين المغول في الهند، وغيرهم كثير، عباد وزهاد يخضعون سياستهم وغزواتهم وإداراتهم وتحالفاتهم ومؤامرات بعضهم ضد البعض لتعاليم الدين وارشاداته. تواريخ كل هؤلاء تشير إلى ان الدين كان يُوظف لتوفير الشرعية السياسية للحكم، وكان علماء الدين يحومون في الغالب الاعم حول السلطان و"شوكة الحكم" لتوفير المسوغات والمبررات لإستمرار بقاء هذا الحاكم او تلك السلالة في الحكم. وكان هذا السلوك هو السائد في طول وعرض جغرافية العالم العربي والاسلامي برغم تعدد الدول والإمارات والسلطنات التي تمتع كل منها بشرعية دينية مفصلة على مقاصه وكانت نتاج خلط الدين بالسياسة الذي هدفه الاول والاخير كان "إخضاع العامة" ودحر الخصوم. تطورت انماط واساليب الحكم في تاريخ البشر في القرون الاخيرة، وبهتت ثم زالت الحدود والفواصل بين "اهل الشوكة" و"العامة والدهماء"، ولم يعد هناك حاجة لشرعية دينية فوقية يتستر بها "اهل الشوكة" لتسويغ تحكمهم في "العامة". تطورت نظريات السياسة والحكم وإرادة وإدارة الشعب والعقد الاجتماعي والمشاركة السياسية والديموقراطية التي تقوم في مجملها على إنتاج انواع جديدة من الشرعيات السياسية والشعبية والإنتخابية التي تعبر عن إرادة المجموع العام، وتُبقي تلك الإرادة الأداة الاولى والأهم في مراقبة السياسة والسياسيين. الدفاع عن خلط الدين بالسياسة يعني استدعاء زمن القرون الوسطى، ومنح السياسة والسياسيين كل الفرص لتوظيف الدين لمصالحهم بعيدا عن المحاسبة والمراقبة والشفافية.