إبراهيم نصر الله ونص الدم: -الحرب هي قلم التاريخ-


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 5826 - 2018 / 3 / 25 - 08:20
المحور: الادب والفن     


تَحاربَ البشرُ منذ فجر البشرية لأنهم مختلفين. صارت الحربُ قلمَ التاريخ الذي كتبَ بدماء البشر فصول مسيرتهم وخلط فيها الغموض مع البؤس والشقاء والدهشة والإنجاز. وراء اقعنة مسوغات الحروب بتنوعاتها قبعت مصالح ومطامع ورغبات وشهوات وتوسعات، لكن ظل زعم "الإختلاف" يتلبس تلك المسوغات، نقاتل بعضنا بعضا لأننا مختلفون. ماذا إذن لو لم نعدْ مختلفين، لو تشابهنا تماماً، لو صرنا اشباه لبعضنا البعض، لو صرنا نُسخاً متماثلة (حتى لو كانت مملة) فلا يختلف احدنا عن الاخر، ولا شعبا عن الآخر، هل تختفي عندها الصراعات والحروب والأحقاد؟
قد نقول ان المكان الملائم لهذا السؤال التأملي الصعب هو سجالات الفلسفة لا غير. بيد أن إبراهيم نصر الله يفاجئنا بمغامرة الإبحار في متاهة كبرى كهذه، ويبعثر ذلك الجانب الآمن المتكاذب من افتراضات البشر، الزاعم بأن لو لم نكن مختلفين لكنا اكثر سلاماً وأمنا. في تحفة روائية وتجريبية وفانتازية تكاد تكون مختلفة تماماً عن كل مسيرته الكتابية السابقة يقودنا الروائي الاردنيالفلسطيني إبراهيم نصر الله في نص "حرب الكلب الثانية" (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016) إلى رحلة فلسفية عميقة تلج إلى المستقبل القريب مُرحلاً إليه بعضا من حاضرنا البائس، ومُقحماً فيه بعضا آخر من مستقبل متشظٍ لا يقل بؤساً عن الحاضر رغم تبجح ذاك المستقبل بتكنولوجيته وغرائبيته. في الزمنين، ماضي الرواية (حاضرنا) ومستقبلها، ليس ثمة إلا الحروب التافهة تخط اقدار الناس، جماعات وافرادا وحكومات. في الماضي اندلعت حرب اهلية هائلة، "حرب الكلب الأولى"، وانتشر دمارها وطال كل شيء وكل فرد وكل حلم. سببها كان تافها مثل اسباب كل الحروب التافهة، خلاف على سلوك كلب. طالت الحرب سنوات طوال ولم يبق اخضر تأكله ولا يابس تتركه.
حلل المتأملون تلك الحرب واستنتجوا ان الجذر الحقيقي لها ولكل الحروب هو ان الناس مختلفون، وان ثمة رغبة دفينة تدفع كل منهم، وكل مجتمع، وكل طائفة، وكل حضارة، وكل حزب، وكل دين، إلى محاولة جر الآخرين نحوه لكي يصير اولئك الآخرون اقرب إلى صورته. الخدعة الكبرى في هذه الرغبة الدفينة المُلتبسة تقول للجميع ما يلي: لو اننا تخلصنا من الإختلاف وصرنا متشابهين لما قامت الصراعات والحروب بيننا. لكن على السطح ظل عار الحرب يصم الجميع لأن سببها كان تافها وكلبياً. اصدرت "القلعة"، الدولة، قرارا بمحو الماضي والذاكرة حتى ينسى الناس تلك الحرب ويتخلصوا من الخجل والعار الذي لحق بهم. يلتقي ابراهيم نصر الله في استخدامه تقنية قرار السلطة بإلغاء الذاكرة والماضي مع الروائي البريطاني كازوو اشيغورو الحائز على جائزة نوبل للآداب السنة الماضية، 2017، في روايته الفانتازية المُبدعة "العملاق المدفون" The Burried Giant والتي صدرت في نفس سنة صدور رواية نصر الله، وفيها لطخت الحروب عقول الجماعات المتصارعة في العصور السحيقة في الجغرافية التي صارت تُعرف لاحقا ببريطانيا. ذائقة وبراعة وصنعة نصر الله الروائية في نصه الفانتازي لا تقل في مستواها عن النصوص التي تفوز بأرقى الجوائز ـ وهي التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية للرواية هذا العام.
طُويت حرب "الماضي" وفرضت "القلعة" انظمة صارمة على ناس "المستقبل". في هذا "المستقبل" نتابع سيرة اهم شخوص الرواية وقد تسلل من "الماضي" حين كان مناضلاً صلباً لم يسقط او يعترف امام هول التعذيب وصنوفه. في "المستقبل" يتصاهر المناضل السابق مع احد ضباط "القلعة" ويتشكك اصلاً ذلك الضابط وبقية القيادة في "القلعة" من رغبة المناضل السابق الذي توقف اساسا عن النضال في مصاهرة من تفننوا في تعذيبه سابقاً. ظل صموده السابق يعري ساسة "القلعة" ويعلي من كعبه الاخلاقي المنصرم، بيد ان تشفياً داخلياً ظل يتنامى في دوائر "القلعة" وهم يراقبوان المناضل السابق وهو يقترب من سفالاتهم شيئاً فشيئاً ويصير شبيها لهم. الشبيه الجديد يقع في حب سكرتيرته فائقة الجمال والتي تناظر جمال زوجته فيقرر ان يحول العشيقة على صورة الزوجة كي يتستر على علاقته بها فلا احد يشك به او بها عندما يكونان معاً. "تقنيات" تحويل أي فرد إلى شبيه تُصبح متاحة امام الجميع، إذ ما عليك سوى جلب صورة لمن تريد ان تكون شبيها له، او شبيهةً لها، والذهاب إلى عيادات متخصصة تطورت طبيعيا عن عيادات التجميل التي كانت في "الماضي"، وهناك يعيدون تشكيلك وفق الصورة التي تريد. وللمزيد من التطور والتعقيد فإن تلك العيادات تستطيع ايضا ان تجعلك صورة مطابقة للأصل في الصوت والمزاج وبقية الصفات إن استطعت توفير ما له علاقة ب DNA الاصل كالشعر او اللعاب او غيره.
وهكذا لم تمض سوى فترة قصيرة حتى طفقت في البلاد موضة "الشبيه" و"الشبيهة": افراد يريدون ان تتحول صورهم إلى اشباه لفنانين او فنانات او مشاهير اوممثلين او ممثلات كبار، او نجوم او غير نجوم. وافراد آخرون تمكنوا من ان يصيروا اشباه لضباط ومسؤولين كبار من قيادات "القلعة"، وسائقو تكسي تمكنوا من التحول إلى اشباه لرجالات من الطبقة العليا في المجتمع، وهكذا. المناضل السابق كان في مركز هذه الفوضى، متنقلا بين زوجته "الاصل" وعشيقته "الصورة" وبينهما الضابط شقيق زوجته الذي اشتاط غضباً عندما ادرك الخدعة الماكرة التي استخدمها المناضل لخيانة شقيقته. لكن الضابط نفسه ذا العلاقات النسائية العديدة اكتشف ايضا انه في اوقات غزواته الغرامية تلك، كان ثمة شبيها له يزور بيته ويخدع زوجته التي كانت تظنه زوجها. المناضل السابق الذي كان يسبق الجميع بخطوات في ذكائه وقع ضحية التشابه ايضاً، ذلك ان جارا له اصبح يشبهه ايضا فطار صوابه خشية ان تختلط الامور على زوجته اثناء غيابه وتظنه زوجها. دبت الفوضى في البلد وما عاد يُعرف من هون الاصل ومن هون الشبيه، وانتشر القتل مع تلك الفوضى، قتل في كل الاتجاهات. كل اصل يريد ان يقتل شبيهه حتى لا يتمثله ويستولي على منصبه وزوجته وحتى اولاده، وكل شبيه طامع في منصب او ثروة او زوجة الاصل يريد قتل الاصل والتخلص منه للتنعم بكل ما سوف يسطو عليه. بلغت الفوضى ذروتها عندما ظهر شبيه للقائد الاعلى في البلاد فخشي الجميع ان يتمكن ذلك الشبيه من اغتيال الاصل والحلول مكانه وخداع الجميع. انتفض القائد نفسه واحس بخطر شديد وتمكن من الإجهاز على شبيهه، او على الاقل هذا ما اراد الجميع الإقتناع به!
عندما صار الجميع يشبهون بعضهم البعض وتفاقم القتل اندلعت "حرب الكلب الثانية" واسبابها اكثر تفاهة من اسباب الحرب الاولى. واذا كان المحللون قد وضعوا اصبعم على الإختلاف بين الافراد كجذر للحرب الاولى، فإن اولئك المحللين او من حل في مكانهم، او صار شبيها لهم، وضعوا اصبعهم الشبيه على جذر الحرب الثانية بكونه التشابه التام بين الافراد. في الحرب الاولى كان التخلص من الاختلاف والأمل بالتشابه هو المخرج من طور الحرب، وفي الحرب الثانية صار التخلص من التشابه هو المخرج والوصول إلى الإختلاف هو الفضيلة الناقصة التي يفتقدها الجميع!
حول هذه الثيمة المركزية برع نصر الله في نسج خيال باذخ يغذيه الميول والكتابات السينمائية التي عُرف بها واغنت وتغني كتابته ونصوصه، وحولها ايضا يدير حكايات اساسية وفرعية عديدة ترتكز على ترميز كثيف لأمكنة الرواية وازمنتها. الضابط والمناضل السابق ومن هو اعلى منهما يعملون ويستثمرون اموالهم في سيارات الاسعاف والمستشفيات التي تمص دماء الناس والمرضى وتدور بهم من مشفى لآخر في مطاردة واهمة ل "الأمل". سيارات الاسعاف والمستشفيات تصبح ادوات القتل، في مناخ يفيض بالعفونة. القلعة وضباطها واشباهها من قدامى المناضلين انهمكوا في رأسمالية صناعة وتدوير "الأمل" الكاذب، وفي خضم انشغالهم ذاك كانت صناعة "الشبيهين" تهيء المناخ للحرب، وحبال موتها تطال اعناق الجميع.