أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (9)















المزيد.....


يسرا البريطانية (9)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6654 - 2020 / 8 / 22 - 14:24
المحور: الادب والفن
    


تدفق اللاجئون السوريون على بريطانيا إثر النزوح من مناطق القتال بعد اندلاع الأحداث الدامية في العام 2011، بدأت وجوه غريبة تطل من الشوارع والأرصفة وعند المطاعم العربية وأمام المكتبات، تشير إلى بداية انتشار لتواجد السوريين مع العراقيين، الذين جاءوا بدورهم منذ الحرب في العراق، لم تستطع الاندماج مع العراقيين لأنها لم تصادف من يحمل نكهة الزبير، وها هي تبحث في وجوه السوريين ممن عاشوا بحلب لعلها تصل لخيط يؤدي لربطها من جديد بعائلة هيثم الشريف التي تشردت بدورها بعد الأحداث هناك، منهم من قتل ومنهم من اعتقل ومنهم من لجأ إلى أستراليا لوجود أقارب هناك من قبل الحرب، أما هي فقد "كتب على أعيش الحرب أينما كنت، حتى وأنا في لندن" قالت عبارتها في سرها ومضت تقطع دروب الكفاح المرير لتبقى في أمان بالعاصمة البريطانية، تبذل كل ما وسعها ألا تخطئ، فوضعها لا يمسح بالأخطاء، ومن شأن غلطة صغيرة قبل أن تحصل على الإقامة أن ترمي بها على رصيف الشرق الأوسط، هكذا كانت تتخيل الشرق الأوسط برمته، ساحة استلاب لأمثالها ممن تشردوا نتيجة الثورات المجنونة والحروب والصراعات التي لم ترحم من تورط بها ومن لم يتورط، فقد انزلق المذنب والبريء، والضحية والجلاد، وها هي الوجوه الهاربة من تلك المناطق الدامية تشاهدها في شوارع لندن "أحمد الله أنني أعيش في كينغستون" كانت لندن بالنسبة لها تهديد دائم، فخلال السنوات التي عاشتها هناك ظلت متحفزة طوال الوقت ضد تهديد لا تعلم مصدره ولا متى يقع؟ أو كيف؟، كانت ترى التهديد في كل شيء حولها، في العرب والأجانب، في الشارع وفي الشقة وفي الطريق الخلفي من لندن وسط المناطق الفقيرة والمزدحمة بالجاليات الشرق أوسطية، ومن الإنكليز أنفسهم، إذ رأت في وجوههم تحفز لاستفزاز كل من يحمل وجه أسمر من الشرق أو نبرة غريبة في حديثه، لذلك فضلت العزلة والابتعاد عن العرب لتعيش بسلام، كان السلام يعني لها الاستقرار في العمل والحصول على الجنسية البريطانية، التي حصل عليها الأفارقة والآسيويون واللاتينيون، إلا هي وحدها التي تستحق من بين كل هذه الآلاف المنتشرة في الشوارع والمدن والمقاطعات البريطانية، تم استثنائها من هذه النعمة التي تحلم بها، حينها قررت أن تبدأ المغامرة هذه المرة، ولكن مع التخطيط لها بعد أن تنتشي إثر تدخينها الحشيشة مع جرعتين من الفودكا أو النبيذ وهي الحالة التي اكتشفت أنها تمدها بالمجازفة والاندفاع وهو ما تحتاجه لتنسج لها حياة مغايرة عن تلك التي غرقت فيها منذ وطأت أقدامها الأرض البريطانية.
" يجب أن احصل على الجنسية بأي ثمن "

****
يسرا البريطانية

( 1 )

الوجوه الجامدة والعصية على الفهم وهي تتحرك وسط شلل من الكتل البشرية وكأنها غير عابئة بالجنسية التي تحملها" لو تمكنت منها، سأدخل الجنة الأرضية" عانت من كآبة التفكير في الأمر مدة دخولها البلاد، كانت المسافة بين حصولها على الإقامة الإنسانية والإقامة الدائمة كالصراط المستقيم، ودت لو كانت من الأطفال اللاجئين، بالنسبة إلى الأطفال، ينص قانون الجنسية البريطانية أنه تمنح الجنسية للطفل من مواليد بريطانيا إلى أبوين غير قانونيين لمجرد بلوغه سن العاشرة وتمنح تلقائياً، من أبوين قانونيين الإقامة الدائمة في سن السابعة ثم الطريق قصيرة للجنسية، هذا ما توصلت إليه من بحثها العشوائي المتوتر.
ارتدت جاكت أحمر، فوق القميص الرصاصي المفتوح على الصدر، تمعنت في الغرفة حولها لتجدها ضيقة ورتيبة، يخيم عليها الهدوء البارد، تغلفها رطوبة، تصاعد شعور بالاختناق دفعها للخروج مسرعة إلى الشارع.

****
لم تتمكن من مواصلة السهر بالمكان الذي اختارته وتوقعت أن ترى شخصاً ذا قيمة ونفوذ تلقى بأوراقها معه، "الشرف انتهى" أقنعت نفسها بذلك رغم أنها لم تشعر بميول جنسية تجاه كل من صادفتهم، ولكن متطلبات الجنسية تفرض الآن البحث عن مفتاح الطريق السهل، قررت التوقف عن سبر غور المراحل التي يطلبها الشخص المتقدم للجنسية وتركت وراءها الثلاثة قواعد من المراحل المحددة للقانون المعدل الذي يوفر الشروح الكاملة حول التغييرات التي طرأت على القانون نفسه، تعبت من الركض وراء الوسائل القانونية وعجزت عن تفسير ما يحدث لها من تجاهل وعقبات، أرهقتها التفسيرات وشروح المتطفلين، والساخرين منذ أن تقدمت بأوراقها للجنسية عبر السنوات التي انقضت، ظل الطلب تحت الدارسة من سنة إلى أخرى، في البداية قيل لها ثلاث سنوات وتمنحي بداية ما يسمى بالجنسية المؤقتة أو الإقامة الفعلية المؤقتة على أساس أن الطلب مقبول ضمن الفترة من سنة إلى ثلاثة سنوات بحكم أنه يخضع للمرحلة الثانية وهي مرحلة منح الجنسية، حيث يتم فيها دارسة وضعية طالب الجنسية من ناحية العمل وعدم وجود سوابق، زهقت روحها، وتقبلت الإهانة تلو الأخرى، صبرت على الضيم ومرارة العيش وقاومت الإغراءات حتى لا تقع في محظور السوابق، ولكنها في النهاية رأت بأم عينيها وقد خرج الجميع ممن تعرفهم بجنسياتهم البريطانية وظلت تلعق جرح التيه، تربص بها الجميع من دون أن تستسلم، كل ذلك في سبيل ألا تخالف القوانين أو تفصل من العمل.
تعلم بأن توظيفها جرى عن طريق تأشيرة عمل مؤقتة مرتبطة بمدة الإقامة المؤقتة، ولو انتهت الإقامة ستخسر العمل وتصبح مخالفة للقانون، يحق للجهة المختصة رفض طلبها، حدثت تغييرات على قوانين العمل والإقامة وكل ذلك صب لغير صالحها نتيجة التهييج وتزايد النقمة على المقيمين بسبب التطرف، هذا التغيير قد يطيح بحلمها وعليها أن تسرع بالمجازفة.
ركبت "الباص" ذو الطابقين مستخدمة بطاقة "Oyster" اليومية بعد أن شحنتها من محطة "سيربيتون" المتوجه نحو "جيستين" وقد حزمت أمرها على فعل لم تفكر به من قبل، تجنبت طوال السنوات المنصرمة أن تفعله بعدما رأت نتائج ذلك الأمر وما قد يسببه لها من نوازل، لم يكن أمامها الليلة سوى إلقاء آخر ورقة وليحدث ما يحدث، فقد سأمت هذا الخوف والتوتر الدائمين بلا جدوى من مصير تأشيرة الإقامة القصيرة التي توشك أن تنتهي ولا تملك لا المال ولا الوقت، للخروج من العمل، فقدت الاتصالات مع الجهات المختصة لتجديد الإقامة، هذا إن أرادوا تجديدها لها بحسب ما وردها من تصعيب الأمر على المقيمين الآن، توجهت نحو منزل "مايك" الباكستاني، ولهذا الشخص قصة طويلة معها حاولت أن تنساها وفك ارتباطها مع كل ذكرى شنيعة مرت بها معه، ويكفي أن تذكر فقط كيف تلقاها منذ الساعات الأولى التي انتهت فيها واسطة الرجل القطري الذي حاول ابتزازها جسدياً ثم ساعد على ترحيلها، هربت منه لتلتقي بمايك الذي بدوره تلقفها وحاول إقحامها في شبكته الغامضة والتي تدير كل ما هو غير قانوني تحت مظلة قانونية، من الدعارة والقمار وتهريب الأشخاص وإخفاء الهاربين والعمل في المساجد والمكاتب الإسلامية ووسيط للمبشرين وغيرها مما لم تسبر غوره خلال الأيام القليلة الأولى التي التقت به قبل أن تهرب، بعد أن سلمته كل ما تملك من مال مقابل توفير الإقامة والعمل، وعندما تلاعبت به في البداية ولم تجد على أثرها مناصاً من دفع الثمن، اختفت من حياته بشعور من لا يريد أن يرى هذا الوجه للأبد.
علقت عيناها بالطريق من "سيربيتون" باتجاه "جيستين" على سلسلة الأشجار العالية ذات الأغصان المهيبة وعلى المنازل المترامية الأطراف حتى داخل الأشجار الخلفية كأنها غابة منازل مدفونة وسط الأشجار، راحت تقرأ أسماء المحطات التي تمر بها متذكرة أيامها الأولى وهي تقطع هذا الطريق قبل أن تهرب إلى لندن، أدركت بعد هذه الفترة، بوعيها لماذا يختفي مايك الباكستاني في أطراف "كينغستون"؟ ولماذا نقل أعماله في هذه المقاطعة، " لا أصدق بأني أعود لنفس المكان، وأجازف مع الرجل المحتال بالقانون ؟ وأين في بريطانيا أم القوانين" دار ذلك في رأسها وهي تتأمل الطريق من نافذة الباص وسط الصمت المطبق على الركاب الذين خيم عليهم السكون وأغلبهم من العجائز، لم يكن الباص مكتظاً، فقبل الساعة العاشرة عادة ما يتوزع عدد من المتأخرين على الباصات فيما يبدأ البعض باستخدام سياراتهم الخاصة لانعدام زحمة الطريق، كانت هناك سيدة عجوز ذات وجه مثلث وأنف مستطيل ومنحي في نهايته، وكشفت عن عينين زائغتين وشعر كث بنفسجي اللون تقبع بجانب النافذة على المقعد الذي أمامها، ومن شدة الهدوء راحت تسمع تنفسها، لمحت بعض الحشرات أو الفراشات الصغيرة المنفلتة من وراء الأشجار تصطدم بنوافذ السيارة وتترك آثار دمائها الصفراء على هيئة بقع متناثرة صغيرة الحجم، ظلت عينا يسرا تنتقلان من داخل الباص بين الوجوه الخاملة والصامتة، وبين الخارج حيث السيارات الصغيرة تمر أمامها من الطرف المقابل للشارع، ظل قلبها يدق وتخفق ضرباته بشدة تكاد تسقط في معدتها التي أخذت هي الأخرى تتلبد بأصوات غريبة أرجعتها لخلوها من الطعام، فهي لم تتناول شيئاً منذ أن عادت من العمل إضافة إلى أنها تناولت بضعة كؤوس من الفودكا على فترات متفاوتة.
عندما ترجلت أخيراً من السيارة في محطة "جينستين"، كانت الساعة العاشرة وسبع دقائق، بدا الطريق يكاد يخلو من المارة، كانت هناك ثقوب سوداء في السماء مشكلة بضعة كتل من الغيوم السوداء، والهواء كان بارداً فيما رائحة الأشجار تنبعث من حولها مذكرة إياها بقدوم الربيع، لم تشعر بخوف من الطريق وهي تتذكر علاماته الأولى قبل بضع سنوات، ولكنها فوجئت بأن ذاكرتها قوية إذ رغم الفترة التي انقضت منذ مجيئها في الأيام الأولى إلى هذا المكان فأنها لم تنس الطريق ولا العلامات ولم يتغير شيء سوى أن هناك بضع حفريات في الشارع وضعت حولها حواجز ليتم العبور من أمامها، هذه هي ورشة تصليح السيارات ظلت مكانها ولكنها طليت على ما تظن بلون مختلف، وها هو الشارع الفرعي المؤدي لسلسة المتاجر والمطاعم الصغيرة التي يعلق بذاكرتها الآن واحداً منها كان "مايك" يتناول فيه إفطاره الصباحي ويلتقي أعداداً من العملاء المشبوهين" أين مدخل المنزل السري الغامض؟ "
وقفت تتلفت لتتأكد من منعطف الطريق، لقد جاءت متأخرة بالليل ومن دون موعد أو ترتيب وبعد كل هذه السنوات من الاختفاء، ماذا تنتظر أن يحدث؟ كان هناك رجل واقف بقرب من صندوق حديدي للكهرباء، سمر نظراته تجاهها، تجاهلته وسارت بضع خطوات، شعرت بأنها فتحة الممر الضيق الذي أوشكت أن تتعرف عليه، وقوف الرجل المريب بالقرب من المدخل حال بينها وبين العودة للوراء، تجنبت التورط معه بحديث أو أسئلة في هذا الوقت من الليل، حاولت رصد منعطف آخر يؤدي لذات المكان ولكنها توجست من رؤية أحد الكلاب العملاقة يرقد على منحى الطريق الآخر، دارت مرة أخرى للأمام وقبل أن تصل الممر الأول فتحت حقيبتها وتجرعت رشفة صرفة من زجاجة فودكا صغيرة، مطت شفتيها وأطلقت تنهيدة حادة ثم أقحمت الزجاجة في الحقيبة وقطعت الممر من دون النظر في عيني الرجل المسمر بمحاذاة المكان، سارت بضع خطوات للأمام ثم عبرت دهليز ضيق آخر على أطرافه، تسللت من خلال فتحة بين بنائين، ثم سارت عبر ممر مرصوف بالحجارة، بلغت سور المنزل الذي لم تكن متأكدة من أنه لم يتغير، لم يكن فيما سبق هناك سور يعلو الدار ذات الطابقين ولكنها عبرت بقية المسافة لتأكدها من المكان وسط بقعة حادة من الضوء جاءت من كشاف كهربائي أعلى البناية، كانت هناك أرجوحة للأطفال في باحة المنزل وخلفها عدد من إطارات السيارات طليت باللون الأحمر، وعلى امتداد المحيط مقابل الجدار الخلفي للدار ظهر حبل أزرق طويل طرف منه ثبت بالجدار والطرف الآخر على عمود خشبي وعلقت عليه ملابس مختلفة لتجف رغم أن الوقت ليلاً، تباينت الملابس بين سراويل نسائية قصيرة وسراويل جينز رجالية وقمصان رجالية بعضها بأكمام وبعضها بدون، ران سكون لوهلة ساعد ذاكرتها المثخنة بويلات التشرد والضياع على استيعاب ومضة سريعة عبرت بداخلها وسبرت من خلالها غور المكان، عرفت من بعض الملابس كالقمصان ومن ألونها أنها ذوق "مايك" الهابط كعادته منذ عرفته من قبل، اقتربت من الباب الحديدي الأبيض وقد تردد صدى خطواتها، توقفت نبضات قبلها وكأن بها خرجت من داخلها وأصبحت كائناً آخر لا يشعر بما حوله، ومن دون تلميح فوجئت بذات الرجل الذي كان واقفاً بطرف الشارع هو من فتح لها الباب قبل أن تطرقه" من أين دخل المنزل؟" لا تعرف إن كان للدار باباً آخر وسبق أن عبرت هذا الباب "السر يكبر مع الزمن" قطع عليها الطريق بوجهه المكتنز باللحم ولحيته الخفيفة ، برزت عينان فحميتان تنمان عن مكر سحيق غائر في المجازفات، نظرت إليه وسارعت قبل أن يبادر بتصرف أحمق غير متوقع.
"مايك"
لم يتغير المنزل كثيراً من الداخل باستثناء شاشة التلفاز المسطحة الكبيرة، وبعض ملابس للأطفال ملقية على كنبة وردية مطرزة بخطوط سوداء وإكسسوارات معتادة موزعة في أرجاء الصالة الخارجية التي تفصل بينها بين بعض الغرف المغلقة، بدا المنزل هادئاً واطمأنت بعض الشيء لدى سؤال الرجل عن اسمها ثم ابتعاده مسافة عنها من الصالة، راح يهمس في الجوال فيما راحت تتأمل المكان من حولها، شعرت بالصالة رطبة وخانقة رغم الضوء الحاد الساطع من أطرافها، وظهرت طاولة طعام غطيت بقطعة قماش مارونية قاتمة ملحقة بأسفل زاوية من المكان وتتسع لأربعة عشر شخصاً، أحصتهم بالكمال والتمام لتبعد شبح التفكير السلبي من فكرها، كان هناك هاتف منزلي أسود قديم يعلوه هوائي طويل، يستخدم على ما يبدو وغالباً في الاتصالات السلكية الداخلية مع العمال والموظفين، وعلى الجدار الأيمن من مكان وقوفها لمحت لوحتين إحداهما زهرة عباد الشمس مع إطار فضي عريض لا يتناسب مع لونها الباهت، واللوحة الأخرى صورة فوتوغرافيه لبرج إيفل الفرنسي، لا تطابق محتويات الصالة،عاد أدراجه نحوها ونظر في عينيها نظره صارمة ولكنها غير عدوانية.
"هل جئت إلى هنا وحدك"
مكث يتأمل وجهها قبل أن تجيب ثم هز رأسه كمن يؤذن لها بالكلام.
" نعم بالباص"
قالت عبارتها من دون تردد وبثقة حسدت نفسها عليها بعد كل هذه الرحلة الليلة وحدهها بالباص.
"هل توجد باصات بعد العاشرة؟"
" يعتقد أنه يختبرني الأحمق" قالت في داخلها وردت عليه.
"طبعاً"
ردت عليه بارتياح وهي تنظر في عينيه، ثم استرسلت غير مصدقة أنها تقوم بكل هذا العمل السري المحفوف بالمجازفات.
"أعرف مايك منذ أمد بعيد وهو يعرفني"
رد عليها وقد تعمد رفع نبرة صوته قليلاً
"يسرا"
انسلت من أمامه بضع خطوات، دون أن تنبس بحرف، انزلقت على الكنبة الوردية وانثنى رأسها فيما سقطت يدها اليمنى أسفل الكنبة وظلت الأخرى ملقى على بطنها، سال خيط رقيق من لعابها على خدها فيما بدت مغشياً عليها، كان الوقت الذي قطعته منذ الفجر عندما استيقظت عند الرابعة والنصف ثم مشوار العمل بكامله، وعودتها المنزل ثم خروجها للحانة وأخيراً ركوبها الباص وحدها بالليل، وقطعت المسافة من محطة "سيربيتون" إلى "جينستين" لمقابلة مايك المحتال، كل ذلك ضغط عليها دفعة واحدة في هذه الثانية من الزمن، اختزلت المعاناة الداخلية وضغط الدم لتنتهي عند الكنبة التي بدا على أطرافها بعض اللطخات من زيت، أو بقايا سوائل ملونة، وقف الرجل في البداية مذهولاً حائراً ثم سرعان ما اختفى وعاد مع شاب في محيط العشرين عاماً تقريباً من عمره، بدا شكله إنكليزياً قحاً من لونه الأبيض الناصع كالحليب، وشعره الحليق بمستوى 2 مع شعيراته الشقراء، وحاجبيه العاليين، كانت له ملامح باردة توحي بالهدوء والثقة، وعينان واسعتان زرقاوان متسقتان، طبعت عليه مسحة من الوسامة الرجولية تفوق سنه، بادره الرجل الجاثم على الأرض بجانب الجسد المسجي قائلاً بنبرة مستغربة.
"هيا يا دكتور، افعل شيئاً قبل أن نتورط؟"
أومأ الشاب للرجل بحركة من رأسه من دون معنى، كان قد انكفأ على رجليه، ثم وضع أصابعه أسفل إذنها اليمنى في الوقت الذي فتحت عينيها وفوجئت بوضعها المقلوب، فزعت وحاولت النهوض إلا أن الشاب الجاثم حولها أمسك بيديها بهدوء وأجلسها على جانب من مؤخرتها فيما تنفس الآخر الصعداء.
بعد أن انتهت من الحمام واغتسلت وعدلت تسريحتها، ظل وجهها ممتقعاً يشوبه الإنهاك والخمول، بدا لون الوجه مائل للأصفر، أجلسها الشاب على كنبة صغيرة مفردة إلى جانب من الباب والأوسط المؤدي إلى عتبة مستطيلة تفصل الصالة عن الجهة المقابلة التي لم تلاحظها منذ أن قدمت للمكان، في ذات الوقت اقتحم المكان الرجل الضخم المستبد القسمات كما لو أنه في حالة استنفار مستمرة، حاملاً بيده كوب الشاي الذي استلمه منه الشاب ووضعه في يد المرأة.
"أدعى ستيف وأنا لست بدكتور، كما أوحى لك ريتشارد وهو دائماً يصر على مناداتي بدكتور، أنا طالب سنة رابعة طب ولم أتخصص بعد، هذه سيرتي"
" دكتور"
قالها المدعو "ريتشارد" وكأنه مصر على فرض اللقب على الشاب، أومأ ستيف برأسه وتبادل نظرة خاطفة مع يسرا التي كانت شبه مرتبكة مع سمات واضحة تنم عن الهدوء رغم نظراتها المتأرجحة في المكان، كانت تتأمل المحتويات من السجاد القديم المتهرئ وهي لا تعلم بأنه من النوع الأصلي الفارسي نسج اليد، إلى الثريات القديمة الكبيرة المعلقة في السقف وهي من الطراز المنقرض من أمد بعيد، لكنها لاحظت في الجهة المقابلة لمدخل، لم تتبين ما إذا كان الحمام أم المطبخ، شاشة تلفاز أخرى حديثة جداً، كبيرة الحجم 55 بوصة، أوصلت بعدد من أجهزة الاستقبال، وأرجعت ذلك في تحليلها لوجود أعمال تتطلب متابعة إخبارية "أين أنا" قالت بشعور من الغموض يكتنف تفكيرها المجمد هذه اللحظة، نسيت كل ما جاءت إليه، ولم يخرجها من دائرة التيه سوى وقوع عينيها على الساعة الدائرية المزخرفة بنقش تراثي معلقة على الحائط الجانبي ، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وثلاثة عشرة دقيقة "واو.. يا إلهي" راعها مرور الوقت، فكرت في العودة وفي النوم، والعمل في اليوم التالي، لم يتسن لها أن تستعيد فكرة لقاء "مايك" جل ما ورد في خاطرها العودة لشقتها سالمة لتستجمع شتات نفسها الممزقة بين المكان الذي عادت إليه بعد سنوات الهروب منه، وبين فقدان الإقامة المؤقتة، وبين خسارتها لنفسها، ولولا وجه هذا الشاب المريح للوهلة الأولى لتقيأت اللعاب الذي غصت به إثر الإغماء عليها، مرت بيدها على بطنها تتحسس نوبة مغص داهمتها وحاولت إخفاء تعبير وجهها الذي لمحه "ستيف" فسارع يمسك يدها وسط نظرات الآخر الذي انشغل مع الهاتف يتحدث فيه هامساً كمن يقدم تقريراً عن حالة ما.
"يمكنكِ البقاء هنا، أو بإمكاني إيصالك للمكان الذي تقصدينه إذا لم يكن بعيداً"
قلبت الفكرة في رأسها ووجدت من الأفضل السؤال عن موعد وصول مايك الذي كابدت كل هذه المغامرة الليلية، وقطعت المسافة الزمنية بينهما منذ سنوات لتجازف بمواجهته،"هل أنتظره؟ أم أحسم أمري ولتكتمل المجازفة؟ أرجع أدراجي وأظل أكابد القلق والسهر والتفكير في مصيري؟" التفتت حولها لتفاجئ بستيف ينظر لها وينتظر جوابها الذي تأخر فيما هي منشغلة بالتفكير في مصيرها المرتبط بالجنسية.
"هل مؤكد عودته؟"
رد عليها ريتشارد عبر المسافة الفاصلة بينهما
" هو في الطريق"

****



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من مستنقع السياسة، إلى أزهار الثقافة...لنجرب!
- يسرا البريطانية (8)
- الرواية من منظورِ الحرية!
- يسرا البريطانية (7)
- يسرا البريطانية (6) رواية
- يسرا البريطانية (5) رواية
- رواية -يسرا البريطانية- (4)
- رواية يسرا البريطانية (3)
- في الكتابة إثارة...أنت بحاجة إلى العزلة!
- يسرا البريطانية ج (2)
- يسرا البريطانية (1)
- الموجب والسالب في الرواية!
- رحلة في عقل روائي...غارسيا ماركيز
- رواية يسرا البريطانية- من فنادق لندن إلى سجون داعش
- رواية -حرب البنفسج- والتحالف التركي العماني القطري لغزو البح ...
- الكاظمي والساعدي - أين ينتهي المطاف بهما؟
- تفاعلات روائية، جسدية
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (30) انتهت *
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (29)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (28)


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - يسرا البريطانية (9)