أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - عقيل الناصري - دراسة عن حركة الضباط الأحرار 3-6















المزيد.....



دراسة عن حركة الضباط الأحرار 3-6


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 1430 - 2006 / 1 / 14 - 10:35
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


كتلة عبد الكريم قاسم (كتلة المنصورية ) )3-6)
{ وحدة التطابق والواقع }

في البدء لابد من القول إننا نعيش التاريخ بوصفه حضرنا من جهة, ولابد أيضاً من إزالة القداسة في فهم التاريخ أو عند التعامل معه, لآن التاريخ هو ماضينا وبالتالي لا قدسية فيه ويجب النظر إليه بإعتباره مصدر من مصادر الوعي الاجتماعي الجمعي والفردي, الثقافي والجمالي, السياسي والفلسفي من جهة ثانية. ومن هذا المنطلق ندرس وقائعنا التاريخية بعين الحقائق النسبية وفي ظرفيتها الزمنية.. وهذا ما نطبقه في دراستنا لقاسم ودوره بصورة عامة في تاريخ العراق الحديث وضمنها حركة الضباط الأحرار.
تعارف الأدب السياسي الخاص بالحركة ان يطلق على كتلة الزعيم قاسم أسم (كتلة المنصور أوالمنصورية), واستنبطوا إسمها من موقع منصورية الجبل حيث كان مقر اللواء التاسع عشر, الذي تسلم آمريته الزعيم الركن عبد الكريم قاسم في مطلع عام 1954. زمنية استنباط إسم الكتلة تم بعد ثورة 14 تموز, وأطلق من قبل ضباط الكتل الأخرى . وهنا لا بد من الإشارة إلى:
- أن حالة التنافس, المبدا واللامبدئي, بين كتل الحركة أظهرت "... أن كل مجموعة لا تريد الاعتراف بمن سبقتها أو تنظر إلى المجموعة الأخرى بإعتبار أن تنظيمها كان مجرد فكرة لم تدخل حيز التنفيذ بشكل جدي ", مما يزيد من غموض تاريخية نشوء كل كتلة ودورها الحقيقي وقادتها, مما يفسح المجال للإدعاءات الفارغة والتكهنات غير الدقيقة.
- كما يتضح أيضاً, من صيرورة تشكيل الحركة, أن كل كتلها تقريباً قد أنتابتها فراغات زمنية بين فكرة التأسيس والممارسة العضوية الفعالة, وإن اختلفت مداها من كتلة إلى أخرى, حسب طبيعة نشاطها السري وماهية قائدها وقدرته التنظيمية, بل الأكثر من ذلك أن بعضها كان مجرد عبارة عن فكرة لدى هذا الضابط أو ذاك ولم ترى النور إلا بعد أن تهيأت الضرورة الموضوعية لتحققها وإستكملت بناء مقوماتها الذاتية وتبلور هياكلها التنظيمية وأهدافها العامة.
- توضح ظاهرة تكوين حركة الضباط الأحرار أن غموضاً وتضارباً عميقاً وضبابية كثيفة قد أنتابت تاريخية ظهور كل الكتل وبالاخص كتلة (المنصورية), التي لم يُلقى عليها الضوء المكثف بما فيه الكفاية منذ الغياب القسري لثورة 14 تموز وقيادتها.
وتأسيساً على ذلك فقد أختلفت الروايات وتضاربت المدونات, وتنابز الرواة, حول تاريخ نشوءها, التي إنحصرت بالتحديد في الفترة بين 1948-1952. إذ قال بعضهم إنها تأسست في عام 1954 ؛ وآخرون أشاروا إلى عام 1955؛ وغيرهم قال أنها تكونت في عام 1956 أو 1957. فمثلاً ذكر كمال عمر نظمي: "... وهو شيوعي وصديق لعبد الكريم قاسم قبل الثورة, أن عبد الكريم قاسم فاتحه بوجود تنظيم عسكري سياسي سري يعمل على القيام بثورة وطنية أما في أواخر عام 1954 أو أوائل 1955 ". لكن الزعيم الركن خليل سعيد يصر بقوة التاريخ, على أن البدايات كانت عام 1950 بعد عودة الجيش العراقي من فلسطين. في حين قال ليث الزبيدي أنه: " بنفس الوقت الذي تم فيه تشكيل اللجنة العليا, تشكلت تنظيمات أخرى للضباط الأحرار بين صفوف القوات المسلحة كتنظيم المنصور(ية) الذي يرأسه عبد الكريم قاسم... ", أي آواخر عام 1956.
ويتفق معنا الأكاديمي د. مجيد خدوري من أن الأراء تضاربت "... حول خلية المنصور وزمن تأسيسها, فالبعض يقول بأن عبد الكريم قاسم كان يتزعم المجموعة, نظم خليته بعد أن عاد من الأردن, حيث أرسلته الحكومة مع لواءه ليساند الجيش العراقي المرابط هناك خوفاً من هجوم كان متوقعا ضد الأردن في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 1956. ويعتقد البعض الآخر أنها تأسست قبل ذلك, لأن عبد الكريم قد إنضم إلى منظمة بغداد في وقت مبكر من سنة 1956, ربما لأن أتباعه كانوا في المنصور ". ويشير عبد الكريم فرحان, إلى أن اللجنة العليا تبين لها في أحد اجتماعاتها "... وجود جماعتين آخريين من الضباط تسعيان لتقويض نظام الحكم... أما الجماعة الثانية ويرأسها الزعيم عبد الكريم قاسم فكانت تسعى وتعمل لنفس الأغراض التي تعمل من أجلها منظمة الضباط الأحرار... كلف الأخ العقيد الركن ناجي طالب الإتصال بالزعيم الركن عبد الكريم قاسم ومفاوضته للإنضمام إلى المنظمة الأم وتطوع المقدم وصفي طاهر ليقوم بمهمة الدليل إذ كان يعرف مكان دار عبد الكريم قاسم ودار أخيه حامد قاسم ".
في الوقت ذاته راح البعض ينفون وجود مثل هذه الكتلة, دون الإستناد لوقائع مادية وبغير تمحيص للوقائع التاريخية, منهم عضو اللجنة العليا محسن حسين الحبيب. وأعتقد أن موقفهم النافي هذا مستوحى من:
- طبيعة الصراع السياسي ذو الأبعاد الحزبية الضيقة, الذي نشب منذ تبلور اللجنة العليا وإشتد بعد الثورة بين كتل الضباط الأحرار والقوى الاجتماعية وممثليها الحزبيين؛
- غياب وتغيب الرأي الآخر وإجتثاث الحقائق وتزوير الوقائع, بعد الرحيل المادي القسري لقادة ثورة 14 تموز والقوى المشاركة فيها من غير ذوي التوجه القومي؛
- وإزدادت هذه الحالة بترافق الصمت (المُكره أو المرغوب) لبعض الضباط الأحرار من ذوي التوجهات اليسارية والوطنية والقاسمية؛
- ومما زاد من هذا الغموض عمقاً, هو ما أحاطت كتلة المنصورية فعلها العضوي, بصورة مقصودة, بنطاق من السرية المتناهية والحذر الشديد عند مفاتحة الأعضاء الجدد, بحيث وسمت سلوكيتها العملية, والمستنبطة بدورها من سلوكية مؤسسها, الذي أحاط نفسه ومساهمته السياسية بالكثير من السرية والكتمان المقترن باليقظة والحذر, وهو صاحب مقولة: (يجب على يدك اليسرى أن لا تعرف ما في يدك اليمنى).
- كانت الكتلة التي دعت قاسم إلى الإنضمام إليها يطلق عليها أسم كتلة القادة (بغداد) وبعد إنضمام كتلة المنصورية أصبح أسمها: اللجنة العليا للضباط الأحرار..التي في صيرورة تحققها ضمت أكثر من كتلة وأمست أكبرها بصورة عامة.
وهكذا تثبت الوقائع, على أن هناك إجماع شبه كلي لدى الكم الأغلب من الضباط في اللجنة العليا ومن خارجها ومن الدراسات الموضوعية, أن الزعيم قاسم كَوَنَ كتلته الخاصة والتي, كما تشير المعلومات المنشورة في العديد من المصادر, " تعد هذه الكتلة من أكبر الكتل التي شُكلت وهي التي أخذت على عاتقها إعلان ثورة 14 تموز 1958... " .
ولكن غير معروف, على وجه الدقة, متى بدأ قاسم بتكوين كتلته, كهيكلية مجسدة على أرض الواقع السري لحركة الضباط الأحرار؟ ومن ضمت من الضباط ؟ وما هو تكوينهم الفكري ومنابتهم الاجتماعية ؟ وما هو مدى سعتها من الناحية الكمية وتوزعها الجغرافي؟ وهل ضمت الضباط الكبار فقط وما هي نسبتهم ؟ أم شملت الضباط الآمرون (رئيس أول- عقيد) و الضباط الأعوان (ملازم ثاني- رئيس) أيضاً؟ وما نسبة كل من هؤلاء في تركيبة الكتلة, وكم هي نسبتهم بالنسبة إلى مجموع الضباط في الجيش العراقي عامةً والضباط الأحرار خاصةً؟ وما هي أهداف الكتلة الإستراتيجية والآنية ؟ ومدى تطابقها أو تماثلها مع أهداف الكتل الأخرى؟ وبماذا يختلفون؟ وماهي أبعادها التنظيمية.. أي هل كانت حلقية أم خيطية ؟ وما هي طبيعة تحالفاتها ومع من تحالفت ؟ ....الخ من الاستفهامات التي تنير واقع تكوين الكتلة.
ومن قراءتي لسيرة الزعيم قاسم وما نُشر من آراء وما تم تداوله شفهاً في بعض الملتقيات والكتابات منذ سقوط النظام السابق (2003), وما جادت به الإعترافات الأخيرة لبعض الذين ناصبوه العداء, ومن (اللسان الاجتماعي) لشعب العراق, الذي أنطلق في الآونة الأخيرة, فأستطيع القول بصورة تكاد أن تكون يقينية أنه منذ عودته من فلسطين إستمر مثابراً بالعمل على تكوين كتلته الخاصة به وهو الطامح لعملية التغيير والتي برزت لديه منذ أن كان معلماً في الكلية لعسكرية, حيث بدأ آنذاك بتكوين الحلقات المؤيدة التي تشاركه العمل والهدف المشتركين وسط طلبة الكلية والضباط الصغار والقريبين من رتبته.. وواظب على ذلك, بعد فشل حركة مايس 1941, حتى قيل (وإن لم يتأكد بالدليل القاطع) أنه عمل أو بالأحرى تعاون مع بعض الضباط الشيوعيين من تنظيم داود الصائغ في منتصف الأربعينيات كما يذكر حنا بطاطو في كتابه.. وتكرر عمله التنظيمي بوتائر أعلى في حرب فلسطين الأولى وأخذ يجمع الأعوان ويفاتح الذين يطمئن لهم, خاصةً بعد حصوله, بجدارة, على السمعة الطيبة في هذه الحرب.. وإنتمائه إلى النواة التنظيمية الأولى, ومما ساعد على ذلك رتبته العسكرية كما مر بنا.
أعتقد جازماً أن قاسم بعد تشظي شمل (تنظيم الضباط الوطنيين) وترك بعض قادته العمل السياسي, بعد تقدمهم في سُلم الوظيفة وحصولهم على إمتيازات مكنتهم من تثبيت مناصبهم وقطع صلتهم بصيرورة التكتل الغائي, إستمر قاسم يواظب ويثابر في إنضاج الظروف الذاتية للحركة الغائية المستهدفة من خلال ذاته القيادية ورتبته العسكرية وسمعته المهنية, مثله مثل الآخرين من ذوي التصميم على المثابرة والعمل المنفرد على إعادة تكوين الكتل الغائية ذات التركيبة المتقاربة من حيث الهدف. وهذا ما أشار إليه الكثيرون من الضباط الأحرار الذين: أما هو فاتحهم بالإنظمام للحركة, أو هم فاتحوه بذلك نظراً لعدم معرفتهم بنشاطه لتحقيق ذاتيات التكتل الغائي. كما أنه أستمر بصلاته مع بعض ضباط (تنظيم الوطنيين) ومنهم رفعت الحاج سري, حول ذات الموضوع, لكن في هذا الظرف الجديد أنطلق كل منهم في طريقه الخاص. إستنتاجي أعلاه, المدعم بالدلائل التاريخية, يناقض بالكامل مع ما ذكره إسماعيل العارف (وغيره) حيث إدعى ونسب لذاته مفاتحة الزعيم قاسم بالإنضمام إلى حركة الضباط الأحرار عام 1954. يُفصح العارف عن ذلك بالقول:
" كان من بين القطعات العسكرية التي كلفت بأعمال الفيضان سنة 1954, اللواء التاسع عشر الذي كان يقوده الزعيم عبد الكريم قاسم... وقد كنت معجباً به لما كان يتمتع به من أخلاق حميدة وسمعمة ممتازة وشجاعة نادرة. وقد كان شهماً نظيفاً مخلصاً ذكياً ذا شعور وطني فياض وفي نظر الكثيرين من أبرز ضباط الجيش كفاءة وقيادة وقد كنا في ذلك الوقت نبحث عن ضابط يتحلى بهذه الصفات والمزايا من ذوي الرتب العالية ولديه قطعات عسكرية ضاربة يمكن استخدامها لتنفيذ الثورة, فكان في نظري الشخص المثالي الذي سيقفز بالحركة إلى الأمام ويدعمها ويعززها فيما إذا نجحنا في ضمه إلى تنظيم الضباط الأحرار...", ويستطرد العارف, تم "... الإتفاق بيني وبين بقية الأعضاء على مفاتحته بشرط أن لا أبوح بأي إسم من أسماء الأعضاء... وفي شهر أيلول من سنة 1954... أخبرته بوجود حركة ثورية في الجيش تهدف إلى تقويض الحكم الملكي وإقامة نظام ديمقراطي شعبي حقيقي يتمتع فيه الشعب بحرياته المسلوبة ويتخلص من التبعية الإستعمارية. وقلت له, أنه يعتبر في نظر أغلب ضباط الجيش الوطنيين ضابطاً ممتازاً غيوراً على مصلحة وطنه ومستقبل شعبه ولهذا فإن ضباط الحركة يدعونه للإننضمام إليها وعدم التخلف عن ركب الحركة الثورية المتصاعدة في الجيش.
بعد أن استمع إلى حديثي هذا أجابني على الفور قائلا أنه مستعد للعمل وأنه يفكر فيه منذ أمد بعيد وسوف لن يتأخر عن الانتماء إلى الحركة وتنفيذ أهدافها... بعدها قررنا أن أخبره عن المقدم رفعت الحاج سري وصالح عبد المجيد السامرائي... وبعد أن أخبرته بذلك رفض الاجتماع بالمقدم صالح عبد المجيد السامرائي لشكه في إخلاصه وعدم ثقته به...", وبعد زيارة رفعت والعارف له "... فأبدى إستعداده ثانيةً للعمل أمام المقدم رفعت الحاج سري وأقسمنا يمينا مغلظة على أن نخلص ونمضي إلى النهاية في تحقيق أهدافها الوطنية... ".
النص يتناقض مع واقع تاريخية الضباط الأحرار وما إدعاه الآخرون, وهو متخم بالنرجسية العسكرية والرفع من الذات, لأنه من المعروف إن التعاون الغائي بين قاسم وسري تمتد إلى عام 1948, بل وتمتد حتى قبل إنضمام العارف نفسه إلى الحركة, إذ سبق لهما العمل المشترك عام 1952, أما المعرفة المهنية والشخصية فتمتد بينهما إلى الفترة التي كان قاسم معلماً في الكلية العسكرية ورفعت أحد طلابه, كما عمل رفعت تحت إمرته في الفوج الذي قاده قاسم في فلسطين, وهذا ما دللت عليه الوقائع المستمدة من مناوئ قاسم بالذات, كما مر بنا. كما يبدو من النص, ضمنياً, أن العارف ومجموعته كانوا يبحثون عن الزعيم القائد الذي يقودهم, ولذا توجهت أنظارهم إلى قاسم الذي يعرفه بعضهم وقد عملوا معه سويةً سواءً ضمن مهنويتهم الجامعة أو في العمل التكتلي. كما أن النص وبالضد مما هو متفق عليه, من أن قاسم قد تمت مفاتحته بالإنضمام إلى اللجنة العليا عام 1957 وأنتخب رئيساً لها؟. كما تشوب فكرة العارف أعلاه الضبابية والهلامية للشخوص المحركة للضباط الأحرار, بحيث لم نعرف من هم المحوريون الأساسيون في هذه الكتلة التي فاتحت قاسم بالإنضمام إليها؟ ومن هم مؤسسيها؟ رغم تضخيم ذاته ودوره بصورة ملفتة للنظر (ص.77 من مذكراته) في تأسيس الخلية الأولى, فهو لم يذكر من الأسماء العاملة معه سوى سري وصالح السامرائي, الذي إرتاب منه لنشاطاته المتعددة خارج إختصاصه!.
لا نستبعد البتة من إمكانية مفاتحة العارف لقاسم أو وجود علاقة مهنوية تضامنية بينهما, إذ كانت كل الكتل تبحث, منذ مطلع الخمسينيات عن مؤيدين لها بين الضباط, وربما في هذا السياق طرق العارف باب قاسم.. وهو الأرجح في رأي, والذي يعززه, هو أن كتل أخرى سبق وأن طرقت ذات الباب, دون معرفتها بأن لقاسم تكتل خاص به. وهذا ما ميز الحراك السياسي والحزبي للضباط الأحرار منذ عودة الجيش من فلسطين, حيث كان ينتقل بعضهم من كتلة إلى أخرى أو ينظم لأكثر من كتلة في آن واحد. وقد أقترن هذا الحراك بإنتشار الفكرة الإنقلابية بين الضباط المسيسيين, على وجه الخصوص, وبزخم كبير نظراً لحضورها العملي في دول الجوار الإقليمية. وهذا ما أكدته الدراسات التاريخية والسياسية لعراق النصف الثاني من القرن المنصرم.
إن مثابرة قاسم في بلورة الأبعاد الذاتية لحركة الضباط الأحرار, تتماثل بهذا القدر أو ذاك مع نشاط رفعت الحاج سري, فكلاهما كانا يتمتعان بقدرة قيادية وتركيبة نفسية تتوائم وطبيعة العمل التكتلي السري, وسعيهما للوصول إلى الهدف المبتغى.. وإن كانت الدوافع متباينة في تفاصيلها وتوجهاتها. إذ تؤكد الوقائع إن كليهما أتخذ لنفسه, قبل الثورة, طريقاً يختلف عن الآخر ولم تكن بينهما قطيعة أو عداء متبادل, بل بالعكس أستطيع الجزم إنهما كانا متعاونيين في كثير من المجالات لغاية إنتصار الثورة, بدليل أنهما كانا يعملان سويةً قبيل إكتشاف اجتماع الكاظمية عام 1956, الذي كان من المفروض أن يجتمع كل من: قاسم وعبد الوهاب الشواف ومحي الدين عبد الحميد أيضاً, مع المجموعة التي حضرت الاجتماع, لكنهم تخلفوا عن الموعد كلٍ لسببه الخاص وأمتنع قاسم من الحضور بسبب عدم إطمئنانه لصالح عبد المجيد السامرائي .
وقد أبتعد الزعيم قاسم بعد إكتشاف الإجتماع في 5/10/1956 مسافة لكنها غير بعيدة, عن تنظيمات رفعت- عبد المجيد ولكنه إستمر بالتنسيق والتعاون المتبادل, وخاصةً في محاولتي كانون أول 1956و 1957, ثم حين تشكلت اللجنة العليا, حيث ساهم قاسم بالعمل بالنسبة لتنظيم رجب عبد المجيد وقاد الحركة بعد إندماج كتلتيهما. وكذلك مع كتلة الشواف- رفعت (11مايس 1958) بصورةٍ منفردة. إذ من المعروف أنه "... في مطلع شتاء 1956طلب المقدم رفعت الحاج سري من المقدم سلمان الحصان الإتصال بعبد الكريم قاسم وإبلاغه برغبة الضباط الأحرار بقيام لوائه بمهمة إحتلال بغداد أثناء عودته من الأردن وإستعداد الضباط الأحرار للإنضمام إلى اللواء حال وصوله تخوم بغداد أو (تعسكره) على مقربة منها... ".
ومن الناحية المهنوية الصرفة فقد كان قاسم معلماً لرفعت الحاج سري في الكلية العسكرية, وعمل سري ثانيةً تحت إمرته في حرب فلسطين الأولى. هذه العلاقة المتبادلة بين الطرفين تدحض ما أنسب, عبد الكريم فرحان, من قول إلى رفعت الحاج سري من أنه: " يرى أن عبد الكريم قاسم لا يصلح لقيادة التنظيم وقال أنه لا يطمئن إلى تسليم عبد الكريم حظيرة مشاة ".
- هذا الإدعاء قيل بعد رحيل قاسم وشهوده, بأكثر من عقدين من الزمن, وهو يعرف سمعة قاسم الطيبة والتي إنتشرت بين طلاب الدورة 17 للكلية العسكريةعندما كان إستاذاً له ولغيره فيها؛
- كما أن إختيار قاسم رئيساً للجنة العليا وشهادات الضباط الأحرار الآخرين وسلوكية قاسم العسكرية تدحض هذا الإدعاء؛
- كما أن رفعت يعرف من خلال مهنويته وأسرته العسكرية أن عبد الكريم قاسم قد نال شهرة مهنوية بحصوله على تقدير بدرجة إمتياز من مدرسة الضباط الأقدمين في إنكلترة وهي شهادة كان يطمح إليها الضباط الأكفاء آنذاك؛
- ثم كيف سمح سري لنفسه بالعمل المشترك أكثر من عقد من الزمن قبل الثورة وبعدها, مع شخصية لا تصلح للقيادة ؟ ومتى أكتشف ذلك؟ هل قبل إشراك قاسم في المحاولات المتعددة أم بعد تشكيل اللجنة العليا؟ أو أثناء محاولة 11مايس 1958أم عندما عينه قاسم مديراً للإستخبارات العسكرية؟
أما إن صح هذا القول المنسوب (إفتراءً) إلى سري, فهو يدلل إما:
- على قصر نظر سري الذي وافق على العمل مع قاسم قبل الثورة, وإشتركا سويةً في: تشكيل نواتات التكتل الغائي منذ عام 1948؛ وفي محاولات التغيير التي كان من المفترض القيام بها في الأعوام 1952, 1954, ومحاولتي 1956 ومحاولة 1957, والمحاولات الأربعة عام 1958 .
- وإن قيل هذا الكلام فهو إما بمثابة إسقاطات ذاتوية/نفسية يشعر بها ويرميها على الأكثر نجاحاً منه, وتعبر عن إحباطاته وحساسيته من المكاتة الاجتماعية/السياسية التي نالها قاسم مقارنةً بالقياديين من الضباط الأحرار, و تعبر عن الخيبة في تحقيق الذات الاجتماعية؛
- أو بكونها مسوغات (غير منطقية) لمساهمة سري في العديد من المحاولات الإنقلابية للإطاحة بحكم تموز/قاسم؛
- أو أنه بقوله هذا كان يعبر عن طموح ذاتوي يريد به منافسة قاسم الذي ترأس اللجنة العليا للضباط الأحرار, إذ من المعروف أن سري كان يرى في نفسه أحق من الكافة في قيادة تنظيم الضباط الأحرار, رغم أنه كان في الواقع " متوسطاً في قابليته التنظيمية ونضوجه السياسي... وروي عن صديق شنشل قوله بأن رفعت الحاج سري لم يكن مؤهلاً للزعامة... ", كما " كان يفتقر إلى الحنكة والمناورة السياسية والنظرة الشمولية... ". وبالتالي فقدان مقومات الزعامة الحقيقة لديه؛
- وإن قيل مثل هذا القول عن لسان سري, فهو يتنافى ويتعارض مع الماهيات الدينية الحقيقة والصفات الاخلاقية التي يتسم بها المؤمنون, ومنهم سري وهذا ما شخصه الكم المطلق من أصدقائه ومعارفه من كونه متزمتاً في تدينه وورعاً ومحافظاً.
- "... إن هناك نقطة لا تقبل النقاش وهي: في العام 1955, وعندما بدأت الجماعة تثبت وجودها في أوساط الضباط الأحرار, كان قاسم هو الذي يقف على رأسها ويوجهها بشكل مستقل عن الحركة الرئيسية. وكانت الجماعة تتألف يومها من قليل من الضباط القادة وليست لها أية بنية خلوية قاعدية. ولكن هذا لم يردع توق سري- الذي كان ما زال ناشطاً- إلى تأمين دعم هذه الجماعة وبهذا الهدف نصب عينيه... وشاركه قاسم من ناحيته كل أفكاره المبطنة وقال له أنه لا يوافق, هو أيضاً, على النظام القائم وإن لديه خططه الثورية الخاصة به, وتعهد بأن يكون, هو ولواءه في بغداد خلال خمسة ساعات من تحرك سري واتباعه... ". ترى كيف يضع سري ثقته الكاملة بقاسم ويطلب مساعدته إذا كان لا يطمئن بأن يسلمه حظيرة مشاة؟؛
- وإذا (صدق) ما نُسب لسري من قول, فلماذا وافق عام 1957على إنتخاب الزعيم قاسم لرئاسة اللجنة العليا, يبدو إن ذرة من الشك لم تكن تطال شخصية قاسم القيادية والفكرية, ولولا ذلك لكان من الصعب تفسير الثقة التي وضعها زملاء سري في كتلة القادة ومن ثم اللجنة العليا في قيادة قاسم لها.
هذه المعطيات تدلل على الإمكانية الكبيرة والمحتملة لإختلاق ما ذكره عبد الكريم فرحان لتقويل ما لم يقله رفعت بحق قاسم. كما أنه ذكرها دون الإشارة إلى حثيثيات القول من ناحيتي الظروف الاجتماعية والنفسية وقتها إن صح ذلك. لكن أؤكد إن "هذا الكلام مبالغ فيه. كيف إذن قاد قاسم فوجاً في حركات فلسطين عام 1948 ثم قاد اللواء التاسع عشر؟ أنا استبعد أن يصل رفعت إلى هذا المستوى للطعن في الآخرين ", حسب رأي مدير الإستخبارات العسكرية للفترة (1959-1963).
في الوقت نفسه يمكن تعميم هذه العلاقة على علاقة قاسم بناظم الطبقجلي أيضاً, إذ ارتبطا بعلاقة حميمة تعدت العلاقة المهنوية, وإلتقت منطلقاتهما الفكرية وتصوراتهما الحياتية, إذ وافق الطبقجلي على تصورات قاسم بصدد آفاق مستقبل العراق وإنضوى تحت إمرته في حركة الضباط الأحرار, حتى أنه كان "... يعتقد أن عبد الكريم قاسم أكثر نضجاً وكياسةً من عبد السلام عارف وأنه الشخص الأفضل في زعامة البلد وقيادته... ". ومن المعروف, فقد كان الطبقجلي أقرب إلى التيار الديمقراطي في نمط تفكيره, منه إلى الاتجاهات الأخرى التي إنتقل إليها بعد ثورة 14 تموز, نتيجةً لقراءته الذاتوية لواقع الصراع الفكري/السياسي الذي شهده العراق آنذاك والمستنبط من مهنويته ورتبته العسكرية وموروثه الثقافي والاجتماعي .
إن سلوك كل من قاسم وسري ربما تعود إلى جملة من العوامل منها ما يتعلق بالتكوين الاجتماعي لكل منهما وجذورهما الطبقية, فالأول من بيئة اجتماعية فقيرة سكن الأحياء الشعبية وعاش ظروفها, والثاني من العوائل العسكرية في الجيش العثماني وعاش في أحياء النخبة العسكرية العثمانية وتأثر بقيمها, ومن ثم تأثرهما بمؤثرات فكرية وفلسفية متباينة, إن لم تكن متناقضة من حيث المضمون الاجتماعي, يضاف إليهما عمق التأثير الديني والمروث الميثولوجي على الثاني مقارنةً بالأول.. حيث دفعت برفعت فأصبح "... شديد التدين وأكتسب بين أصدقائه ومحبيه لقب (الشيخ) دلالة على تدينه... ".
كما لعبت المنطلقات الذاتية دورها في هذا المجال لأن كليهما كان يرى في ذاته تمثيل كل حركة الضباط الأحرار ويعبر عن مضامينها وتوجهاتها العامة, بغض النظر عن مدى موضوعية تطابق المقومات السيكولوجية/السيسيولوجية لكل منهما إزاء الحراك السياسي للحركة ومدى الوضوح الفكري للغائية المستهدفة.
كما يجب أن نأخذ بالإعتبار موقع العراق, كذات اجتماعية/ سياسية, ودوره ومستقبله لدى كل منهما, إذ أنطلق قاسم من النظرة الشمولية للمكونات الاجتماعية المتعددة للمجتمع من جهة ومن جدلية أولوية عراقية العراق نحو الأمة من جهة ثانية, في حين أنطلق سري من أولوية عروبة العراق وإنتماءه العربي بغض النظر عن تعددية مكوناته الأثنية والدينية. وهما بهذا الموقف عبرا عن عمق التباين الذي وسم إتجاهات نشاطهما السياسي والتنظيمي وإفتراقهما لاحقاً وخاصةً بعد الثورة. لذا خلت نظرات الأول من الولاءات الدنيا (العلاقات الأسرية, والطائفية, والمناطقية وغيرها) والخضوع لولاء واحد - للهوية الوطنية العراقية في إمتداداتها الطبيعي نحو الأمة العربية. في حين تلحفت نظرات الثاني بالنظرة الميتافيزيقة وبالهروب إلى الأمام بالنسبة لإشكاليات الواقع العراقي.
ولذا كان نشاطهما في البدء متوازي نحو الوصول إلى الغائية المستهدفة, لكن هذا لم يمنع تقاطعهما في بعض المفارق الزمنية أو/و الظرفية, وفي بعض الرؤى العملية أو/و السياسية والفلسفية...الخ. وهكذا بدء الرجلان يحثان الخطى كل بإتجاه نحو إستكمال البعد الذاتي لحركة الضباط الأحرار, فتوجه سري إلى الضباط الأعوان لأنهم ضمن السياق العسكري سيخضعون لتوجهاته, في حين يصعب ذلك بالنسبة للضباط الموازين له من حيث الرتبة أو أعلى منه.
وعوداً إلى ما ذكر بصدد إستمرارية قاسم في العمل من أجل إنضاج الظروف الذاتية للغائية المستهدفة, ما ذكره بصورة موجزة جداً الزعيم الركن خليل سعيد والذي تم نشره مؤخراً, قال:
" ولكن في رأي الشخصي إن البداية للتنظيم الذي فجر ثورة 14 تموز, قد بدأت بعد العودة من حرب فلسطين 1948-1949 وكانت في معسكرات التدريب الإجمالي لسنة 1950 على شواطيء الحلة ". دون أن يوضح تفاصيل ذلك. كما يؤكد العديد من الضباط الأحرار, على مثابرة قاسم في جمع الضباط المريدين والانصار من ذوي الرتب القريبة من رتبته, وخاصةً من العاملين في وحدته العسكرية, حيث يفاتحهم للإنخراط في هذه المهمة, بعد مراقبة طويلة ودراسة أوضاعهم بصورة سرية للغاية. لقد "... كانت طريقة عبد الكريم في ضم الضباط الصغار إلى الحركة إذا ما تولى قيادة وحدة فعالة أن يختار مريدين يثقون به ويعتمد عليهم ويترك لهم مفاتحة الضباط الصغار وإرتباطهم به غير المباشر, فمثلاً عندما نقل إلى اللواء التاسع عشر في نهاية سنة 1954(الصحيح هو1953-ع.ن) وعرف بتنظيمات الضباط الأحرار في لوائه وعرف منهم الملازم حافظ علوان آمر فصيل حمايته بعث عليه وقال له: حافظ أنا أعرف كل شيء أنت بمن ترتبط, وعندئذ ذكر له الضباط الذين ينتمون إلى حركة الضباط الأحرار في المنصورية, منهم الملازمون عيسى رحومي, محمود فرج, ساجد نوري, سعيد الدوري, جسام محمد الجبوري, نوري ناصر, خالد علي, داود عبد الجبار, فرد قاسم قائلاً: أستمر بتنظيمك ولكن بحذر وأعلم أن عيون الجواسيس ستتوجه إليك بإعتبارك من ضباط مقري وأنك بعد الآن مرتبط بي مباشرة وتتلقى التعليمات مني ولكن أوصيك بالكتمان والسرية المطلقة. وفعلاً عمل الملازم الأول حافظ علوان بهذه التعليمات كما كتب لي برسالته. وهكذا يظهر للقارئ أن عبد الكريم قاسم ترأس في سنة 1955 أكبر مجموعة من الضباط القادة والأعوان الذين يعسكرون في المنصورية وجلولاء وكان لعبد السلام عارف وطاهر يحيى القدح المعلى في المفاتحة في المفاتحة والضم وكان عبد الكريم قاسم موضع ثقة ضباط جلولاء- المنصورية, وإن الإدعاء القائل بأن عبد الكريم قاسم لا يملك التنظيم ولا ترتبط به كتلة من الضباط يحتاج إلى مراجعة وتدقيق لأنه يفتقر إلى الدليل والوثيقة... " ويؤكد ثانية "... الرائد الركن المتقاعد حافظ علوان في رسالته الموجه لي حول الضباط الذين يرتبطون بعبد الكريم قاسم شخصياً أو بكتلة المنصورية ما يلي: لقد وضع العشرات من الضباط الأحرار ثقتهم بعبد الكريم قاسم بما فيهم الأخ الرائد خليل إبراهيم حسين حيث أن عبد الكريم قاسم قال له أمامي ( سلم على رفعت وقل له أن الثورة قربت) ... " ومما تجدر الإشارة إليه " أن الكثير من ضباط ل19إنضموا إلى حركة الضباط الأحرار حتى أن أحد ضباط الفوج الثالث الذي يقوده عبد السلام عارف طلب مني حضور أحد إجتماعات ضباط الفوج, دخلت الخيمة ووجدت معظم ضباط الفوج, وعندئذ قال لي الرائد فاضل محمد علي نحن جميع ضباط الفوج مفاتحين... " (التوكيد منا- ع.ن). وقد اشار ناظم الطبقجلي أثناء محاكمته, أنه كان من أعضاء هذه الكتلة وبالتحديد من مجموعة جلولاء التي إنضمت إلى الكتلة الأم في المنصورية , رغم أن الوثائق المنشورة عن هذا الموضوع فيها إختلاف بل وتضارب, إذ يذهب أحد الباحثين إلى القول:
" وإرتأى الطبقجلي أن يوسع من عمل هذه الكتلة فإتصل بالزعيم الركن عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر وكان مقره في مدينة المنصورية ورئيس كتلة المنصورية للضباط الأحرار وإتفق الآمران على دمج الكتلتين في كتلة واحدة لإتفاق غاياتهما... ". لكن لم يحدد الباحث تاريخ الدمج. والتي أعتقد, إن حصل مثل هذا وأنا أشك في ذلك, فالمفروض كان قبل عام 1957, لأن قاسم أنضم إلى اللجنة العليا في كانون ثاني عام 1957, من جهة ومن جهة أخرى لم تتوارد المعلومات من كون الطبقجلي كان لديه كتلته الخاصة, بل يرجح أنه كان مرتبطاً من الناحية المعنوية حسب, بكتلة المنصورية مع عبد السلام عارف وطاهر يحيى اللذان عملا سويةً مع قاسم قبل التاريخ المذكور, ومن جهة ثالثة لم يتضح موقع الطبقجلي في هرم كتلة المنصورية وهو برتبة مقاربة لرتبة الزعيم قاسم, فالتسلسل العسكري يستوجب أن يكون نائبه, في الوقت الذي فرض قاسم, عبد السلام عارف على الهيئة العليا وكان ساعده الأيمن في الكتلة, وكانت رتبته أقل من رتبة الطبقجلي, كما كان طاهر يحيى عضواً في اللجنة العليا.
ومن الملاحظات المهمة التي تؤكد ما ذهبنا إليه, وتلقي ظلال الشك على إنتماء الطبقجلي للحركة, ما أفاد به صبيح علي غالب, عضو اللجنة العليا, التي خولته في "... الاتصال المباشر بالعقيد الركن ناظم الطبقجلي ", و "... الذي أعطى وعداً في أن يكون مع الثورة عند أول إعلانها ولكنه لم يوافق على الإنضمام إلى تنظيم الخلايا... وبعد فترة من الزمن وفي تمارين الرطبة في مارس 1958, إجتمع الضباط التالية أسماؤهم في دار الإستراحة في الرطبة وحلفوا اليمين على إسناد الثورة عند إعلانها وهم:
- الزعيم الركن عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر
- العقيد الركن ناظم الطبقجلي آمر اللواء الخامس
- العقيد الركن عزيز العقيلي آمر اللواء الرابع
- العقيد الركن خليل سعيد آمر اللواء الثالث ".
يتضح من هذا النص أن الطبقجلي لم يود العمل ضمن تنظيمات الضباط الأحرار كما هو شاخص وهذا هو الأرجح, والذي يؤكد ذلك أيضاً أنه والآخرين أقسموا اليمين على إسناد الثورة وحسب, وربما هناك إحتمال أنه كان يحاول إخفاء إنتماءه عن الآخرين وهو الأضعف. كما أن من كان يمتلك كتلة من الضباط, يكون في الغالب معروفاً من قبل الكتل الأخرى.. ولذا لم تذكر كتلته بإستثناء ما ذكره مؤلف (الموسوعة), ومنه إقتبس الآخرون. أما إنتماءه فهو فردياً ومعنوياً على الأغلب, إن كان منتمياً حقاً لكتلة المنصورية, بغض النظر عن تضخيم الذات الذي مُرس ولا يزال, بحق بعض قادة حركة الضباط الأحرار من التيار القومي طيلة أربعون عاماً.. يحاول مؤلف (الموسوعة) التأكيد على أن الطبقجلي كان ضمن كتلة جلولاء, رغم أن هذه المسميات العفوية تقحم بصورة مقصودة مضفيا عليها هالة من الزعامة الصمدانية, يقول أن:
" كتلة المنصورية التي يترأسها عبد الكريم قاسم والتي كانت تضم كتلتي المنصورية وجلولاء ومن قادتها طاهر يحيى وناظم الطبقجلي (قبل أن ينقل في 15/3/1958 إلى الموصل) وعبد الرحمن عبد الستار وعبد اللطيف الدراجي (بعد أن نقل إلى جلولاء في 15/6/1958) وعبد السلام عارف, ومن أعضاءها فتاح سعيد الشالي وقاسم الجنابي وحافظ علوان وعبد الرزاق محمد سعيد وحسين صادق وعارف يحيى الحافظ ويونس الدوري ورشاد كمال الدين وحسن عبود (قبل أن ينقل إلى اللواء الخامس عشر) وعبد الفتاح المراياتي وعبد الوهاب ياسين ورشيد شاكر وعبد المجيد جليل وعلي العاملي وأحمد صالح العبدي وغيرهم, وفي بغداد كان من كتلة قاسم كل من: عبد الكريم الجدة ومحمود عبد الرزاق ووصفي طاهر, وفي المسيب كان الكثير من ضباط اللواء الأول الذي قاد عبد الكريم قاسم أحد أفواجه يرتبطون بعبد الكريم قاسم, فعلى سبيل المثال لا الحصر منهم: عبد الرضا عبيد وكاظم مرهون الفتلي وكاظم مرهون الكريطي وأكرم محمود وعبد الجبار عبد الكريم الظاهر وغيرهم , ومنهم من كان يرتبط بعبد السلام عارف كالعقيد أحمد حسن البكر والعقيد هادي الراوي... ومنهم من كان له دور فعال في السيطرة على اللواء نفسه منهم على سبيل المثال لا الحصر الملازم الأول طارق عباس حلمي والملازم الأول كامل محمود خطاب... وهكذا يظهر للقارئ أن عبد الكريم قاسم ترأس في سنة 1955 أكبر مجموعة من الضباط القادة والأعوان الذين يعسكرون في المنصورية وجلولاء وكان لعبد السلام عارف وطاهر يحي القدح المعلى في المفاتحة والضم وكان عبد الكريم قاسم موضع ثقة ضباط جلولاء – المنصورية... ". (التوكيد من-ع.ن.)
في الوقت ذاته وضمن سياق تحقق صيرورة التغيير المنتظر وبعد الإستكمال النسبي لنضوج الظرف الذاتي للضباط الأحرار, بدأت رئاسة الكتل بالتحرك المنظم على توفير وتهيئة الظروف الإقليمية والدولية لإسناد الثورة لحظة قيامها.. وذلك بطلب المعونة من الدول المساندة للثورة.. وكانت مصر الناصرية, في أوج مرحلتها النيرة , إحدى هذه الدول, حيث وافقت اللجنة العليا للضباط الأحرار على إيفاد مبعوثين عنها إلى عبد الناصر حول الدعم الممكن تقديمه لو جابه العراق التدخل الخارجي, وقد تم إيفاد فائق السامرائي لهذه الغاية, كما يؤكد ذلك الأدب السياسي للتيار القومي في العراق وذلك الذي بالغ فيه محمد حسنين هيكل في كتاباته اليومية بعد تشنج العلاقات بين محوري القاهرة وبغداد وتدخل الأول وتأمره على الثاني.
لقد أخذ الزعيم قاسم بالتحرك في ذات الإتجاه الذي سارت عليه اللجنة العليا, إذ بعد أن وصل جحفل اللواء التاسع عشر الذي كان بإمرته إلى الأردن في خريف 1956 قام "... بدراسة الوضع في الأردن جيداً بإتصالاته بعدد من الضباط القادة ذوي الميول الثورية الذين لم يحن الوقت بعد لكشف أسمائهم وأتصل بعدد من السياسيين الحزبيين, وبعد إنتهاء العدوان كثف عبد الكريم قاسم إتصالاته بالضباط السوريين والأردنيين وعرض على السيد الريماوي فكرة القيام بإنقلاب عسكري في الأردن, كما زار رئيس الوزراء السيد سليمان النابلسي الذي لمح له بفكرة السيطرة على الحكم وتبديل النظام, إلا أن النابلسي رد عليه إن الإطاحة بنوري السعيد هي الأساس وهو المطلوب بالنسبة للشرق الأوسط وليس تبديل النظام في الأردن ".
وبعد فترة زمنية قصيرة "... لم يطل المقام بجحفل اللواء التاسع عشر في المفرق, إذ قدمت الحكومة الأردنية مذكرتها المرقمة 5516/36/56 المؤرخة 6/12/1956 والتي ترجو فيها سحب القوات العراقية من الأردن بسبب الأزمة الدولية. أما الحقيقة فكان بسبب نشاط ضباط اللواء التاسع عشر العراقيين الذين كانوا يتصلون بالضباط الأردنيين إن كان في زيارتهم للزرقاء أوعمان أوغيرها ويدعونهم إلى التكتل وتنظيم الخلايا لنفس الغرض الذي يهدفون إليه ". كما أقام قاسم في (تشرين ثاني/نوفمبر 1956) صلة مع بعض أعضاء القيادة العسكرية السورية وعقد عدة إجتماعات معهم بعد العدوان الثلاثي على مصر. ويشير حافظ علوان إلى إحدها بالقول:
"... في أحد الليالي قال لي الزعيم عبد الكريم قاسم: أريدك أن تلازم خيمتي فإن ضباطاَ من الجيش السوري سيحضرون إلى هنا وبصورة سرية لمقابلتي, وفعلاً جلست خارج الخيمة للمراقبة ومنع أي شخص ضابطاً كان أم جندياً أن يقترب منها بناءً على أمر عبد الكريم قاسم. وبعد مدة وصل عبد السلام عارف ثم شخصان آخران يرتديان الزي العربي ودخلا الخيمة وبدأت مناقشات بينهما تتعلق بالتنظيم وحركة الضباط الأحرار ومناقشة الغاية من وجود ل19 وكيف يفوتون الفرصة على الحكم بالعراق وفعلاً تم لهم ذلك, إلا أن الذي جلب الإنتباه فإننا وفي طريق العودة إلى أيج ثري من المفرق ونحن على الطريق إلتقينا رتل عسكري أردني. وبعد التحري والتدقيق ظهر لنا بأن اللواء التاسع عشر كان مطوقاً بقطعات أردنية دون أن يعلم أحد وحتى عبد الكريم قاسم نفسه. ولابد من ذكر بأن الضابطين اللذين وصلا بالملابس العربية إلى الخيمة كانا عفيف البزري وعبد الحميد السراج... كثرت الإجتماعات بين الضباط السوريين والعراقيين, وذات مرة حضر الإجتماعات العقيد عبد الرحمن عارف آمر كتيبة المدرعات المتجحفلة مع (ل 19) " .
ويؤكد هذه الإتصالات الثنائية بين قاسم والضباط السوريين ما ذكره عبد الكريم الجدة في كتابه (الزعيم المنقذ). حيث يشير إلى معرفة قاسم من أن هدف إرسال اللواء التاسع عشر ليس حماية الأردن قدر تهديدهم لسوريا, ولذا قرر قاسم أن لا يقوم بأي عمل ضد سوريا.. ومن هذا المنطلق أجرى إتصالاته مع الضباط السوريين . في حين يعرض عبد الحميد السراج الموضوع من منطلقات إستخباراتية, تركز على ذاتيته ويبعد قدر الإمكان الطرف الأخر بشكل تحيزي مسبق, يقول:
"... كان من ضمن مخطط المكتب (الإستخبارات) الإتصال بالضباط العراقيين لمعرفة إتجاهاتهم... تمكنت المخابرات السورية في اللواء المعسكر في المفرق الإتصال بعبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف ونُقل إلينا أن طلبهم أن يجتمعوا بصورة سرية برئيس الأركان العامة للجيش السوري, وأخبرتهم أنه من الأفضل أن أجتمع بهما في مكان معزول (وكان العراقيون يعسكرون في أيج ثري) وفعلا تم الاجتماع... تم اللقاء الثاني مع رئيس أركان الجيش اللواء توفيق نظام الدين وعفيف البزري رئيس المجموعة في الأردن ... ".
وقد اشار أيضاً إلى هذه الإتصالات ضابط ركن الاستخبارات للواء التاسع عشر المقدم الركن عبد الرزاق محمد سعيد وهو من تنظيمات المنصورية للضباط الأحرار, بالقول:
"... كانت هذه الاجتماعات تعقد لغرض دراسة التعاون العسكري بين جحفل لواء 19 والقطعات السورية في حالة القرار على السيطرة على الأردن. ولتمويه على هذه الغاية وإبعاد الشك عن غرض الاجتماع الأصلي كنا نشيع حسب طلب عبد الكريم قاسم إن الغاية من هذا الاجتماع هو دراسة موقف المعركة المقبلة مع اليهود في فلسطين". إنتهى. وهكذا يظهر, مما سبق, أن إتصالات عبد الكريم قاسم في الأردن أو ايج ثري, كانت ذات جوانب متعددة وغايات مختلفة وأبعاد عميقة هو يقدرها حسب قدرها ويحسب حسابها بحذر وتأني لتؤمن له الثقة لدى نوري السعيد والنظام الملكي وفي عين الوقت تطلق يده في إختيار اللحظة المناسبة للوصول إلى غاياته ومراميه ... ".(التوكيد منا-ع.ن).
إستمر الزعيم قاسم بالبحث عن الدعم المعنوي الخارجي للثورة عند قيامها, ولذا كلف قاسم, بواسطة رشيد مطلك, حسين جميل سكرتير الحزب الوطني الديمقراطي عام 1957 بالسفر إلى القاهرة ومقابلة الرئيس عبد الناصر وإخباره "... بعد أن تُعلمه بالكيفية التي سيتم بها إسقاط النظام الملكي بقتل الثلاثة (الملك والأمير عبد الأله ونوري السعيد) تقول أن الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس تنظيم الضباط الأحرار في العراق يسألك أنه في حالة إتمام العملية والإستيلاء على السلطة هل يقع بتقديرك, تدخل ضد الحكم الجديد من قبل قوة خارجية- إنكلترا أو الولايات المتحدة أو المملكة الأردنية الهاشمية. وأكد رشيد مطلك ضرورة تقديم السؤال إلى عبد الناصر بإسم عبد الكريم قاسم شخصياً وبصفته رئيساً ل (تنظيم الضباط الأحرار في العراق) ... ".
ويكشف تاريخ حركة الضباط الأحرار أن علاقات القادة المحوريون الأساسيون فيها, إتسمت بطابع المبادرة الفردية إلى درجة كبيرة, مع الأحزاب السياسية.. إذ غالباً ما يتصل كل منهم بالحزب الأقرب إلى توجهه الفكري وبرنامجه الاجتصادي والسياسي. وهذه تمثل أحدى أهم سمات الحركة وفي تحالف ومشاركة أعضاءها في المحاولات السابقة لثورة تموز1958.
أما على مستوى محاولات الإطاحة بالنظام الملكي, السابقة لثورة 14 تموز فقد أختلفت زوايا النظر التاريخية إليها إذ لم يجري الإتفاق بين الضباط الأحرار متى كانت أول محاولة وبالتالي ما عددها الإجمالي, فمنهم من قال أنها بدأت منذ عام 1952, وآخر قال أن أول محاولة كانت في عام 1954, وثالث في عام 1956, وعلى ضوء ذلك إختلف عدد المحاولات والتي تراوحت بين 13 إلى 7 محاولات .
لكن عند قراءة وتحليل ما ذُكر من محاولات رأينا أن بعضها لم يخرج عن كونه فكرة خطرت في ذهن بعض القادة لأجل إستغلال ظرفٍ ما, أو كانت أمنية مقترنة بالتذمر راودت عقلية أحد الضباط لأجل إسقاط نظام الحكم أو حديث جرى للتخلص من أعمدة الحكم الثلاثة ( الملك والوصي ونوري السعيد), الذين أقتضى حضورهم عند تنفيذ أية محاولة.. لأن محاولتان أُجلتا لعدم حضور أحد هولاء الثلاثة. في الوقت نفسه جرت محاولات أكثر جدية من سواها, سارت بخطى عملية حثيثة في التنفيذ وإن كان عددها في حدود ثلاثة محاولات أنحصرت في العام الأخير من الحكم الملكي وهي: محاولة 6 كانون الثاني ؛ و11مايس؛ و29 مايس.
ساهم الزعيم قاسم بصورة مباشرة إو غير مباشرة في أغلبها, سواءً في المساهمة العملية أو التخطيط لبعضها, والمساند للبعض الآخر, أوالرافض للمشاركة, أو/و المتحفظ على بعض تفاصيلها.. بدأًً من محاولة 1952؛ وموقفه الرافض لمحاولة 1954 حيث كانت بغداد مهدد بالغرق. وسبب الرفض يكمن في موقفه الفكري ومنطقه المنهجي المتمحور في أن الفكرة النبيلة تستنبط وسائلها من ذات الهدف وتنبثق عنه ومن ماهياته النبيلة, ضمن سياقات الشعور بالمسؤولية الاجتماعية العامة لذات التغيير الغائي المستهدف بأقل التكاليف الاجتماعية والخسائر البشرية, وهذا يتطابق من حيث الجوهر مع موقفه من محاولة تشرين عام 1952 .
كما ساهم الزعيم قاسم في محاولة الفوج الثالث في ل14 في تشرين الثاني 1956 وكان مفكر ولولب هذه المحاولة ومنفذها الأرأس عبد الوهاب الشواف. كذلك ساهم قاسم في محاولة كانون أول 1956, وجرى التنسيق بينه وبين عبد الوهاب الشواف, مستغلان عودة لواءه التاسع عشر من الأردن, وقررا القيام باالحركة عند بدء مراسيم الاحتفالات بعودة القطعات للعراق. أما في محاولة تشرين أول 1957, فقد خطط لها من قبل اللجنة العليا برئاسة الزعيم قاسم, مستغلين المناورات بالذخرة الحية في بيخال (محافظة أربيل), ومشاركة بعض الوحدات التي يترأسها ضباط أحرار من قبيل خليل سعيد وعبد السلام عارف.
وما أن أطل العام الجديد 1958, حتى أخذت تتعمق الأزمة البنيوية للحكم على عدة مستويات داخلية وعربية ودولية, وعلى مستوى الشارع السياسي إشتدت المطالبة الشعبية بالتغيير وتحسين الظروف الحياتية وكثرت إرهاصات التغيير في المدينة والريف.. هذه الظروف كانت بمثابة دافع جدي للضباط الأحرار على ضرورة تكرار حالات الإطاحة بالسلطة الملكية, وذلك لعدم قدرة القوى المدنية من تغيير الوضع.وهذا ما حدث فعلا في هذا العام الذي شهد 4 محاولات جادة للإطاحة بنظام الحكم مقارنةً بالمحاولات السابقة, تكللت رابعها بالنجاح.
كانت أولى هذه المحاولات في 6 كانون الثاني 1958, بمناسبة عيد الجيش, وقد ناقشت اللجنة العليا خطتان إحداهما كانت لقاسم والثانية لناجي طالب, وقد تم رفض خطة قاسم المباشرة والأخذ بالأخرى, وبالمحصلة تأجلت المحاولة, كما قال بعض الضباط, لرفض عبد الرحمن عارف, تنفيذ ما أنيط بكتيبته من دور أرأس, بحجة عدم وجود عتاد. أما في محاولة 11 مايس 1958, التي تعد أكبر محاولة من حيث مساهمة الضباط الذين قدر عددهم ب 114 ضابطاً (حسب ليث الزبيدي). كان دور قاسم هو مساندة الحركة بعد إعلانها والزحف على بغداد بلواءه, وكان وصفي طاهر وعبد الوهاب الشواف والضباط اليساريون هم لولب هذه الحركة. وقد إختلف أعضاء اللجنة العليا فيما بينهم حول خطة الحركة وحاول بعضهم منعها.. علماً بأن اللجنة العليا للضباط الأحرار, لم تكن هي التي قادت هذه الحركة بل حاولت تأجيلها كما مر بنا . وأُجلت فعلاً لذرائع أخرى. وعلى أثر هذه المحاولة تمت محاسبة كل من وصفي طاهر ومحمد سبع, فإعترف الأخير بتقصيره في حين جمدت عضوية وصفي في اللجنة العليا لرفضه الإعتراف بالخطأ.
أما محاولة 29 مايس 1958 والتي كان مزمع القيام بها في كلية الأركان بمناسبة مرور 25 سنة على تأسيسها, وقدمت خطتان لتنفيذها, الأولى أعدها رفعت الحاج سري, الثانية عبد الغني الراوي.. رفضت الأولى وتم التخلي عن الثانية. أما محاولة 22 حزيران 1958 والتي أنيط تنفيذها باللوائين التاسع عشر والعشرين عند قيامهما بمسيرة تدريب ليلة. فقد تخلى الزعيم قاسم عنها بسبب تسرب إشاعات وأقاويل عن غرض المسيرة ووصول أنباؤها إلى المراجع الحكومية.
هذه المحاولات المتعددة وما إنتابها من تأجيلات وما نجم عنها من إختلافات داخل اللجنة العليا, وفي علاقاتها بالكتل الأخرى وما أدت من تشنج وتردد وتصارع وتنافس, بعضه غير مبرر, كلها مسببات أدت بكتلة المنصورية التفرد في عملية التنفيذ اللاحق, مستفيدةً من المساندة المؤكدة من أغلب كتل الضباط الأحرار. فإنفردت الكتلة برئاسة الزعيم قاسم في تنفيذ خطة عملية التغيير وصياغة توجهاتها السياسية العامة وتحديد هيكليتها (البيان الأول؛ تأليف مجلس السيادة؛ قوام الوزارة؛ المناصب الأرأسية للمؤسسة العسكرية والأمنية والإدارة المدنية), ورسم أبعاد التحرك العملي, دون إشعار اللجنة العليا بموعد التنفيذ, بحيث إقتصر الأمر على:
" 1- الزعيم الركن عبد الكريم قاسم- واجب إحتياط للقوة في المنصورية؛
2- العقيد الركن عبد السلام عارف- واجب التنفيذ في بغداد؛
3- المقدم وصفي طاهر- واجب الدلالة في خان بني سعد؛
4- الزعيم الركن أحمد صالح العبدي؛
5- الرئيس حافظ علوان- مساعدة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم؛
6- الرئيس قاسم الجنابي- السيطرة على جسر بعقوبة ومقر الفرقة الثالثة فيها؛
7- العقيد عبد اللطيف الدراجي- واجب التنفيذ في بغداد؛
8- العقيد عادل جلال – واجب التنفيذ في بغداد؛
9- الرئيس الأول الركن إبراهيم جاسم – واجب الدلالة إلى بغداد؛
10- الرئيس الأول إبراهيم عباس اللامي- واجب الدلالة إلى بغداد؛
11- العقيد عبد الرحمن عارف- ضابط الإتصال وتدعيم القوات في بغداد؛
12- الرئيس الأول الركن عبد الستار عبد اللطيف- السيطرة على معسكر الرشيد؛
13- الرئيس الأول الركن كاظم جاسم العزاوي- السيطرة على معسكر الرشيد ".
ويكمن أن يضاف إلى هذه الأسماء الأساسية مجموعة من الضباط الذين شاركوا بالثورة حال سماعهم بيانها الأول والذين تم إخبارهم عن طريق بعض المنظمات الحزبية التي ينتسب إليها بعض هؤلاء المذكورين أعلاه.
إن إنفراد عبد الكريم قاسم وكتلته بالتحقيق المادي للثورة, بالتعاون مع بعض ضباط الكتلة البديلة المرتبطة بعبد السلام عارف, ربما يُفسر بجملة من العوامل منها:
- كان قاسم يرى في ذاته. كغيره من القادة الناجحون, بُعداً تمثيلياً لواقع العراق أبعد من بقية أعضاء اللجنة العليا, لذا إكتفى بمساندتهم له؛
- هناك عدة مؤشرات توضح وجود تباينات وتعارضات في المواقف الفكرية والسياسية بين أعضاء اللجنة العليا؛
- تولدت الكثير من الاحتكاكات والصراعات الجانبية بينهم, مما أدى إلى تكتلات غير مرئية وغير معلنة عن ذاتها؛
- لقد سبق وأن أنفرد بعض الأعضاء في تبني محاولات لم يحصل أجماع عليها في اللجنة العليا.. ومع ذلك ساروا بالمحاولة لحين تأجيلها لأسباب أخرى.. ومحاولة قاسم هنا لا تخرج عن المألوف السابق.
- تسابقت القيادات وتنافست فيما بينها, من منطلقات أنوية ذاتوية في أغلبها, على تحقيق فعل التغيير وهذا ما دللت عليه طبيعة التأجيلات لبعض المحاولات؛
- وفي المحصلة فرض قاسم الأمر الواقع وبالتالي تحقيق مفردات مشروعه ورؤيته المتعارضة في التفاصيل مع ما كان يطرحه بعض أعضاء اللجنة.

بهذه الصورة سلك قاسم ذات الدرب التكتلي الذي سار عليه قبلئذ اللاعبون الأساسيون في اللجنة العليا, كعبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري ورجب عبد المجيد وبعض قيادي الكتلة البديلة. ومن الحوادث ذات الدلالة التي تعكس موقف الزعيم قاسم وتعكس طبيعة الإختلافات التي كمنت في اللجنة العليا للضباط الأحرار, نورد بعض منها:
- قررت اللجنة العليا أرسال مندوب عنها إلى مصر للتشاور مع الرئيس ناصر, حول غائيتهم, وتم تكليف صديق شنشل الذي إلتقاه فعلاً.. في الوقت ذاته أرسل الزعيم قاسم, كل من حسين جميل و(محمد حديد) مبعوثاً عنه في ذات المهمة من دون معرفة البقية من أعضاء اللجنة؛
- أقام قاسم علاقة مع بعض الساسيين والضباط الأردنيين من أجل التعاون المشترك وحثهم على تشكيل حركة الضباط الأحرار وبالتالي تغيير النظام في الأردن؛
- كما أقام صلة مع قيادة الجيش السوري برئاسة عفيف البزري والمكتب الثاني الذي ترأسه عبد الحميد السراج بغية توضيح موقفه من النظام العراقي الذي كان يبحث عن عرش لولي العهد في سوريا؛
- أجرى قاسم العديد من الصلات مع أحزاب المعارضة الوطنية وبالتحديد مع الحزبين الوطني الديمقراطي والشيوعي العراقي, وأقام صلات مع بعض الشخصيات المستقلة مثل: مصطفى علي, ود, جواد علي ود. طلعت الشيباني والسياسي الشيخ محمد رضا الشبيبي ذوي النزعة الإصلاحية وغيرهم .
- كلف الزعيم قاسم الحزب الشيوعي العراقي, كما مر بنا, بسبر غور موقف الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية من الدفاع عن الثورة عند قيامها والحيلولة دون التدخل الخارجي.. كل ذلك بعيداً عن معرفة أعضاء اللجنة العليا؛
- أقام قاسم شكلاً من التعاون والتنسيق مع تنظيم الضباط الديمقراطي ذو المنحى اليساري ونسق العمل معهم وأُبرم إتفاق (جنتلمان) للمساندة والتعاضد المتبادل؛
- فرض قاسم كأمر واقع على اللجنة العليا عام 1957, عبد السلام عارف خلاف لقواعد عملها الداخلي .

هذه المؤشرات وغيرها, توضح أبعاد الثغرات العملية الكامنة في عمل اللجنة العليا للضباط الأحرار, نتيجة للتباين الفكري والفلسفي والرؤية السياسية لمستقبل للعراق وغيرها من العوامل, والتي كانت بحد ذاتها أحد الأسباب التي تفسر واقع الإضطراب السياسي والإقتتال غير المبرر, علمياً وعملياً, في الساحة الداخلية وبالمحصلة أدت إلى الغياب القسري للثورة وقائدها.
ضمن هذه الظروف في اللجنة العليا وصراعها الداخلي وتسابق الكتل في تحقيق ما تصبوا إليه إستمر الزعيم قاسم وكتلته في المثابرة على تهيأت الظروف الذاتية للحركة بالتعاون مع الكتل الأساسية الأخرى. ويتضح من السيرورة التاريخية لحركة الضباط الأحرار أن عبد الكريم قاسم كان من أنضج القادة الأرأسيون فيها, وكان أحد أهم العناصر المثابرة فيهم وهذا ما دللت عليه سيرته قبل الثورة وبعدها. وتتضح هذه الصورة بصورة أكثر واقعية, عندما نقارن السلوكية العامة له عندما كان في السلطة مقارنةً بأغلب زملاءه الذين مسكوا بدفة السلطة بهذه الدرجة أو تلك ولم يتركوا أثراً يذكر وبذات العمق الذي تركه قاسم. لا نضفي هنا على قاسم مبدأ القداسة في فهم ماهيات سيرته الذاتية وفي فهم ذلك التاريخ الذي شقه.. للعراق الجمهوري, لأن, كما قلنا التاريخ هو ماضينا فلا قداسة فيه, إلا للإنسان وما يعمله. ف{ الأرض لا تقدس أحداً.. وإنما يقدس كل إنسان عمله} كما أشار الصحابي سلمان الفارسي.





#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دراسة عن حركة الضباط الأحرا ر2-6
- دراسة في حركة الضباط الاحرار في العراق
- النضوج والتكتل الغائي 1948-1958
- حركة الضباط الأحرار- التكوين والتكتل الغائي
- النواتات الأولى لحركة الضباط الأحرار
- 14 تموز.. ضرورات الواقع وتناقضاته
- 1- عبد الكريم قاسم في عوالم الحياة العسكرية:
- مــن ماهيــات سيرة عيد الكريم قاسم
- في:الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لعراق مطلع القرن الماضي
- الضباط والسياسة في العراق الحديث :مدخل تاريخي
- عودٌ إلى البدء في أرأسيات التطور: 14 تموز: جدلية الفهم والمو ...
- البيئة الاجتماعية لبغداد ومحلاتها الشعبية
- من تاريخية الأنقلابية في العراق الحديث
- أفكار أولية: عن طبيعة ومهام المؤسسة العسكرية في عراق المستقب ...
- مدخل نظري: من ملامح المؤسسة العسكرية العراقية
- الإرهاصات الفكرية للمساواتية الحديثة في العراق الحديث
- دور الفـرد في التاريـخ - عبد الكريم قاسم نموذجاً


المزيد.....




- فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط ...
- طائرة ترصد غرق مدينة بأكملها في البرازيل بسبب فيضانات -كارثي ...
- ترامب يقارن إدارة بايدن بالغستابو
- الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تضغط على بايدن في اتجاه وقف ا ...
- المغرب: حمار زاكورة المعنف يجد في جمعية جرجير الأمان بعد الا ...
- جيك سوليفان يذكر شرطا واحدا لتوقيع اتفاقية دفاع مشترك مع الس ...
- كوريا الشمالية تحذر الولايات المتحدة من -هزيمة استراتيجية-
- زاخاروفا: روسيا لن تبادر إلى قطع العلاقات مع دول البلطيق
- -في ظاهرة غريبة-.. سعودي يرصد صخرة باردة بالصيف (فيديو)
- الصين تجري مناورات عسكرية في بحر الصين الشرقي


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - عقيل الناصري - دراسة عن حركة الضباط الأحرار 3-6