أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - البيئة الاجتماعية لبغداد ومحلاتها الشعبية















المزيد.....



البيئة الاجتماعية لبغداد ومحلاتها الشعبية


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 941 - 2004 / 8 / 30 - 08:30
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


أخذت الحياة في المدن العراقية وخاصةً الكبيرة منها، بالتغيير البطيء، نتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع العراقي منذ عام 1830، الذي مثل بداية تاريخية تكوين السوق العراقية الموحدة والتي اشتدت وتائرها منذ نهاية القرن التاسع عشر، إذ بدء الاقتصاد يتحول من حالة الاكتفاء الذاتي إلى اقتصاد السوق والاندماج التدريجي في الاقتصاد العالمي. وقد رافق ذلك نزعة متزايدة من قبل الولاة والقادة العسكريين نحو الاستقلال أو على الأقل، الإدارة الذاتية عن الحكم المركزي في استنبول.
 ومن هذا المنطلق ومن بواعث أخرى سياسية ومنها ما يمت لطبيعة التركيبة الاقتصادية، فقد كانت أغلبية السكان لا تشعر بكونهم جزءً من الكيان السياسي العثماني العريض والمهلهل. ساعد على تعمق  ذلك الشعور :
- طبيعة السلطة الثيوقراطية في علاقاتها مع اقاليم الاطراف؛
-       رداءة طرق المواصلات وانعدام الأمن الذي أضعف العلاقة بالمركز وتكوين السوق الموحدة؛
-        انحصار السلطة الحقيقية للحكومة في المدن حيث تتربع عليها الحاميات العسكرية؛
-       طبيعة التكوين الاجتماعي المتكون من العشائر والقبائل المتشظية؛
-        تعدد القوميات المنظوية تحت رداء السلطة المركزية؛
-       بطئ الحراك الاجتماعي في الاقاليم وعدم مساهمتهم في صنع القرار المركزي للدولة؛
-       الشعور النفسي بعدم وجود صلة من حيث الجنس واللغة والتاريخ بين الشعب والسلطة؛
-       ضعف المؤسسات الاقتصادية وعلاقاتها المتبادلة بين أطراف الدولة نفسها وبينها والمركز. 
هذه الحالة الموضوعية أثرت في عدم إدراك الأهمية السياسية الناجمة عن (الوحدة) الاقتصادية والسياسية لمختلف مناطق العراق( ولاية بغداد) على سبيل المثال، إذ كانت الفئات الغنية من تجار وملاكين كبار في تنافر مع الأغلبية الشعبية إزاء هذه الوحدة, إذ كانت الفئات الغنية تتجه نحو إشباع ذاتها الاستقلالية عن المركز في اسطنبول، والدفاع عن مصالحها الخاصة التي كانت في تناقض مع تكوين هذه الوحدة العراقية وهويتها الموحدة.
يظهر التاريخ السياسي على سبيل المثال, كيف كانت الفئات الغنية في ولاية البصرة تتجه في اندماجها الاقتصادي نحو الجنوب والخليج وفي مرحلة لاحقة نحو الهند وليس مع ولاية بغداد. في حين كانت ذات الفئات في الموصل تتجه مصالحها صوب الارتباط نحو سوريا المرتبطة اقتصادياً معها والتي كانت حلقة وصل بينها وبين منطقة الأناضول.
بدء هذا النزوع تخف حدته الانوية منذ النصف الثاني من القرن 19، نتيجة النمو المتزايد لفعالية قوانين السوق الاقتصادية الموحدة للولايات الثلاثة، ونزوع والي بغداد في سيطرته على بقية الولايتين والمسنود من قبل المركز من جهة وطبيعة الصراعات والتحالفات الدولية منذ نهاية القرن 19، وكذلك لجهود السلطة المركزية في توسيع رقعة إمبراطوريتها من خلال فرض سيطرتها بواسطة حكام أشداء في العراق من أمثال: محمد رشيد 1852-1857، ونامق باشا 1861- 1869وأخرون إصلاحيون مثل مدحت باشا 1869- 1872 وناظم باشا وغيرهم[1]            
إن ما قام به هؤلاء الولاة خلق مناخاً نسبياً ساعد على تطوير بعض أوجه الحياة الاجتماعية، والتي سَرَعتها جملة من التحولات التي جرت بصدد الملكية الحقوقية للأرض والتطور في النقل النهري والمواصلات وإقامة ورش التصنيع وتطور تجارة الاستيراد والتصدير والترانسيت واستيراد المطابع وغيرها من الإصلاحات التي قام بها بعض آخر من الولاة أوما فرضته ظروف المنافسة الدولية و التهيأة للحرب.. ومع ذلك ظلت البلاد على تخلفها من حيث تطور القوى المنتجة في الريف المدينة، ولم تتطور إلا في حدود ضيقة جدا ً.
كما لعب وجود مقر الجيش السادس العثماني في بغداد دورا تحديثياً، إذ من خلاله بدأت تتسرب المفاهيم الغربية والنظرات الحديثة, عن طريق ما كان يحمله ضباطه الدارسين في المعاهد الأوربية أو على أيدي ضباط أوربيين يعملون في المؤسسة العسكرية، فكان بينهم الطبيب والمهندس والميكانيكي وغيرهم من اليد المجندة الماهرة.
لقد بدأت تظهر دوائر البريد والبرق وتوسعت المدارس نسبيا. وتأسست المدارس العسكرية المتوسطة والثانوية، وظهرت الصحف وخاصةً بعد غام 1908, حتى غدت القراءة والكتابة معروفة في المدن الكبيرة، ناهيك عن المدن الدينية. كما بدأت تظهر مع مطلع القرن المنصرم التغيرات في نمط الملبس بالنسبة للفئات الثرية والغنية، على الأقل، حيث كان أبنائهم يقلدون النمط الأوربي.
بعبارةٍ أخرى بدء " النظام الاجتماعي القديم بالتفكك تدريجياً أمام تحديات القوة الاوربية ومنطوياتها الفكرية الجديدة وبطبيعة الحال اتسعت الهوة بين العادات التقليدية الموروثة والسلوك الواقعي الفعلي لدى المتعلمين الجدد، مما أدى إلى بزوغ نمط جديد من التفكير والتصرف ترسخ أكثر فأكثر مع انتشار التعليم الحديث على النمط المدرسي الغربي الذي كان يمثل على رأي شرابي (تجربة جذورية ومولدة) ... [2]"
كانت الزعامة الاجتماعية تستند على العلاقات الأبوية Patriarch ذات المضمون الاخلاقي بصورة عامة. لكن هذا لم يمنع من أن " يشهد المجتمع طوال عشرات السنيين صراعاً خفيا ًبين القيم الاجتماعية المهيمنة وبوادر تغيرات معينة ضعيفة، أولاً حتى لا تكاد تظهر على السطح، لكنها نمت قليلاً حتى بدت تظهر واضحة من بعد[3] ". سواءً على صعيد مؤسسة القبيلة أو العشيرة وحتى داخل المدن حيث بدأت تشهد ظهور تعددية في المؤسسات التقليدية ونمط التفكير, ثم انتشار الصحافة ذات الاراء المتباينة[4]، وتكوين الأحزاب السياسية ,السرية والعلنية, في المدن الرئيسية، كفروع للأحزاب التركية في البدء ومن ثم العراقية هدفاً وجغرافية منذ مطلع العشرينات ( 1922).
كان المجتمع العراقي " مهما كانت مميزات أفراده ومواهبهم الإنسانية أو الاجتماعية  فإنه كان مبتلى بشرور خطيرة، ذلك إن مستوى التثقيف كان واطئاً بالنظر إلى المستويات الأخرى، وكانت الخرافة المكثفة فيه ظاهرة بصفة بارزة، إذ كانت النساء يعاملن معاملة مخلوقات غريبة، ولم يكن الأمن موطداً حتى في المدن، وذلك بسبب انتشار الجريمة التي لم يكن يعاقب عليها. وبالنظر لوجود التطرف الطاغي القائم بين الاقليات وذلك في الأوقات التي تسوء فيها الأوضاع.
كان سوء التغذية يشمل أربعة أخماس السكان وكان معدل وفيات الأطفال من أعلى المعدلات في العالم، وكانت الكثير من الأمراض متوطنة، لأنه لم يكن يجري علاجها، ولأنها كانت تساهم في إنتاج عنصر عادي أو غريب من الناحية البدنية، من أمثال أمراض الملاريا والحمى الصفراء والدزنتري والتيفوئيد والجدري والكوليرا الوافدة والإنكلستوما والأمراض التناسلية.
كان الأمر الذي يتفوق على كل ذلك هو الضرر الساحق الذي يحدثه الفقر وكل آفات الجوع، والذي لا يمكن إزالته إلا عن طريق إحداث تغييرات جدية في أساسية في بنية اقتصاديات البلدان وسياسة عادلة للتوزيع ...[5] ".
كانت المدينة العراقية آنذاك خالية من الشوارع ولم تكن قد تغيرت نمطية البناء المعماري لا في مظهرها ولا في إطارها عما كانت عليه منذ عدة عقود. لقد كانت الدروب والأزقة ضيقة وملتوية، وتتراكم فيها الأوساخ، حيث تنعدم مجاري الصرف، وهي تربط بين الأحياء السكانية المزدحمة غير المنظمة والخالية من الإنارة الكهربائية. إذ كانت الإنارة تتألف في أحسن الأحوال من استخدام فوانيس قليلة توقد بالزيت. وكان يجري تزويد السكان بالمياه بواسطة القرب التي تحملها الدواب. وأنشأت أول مضخة للمياه في بغداد عام1907 تنقل المياه غير النقية.
كانت المدن الكبيرة غالباً ما تحاط بأسوار كما هو الحال بالنسبة لبغداد والبصرة والموصل وكركوك واربيل والنجف وغيرها من المدن. بسبب فقدان الامن والتخوف من هجمات العشائر عليها, فأفرزت حالة نفسية سيسيولوجية تمحورت حول الخوف والتقوقع الذاتي والتطرف والالتجاء نحوعلاقات رابطة الدم للدفاع عن الذات. كما أنها أثرت في طبيعة عمارة المدن مما دفعها نحو التكور في الازقة لمنع المهاجمين والتصدي لهم.
  ولم " تكن بغداد في العهد العثماني تحتوي على شارع، بل كان فيها أسواق مسقوفة ودروب وأزقة يتصل بعضها ببعض. وكان أول شارع ببغداد هو شارع النهر الذي شقه ناظم باشا عام 1910، وهو لم يكن شارعاً لضيقه وعدم استقامته، بل هو بالزقاق أشبه.
عزم خليل باشا (قائد عسكري تركي- ع.ن) على أثر انتصاره في الكوت (على القوات البريطانية), أن يكون أول من يشق شارعاً حقيقياً في بغداد، وأن يكون الشارع ممتداً على طول بغداد من الباب الشرقي إلى باب المعظم بموازاة نهر دجلة ..." و كانت دوافعه عسكرية ومالية وشخصية، إذ "... كانت (الموضة) الشائعة بين حكام الولايات العثمانية في تلك الفترة التنافس والتباهي بفتح الشوارع وهو يريد من أعماق نفسه أن يطلق أسمه على الشارع الذي يفتتحه ويخلد ذكره في التاريخ [6] ". وقد بدأ العمل بشق الشارع في شهر مايس/ أيار 1916وأنجز في فترة قياسية وأفتتح في 23 تموز 1916 وأطلق عليه اسم (خليل باشا جادة سي) وتم تبديل اسمه إلى (الشارع الجديد) بعد احتلال بغداد من قبل البريطانيين بعدها أصبح باسم شارع الرشيد.
كانت المدينة العراقية وظروفها وعمارتها لا يمت بصلة لما هي عليه في المدينة العصرية حيث لا وجود لمحلات الترفيه والتسلية. وكانت المدينة بصورة عامة غير جذابة، ولم تتوفر فيها إمكانية إنتاج الكتب [7] والموسيقى والفنون الأخرى. لكن ملامح هذه الصورة بدأت بالتغيير بعد الاحتلال البريطاني، إذ أخذت تنتشر المراقص والحانات وأماكن اللهو والطرب بصورة محسوسة، نتيجة للتضخم النقدي الذي شهده الاقتصاد العراقي الناجم عن ما ضخه من كميات كبيرة من النقد فيه نظراً لما تطلبه الاحتلال من مستلزمات لتوطيده وشموله وكذلك لتلبية رغبات وشهوات جنود الاحتلال والفئات التي استفادت من هذا التضخم وخاصةً في المدن الكبيرة.
شهد العراقيون قبيل الحرب بعض نتاج الحضارة الحديثة ومخترعاتها، وإن كان بنطاق محدود.. لكن هذه المحدودية بدأت تتوسع بصورة ملحوظة وأثارت الدهشة والانبهار وازداد التعجب وكثرت التساؤلات، مما أحدث صدمة للمعتقدات والعقول التي بدأت تطالب بالتفسيرات لهذه الظواهر الجديدة، مما أدى إلى نمو الوعي الاجتماعي خاصةً بعد عجز التعليل الذي قدمه الفكر السلفي والتقليدي لهذه الظواهر. هذا العجز أدى إلى تخلخل مكانة الفكر التقليدي والتشكك في مصادره وقيمه الموروثة التي كانت في حالة (شبه مقدسة) وابتعاد الجيل الجديد المثقف عنه. عمقها فعالية قانون (مقاومة التجديد) التي قادها الفكر التقليدي ومؤسساته الاجتماعية من جهة، ومن جهة ثانية الدخول غير المعلن للتيارات الفكرية الحديثة . 
 كانت هذه المرحلة كما اشرنا سابقاً, بمثابة، مرحلة انتقال من المجتمع الزراعي/القبلي المتشظي إلى مجتمع المركزية الحديثة، والتي تلعب الدولة فيه دوراً أرأسياً. مما أدى بحكم الضرورة إلى قانونية التنازع بين: الجديد والقديم في القيم والسلوك، في الأنماط الحياتية والعلمية، بين المستجد والموروث وما رافقهما من قلق وتوتر على النطاقين الفردي والاجتماعي.
 تجسدت عمليا هذه الظواهر, بصورة خاصة, عندما استخدمت الدولة المركزية العنف المكثف والمنظم وبواسطة السلاح المتطور والمستخدم من قبل رجال متخصصين في العنف(القوات المسلحة) وأخضعت العشائر لجبروتها وأمنت سريان مفعول قرارها. ورصد الصراع بشكل لا يخطئ العين، داخل مجتمع الريف بدرجة أكبر حيث بدأ الإقطاع والملاك الغائبون الكبار يظهرون بصورة تدريجية وسريعة، وزيادة القوة العاملة الفائضة المطرودة (هاجرت للمدن)، نتيجة تغيير علاقات الملكية لحقوقية للأرض. كذلك الحال في المدينة حيث نمى التمايز بين الفئات الاجتماعية نتيجة تركيز الثروة وتوزيعها غير العادل المنعكس في اختلاف الدخول والمرتبات.
 ولذا طرحت الظروف الجديدة بعد تأسيس الدولة العراقية اشكالية التمايزات الطبقية والمذهبية والجغرافية والتوازنات بين المكونات الاجتماعية بشكل واضح وحلها من خلال فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية وتوسيع القاعدة الاجتماعية للحكم من خلال إلغاء التميز الطائفي والاثني لتعزيز الهوية الوطنية العراقية. هذه الأفكار العامة تبنتها أحزاب المعارضة الوطنية غير الرسمية، ووجدت صداها في الحركات والتنظيمات الوليدة آنذاك، وجسدتها برامجها المعلنة.. سواءً فيما يتعلق ب:
 المشاركة الأوسع للفئات الاجتماعية والاثنية والدينية في الحكم وآليات التوازن بينها؛ مسألة الأرض والفلاح؛ التحرر الاجتماعي والموقف من المرأة؛ في العنف ومدى استخدامه والجيش ومؤسساته؛ طبيعة آلية النظام والتداول السلمي للسلطة؛ ماهية العلاقة بين السلطات الثلاثة في المفروض والممكن؛ طبيعة العلاقة بين السلطة الوطنية والحكومة البريطانية ومستقبل العلاقة معها؛ الاستقلال وطبيعة تحققه؛ كذلك ما له علاقة بالقضية الفلسطينية وبدول الجوار.
مثلت هذه الأرأسيات من المواضيع وما يشتق منها ويتمحور حولها، أبعاد الصراع السياسي بين مختلف القوى الاجتماعية المتناقضة: القديمة والجديدة؛ الليبرالية والمحافظة؛ الحاكمة والمحكومة؛ المتحررة والتقليدية؛ المستغِلة والمستغلَة.
 هذه الظروف الجديدة لازمت المجتمع العراقي وطبعت بصماتها عليه وعلى الفرد، وخاصة العضوي الفعال، الذي أصبح الهم السياسي ظاهرة اجتماعية ونفسية قرينة له ولوعيه، كما وجد في السليقة المنتفضة ( الثورية) في تاريخه الجمعي معيناً فكرياً ساعده في بلورة بعض من سماته، حيث أجبرته الظروف على خوض الصراع الاجتماعي، وحمل معه فكرة المناهضة للحكومات التي فشلت في تحقيق التنمية المنشودة والفكرة الوطنية/ القومية المنطلقة من خاصه إلى عامه.
 
 
المـحـلة البـغداديـة :
 
 كانت مدينة بغداد في مطلع القرن العشرين محصورة بين باب المعظم شمالاً والباب الشرقي جنوباً، وبين السدة الشرقية(سدة ناظم باشا) شرقا ًونهر دجلة غرباً بالنسبة للرصافة (الجانب الشرقي) الذي كان يمثل مركز المدينة. أما الكرخ (الجانب الغربي) فقد كان محصورة بين جامع براثا شمالاً وكرادة مريم جنوبا ًوالمحطة العالمية والمطار المدني غرباً.
 كانت الرصافة هي الأكبر من حيث المساحة ومجموع السكان والأهم من حيث المركز السياسي والاقتصادي نظراً لوجود مقر الوالي والدوائر الرسمية فيه ومقر الجيش السادس العثماني. كان كل جانب منقسم إلى عدة محلات شعبية، وفقاً لمعايير دينية، أو طائفية، أو مهنية، أو عشائرية أو حسب المنطقة المهاجر منها. كما كانت هنالك محلات مختلطة تضم هذا التنوع على كثرته وحساسية علاقاته.
 كانت العوائل الأرستقراطية القديمة والملاك والتجار الكبار، غالباً ما تسكن بعيداً عن هذه المحلات الفقيرة. وتتمركز حول نهر دجلة وبالقرب من مراكز اتخاذ القرار والدواوين الحكومية في محلة القشلة وما جاورها وبالقرب من منطقة باب المعظم. وكانت هذه المحلات أكثر نظافةً وإنارةً وأحدث من حيث السعة والتصميم وأقرب للمواصفات الصحية.
في الوقت الذي ضمت المحلات الشعبية العوائل الفقيرة والكادحة والمتوسطة وهم الأغلبية الساحقة من السكان، مع قلة من الموظفين الصغار والمتعلمين التقليدين، من كل ملل المجتمع العراقي وأطيافه الاثنية والاجتماعية والدينية من مسلمين ومسيحيين، من يهود ومندائين، من سنة وشيعة، من عرب وأكراد وغيرهم.
 كانت هذه الأحياء الشعبية غفلا من أي علامة مميزة ولا تعرف إلا كما يعرف النكرات، وقد أمكن لحدود غير مرئية، أن تعزل نسبياً كل مجموعة عن غيرها داخل أحياءها.. وتغفل هي ككل من أية مشاركة في القرار الرسمي حتى لو كان يخصها بالذات.. وبسبب الفقر والجهل نجد أن الجريمة العشوائية ونلك المرتبطة بموروث القيم تملأ الفراغ الذي يخلقه طغيان واستبداد السلطة.
في الوقت نفسه كان التكافل والتضامن الاجتماعي أحد سمات هذه المجتمعات, وهذا مستنبط من: طبيعة العلاقات الاجتماعية الأبوية السائدة وقيمها ومن الإحساس المشترك بالظروف التي يعيشونها، وعمق العوز والحاجة الملازمة لهم ومن الاستلاب المزمن المسلط عليهم، كذلك ما يضفيه الدين من قيم التسامح والتعاون.. لأن كل محلة تحيط بها مجموعة من المحلات و الدروب المترابطة والمتداخلة عائلياً واجتماعيا واقتصاديا أي أنها تشكل وحدة لا تتجزأ مع المحلات المتجاورة. توصف إحدى الروايات التسجيلية هذه المناطق بالقول:
" رافقت مرة جدتي في إحدى تلك الجولات حين رغبت في تعويض الكردية الخادمة التي كانت تقضي في بيتنا نهاراً كل أسبوعين لغسل ملابس العائلة. كنا ننتقل من شارع قذر إلى أخر، قاصدين المكان الذي اعتاد اليهود الأكراد المهاجرون من الشمال أن يجتمعوا فيه. كان الأكراد أكثر اليهود فقراً، أكبر مزود لليد العاملة المتخصصة في أشق الأعمال. من بينهم كنا نظفر بأغلب الحمالين والعتالين وعاملات التنظيف والخدم كانوا يعيشون على هامش الطائفة متراكمين في حيهم القذر[8]".
 لقد تمرس سكان هذه المناطق في الانتفاضات الشعبية والتمردات التي شهدتها بغداد منذ القرن التاسع عشر وما قبله، وكانوا مادة ووسيلة هذه الانتفاضات، التي مدلولها العام كان ضد استبداد وطغيان السلطة العثمانية. كما اشتدت مقاومتهم منذ مطلع القرن العشرين عندما طبق الأتراك المتطرفون( الطورانيون) سياسة التتريك وسحب هوية الانتماء القومي العربي للأغلبية السكانية.
 لقد نمت هذه الحالة السليقية في عقول الشباب عند مواجهة الاحتلال البريطاني وأصبحت هذه المحلات عبر رؤسائها المحليين مركز استقطاب للمتنوريين والسياسيين وحتى المصلحين. الذين لعب جميعهم دوراً ريادياً في تأجيج الاحتجاجات العامة التي سبقت قيام ثورة العشرين. إذ سبق وأن ساهموا " في الاجتماعات التي كانت تعقد في جوامع بغداد وغيرها.. مستمعين ومبتهجين بالحركة الوطنية الوليدة التي كان يعبر عنها في تلك الاجتماعات، بالخطب والقصائد المنددة بالإنكليز والمطالبة بالاستقلال...[9]".
من رحم هذه المجتمعات وما ينتابها من صراع/ تكافل، ولدت الأغلبية المطلقة من رواد النهضة والتنوير(ليبراليون وديمقراطيون واشتراكيون) والكم المطلق من المبادرين الثوريين، سواء أكانوا راديكاليين أوإصلاحيين، ومن عمق المأساة التي عاشها سكان هذه المحلات، ظهر أغلب المثقفين العراقيين الأوائل، الذين اثروا بعمق في وعي الأجيال اللاحقة. كذلك أغلبية كبيرة من سياسي العهد الجمهوري، سواءً المدنيين منهم أو العسكريين. بمعنى مكثف، خرجت أغلب الفئات الواعية والمثقفة والنشيطة عضويا من رحم هذه المحلات، مثلما خرجت الرواية الروسية الحديثة من [معطف غوغول] كما يقال.
لقد اختلطت أجيال مختلفة ومراتب ثقافية متنوعة في رحم هذه المحلات الشعبية  في سياق كفاحهم الحياتي الاقتصادي والسياسي. لذا نرى المتريف مع ابن المدينة، المؤمن والمتدين مع العلماني والملحد، من الجيل القديم مع الجيل الأكثر شبابا، من العائلات المتوسطة الغنى مع العائلات الفقيرة، ومن مختلف مساحات العراق ومناطقه. ونشأت في بوتقة هذا الخليط الاجتماعي, بالضرورة, نوع من الروح والقيم دمغ الكثير من مجالات الحياة وأثر في مكوناتها السلوكية, الجمعية والفردية,  مع الاحتفاظ بالخصوصيات الخاصة بكل فئة اجتماعية والتي ستظهر في المراحل اللاحقة من تطور التركيبة الاجتماعية .
من جانب أخر رسمت هذه التعددية، الأثنية والدينية والاجتماعية لسكان هذه الأحياء ومعايشتهم المشتركة، بعض من الأبعاد التسامحية لدى فئة رواد الفكر التقدمي الأوائل والمثقفون، المناقضة لحدٍ ما، للولاءات الدنيا والعصبوية الفئوية، مما قاد أغلبيتهم إلى المساهمة في تثبيت الأسس المادية لفكرة الهوية الوطنية العراقية، ونادى أغلبهم بمحاربة الأفكار الضيقة والولاء المتعصب المنافي لها والانفتاح على والأرحب نحو الأمة دون تعارض بينهما.
 وقد تبنت هذه الأفكار ذات الطبيعة المحلية, بعض الحركات السياسية لاحقاً وقد أثمرت لاحقا عبر تبنيها من الكثير من المريدين من قادة حركة الضباط الأحرار, حتى مثلت أحد محاور نشاطهم العملي في العهد الجمهوري الأول ( تموز 1958- شباط 1963) و تجسدت عملياً:
في سياسة الإصلاح الزراعي وتطوير الفلاح ومحيطه؛ في مسألة اجتثاث الإملاق العام ومقوماته؛ في تحرير المرأة والعلاقات العائلية من الكوابح التقليدية؛ في العدالة الاجتماعية والحد من التفاوت في توزيع الثروة الوطنية؛ حل ما أمكن من مسألة السكن؛ وفي الحد من التفاوت بين المناطق الجغرافية والمجموعات الاثنية؛ ومن التعارض بين الريف والمدينة؛ في بناء الاسس المادية للهوية الوطنية؛ في الحد من الطائفية السياسية بين المكونات الاجتماعية؛ الاقرار بحل المسألة القومية...الخ.
لم تكن العلاقات الاجتماعية في المحلات الشعبية خاضعة بقوة للتراتيبية الاجتماعية المستنبطة من القيم السائدة آنذاك. وقد تعرضت لمفعول التشتت الاجتماعي بعد التلاقح مع القيم الجديدة الوافدة، سواءً المادية أو الفكرية. إذ بدأت تنشأ فئات اجتماعية جديدة عديد تعمل في الورش الصناعية الصغيرة التي أُنشأت في بعض المحلات الشعبية مثل باب الشيخ وما يجاورها، حتى أمست مركزاً لتجمع اليد العاملة الرخيصة، ذات الانتماءات الاثنية/ الدينية المختلفة. مما أدى إلى تغيير نمط العلاقات وطبيعتها المادية.
واستطرادا لتعقب موضع المحلات الشعبية، فإن أسواقها تمثل الوجه الأخر لطبيعتها الاجتماعية، إذ هي بمثابة شريان متدفق ومزدحم بالخلق، كما هي صورة لذلك الجوار اللصيق والحميم بين أصحاب المهن والحرف المتعددة. فهناك الخياط اليهودي، جنباً إلى جنب مع الحرفي الفني الأرمني، بجنب صاحب المحل المسلم والصائغ المندائي، وبائع الفواكه المجففة الكردي، وصاحب مقهى المحلة البغدادي، وذلك الكادح القادم من الجنوب.. وقد خرج كل واحد منهم من زقاق محلته ليضع يده مع جاره في الحلقة المستديمة الوجود من الأديان والاثنيات والطوائف.
 كانوا يملكون مساحة تمتد إلى ما وراء الأسوار والحدود المرئية للمحلية الضيقة والعصبية المأزومة. هذه الحالة تمثل ولادة جديدة وعسيرة في آنٍ واحد، لترسم الهوية الوطنية العراقية، التي هي النقيض الطبيعي للطائفية الضيقة، بغض النظر عن ماهيتها وشكلها، لكونها لا تعبر إلا عن جزئيتها الضيقة مهما كبرت. وجدلياً عندما تسود العقلية الطائفية/الجزئية فسوف يفقد الوطن/الكل والإحساس بالانتماء المشترك والموحد، والعكس بالعكس.
وبالضد منها فقد انبعثت من رحم المناطق الأرستقراطية والغنية الحاكمة، الأفكار العصبوية والطائفية الضيقة وتلك المشدودة إلى الموروث المقدس وغير المتفاعلة مع الواقع المادي وما يفرضه، ، حيث رأت في هذه الأفكار تهديداً لديمومة مصالحها ومواقعها التسلطية ولحقوقها (!) العرقية والعرفية في الحكم. اتسمت العلاقات في هذه المحلات بكونها كانت شبه مغلقة، أنتجت علاقات تنظيمية عصبوية متزمتة تعتمد على الولاءات الدنيا و[ الجماعات القرابية] حسب تعبير د. فالح عبد الجبار.
لقد أخذت المحلات الشعبية، بما تحمله من قيم اجتماعية، تتحلل كلما ازدادت مركزية الدولة وتوسع تدخلها في الحياة الاقتصادية، وارتقى المجتمع في السلم الحضاري وارتفعت مستويات المعيشة للفرد.  لقد صاحب هذه العملية فرز طبقي، إذ غالباً ما تنتقل العوائل التي ارتقت في السلم الاجتماعي إلى المناطق الحديثة والعصرية التي بدأت تظهر في بغداد آنذاك ، والتي كانت متحررة من الالتزامات والانتماءات التي كانت تشدها سابقاً.
ومن الممكن قراءة العلاقات الاجتماعية في المحلات الشعبية ودورها الثقافي والسياسي بصورٍ متعددة, واحدةٌ منها والتي حضت بقبول واسع، أنه من هذه المحلات وطبيعة نسق حياتها وما رافق ساكنيها من حلم يقظة يومي يتمحور في الخلاص من الإفقار العام، انبثقت أفكار المساواة في العصر الحديث وتم تبنيها من: عقول وعت ذاتها وأدركت ظرفها وبلورت مواقفها بصورة علمية؛ وفئات اجتماعية ظلت تناضل من أجل تحقيقها بصورة متواصلة.
وكانت محلة (قنبر علي)، هي أول مكان انبثقت منه هذه الأفكار وشهدت أول تنظيماتها (جماعة حسين الرحال). لقد كان أغلب أعضاء هذه الجماعة هم من سكان المحلة ذاتها، مما سهل تقاربهم، خاصةً وأنهم يعيشون ذات الظروف وينتمون إلى ذات الجذور الاجتماعية وعلى احتكاك يومي مع معاناة الناس. هذه المعايشة المقترنة بالرؤية المعرفية، أهلتهم إلى طرح أفكارهم ورؤيتهم بمنهج علمي جديد يتواءم مع استيعابهم له آنذاك.
في محلة (قنبر علي) كان يسكن آبان بدايات ظهور الفكر الاشتراكي أغلب رواده الأوائل وتلاميذهم ومن المتأثرين بأفكار الثورة الفرنسية والمبادئ المنبثقة منها. يقول حسين جميل: " سنة 1924 عندما صدرت (الصحيفة) كنت تلميذاً في الصف الثاني الثانوي ، وكنت أسكن محلة ( قنبر علي) في بغداد وسكن المحلة ذاتها سليم فتاح وحسين الرحال ومصطفى علي (وعبد الله جدوع ورشيد مطلك– ع.ن) كانوا يرتادون مقهى المحلة(مقهى النقيب- ع.ن) وكنت أراهم عدة مرات في اليوم الواحد.. هذه الرؤية تزيدني قرباً منهم.. كان يزورهم ويجلس معهم الأستاذ عوني بكر صدقي ومحمود أحمد المدرس . وبعد قراءتي ومتابعتي للصحيفة وتفتحي الذهني لتقبل الأفكار الاشتراكية ، نشأت بيني وبين فاضل البياتي معرفة تطورت إلى صداقة وكان الأخير على معرفة بحسين الرحال[10]".
 في الوقت ذاته كان مثقفو ومتعلمي محلة (باب الشيخ) آنذاك أغلبهم من المتأثرين بالتيار الفكري والسياسي الجذري والمتبنى من قبل الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي السابق. كانت هذه المحلة تمد هذه الجماعات بالأنصار والمؤيدين، وكانت تحميهم، معنوياً ومادياً من الاعتداءات والمطاردات، سواءً من قبل الأجهزة الحكومية أو القوى التقليدية، وخاصةً بعد تأسيس الاتجاه الراديكالي- الحزب الشيوعي في منتصف الثلاثينيات، الذي اعتمد العمل السري نتيجة القمع البوليسي .. ووجد في هذه المحلة, والمحلات المشابه, الأرضية الخصبة لحماية نفسه ونشر افكاره, نظراً لكونها كانت مركزاً للصناعة المحلية التقليدية االتي كانت تدار بعمليات يدوية بسيطة كورش الغزل والنسيج وصنع الاحذية والدباغة والعربات التي تجرها الخيول...الخ وكذلك للتفاوت الطبقي الكبير الذي يغشي هذه المحلة البغدادية. فإلى جانب الاكثرية الساحقة من الفقراء والعمال المأجورين العاملين في الورشة المتعددة والمنتشرة حول محيط المحلة، وكذلك الفقراء الاجانب والقادمين  لزيارة ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني من الهند وافغانستان والباكستان وتركيا.. " إلى جانب هؤلاء كانت تسكن عائلة النقيب بقصورها وبأملاكها في المنطقة ومواردهم مما يرد للحضرة من أموال الهدايا أو النذور ... [11]".
يوضح تاريخ العراق السياسي المعاصرـ أهمية العلاقات الأسرية وأبناء المحلة الواحدة في تكوين مصادر القوة وفي نشر الأفكار وتحديد الانتماء السياسي للفرد والجماعة،. لقد " لعبت ظاهرتان محليتان دورهما في نشر (خطوط التأثير) هذه. وكانت إحداهما هي حميمية العائلة العراقية الكبيرة... وكانت الثانية هي المودة بين أهل المحلة أي الحي في المدينة... [12]" .
هذا العاملان يمكن لمس دورهما لاحقاً، بعد تشتت جماعة الرحال، وتجسدهما بوضوح في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي. إذ " ليس عبثاً أن يكون ثلث الأعضاء القادة لجماعات بغداد يعيشون في باب الشيخ وإن الحزب الشيوعي قد بنى في السنوات التالية، وفي هذا الحي بالذات ، إحدى أوسع قواعده المؤيدة وأكثرها استقراراً...[13] ".
بمعنى آخر مكثف، لعبت العلاقات القرابية والجغرافية والدينية وما يشتق منها، دوراً كبيراً ومؤثراً في نشر الأفكار والعلاقات الحزبية ، وحددت من توجهات الأفراد والجماعات، وبالتالي تحديد هويتهم السياسية وموقعهم في عملية الصراع الاجتماعي. حتى أن هذه العلاقات لعبت دوراً (ربما) يفوق دورها الطبيعي، بل أنها فاقت في بعض الأحيان دور المصالح المشتركة والمبادئ الموحدة للجماعات، بحيث أصبحت تمثل المجال الحيوي المشترك ضمن العملية السياسية، وضمنت سعة نفوذ وقوة هذا الحزب أو ذاك في هذه المنطقة أو تلك.
لقد شملت هذه الحالة كل الفرقاء، في المنظمات الاجتماعية أو السياسية، سواءً ضمن النخبة الحاكمة أو قوى المعارضة. بل لها دور حتى داخل الحزب الواحد، العلني أو السري، في الريف أو المدينة، عند القوى التقليدية أو الحديثة، مع التحفظ على نسبية التأثير.
 في هذه المحلات وضمن ظروفها الزمانية والمكانية وفي أجواءها وعلاقاتها، وما نشأ في رحمها من قيم اجتماعية وصراعات سياسية واقتصادية, دينية وطائفية, فكرية وحزبية.. ولد وترعرع عبد الكريم قاسم. ومنها تشبع بالكثير من القيم المكتسبة (الايجابية والسلبية) وتطبع بطبائعها وانعكست في نفسيته الاجتماعية والفردية وفي ممارساته الحياتية.. من قبيل أولوية الانتماء الوطني على باقي الولاءات؛ ونبذ التعصب بكل أشكاله (الدينية، المذهبية، الأثنية والاجتماعية)؛ مساعدة الفقير والكادح؛ اجتثاث مقومات القهر المادي والمعنوي؛ الاستلاب والتسلط؛ تعزيز شكيمته وسليقته المناهضتان للظلم والطغيان؛ تقبله على التعلم وقبول الجديد؛ التمرد على الواقع الفاسد.
هكذا بذرت المحلة في نفسيته الكثير من قيمها الإيجابية, ولذا لم يتماثل مع القيم العشائرية المفتخرة بالأنساب، رغم انتماءه لعشيرة تنحدر من قبيلة قحطانية, خاصةً إذا علمنا أنه آنذاك " كان لأصالة أو قدسية النسب أهمية كبرى بالنسبة لأهل المدن العرب بصورةٍ خاصة، ومن هنا توق الكثير من عائلاتهم الكبيرة لربط نفسها أما ببيت الرسول أو بقائد بارز من قادة الفتوحات العربية، مثل خالد بن الوليد أو بواحد من الأولياء المعروفين أو بقبيلة مهيبة أو عريقة... [14] ".
ويدرك الباحث في الشأن العراقي، أن " في ملف الزعيم عبد الكريم قاسم شيئان لم يستطيع أحد من القريبين إليه اكتشافهما، وهما انتسابه العشائري وولائه المذهبي[15]، وفي المقابل هنالك شيئان أوصلا العراق إلى حافة الكارثة( إن لم تكن الكارثة بعينها- ع.ن) فيما بعد وهما تعصب الحاكم للعشيرة وولائه الطائفي. وربما تكون النشأة العائلية المتوازنة للزعيم قد ساعدته على ذلك. فقد نشأ في مدينة محايدة لم تنشغل بقضايا العداء الطائفي أو العنصري، فقد ترعرع الزعيم في هائلة كريمة من سواد لناس والتحق بالجيش في ريعان شبابه وشار في معارك فلسطين عام 1948، كل ذلك منحه ثقة عالية بالنفس وعصامية لا تفخر بالاحساب بالأنساب. ولهذا اكتفى باسمه الثنائي دون ذكر العشيرة أو اللقب أو أسم الجد، ولو أستمر قاسم بالحكم فترة أطول لكان قد وضع المسمار الأخير في نعش الطائفية ، حيث كانت سياسة التدرج بإلغاء التمايز الطائفي التي سار عليها، قد أثارت المخاوف في نفوس غلاة الطائفيين ... [16] " .
ويؤكد المفكر الراحل هادي العلوي هذا التوجه بقوله :
 "إن الطائفية باقية في العراق ومحتدمة وللسلطة دور فيها مارسته في جميع مفاصل تاريخ العراق الحديث عدا سلطة عبد الكريم قاسم الذي لم يكن شيعياً ولا سنياً, وقد تجاوز هذا الارتباط الجزئي وتمرد على انتمائه الطائفي بحكم شخصيته الأخلاقية وإنسانيته الشفافة التي جاءته من بربيته العائلية  [17]"
 
 
 
 
 
 
 
 
 


[1]  للمزيد راجع د. علي الوردي ، لمحات اجتماعية، مصدر سابق، ج.4، الفصل الأول.
[2] د. عامر حسن فياض, جذور الفكر الديمقراطي, ص. 135, مصدر سابق.
[3]  عزيز سباهي ، عقود من تاريخ, مصدر سابق، ص.33
[4] " راحت الصحافة في العراق تلعب دورها المباشر وغير المباشر في التوعية, فبعد أن كانت ولاية بغداد تقتصر على إصدار جريدة واحدة هي الزوراء (كان اسمها الاول زوراء لغاية الانقلاب الدستوري 1908- ع.ن) أصبحت تصدر عدة صحف. وكانت كل الصحف المعارضة للسلطة تسمى (وطنية) دون تميز بين التي تعارض من أجل الاستقلال من السيطرة العثمانية وبين التي تعارض من أجل استبدال  تلك السيطرة بسيطرة أخرى انكليزية أو فرنسية " عبد الغني الملاح، ص. 10, مصدر سابق.
[5]  لونكريك ، مصدر سابق، ج.1، ص. 41
[6]  د. علي الوردي، لمحات اجتماعية، مصدر سابق، ج. 4، ص. 303
[7]  كانت المطبعة من أوائل المخترعات التي نقلت من الغرب للشرق. وكانت الكتب العبرية، هي أول الكتب التي تطبع في البلاد العربية وذلك عام 1492.  لكن كان ممنوعاً طبع الكتب بالعربية أو التركية  لغاية أوائل القرن الثامن عشر. لقد مر أكثر من مائتي سنة بين إقامة أول مطبعة عبرية وبين علم 1727 عندما سمح بإقامة أول مطبعة تركية ، لكن معارضة هذا العمل تحت دعاوى الكفر كانت قوية، مما أدى إلى توقف المطبعة لمدة 15 عاماً أخرى. ولم يعد فتحها إلا في عام 1784، حيث بدأت إعداد الكتب المطبوعة تزداد ازدياداً مطرداً. وفي بغداد دخلت أول مطبعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع صدور أول عدد من جريدة الزوراء. ويذكر روفائيل بطي أن معدل الكتب المطبوعة في منتصف العشرينيات لم يزد على كتاباً واحد سنوياً, 
[8]  نعيم قطان .. وداعا بابل، مصدر سابق.
[9]  فؤاد حسن الوكيل ، جماعة الأهالي، مصدر سابق، ص. 60
[10]  مستل من عامر حسن فياض، جذور الفكر الاشتراكي، مصدر سابقن ص. 176
[11] د. عبد الرزاق مطلك الفهد/ ص, 89, مصدر سابق. ولهذا ليس اعتباطا,ً كما ذكر لي الاديب كاظم السماوي في استوكهولم صيف عام 2000, عن لسان هاشم مهدي, أحد الاعضاء المؤسسين للحزب الشيوعي :إن المؤتمر التأسيس, الذي عقد عام 1934, للحزب الشيوعي العراقي قد إلتئم في أحدى الدور الواقعة في محلة باب الشيخ ذاتها.
[12]  حنا بطاطو، مصدر سابق، الجزء 2 ، ص. 64..
[13]  المصدر السابق،ص. 77. وذات الفكرة أعلاه يمكن تطبيقها على جماعة الجنوب الشيوعية( الناصرية والبصرة)، إذ أغلب أعضاءها كانوا يعيشون في مناطق متقاربة جغرافيا، ومن حيث الجذر الاجتماعي وفي وسط محلات فقيرة. ومن المفارقات أن المتأثرين بالتيار القومي الالماني كان اغلبهم من ابناء الأسر الحاكمة والعائلات العسكرية والمالكة والارستقراطية القديمة التي كانت تعيش في المحلات(المترفة) القريبة من الدوائر الرسمية ومركز القرار.. مما طبع سلوكهم السياسي بطابع النزعة القومية المعتمدة على القوة العسكرية كاداة انبعاث قومي . 
[14]  المصدر السابق، ، الجزء الأول، ص. 22.
[15]  حدثني المقدم الركن قاسم الجنابي مرافق الزعيم قاسم: أنه عرفه قبل الثورة وعمل معه طيلة فترة حكمه, ولم يعرف كيف كان الزعيم يؤدي الصلاة ! هل على طريقة أهل السنة أم على الطريقة الجعفرية ؟. إذ كان الزعيم عندما يؤم الصلاة كان يغلق باب غرفته من الداخل ولا يفتحها إلا بعد الانتهاء من صلاته. ولم يجرء أيٌ منا نحن المرافقون والعاملون في مكتبه, سؤاله عن مذهبه. مقابلة جرت معه بتاريخ8/4/2004 بحضور كل من رعد عبد الجبار وعبد الكريم رحيم الصراف في دار الأخير في بغداد.
 كما أكد هذه الحالة المهندس طالب حامد قاسم, بالقول: " عندما كان عمي يأتي إلى دارنا حيث لديه غرفته الخاصة, كان عند ادائه الصلاة.. يغلق باب غرفته بالمفتاح من الداخل ولا يسمح لأحد بالدخول في غرفته.. وعندما نسمع رنين المفتاح ثانيةً, معنى ذلك أم عمي قد انهى صلاته وبالامكان الدخول عليه في غرفته." مقابللات جرت معه في يومي 17و18 /4/2004 في ابو ظبي في الامارات العربية المتحدة.
[16]  د. عدنان فاضل, عبد الكريم قاسم والطائفية، جريدة المؤتمر، العدد 162 في 02/08/1996
[17] هادي العلوي, حوار الحاضر والمستقبل, مجلة النهج, ص. 58, العدد 52 خريف 1998.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من تاريخية الأنقلابية في العراق الحديث
- أفكار أولية: عن طبيعة ومهام المؤسسة العسكرية في عراق المستقب ...
- مدخل نظري: من ملامح المؤسسة العسكرية العراقية
- الإرهاصات الفكرية للمساواتية الحديثة في العراق الحديث
- دور الفـرد في التاريـخ - عبد الكريم قاسم نموذجاً


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - البيئة الاجتماعية لبغداد ومحلاتها الشعبية