أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - من رسائل عبد السلام عارف الى عبد الكريم قاسم















المزيد.....


من رسائل عبد السلام عارف الى عبد الكريم قاسم


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 1822 - 2007 / 2 / 10 - 11:23
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


من وثائق الجمهورية الأولى ، تموز 1958- شباط 1963 ، ( 1-2)
   من رسائل عبد السلام عارف الى عبد الكريم قاسم
لقد واظبت الحكومات (القومية) التي اعقبت الجمهورية الاولى ( تموز 1958- شباط 1963)، على فلب الحقائق وتزوير الوقائع وتجريدها من تاريخيتها ومضمونها الحقيقيين، لا بل حتى اختلاق الكثير منها، وخاصة ما يتعلق بماهية القوى الدافعة والرافعة لتطوير العملية السياسية والاجتماعية وتهيئة وانضاج ظروف التغيير الضروري، في الوعي الاجتماعي وتجلياته السياسية، أو تلك القوى وماهياتها التي انجزت مادياً التغيير الجذري الكبير يوم 14 تموز وبالتحديد في شخص قائدها.. وذلك لاسباب ذاتوية/ حزبية ضيقة جدا تخلو من الموضوعية وبعيدة عن المنطقية العلمية، عديدة تصب احدى جوانبها في التشويه المقصود لسمعة مؤسس الجمهورية عبد الكريم قاسم. وذلك لكونه قد اصبح في مركز الوعي الاجتماعي العرافي في تجلياته السياسية والجمالية وحتى الفلسفية منها، ولما لعبه من دور الوسيط الحيوي بين المكونات الاجتماعية لظروف عراق تلك المرحلة، كما أمسى معياراً يقاس به مدى أهلية وصلاحية الحكام، ليس للذين خلفوه حسب، بل حتى للذين سبقوه. إذ " ظلت ذاكرة عهد عبد الكريم قاسم مثيرة للاهتمام أكثر من غيرها وطيبة في أذهان كثيرين. بل أن قاسم ظل يضيق على كل الحكام اللاحقين بسبب ادمان الشعب على مقارنتهم به [1] " . هذا المعيار القيمي لم يكن نتاج قرار سلطوي قدر ما هو ادراك مادي لكم كبير من الفئات الاجتماعية، المتعددة الانتماءات السياسية والمذهبية والقومية والدينية. بمعنى آخر من فئات تمثل جملة اطياف المجتمع العراقي المتعدد الالوان.
ان هذا الادراك الواعي مستنبط بدوره ليس من الذات وعبادة الفرد المفروضة، ولا من فلك الصناعة الاعلامية، ولا من تلك القرارات الادارية الفوقية لقوى التسلط الفكري، ولا من مجاميع قوى الضغط التقليدية أو الحديثة.. قدر كونه مستنبطة من سياقات الصيرورات الاجتماعية التي بنت أسسها وحققتها ثورة 14 تموز، وما قامت به من انجازات على كافة الاصعدة الاجتصادية والسياسية والجمالية والثقافية، والتي جميعها قد مهدت التربة للتحولات اللاحقة وفتحت تاريخا جديدا للعراق المعاصر.. ومن كون قاسم قد أدرك الضرورة التاريخية لعملية التغييرالاجتماعي ونضج ظروفها الموضوعية. لذا سعى إلى التعاون شبه المرئي مع القوى الاجتماعية الحية التي كانت تسعى لتغيير واقع العلاقات الاجتماعية السائدة والارتقاء بها، والتي ضمتها آنذاك جبهة الاتحاد الوطني وبالأخص تلك القوى التي تنطلق من أولوية عراقيتها ومن واقع تعددية تكويناته الاقتصادية/ الاجتماعية والأثنية والدينية. 
 لقد سبق للرئيس العراقي السابق عبد السلام عارف ان نشر في مذكراته[2] بعض الوقائع الخاصة أثناء مكوثه في السجن والتي هي فقيرة جداً بالمضمون والشكل؛ بالموضوعية والوقائع؛ ومفعمة بمدح الذات والتجني على الأخرين. هذه المذكرات " غير مرضية إلى حد بعيد، وهي قبل كل شيء، بخيلة بالوقائع كما انها تحتوي على غموض وتفتقر إلى الدقة بين الحين والأخر. ومن ناحية أخرى، تتألف هذه الرواية من خليط من الروايات غير المتمايزة بعضها أملاها عارف نفسه وبعضها الأخر أخذه المحرر من اوراق عارف الشخصية وتلاحظ فيها اللمسة الصحافية بدرجة أو بأخرى. ولملء الثغرات، تم ربط الأمور في ما بينها من خلال مصادر أخرى. هناك ميل لا يمكن أن يخفي لإبراز دور عبد السلام عارف والتقليل من دور عبد الكريم قاسم وبقية أعضاء الحركة ضمناً [3] "، وهو بذلك يناقض العديد من تصريحاته السابقة سواءً أثناء محاكمته أو قبلها أو كما جاء في وصيته التي كتبها ليلة 13/14 تموز 1958.[4]
 ومما يثير انتباه الباحث الجاد إلى ان هذه ( المذكرات) قد خلت من منعطفات حاسمة من تاريخ الموما إليه والتي لعبت دورا مهماً في حياته، وهي في الوقت نفسه تكشف عن الماهيات الحقيقة لطبيعته السيكولوجية والثقافية. وواحدة من تلك المحطات كانت علاقته بالزعيم قاسم في تجليات التقاطع أو الاتفاق والعلاقة المتبادلة بينهما رغم الحكم عليه من قبل المحكمة العسكرية ومنها تلك المراسلات التي دبجها عارف عندما كان في السجن إلى قاسم، والتي وجدت في مكتب الأخير بعد 8 شباط 1963و بلغ عددها في حدود 6 رسائل ( وقيل 8). فقد " اتيح لي، مثل المئات من الناس أن أطلع على نسخ طبق الأصل من رسائله إلى قاسم – حيث كان ( القاسميون ) يوزعونها بمئات النسخ في عهد تولي عبد السلام لرئاسة الدولة . وهي مرجع لا يرقى إليه الشك لمن يريد خدمة الحقيقة  [5]".
 وقد أكد هذه الواقعة، في مذكراته المنشورة، جاسم العزاوي سكرتير الزعيم قاسم، وعضو اللجنة القومية للضباط الاحرار التي تشكلت للاطاحة بحكومة ثورة 14 تموز، على صحة هذه الرسائل التي كتبت من قبل عارف حيث يقول:
 " يوم كان يرسل رسائل عنه, وكانت تلك الرسائل تقدم بواسطة آمر الانضباط العقيد كريم الجدة وقد اطلعت على بعضها اذ دفع عبد الكريم لي بعضها للاطلاع عليها وردها له.
لقد وجد هذه الرسائل المقدم الركن محمد يوسف طه عندما سيطر على وزارة الدفاع صباح يوم (8 شباط 1963) كانت كلها استعطاف لاطلاق سراحه للاشراف على تربية أولاده، وهو يعد بعدم القيام بأي شبء يعكر صفو عبد الكريم قاسم وكان يستحلفه بالأخوة التي بينهما. ووقف الموقف نفسه في أثناء محاكمته وهتف عاليا بحياة الزعيم الأوحد عند النطق باعدامه. لقد كان رايي واضحا بعبد السلام، قبل الثورة وبعدها، فقد حدثت لي مشادة كلامية معه في بيت صبحي عبد الحميد لأبدائه اقتراحات وآراء عنصرية وطائفية اعتدائية، هذا، وقد اطلعت على آخر رسالة منه في تشرين الثاني عام 1961 جاء فيها:
" سيدي وقائدي وأخي عبد الزعيم عبد الكريم.. انني منك كهارون من موسى، لقد طال انتظار عطفك علي ورأفتك بي.. أن اطفالي ينتظروني..." . وبعد ذلك اطلق سراحه مباشرة في 25 تشرين الثاني 1961 ... [6] ". ( التوكيد منا- ع.ن.) بعدها " في عام 1962- في عهد عبد الكريم قاسم – حصل على دار زيونة، المشيدة من قبل جمعية بناء المساكن للضباط، ولم يسكن هذه الدار، بل عرضها للايجار ... [7]".
كما اشار إلى هذه الرسائل الوزير السابق إسماعيل العارف في مذكراته وتطرق إليها بالقول:
" كان عبد السلام عارف يتوقع ان يقوم اعوانه من الضباط بانقلاب لانقاذه. الا انه بعد مضي مدة طويلة وهو في السجن يئس من ذلك فبدأ يكتب الرسائل الواحدة تلو الاخرى الى الزعيم عبد الكريم قاسم متوسلا اليه لاطلاق سراحه والعفو عنه وحاول ان يضرب عن الطعام مرات عديدة الا ان محاولاته فشلت وايقن ان الرسائل التي يكتبها لا تصل الى يد عبد الكريم قاسم. فاغرى ذات يوم احد حراس السجن بالمال لكي يوصل رسالة الى عبد الكريم قاسم فاخذها الحارس منه وسلمها كالعادة الى آمر الانضباط العسكري في اوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 1961. وعندما جئت الى وزراة الدفاع في ذلك اليوم مررت على آمر الانضباط لاشرب قدحا من القهوة العربية الجيدة عنده فاطلعني على الرسالة وقد استهلها عبد السلام  ب " سيدي وقائدي واخي الزعيم عبد الكريم .. انني منك كهارون من موسى.. لقد طال انتظار عطفك علي ورأفتك بي ..الخ " فعلق آمر الانضباط قائلاً : انظر الى هذا المحتال . انه ما دام في السجن يبدي الاستعطاف ويسأل الرحمة ولكنه حالما يصبح طليقا يبدأ في التأمر . سوف لا اعطي الرسالة الى الزعيم عبد الكريم . الا اني نصحته بتقديمها له ما دامت موجهة له وفيها ذلك الاستعطاف. فعرضها آمر الانضباط على عبد الكريم قاسم في نفس اليوم بينما كنت حاضرا، وبعد ان قرأها عبد الكريم سلمني اياها وقال لي (اقرأها). فقرأتها ثانية وقلت له: " الافضل الا تخلق منه بطلاً ومحورا تدور حوله المؤامرات ضدك فأما ان تنفذ فيه الحكم او ان تطلق سراحه وتبقيه في بيته فلم يعد له الآن من حول او قوة ". وفي 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1961 اصدر عبد الكريم قاسم قراره بالعفو عنه فاطلق سراحه من السجن وجيء به الى مقر عبد الكريم قاسم في وزراة الدفاع. وبينما كانا سوية اتصل بي الزعيم عبد الكريم قاسم هاتفيا وطلب مني الحضور فحضرت وفي غرفته وجدت عبد السلام عارف جالساً يتحدث معه. فتاصفحنا وقلت له: " ارجو ان تكون هذه بادرة حميدة لتعود الامور الى طبيعتها ويعمل الجميع لخدمة هذه الجمهورية الفتية ".  لقد اعطاه عبد الكريم قاسم حقوقه بعد ان اطلق سراحه واعاد له جميع رواتبه الموقوفة وذات يوم قال لي عبد الكريم قاسم " اتعلم ماذا يريد عبد السلام بعد ان اطلقنا سراحه؟ انه يريد ان نحسب رواتبه على اساس راتب نائب رئيس الوزراء وليس راتب العقيد. ان هذا الرجل ينظر الى المادة دائما قبل ان يفكر بالمصلحة العامة  [8] ".
في الوقت نفسه أكد عضو اللجنة القومية العليا للضباط الاحرار، المذكورة اعلاه الوزير السابق صبحي عبد الحميد في مذكراته، على هذه الرسائل بالقول :
 " ومما يؤخذ على عبد السلام أنه خلال وجوده في السجن ارسل ست رسائل إلى عبد الكريم قاسم يطالبه باطلاق سراحه، وكان عبد الكريم يقرؤها على زبانيته ( ؟!- ع.ن) فيسخرون منها، ولقد عثر المقدم محمد يوسف طه على صور هذه الرسائل في درج مكتب عبد الكريم بعد ثورة (14 رمضان) فاطلعت عليها ونصحت محمد يوسف أن يسلمها إلى عبد السلام الذي اصبح رئيساً للجمهورية [9]  ".
 
أما عارف فأنه يسرد هذه الوقائع بصورة مغايرة جداً . وهذا المنهج يمثل مكون اساسي من نظرته  اللا واقعية للاحداث ويصورها بما يتلائم وسيكولوجيته ، والتي  تكشف مكنونات ذاته الفكرية والفلسفية والمفردات الأنوية وإزجاء المديح لنفسه و المشبعة بالثأرية وبالحقد الدفين والتهكم على خصومه وبالتبجح الكاذب الذي يدحضه الواقع من الضفة الأخرى ، بقصد أن يفسح لذاته مكاناً ، حتى لو كان وهمياً، في التاريخ. يرسم عارف واحدة من هذه الوقائع بصورة مشوه إذ يقول فيها :
" وفي احدى الامسيات.. وأطل عليَّ قاسم برأسه وانا داخل زنزانتي، نظرت اليه بعينين ثابتتين فاذا به يحول وجهه.. فلم ابادله حرفا واحدا واتجهت الى النافذة التي تقع في أعلى الزنزانة والمصحف في يدي..
ووقف قاسم على باب الزنزانة وهو يسألني:
( هل تريد ابلاغ شيء لاهلك ... هل لك توصية لهم..)
فقلت له
" ليس منك التوصية .. الله عز وجل يرعاهم"
فالتفت قاسم الى الحراس وقال لهم :
" احلقوا له شعره..الاعدام غدا [10]   " .
 
 لكن وقائع تاريخية الحياة السياسية والمكونات السيكولوجية الذاتية[11] لقاسم وعلاقاته بأصدقاءه تدحض هذا الادعاء.. إذ اطلق سراحه بعفو عام نشر في حينه. وكانت زوجته تزوره مع أولادها في السجن ولم ينقطع عنه راتبه الشهري الذي كان يتقاضاه قبل إعتقاله. ولاجل تشويه هذه الوقائع التي تدين سلوكيته  ينفرد عارف بالقول:
" وأخيرا قرر الافراج عني والاجتماع بي، وحاول بكل الوسائل ان اويده او اسير معه، ولكني قلت له بصراحة، انني لن اتعاون معه، وانني لا اوافقه على كثير من القضايا الطلابية والشعبية والنقابات، وقلت له انني لن اقابلك بعد الان، خاصة وانه حاول استغلال مقابلاتي معه.. ثم سمح لي عبد الكريم قاسم بالسفر الى مكة لقضاء فريضة الحج...  [12] ".
لقد وصفت مجلة الاسبوع العربي القومية التوجه في بيروت، اطلاق سراح عارف بشكل مغاير لما ذكره عارف. إذ نشرت في تشرين الثاني عام1961تحقيقاً صحفيا ًبعنوان: عبد الكريم ، هكذا اخرج عارف من زنزانته. يقول :
 " في 24/11/ 1961 وفي الساعة الحادية عشر مساءً توجه اللواء الركن عبد الكريم قاسم إلى سجن معسكر الرشيد وطلب إحضار عبد السلام عارف وأمسك بيد عارف وأركبه سيارته الخاصة، ثم توجها نحو ( قناة الجيش) ودامت النزهة أكثر من ساعتين ، ثم عادا إلى وزارة الدفاع وجلسا يتحدثان إلى الساعة الرابعة صباحاً، ثم غادرا نحو الأعظمية إلى دار عارف ، وطرق أحد المرافقين باب منزل عارف وخرجت إحدى قريباته فانذهلت ثم صرخت بالمنزل أن عارفاً مع اللواء قاسم قد جاءنا!
ثم خرجت زوجة عارف وأطفالها وتعانقا بعد فراق دام ثلاث سنوات ، وانهمرت الدموع وقالت زوجة عارف بالحرف الواحد: شكراً لله الذي أعاد لنا الأخوين ثانية.
قبّل وجنات أطفال عارف السبعة ثم توجه نحو مقره ، وقد اعترف عارف في منزله : يعلم الجميع أن هناك اتصال روحي بيني وبين أخي الأكبر الزعيم عبد الكريم قاسم يفوق الوصف وسيبقى إلى الأبد [13]  ".
 ويشير الباحث اوريل دان في أطروحته لنيل الدكتوراه، إلى أن  " العفو الأشد إثارة هو الافراج عن عبد السلام عارف في 25من تشرين الثاني 1961. نقل من السجن إلى قاسم الذي هب لمعانقته والاحتفاء به ومن ثم رافقه إلى منزله واعاده إلى الجيش لكن لا إلى الخدمة الفعلية فيه. وسجل عارف أمتنانه وحبه الأخوي في مقابلة صحفية له ثاني يوم [14] "، نشرتها جريدة الاخبار في 26 من تشرين الثاني وجريدة التقدم في 27 منه عام 1961.
في الوقت نفسه يكذب الصحفي المعروف آنذاك يونس الطائي هذا الإدعاء في سياق حديثه عن الوساطة بين انقلابي شباط 1963 والزعيم قاسم. وينقل د. علي كريم سعيد رأي الطائي بالقول: أنه قابل عارف الذي كان بمعية حازم جواد  وطالب شبيب وقال له "... إن ايقاف القتال سينقذ خمسمائة شخص على الأقل. رد عارف: يروحوا ألف شخص. واستدرك: ان قاسم سيخرج بعد فترة ومن أجل خاطرك سوف لا نعتدي عليه. قلت لعبد السلام : طلبت مني بعرفات  وأنا وعدتك أن أتوسط بينك وبين قاسم لتصفية القلوب ، فرفعت يدك أمام حشد من الناس كانوا يتفرجون داعياً إلى مساندة الثورة والزعيم ... [15]" ( التوكيد من-ع.ن) .
 إن هذا الحوار يكشف عن المدى اللا أخلاقي الذي كسى العقلية الانقلابية للعسكرتارية المنفلة والطامحة إلى السلطة بغض النظر عن الوسيلة وعن مدى الخسارة البشرية المترتبة على ذلك.. انها القراءة العنفية التي سيطرت على قادة الانقلاب الذين يستسهلون مقتل ألف روح بشرية في معركة واحدة مقارنةً بعقلية قاسم البناءة ذات البعد الاخلاقي، الذي إفتدي ذاته لاجل أن لا تزهق أرواح الأخرين حيث كان يردد أثناء الانقلاب " لا اريها حرباً أهلية!!". أنه بهذا الموقف الانساني يمثل ذلك القائد الذي يستنبط وسائل الوصول للغاية من ذات نبل غايتها.
 
 من جانب آخر حاول  عبد السلام عارف عندما كان في السجن ان يثير الانتباه إلى حالته من خلال الاضراب عن الطعام، وقد عكس هذه الحالة في مذكراته، بشيء من الاثارة الصحفية. يقول عن ذلك:  " وقررت أن اضرب عن الطعام.. لعل ذلك يجعلهم يفكرون من جديد فيما هم مقدمون عليه. بقيت يومين معلنا الصيام ... وفي اليوم الثالث جاءني آمر الانضباط العسكري عبد الكريم الجدة.. وقال وهو يطل علي من شباك زنزانتي:
-         ابو احمد .. لماذا انت مضرب عن الطعام؟
-         وصرخت فيه ( لاثبت للعالم انكم خونة ومنحرفون). ودخل الى.. واخذ يربت على كتفي وهو يقول:
-   ( لماذا لا تكتب رسالة الى الزعيم تبين له فيها رأيك واحوالك، واسلمها له بنفسي .. وقد وعد الزعيم بزيارتك واطمئنان عليك).
-         قلت له (ليس لدي مانع من اكتب اليه.. لكنني لن اتوسل.. سأكتب الحقيقة كلها)..
وفعلا كتبت لقاسم رسالة (في الحقيقة أن الرسائل التي تم العثور عليها 6 ولا ندري المتلوف منها كم؟ - ع.ن.) شرحت له فيها كل المخاطر التي تتعرض لها الثورة.. والتي ستؤدي الى انحراف بالتيار القومي الذي قامت الثورة لتأكيده.. واحتفظ قاسم بالرسالة.. لم يشأ ان يعلنها حتى لا ينفضح امره ... [16] ".
 ونحن بدورنا نحاول أن نحقق رغبة القارئ اللبيب ونساهم سوية في الوقوف على الحقيقة وذلك بنشر هذه الرسائل نزولا عند رغبة عارف ذاته أولاً، ولإجل تبيان الحقيقة ذاتها التي شُوهت في سياق الصراع الاجتماعي السياسي الذي احتد اواره بين التيارات السياسية الأرأسية بعد ثورة 14 تموز، ثانياً.
في سياق البحث عن ماهيات الفترة النيرة لمرحلة الجمهورية الأولى، استطعت الحصول على صورة طبق الأصل لبعض هذه الرسائل المستنسخة. إحدها كاملة وأخرى للصفحة الأولى فقط . كما حصلنا على صورة لمسودة رسالة، وجميعها بخط عبد السلام عارف. سنعرضها حسب تسلسل تاريخ كتابتها.[17]
 


[1] -  د. علي كريم سعيد، عراق  8 شباط 1964،من حوار المفاهيم إلى حوار الدم،  مراجعة في ذاكرة طالب شبيب،ص. 103، الكنوز الادبية، بيروت 1999.
[2] -  في الواقع لم تستكمل المذكرات ذاتها كونها مذكرات وهي اقرب الذكريات وقد دونها الصحفي المصري علي منير ونشرتها المؤسسة القومية للتألف والترجمة عام 1967 في بغداد. وق دسبق ذلك أن نشرتها مجلة روز اليوسف منذ العدد 1984 في 30/5/ 1966.
[3] - حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق ، ترجمة عفيف الرزاز،ط. 2، ص. 76، الجزء الثالث، المؤسسة الابحاث العربية ، بيروت 1999
[4] - راجع صورة الوصية في كتاب  طالب الحسن، اغتيال الحقيقة، ص،393، مكتبة اليقظة العربية بغداد ودار اور للنشر دمشق 2004.
[5] - عامر عبد الله، بمناسبة الذكرى 25 لثورة 14 تموز المجيدة، خواطر وذكريات، ص. 32،  الثقافة الجديدة ، العدد 144، تموز 1983.
[6] -  مذكرات العميد الركن المتقاعد جاسم كاظم العزاوي، ثورة 14 تموز – اسرارها، احداثها، رجالها حتى نهاية عبد الكريم قاسم، ص. 195، شركة المعرفة للنشر والتوزيع، بغداد 1990. علما أن سلطة انقلاب شباط 1963، قد ألفت لجنة من المقدم محمد يوسف طه والمقدم علي عريم وجعفر قاسم حمودي لجرد محتويات جناح الزعيم قاسم ، وقد عثرت على هذه الرسائل وغيرها التي تدين بعض اركان حكومة الانقلاب.، راجع للمزيد ، د. علي كريم سعيد ، مصدر سابق.
[7] - أحمد فوزي، عبد السلام محمد عارف، سيرته.. محاكمته.. مصرعه، ص.78، مطابع الدار العربية، بغداد 1989، دار النشر بلا.
[8]  - إسماعيل العارف، أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق، ص. 373، دار لانا لندن 1986. والشيء بالشيء يذكر أن عبد الكريم قاسم كان راتبه مقتصر على رتبته العسكرية دون سواها من المناصب : كرئيس للوزراء ، ووزير دفاع، وقائد عام للقوات المسلحة وغيرها من المناصب التي ترأسها.
[9] - صبحي عبد الحميد، أسرار  ثورة 14 تموز 1958 في العراق، ص.175،ط.2، الدار العربية للموسوعات، بيروت 1994. وعلى ضوء هذه النصيحة تم استيزاره مرتين في عهد عارف.
[10] -  مذكرات عبد السلام عارف/ ص. 87، مصدر سابق.
[11] - يشير جاسم العزاوي في مذكراته(ص. 201) إلى هذه الطبيعة بالقول : " كان المرحوم ناظم الطبقجلي أحد اقرب اصدقاء عبد الكريم قاسم وأعزهم لديه وكانت هناك صلات عائلية وتبادل الصور التذكارية. وكان عبد الكريم قاسم لا يرد طلبا لناظم الطبقجلي ويكن له احتراما وتميزا. طلب عبد الكريم قاسم مواجهة المرحوم ناظم الطبقجلي... دخل عبد الكريم قاسم على ناظم الطبقجليفي غرفة المرافق وصفي طاهر ولم يكن حاضرا معهم سوى الأخ حافظ علوان ، مرافق عبد الكريم قاسم المقرب وهو الذي روى لي ما حدث وكما يأتي:
حينما دخل عبد الكريم قاسم وقف ناظم الطبقجلي وخاطب عبد الكريم مشيرا إلى يديه المربوطتين:
" كرومي هذه هي النتيجة؟ أيرضيك هذا لي؟ فأجابه عبد الكريم :
لم أكن أنا السبب ولم تكن هذه رغبتي، وانما أنت الذي تآمرت عليّ ووضعت نفسك في هذا الموقف" ثم اردف عبد الكريم قاسم:
" شوف ناظم، إنك ارتكبت الخيانة مرتين، الأولى خنتني باشتراكك مع الشواف، والثانية كانت للشواف حينما ورطته باعلان تمرده ومن ثم تنصلت عنه ودخلت المستشفى دون علة ومن ثم ارسلت برقيتك لشجب عملية الشواف لتأييدي... شوف ناظم لا أريد لك ان ترتكب خيانة ثالثة.. أقول لك، قل الحقيقة في المحكمة بتفاصيلها وكما حدثت، أكرر قل الحقيقة كلها بتفاصيلها وما علاقةالجمهورية العربية المتحدة وأجهزة جمال عبد الناصر بتحريضكم وتقديم العون لكم وكل سيء، قل ذلك وخذ مني وعدا انك ستخرج من المحكمة إلى دارك رأسا مع اسقاط كل التعقيبات القانونية ضدك ونرجع أصدقاء غافرا لكل كل اساءتم لي..."
 وهنا سمعت صوت الطبقجلي يجهش بالبكاء عالياً يسوده الألم والأسى . وبعد لحظة صمت لم تدم طويلا أجاب المرحوم الطبقجلي :
" أنك يا كريم تطلب المستحيل , ولقد حكمت عليّ بالاعدام من الآن ". وعلى ضوء هذا الموقف فقد عاش الطبقجلي في حالة من التمزق النفسي  الذي دفعه إلى الانتحار عندما نقل إلى سجن رقم واحد في ذلك العام وقبيل تنفيذ حكم الاعدام فيه.       
[12] - احمد فوزي، ص. 32، مصدر سابق. في الوقت ذاته يشير الضابط المتقاعد حامد مصطفى مقصود في كتابه ، ثورة 14 تموز- مدارات الأخوة الأعداء الصادر في اربيل سنة2002، إلى ذات الواقعة بالقول : " أعفاه الزعيم عبد الكريم قاسم وأستقبله بمكتبه بوزارة الدفاع قبل ذهابه للبيت ليستقر مع عائلته. وكانت زوجته تزوره مع أولادها في السجن وحملت منه طفلاُ ولم يقطع عنه الراتب الشهري الذي كان يتقاضاه قبل اعتقاله " هامش  الصفحة 317.
[13]  - مستل من  طالب الحسن، ، ص. 70،مصدر سابق.
[14] - اوريل دان، العراق في عهد قاسم، تاريخ سياسي 1958-1963، ترجمة جرجيس فتح الله، الجزء الأول، ص.412، دار نبزللنشر ، استوكهولم 1989.
[15] - د. علي كريم سعيد عراق 8 شباط ، ص. 98، مصدر سابق.
[16] - مذكرات عبد السلام عارف, ص. 73، مصدر سابق.
[17] - أني مدين للسيد عبد المطلب الأعرجي الذي وفر لي هذه الرسائل من ارشيف مكتبته الخاصة.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وثيقة تاريخية: وصايا عبد الكريم قاسم أثناء الحرب الفلسطينية ...
- قراءة في: ثورة 14 تموز وإخراجها القسري من الحياة:
- مقابلة صحفية للدكتور عقيل الناصري
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري في 14 تموز(5-5) - ...
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري في 14 تموز 4-5
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري في 14 تموز 3-5
- دراسات في التاريخية الفعلية للتغيير الجذري في 14 تموز 2-5
- دراسات في تاريخية التغيير الجذري في 14 تموز 1-5
- محاولة تقديرية لجرد أسماء الضباط الأحرار في العراق
- عبد الكريم قاسم... رؤية ما بعد الثامنة والأربعون
- عرض مكثف لمحاضرة المرأة – الرجل.. السلطة كحق تاريخي مخوّل
- تموز14: الضرورة والماهية 4-4
- 14 تموز : الضرورة والماهية 3-4
- 14 تموز.. الضرورة والماهية 2-4
- 14 تموز.. الضرورة والماهية
- الزعيم قاسم و الجواهري ولقائهما الأول:
- دراسة عن حركة الضباط الأحرار 6-6
- دراسة عن حركة الضباطالأحرا ر 5-6
- دراسة في حركة الضباط الأحرار4-6
- دراسة عن حركة الضباط الأحرار 3-6


المزيد.....




- أثار مخاوف من استخدامه -سلاح حرب-.. كلب آلي ينفث اللهب حوالي ...
- كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير ...
- جهاز التلقين وما قرأه بايدن خلال خطاب يثير تفاعلا
- الأثر الليبي في نشيد مشاة البحرية الأمريكية!
- الفاشر، مدينة محاصرة وتحذيرات من كارثة وشيكة
- احتجاجات حرب غزة: ماذا تعني الانتفاضة؟
- شاهد: دمار في إحدى محطات الطاقة الأوكرانية بسبب القصف الروسي ...
- نفوق 26 حوتا على الساحل الغربي لأستراليا
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بها
- الجيش الأمريكي يختبر مسيّرة على هيئة طائرة تزود برشاشات سريع ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - من رسائل عبد السلام عارف الى عبد الكريم قاسم