فرويد وميثولوجيا الحرب والتلذذ بالدمار (٢ من ٢)


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5582 - 2017 / 7 / 16 - 09:54
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     


تستكمل هذه المقاربة التأمل في بعض تمظهرات التحليلات الفرويدية وغيرها، والمتمحورة حول جوهر فكرة التلذذ بالدمار والموت الجماعي والنزعات العنفية عند البشر. وقد مثلت الحرب وما زالت التجسد الاكثر حضورا ودموية لتلك النزعات مجتمعة بكونها تجذب إليها "القطيع" على نحو فريد، في تبعية يكون العماء الجماعي ديدنها الاساس. في مناخات الحرب وتنامي العدوات العميقة وتفاقهما سرعان ما تتطور ميول وممارسات توحشية نحو الآخر تعمل في مجموعها على تحقيره ونزع انسانيته والصاق كل الاوصاف الممكنة به. وهذه الممارسة، اي نزع الانسنة dehumanizing عن الخصم، هي واحدة من أبرز الممارسات والدعاوى التي يتم اطلاقها وتشغيلها قبل الحرب وخلالها وربما بعدها ايضا، او في اي مناخات استعدائية عموماً. وتتأسس هذه الممارسة على تصوير الآخر بكونه ناقص انسانياً ولا يتصف بالصفات البشرية الكاملة (التي طبعاً ينتحلها لنفسه وجماعته من يقوم بتوجيه الإتهام)، ويحتل هذا التوصيف المتكرر والذي يُعاد انتاجه اعلاميا ودعاوياً قلب البروباغاندا ضد الاخر. في التاريخ الحربي الحديث، وتحديدا في الحربين العالميتين الإثنتين، بلغت هذه الممارسة ذروتها بين الاطراف المتحاربة. آلة الدعاية النازية الهتلرية استمرت على مدار اكثر من عقدين وهي تصور اليهود بكونهم اقل مرتبة من البشر، وبأنهم اقرب إلى الحيوانية، وانهم فئران، ونسبت إليهم كل الصفات السيئة الممكنة (وهي للمفارقة نفس الصفات التي نسبها اليهود انفسهم إلى العرب والفلسطينين في وقت لاحق). وأنشأت تلك الدعاية المتواصلة مناخاً عدائيا ضد اليهود يحتقرهم إلى درجات قصوى. وبعد التأسيس لمثل هذا المناخ المعادي ضد جنس معين او شعب او طائفة او مجموعة يصبح بالإمكان اعتماد اقصى انواع السياسة والحرب والتوحش ضدهم، ومن دون الخشية من اية معارضة داخلية او شعبية. فالرأي العام الداخلي والشعبوي يكون قد تمت قولبته تماماً ضمن الخطاب الرسمي الحربي الذي يشيطن الآخر وينزع عنه السمة البشرية. لهذا واعتماداً على المناخ المعادي والعميق ضد اليهود في المانيا والنمسا بل ومع معظم ارجاء اوروبا اطلق هتلر ماكينة الهولوكوست الاجرامية، والشيء المُدهش انها لم تواجه اي معارضة المانية تذكر، إن لم نقل اوروبية ايضاً. وفي عقود لاحقة انبرت دراسات علمية عديدة لتحاول فك اللغز الكبير حول "قبول" الألمان كشعب بل و"تواطؤ" الاوروبيين عموماً وعدم قيامهم برفض المحرقة والوقوف ضدها خلال سنوات اشتغالها. جانب من الإجابة ارتبط بمسألة شيطنة الآخر ونزع انسانيته وتهيئة الظروف لتنفيذ اقسى وابشع انوع السياسات والاعتداءات ضده.
في نفس اجواء الحربين العالميتين انخرطت ماكينة الاعلام الامريكي في تصوير اليابانيين على انهم جنس متوحش، وانتشرت رسوم كاريكاتير تصورهم كمصاصي دماء اطفال، لا يخرجون إلا في الليل ليقوموا بجرائم القتل ومص الدماء. وتفاقم ذلك التصوير بشكل هائل ومتسارع بعد الهجوم الياباني المباغت على بيرل هاربر في اواخر عام 1941، والذي سرع في دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء. المهم هنا والذي له علاقة وثيقة بشيطنة الآخر قبل إحلال الدمار الكلاني فيه هو ان البروباغاندا الامريكية والغربية عموماً في تصوير اليابانيين كجنس متوحش وبعيد عن البشر هو الذي مهد الارض والمزاج العام في الولايات المتحدة واوروبا لقرار إلقاء القنبلتين الذريتين على مدن هيروشيما وناغازاكي بعد ذلك بثلاث سنوات. كان من الصعب القيام بهذا الفعل الإبادي المُذهل وحرق مئات الالوف من البشر في دقائق لو لم تكن هناك شيطنة مسبقة لهؤلاء البشر وإزاحتهم إلى تعريفات اخرى، مثل "جنس متوحش" او ما يقاربه.
في حقبة الحرب الباردة اشتغل الاعلام الغربي بكل انواعه واذرعه وخاصة السينمائي منه على شيطنة الإتحاد السوفياتي والسوفيات واحتل هؤلاء موقع الصدارة في صف "الاشرار". ولم تكن تلك الشيطنة بعيدة عن اختها سيئة الذكر التي مهدت للقنبلة النووية الاولى في تاريخ الإنسانية. كما لم يكن الاتحاد السوفياتي ولا السوفييت انفسهم اكثر براءة في هذا المجال او اقل استخداماً لنفس الادوات التي تشيطن الآخر، فتم تصوير الولايات المتحدة والامريكيين بكونهم مصاصي دماء العالم بأسره عن طريق رأسماليتهم. في كلتا الحالين كان الهدف هو بناء المناخ والظرف والرأي العام المُتقبل لأقسى رد عسكري ممكن ضد الآخر المُشيطن، حتى لو تضمن الرد هذه المرة الهجوم بالقنابل الهيدروجينية التي تبلغ قوتها عشرات قوة القنبلة الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي. وفي اكثر من لحظة بالغة السخونة خلال الحرب الباردة وقف العالم بأسره على حافة الإنهيار والدمار المتبادلوالكلي، وما زال لليوم مرهوناً بمزاج او جنون هذا القائد او تلك السياسة. الترسانة النووية المنثورة في عالم اليوم، من امريكا وروسيا واوروبا، إلى الهند وباكستان واسرائيل وكوريا الشمالية بإمكانها تدمير كوكب الارض بمن عليه عشرات المرات. من يضمن عدم بروز قائد مهووس بالقوة العصابية يسيطر على قرار استخدام هذا السلاح، ويكون مدفوعابيقينيات متعصبة في هذا الإتجاه او ذاك، ومريضا بالتلذذ في رؤية او إحلال الفناء في هذا العالم؟امتلاك القوة العسكرية التقليدية وبأقل من القوة النووية بعشرات المستويات قادت عشرات القادة والسياسيين إلى جنون العظمة مقادين بمظنة إمكانية سيطرتهم على بلدان مجاورة وشن حروب وتحويل بلدانهم، التي دمرونها في نهاية المطاف، إلى قوى عظمى.
لتبرير النزعات الحربية والعنفية والحفاظ على جهوزيتها العالية لا بد دوماً من وجود عدو خارجي، او تخليقه إن لم يوجد. عالمياً وبعد انتهاء الحرب الباردة وجدت القوة العسكرية الغربية ذاتها عاطلة عن العمل ومُهددة بالتفكك جراء سقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته وبالتالي انتفاء سبب وجوده القوة. لذلك سرعان ما تم ترشيح "اعداء وجوديين" جدد تستخدمهم تلك القوة وسياسيوها لتبرير الوجود، منهم الصين وما تم تسميته وتسويقه ب"الإرهاب الاسلامي". وفي ما خص هذا الاخير أعيد تعرفة كل ما له علاقة بالإسلام و"الجهاد" وخلط من هو شرير فعلا من المسلمين مع ما هو خير، واخضع ذلك كله في ماكينة الإعلام والمبالغة والتضخيم على مدار اربعة عقود على اقل تقدير، انتهت إلى ما نشهده حالياً من تصوير "المارد الإسلامي" المتربص بالغرب والحضارة الغربية. "المجاهدون" الذين صنعتهم الولايات المتحدة في افغانستان ليساندوها في حربها ضد السوفييت، وانتجوا لاحقاً القاعدة وكل الشرور التي تبعتها، تحولوا إلى "تهديد وجودي" يبرر القيام بكل الحروب. ونسجاً على منوال الشيطنات السابقة تمت شيطنة المسلمين والعرب شرقاً وغربا وتهيئة المناخ لإطلاق الحروب ضدهم، بدءا من افغانستان ووصولا إلى العراق. وكما يرصد جاك شاهين في كتابه المبدع Reel Bad Arabs والذي رصد فيه اكثر من الف فيلم سينمائي اُنتجت في هوليوود وكانت فيها صورة العربي والمسلم شريرة وبالغة السوء، فإن ذلك الترسيم والتعميق لصورة "الآخر الوحش" هو ما كانت قد قامت به النازية ضد اليهود لتهئية سياسات الحرب والإبادة ضدهم، وتهيئة تقبلها. لذلك وبعد عقود طويلة من شيطنة العربي والمسلم في العقل الجمعي الغربي اصبح هذا العقل ورأيه العام مهيئاً ومستعدا لقبول اي حرب تطلق على هؤلاء "المتوحشين" ولقبول اية سياسات غير انسانية ضدهم. شيطنة الآخر والتلذذ بإحتقاره هي جزء من تلك النزعة الفرويدية المتغلغلة في لاوعي البشر، وهي المرحلة الممهدة للإنخراط في التلذذ بتدميرهم ومراقبة ابادتهم. ما رصده فرويد في اوائل القرن العشرين واشير له في الجزء الاول من هذه المقاربة لم يستطع نفيه حتى منظرو السلام العالمي والناقمين على الحرب مثل كانت وروسو. دمار العالم وبلدانه وشعوبه وازدهاره مرهون بمدى انفلات هذه النزعات الفرويدية عند قادتهم او لجمها.