أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - رواية -يسرا البريطانية- (4)















المزيد.....


رواية -يسرا البريطانية- (4)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6627 - 2020 / 7 / 25 - 13:07
المحور: الادب والفن
    


في الليالي الباردة الصقيع، عندما تستشعر الوحدة والخوف بغرفتها المطلة على مرج الجيران، تفتقد لصوت جبار الشريف بنبرته الخشنة الجافة وكلماته المبهمة في غالبيتها وهي صغيرة يحدثها عن موضوعات شائكة تتعلق بالتاريخ، أدركت الآن بعد سنوات من اختفائه الغامض الذي رجح بين وقوعه في الأسر لدى قوات التحالف أو مصرعه، وبين تصفيته داخلياً لمجاهرته بآرائه، أدركت مغزى تلك القصص المتشعبة عن العائلات الخليجية، وربطه لتاريخ الأسرة بجذور أهل الجزيرة العربية "ماذا رمي إليه من نبش تلك الجذور الغائرة في تاريخ المنطقة؟"
كان يحدثها لساعات وقت الغروب وهو يسير ماسكاً بيدها الصغيرة على حافة النهر الصغير المتفرع عن مجرى النهر الكبير بالقرية عن تاريخ أهل الزبير وصلتهم العميقة بسكان السعودية، كان يقول لها حرفياً " نحن سعوديون الأصل هاجرنا إلى الزبير والمناطق الحدودية بحثاً عن الرزق وقد استوطن أجدادك هنا بعد هجرتهم عن المناطق المجدبة إلى المناطق التي بها وفرة كالزبير والبصرة والناصرية والعمارة" كانت وظائفهم التي يلتحقون بها تمثل وظائف بامتيازات مقارنة بالفقر والمجاعة في المناطق التي هجروها، كانت الأعمال تتوزع بين الزراعة وصناعة جلود الأحذية وغيرها، "النياده يا بنتي هم من بنوا مدينه الزبير التي تسكنيها اليوم على أنقاض البصرة القديمة" ويضيف ويكرر كما اعتاد دائماً لزرع الفكرة في رأسها " لقد نزحنا من نجد خلال حقبة القحط وأسسنا الزبير ونقلنا تقاليدنا النجدية، أنت سعودية وأبوك سعودي وجدك من نجد" ثم يضحك ويستطرد مداعباً إياها " أما والدتك فهي كويتية لا أعرف لها أصل"
من هذه الجهة لم تتقبل نجوى القطان مزاحه الثقيل كما كانت تردد، كانت لا تفرق بين إلقائه للنكات وبين تعمده الطعن في الوجه مباشرة، ولشدة غرابة العلاقة بينه وبينها كانت ترى التوتر دائماً يزرع الشك فيما يقوله الواحد للآخر، ظلت تراقب الكلمات تتدفق بين شفاه الاثنين وتستنبط طبيعة المجرى الذي يسير في الحدث، وذات يوم وهي تروي لها عن سكان الكويت أنهم ينتمون لقبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية وبرفقتهما أفراد عملوا كخدم ثم تطوروا وأصبحوا خلال حملات التنقل ينتمون لهذه القبائل ومنهم قبيلة والدك، عندما تصله هذه العبارة يزبد ويهدد ويستطرد "لم يعد لكم بلد أنتم المحافظة التاسعة عشر" عندها تبلغ الحالة عند نجوى القطان ذروتها فتظل طوال الليل تبكي وتصبح منتفخة الجفون معكرة المزاج، تود لو تدس له السم في طعامه ولكنها تدعوا عليه بأن يذهب ولا يرجع من الجبهة.
****
اعتادت أن تقرأ الوجوه من خلال الأشياء المتناثرة في غرف النزلاء، حدث ذلك على مدى طويل وعن خبرة اكتسبتها عبر سنين النزوح حينما كانت تدقق في الأمور المعقدة وهي تفرض عليها التنبؤ بالأحداث، مكنتها هذه الاستجابة من التأقلم السريع في تحليل مظاهر الغرفة، وذات مرة فيما كانت تلمع مرآة الحمام وراحت ترقص مع صوت أغنية أجنبية من خلال التلفاز وهي في حالة انتشاء بعد أن رشفت ربع كأس ويسكي من الزجاجة بالغرفة، بعد أن أضافت بدل الجرعة نسبة قليلة من الماء، كانت الساعة الواحدة وسبع دقائق عندما اقتحم الساكن الغرفة وفاجأها وهي ترقص، كانت تلك المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا الأمر، صعقت بمجرد أن لمحها وهي تتحرك بحرية في المكان فما كان منها إلا أن توارت عن الغرفة إلى الخارج وانتظرت عند الباب لحين خروجه مرة أخرى فعادت من جديد إلى الغرفة وتعلمت من هذا الموقف ألا تفتح أي شيء للنزيل إلا بعد أن تغلق باب الغرفة عليها لدقائق وهو ما يسمح به نظام الخدمة، هذا الدرس امتد ليشمل أمور أخرى منها الاستلقاء على السرير إذا ما انتهت من التنظيف قبل الوقت المحدد، أو عندما تستخدم الحمام بنفسها، صنعت لها طقوس تحميها من الأخطاء التي قد تؤثر عليها، كانت التقارير عن أدائها ممتازة وحصلت على تقدير مالي ومعنوي شجعها على رفع كفاءتها وكان سبباً في الترقي بقسم خدمات الغرف فيما بعد.
لم تلقِ بالاً بمظهرها الخارجي حتى بعد أن تنتهي من نوبة العمل، وبرغم بعض المعاكسات التي تعرضت لها في الأيام الأولى للعمل من قبل بعض النزلاء العرب بالذات، إلا أنها استمرت في تجاهل مظهرها من دون إهمال نظافتها، فقد جعلت المحافظة على عاداتها العربية جزءاً من احترامها لنفسها وإن تجاوزت عن أمور أكثر أهمية كانت تمارسها من قبل، كالصلاة التي تنتظم في أدائها أيام الجمع والإجازات وخلال شهر رمضان فقط، ولكن بعد تزايد العمل وضغط المكان والوحدة المفرطة التي تعيشها عادت، تتناول أقراص الزناكس خلال إجازات العمل وحتى عندما تعمل خلال فترة المساء، كانت تتناول نصف قرص وتتحمل الإرهاق والخمول بدلاً من الشعور بالوحدة والتوتر، بدت دائبة الحركة والتنقل ما لفت انتباه المشرف عليها المستر هيث الذي توقع أن تتقن العمل بشكل سريع، كانت بحاجة للعمل والاستقرار وهذا ما أدى بها لمزيد من الاندفاع والتحمل محاولة قدر طاقتها أن تنال التقدير الذي تتوق إليه وتحرص في الوقت ذاته أن تبذل جهدها في ألا تخفق وهي تتلصص على النزلاء، لم تقاوم الرغبة في التوغل باستكشاف أسرار النزلاء لكونه يمحي ولو لساعات مشاهد النزوح، ويبعد الشعور بالبرد ومرارة مذاق الأكل الجماعي السريع الذي كان يقدم من قبل منظمات اللاجئين وهي فترة لن تعوضها حتى في الجنة، هذه النزعة تجاه أسرار رواد الفندق ساعدت في التغلب على القلق المزمن ونوبات الذعر التي تجتاحها من حين لآخر وتبلغ ذروتها بالتقيؤ، يتبعه الاسترخاء والخمول، وهنا تنزع إلى النوم ولكنها تتغلب على هذا الشعور إذا ما كانت خلال العمل، تعوض هذه الحالة بمزيد من التنقيب في مقتنيات رواد الغرف، وحدث ذات مرة أن تجاوزت الخطوط الحمراء بالبحث في خزانة أحدهم لتكتشف اقتنائه المخدرات، من حقن المورفين وأقراص الكوديين مع كمية من الأوراق النقدية من مختلف العملات، وعندما تفحصت جواز السفر بداخل الخزانة ذاتها وجدته ليبياً تكسو وجهه لحية، فأصيبت بنوبة خوف من أن يكون أحد الإرهابيين، تجاوزت تلك الصدمة بتجاهل الأمر وتجنبت حتى المرور في تلك المنطقة من الفندق إلى أن اطمأنت أنه غادر الغرفة.
****
( 6 )
تصاعدت حدة البرد في "كينغستون" بشكل مفاجئ مع بداية انتقالها إلى البقعة الهادئة بالقرب من نهر التايمز حيث قبعت في شقة صغيرة وراء الأشجار على مقربة من قصر "همبتون كورت" غير مصدقة بأنها يسرا القرمزي التي جاءت بريطانيا مشردة وهاربة، قانعة باستوديو صغير تخفي فيه نفسها عن العيون الفضولية خشية الترحيل أو الاحتجاز، غمرتها الغرفة الصغيرة بمشاعر من السكون الأقرب إلى مياه النهر الذي بدأت عادة المشي حوله بأوقات الفراغ، متلفة حولها بين فينة وأخرى، وجلة من عيون ترصدها أو فضول يتبعها أو حتى كابوس ينتزعها من حالة الاستقرار التي تسربت إليها بعد الضجيج والفوضى التي خلفتها وراءها بقاع المدينة، تركتها غير آسفة إلا من شيء واحد وهو كيف ترد الجميل للمستر فلين.
بدأت تدريباً حسياً ذاتياً، في الاعتياد على الغرفة والمطبخ والحمام والنافذة ولون السيراميك وحجمه ونقوشه المطابقة للذوق الانكليزي التقليدي القديم، وقد علمت من قبل فلين بأن المكان خلفه ابن أخته الذي أنهى الدراسة في جامعة "كينغستون" القريبة من المكان ولمست من الصور واللوحات الورقية المعلقة طبيعة سلوكه المشوب بالتنظيم والذوق، خاصة فيما يتعلق بأسلوب ترك أصص الزراعات الصغيرة في أرجاء الشقة بقرب ستارة النافذة الوحيدة المتشحة بخطوط برونزية، مع تقاطعات بألوان سوداء ورمادية باللون البرونزي الرئيسي، كانت أرضية المكان بلون البيج الهادئ مع سجادة قديمة متهرئة الأطراف تتوسط الصالة الصغيرة وقد نقشت عليها أشكال هندسية متعددة الألوان، وبطرفها المحاذي للتلفاز كنبة حمراء من الجلد، أما الخشب المحيط بأدوات المطبخ فهو مطلي باللون الذهبي المائل إلى البني القاتم، الأبواب فهي خشبية عليها آثار صور منزوعة باستثناء باب الحمام فهو من الألمنيوم تتوسطه مربعات زجاجية تكشف بشكل غير واضح ما يجري في الداخل.
جرت الأيام الأولى سريعة غير رتيبة انشغلت خلالها بترتيب المكان وإعادة تصميمه بوسائل بسيطة توفرت لها، مثل خزانة صغيرة للملابس غير تلك التي تركها المقيم السابق والتي تهشمت من الداخل، مع وضع بعض الصور الشخصية لبعض أفراد أسرتها مما استطاعت حملها والاحتفاظ بها رغم كل المحطات القاسية التي مرت بها، كما وجدت فرصتها في بعض المحلات التجارية الصغيرة بمحطة "سيربيتون ريل ستيشين" التي تبعد عن سكنها ميل ونصف، دأبت على المشي يومياً للتسوق مستمتعة بالهواء والهدوء، متطلعة في الوجوه الرتيبة، غير تلك الوجوه المكسوة بالفضول كما هو الحال في لندن، كان السير لدقائق كل يوم من سكنها لمنطقة "سيربيتون" يمنحها الصفاء الذهني والاسترخاء وتتعمد البطء في السير مانحة نفسها الفرصة التعرف على المطاعم والسوبرماركات ومخازن الكحول، تقتنص بين حين وآخر زجاجة نبيذ، تحرص أن يكون أحمر ورخيصاً، تحتسيه وقت الإجازة أو على الأقل كأسان قبل النوم، إذ اعتادت أن تخلد إلى السرير مع العاشرة مساءً لتتمكن من الاستيقاظ في الرابعة صباحاً لتلحق بسيارة فلين الذي ينتظرها قبالة العمارة، أو بالقرب من فندق "الهولدي إن" الذي داعبتها فكرة الانتقال إليه، ولكنها تمالكت نفسها من التمادي في الطلب خشية أن يوثر ذلك على علاقتها بفلين وتركت للوقت أن يرسم لها تلك الفكرة، واكتفت بصنع إيحاء في ذهن فلين، وهو يتأمل الفندق فيما هي تقف قربه في الصباح الباكر ترتجف من البرد، فقد يلفت ذلك المشهد انتباهه ويقترح عليها الانتقال، وفي النهاية بعد شهور من انتقالها أدركت أنه تجنب تلك الفكرة خشية أن يفتقدها حينئذ.
لأول مرة في حياتها أدركت بأن الحياة بدأت تنصفها وإن لم يكن ذلك مقنعاً ما دام الوصول إلى الجنسية أمراً مستبعداً رغم ما بذلته من عناء مع سعاد البشراوي التي وعدتها خلال زيارتها القادمة للندن بالسعي مع عضو في مجلس العموم البريطاني لتحقيق حلمها، وقد مازحتها قبل أن تغادر، بقبلة محتشمة قائلة وهي تغمز بطرف عينيها اليسرى.
" يسرا.. ستسير أمورك، صدقيني"
ادخرت ذاك الشعور بالسعادة، وطبعته في ذهنها وعلبته كما يعلب الهواء وجعلت منه لازمة للاسترخاء من عناء العمل والحياة والضائقة المالية التي بدأت تلوح في أفق حياتها بعد الانتقال إلى "كينغستون" مع تزايد التزاماتها اليومية البسيطة والضرورية للعيش، تمالكت نفسها عن البذخ كما كانت تسميه في حوارها الداخلي المستمر مع ذاتها طوال الوقت، وأملت أن تتمكن من التغلب على شغف العيش باللجوء إلى جلب أرخص الأطعمة والامتناع كلية عن اقتناء أدوات الزينة والماكياج حتى لو كانت برخص التراب، بالإضافة إلى عدم الانزلاق في الشراب واعتمدت على ما يخلفه الزبائن في الغرف من بقايا الزجاجات لدى مغادرتهم، ونادراً ما كان يترك البعض نصف أو ربع زجاجة، وحدث ذات مرة أن شعرت بالمهانة وهي تتأمل حوض الحمام تنبعث منه رائحة الويسكي والزجاجة ملقاة على الحافة وأدركت أن الساكن قد أفرغ الزجاجة في الحوض قبل أن يغادر، تمنت لو عرفته وبصقت في وجهه، كان هذا شعورها وهي تستنشق رائحة الشراب في الحوض وبحثت في خزانة الملابس الفارغة لعلها تعثر على ما يدل عن شخصيته وسلوكه ولم تستشف من الغرفة الخاوية بعد مغادرته إلا نفايات من محارم وبقايا أطعمة جلبها من الخارج، بالإضافة إلى أكياس المشتريات من الملابس، لمست من ماركاتها العالمية أنه على قدر من الثراء وما أكد لها ذلك ما وجدته في أحد الأدراج، فاتورة نسيها لساعة من ماركة "كونكورد" بسعر ثمانية وخمسين ألف درهم إماراتي بتاريخ مضى عليه شهر، مما يدل على أنه كان قادماً من دبي إلى لندن، وعرفت من خلال الفاتورة اسمه وكان يدعى شاكر البنا ورقم هاتفه مسجل على الورقة، فقررت الاحتفاظ بالفاتورة مع بقية الأوراق والفواتير التي تحمل أسماء وأرقام النزلاء لاستثمارها فيما لو عاد هؤلاء للإقامة مرة أخرى، فيما يشبه الأرشيف تعده في علبة صغيرة تعمدت أن تجعل منها ذخيرة للأوقات الطارئة حين تحتاج معرفة المزيد من المعلومات عن هذه الشخصيات، لم يصادف خلال تلك الفترة أن التقت بنزلاء سبق وأقاموا من قبل باستثناء سعاد البشرواي وبعض الشخصيات البريطانية التي اعتادت الإقامة لليلة أو يومين حينما تقام مناسبة، كحفل زواج أو مؤتمر محلي لإحدى الشركات أو لمجموعة من المؤسسات، وعادة لا يترك هؤلاء أية مخلفات أو أوراق سوى تلك التي لا تدل على هوية أو تحمل دلالات ما.
جرى الحال على هذا المنوال، بين رتابة في العمل من وقت لآخر، وبين شعور بالإحباط لعدم حدوث تطور في كل ما كانت تأمله، على العكس من ذلك بدأت التعقيدات تدب في حياتها وتفقدها الرغبة، شيئاً فشيئاً بالترقي، تسلل الخمول إليها وهي تقطع المسافة كل يوم بين لندن و"كينغستون" فقد تحولت متعة ارتياد القطار كل مساء إلى روتين بسبب الوجوه والطقس والهدوء المخيم عادة على الركاب، كما تحولت فترة الذهاب للعمل في الصباح الباكر مع فلين إلى حالة مزرية ومقيتة أحياناً بتأثير ثرثرته ورائحة نفسه والتي تكون خلال تلك اللحظات من الصباح في ذروتها، حيث تنبعث من أنفاسه رائحة الويسكي ممزوجة برائحة الجسد المشابهة لرائحة الجوارب العفنة، هكذا تخيلتها، تخيلت مرارة اللحظة لو ضاجعته أو استسلمت حتى لقبلة منه، كان عزاؤها الوحيد في الشقة الصغيرة الهادئة التي فازت بها، وفي طبيعة المكان الذي تعيش فيه، فدرجت كلما توغلت في المعاناة إلى الخروج من الشقة والتسكع في شوارع "كينغستون" قاطعة المسافة كل مساء بين الشقة ومحطة "سيربيتون" إلى أن جاء مساء يوم بلغ فيه الصقيع ذروته واحتجب السكان في المنازل ولم تفلح وسائل التدفئة في التخفيف من معاناة البرد، كانت عائدة لتوها من لندن فشاهدت تجمع لعدد كبير من الأشخاص خارج فندق الهوليدي، صادف ليلتها ما قبل الكريسماس بيومين، فتوجهت لموقف السيارات بمحاذاة الفندق وتوقفت تشعل سيجارة مع بعض الأشخاص الذين صادف أن كانوا مجموعة سياحية إيطالية غالبيتهم من النساء وقليل منهم من الرجال أو الشباب، كانوا في غالبيتهم من كبار السن وقد تدثروا في كميات هائلة من الملابس وراحوا يدخنون سجائرهم وسط الصقيع ولم يجفلوا من البرد كحالها، واستغربت كيف تحمل هؤلاء الوقوف عند واجهة الفندق في تلك الدرجة من البرد لمجرد التدخين؟ اندست بينهم وراحت تنفذ سيجارتها التي اعتادت أن تلفها بنفسها، كانت يدها ترتجف ووجهها أحمر وبدا منكمشاً وقد تدفق فيه الدم، فبدا أشبه بحبة طماطم مشدودة.
راحت تصغي إلى أحاديثهم من غير أن تفقه شيئاً سوى كلمات حفظتها من لسان بعض النزلاء الإيطاليين مثل "تورتا" "كرسياس" "سباتو" ولكن تركيزها على كلماتهم تضاءل مع تصلب عروقها من الداخل وتجمد قدميها كلما لفحتها نسمات الهواء المثلجة، لم تقو على الاستمرار في الوقوف، أنهت سيجارتها بسرعة ودلفت نحو الفندق ووقفت في ركن بمواجهة الصالون الصغير المقابل للمطعم المفتوح على اللوبي وراحت تتمعن في الوجوه، كان هناك عدد من الإيطاليين ينهون بعض الإجراءات لدى الاستقبال، جلس بضعة رواد أمام البار فيما انشغلت اثنتان من العاملات بالخدمة وتمنت لحظتها لو يكتب لها الانتقال إلى العمل بهذا الفرع للفندق، ولكنها عادت وحسبتها من زاوية أخرى، إذ لن تتمكن هنا من الالتقاء بشخصيات ذات نفوذ من مختلف أنحاء العالم كما هو الحال في لندن، وقد تنعدم فرصتها في "كينغستون" بالتعرف ذات يوم بشخصية تفتح لها مغارة علي بابا، على حد تعبيرها كلما أدارت حديثاً داخلياً مع نفسها، وشاطرت عقلها التحليل والتنقيب لكسر حظ النحس الملازم لها منذ سنين، أنقذها من الإسهاب في التخيل صوت امرأة تعرفها جيداً، تسلل من خلفها وأثار استغرابها.
" هاي يسرا .. ضبطتك تتسكعين يا غامضة"
التفت نحو مسسز "بتسي" مسئولة المطبخ بفندق لندن وقد بدت مختلفة الهيئة تماماً عما اعتادت رؤيتها في العمل، بدت في العقد الرابع من عمرها مع مسحة من جمال قديم يعود لفترة المراهقة، وظهرت بفستان سهرة أسود، وضعت على كتفها طرحة مرقطة باللونين البني والأحمر، صبغت وجهها بالماكياج وتدلى من عنقها عقد خمنت أنه غالي الثمن، اقتربت منها المرأة وتبادلت معها القبل والتفتت نحو شاب وقف بمحاذاتها وبدا من هيئته عربي السمات ويصغرها بسنوات قدمته لها قائلة وهي تضحك، محدثة جلبة في المكان.
" أنور زوجي.."
تبادل الثلاثة التحية، شعرت مع وقع المفاجأة بارتياح لوجود أشخاص تتحدث معهم في المكان، قلبت نظراتها بسرعة وخفية بين زميلتها وزوجها كمن تبحث عن أسرار دفينة، فيما استرسلت الأخرى في الكلام الذي كان في غالبه أسئلة متلاحقة عما تفعله وساعدتها بديهيتها على عكس الأسئلة بدورها عما تفعله هي أيضاً هنا، كان الحديث يجري سريعاً بين المرأتين فيما تسلل الزوج معتذرا للوراء واندس وسط الآخرين وفسرت الأمر بأنه قصد التواري عنها لسبب ما تجهله للحظة، ركنا نحو زاوية من البار وطلبت " بتسي" كأس ويسكي ليسرا التي ترددت في البداية لدى سؤالها عن نوع الشراب، ثم استسلمت لنظرات الرجاء في عيني المرأة التي بادرتها وهي تقدم لها الكأس.
" تذكرتُ أنكِ تسكنين في "كينغستون"، كيف ترين الحياة هنا؟
" عادية، مثلها مثل أي مكان في بريطانيا العظمي.
ضحكت المرأة وعرجت على الحديث عن العمل ونوبات العمل ثم فاجأتها بالسؤال.
" ليس لديك صديق .. صح؟
" كيف خمنت؟
" أعرف المرأة العزباء من وجهها ثم من جوابها على السؤال؟
ضحكت يسرا وقطعت الحديث لثوانٍ رشفت من كأسها واستأنفت الكلام قائلة بنبرة مستفزة ولكن ودية.
" يبدو لي أن زوجك شرق أوسطي .. هل أنا مخطئة؟
" هذا لا يحتاج لتخمين، فأنت عربية وتتعرفين بسرعة على العرب مثلك، ولكن ما لا تعرفينه هو من أي بلد ولن أخبرك ما لم تعرفي بنفسك في مناسبة أخرى، وأحذرك من التجسس علي"
قالت ذلك مازحة ثم راحت تمسح المكان بنظراتها كما لو كانت تطمئن على الرجل وما يفعله بعيداً عنها.
خلال عشرين دقيقة مدة بقائها في المكان تعرفت على أكثر من عاملة في الفندق وسألنها بعضهن.. لماذا لا تأتي وتسهري في المكان مادمتِ قريبة منه؟ ردت عليهن بأنها لا تملك الإمكانية المالية لارتياد فنادق الأربع نجوم، فهي تعمل فيها ولكنها لا تستطيع دخولها وقت الفراغ، ضحكن وعلقن قائلات.
"لماذا لا تأتين إذن للعمل هنا"؟
لم ترد في الحال، بل تركت السؤال معلقاً إلى أن تحين الفرصة وتستغل تلك الإجابة في وقتها المناسب، هي ترى الوضع الآن غير مناسب، رغم تحملها فلين حتى أنها كانت مستعدة للذهاب للعمل بواسطة القطار صباحاً رغم البرد والرياح والوجوه العابسة، لولا خشيتها من انقلاب الرجل عليها ووضعها في قائمة المنبوذين، وهي عادة انكليزية سمعتها من فلين نفسه، ولمستها في العديد من العاملات معها في الفندق، وحتى لدى مكاتب الجنسية التي لمجرد أن تتقاذف معهم الكلام حتى يحاصروك بنظراتهم المتشفية والمتكبرة، نظرت للساعة وكانت التاسعة وسبعة عشرة دقيقة، ومع رغبتها في عدم المغادرة وارتياحها من جو المكان وحاجتها لكأس أخرى من الويسكي إلا أن قلقها من النوم المتقطع وامتناعها عن تناول الزناكس لما يسبب لها من أزمة في الاستيقاظ مبكراً، بدأت للحظة حائرة بين المغادرة والبقاء، وأخيراً حسمت أمرها وانسحبت معزية نفسها بتوفير ثمن الكأس لو جارت رغبتها وطلبته.
في الطريق الخالية من المارة، ما عدا بضعة سيارات عابرة، راح الصقيع يلفحها في وجهها والأضواء تنعكس عليه، ليبدو في لونه البرونزي، اجتاحتها رغبة جامحة في كأس أخرى صرفه، ما دفعها للإسراع في خطواتها، لدى اقترابها من مخزن الأغذية الملحق بمحطة البنزين، توقفت واستعادت ذاكرتها فيما إذا كانت زجاجة الويسكي بغرفها تسعفها وتحتمل كأساً إضافية، تذكرت بأنها في آخر مرة اشترت زجاجة نبيذ بينما رغبتها الليلة في الويسكي، انعطفت نحو المحطة ودلفت المكان، تأملت المحتويات وأغرتها شطيرة "سندويش" وكان شعورها بالخمول وعدم الرغبة في إعداد وجبة حتى لو كانت سريعة يحرضها على الشراء فيما حساباتها المتوازنة في ترشيد إنفاقها على الطعام الجاهز والشراب هو الذي جعلها تتلفت حولها في المكان وتتأمل أنواع الشراب على الرفوف، وأمام ترددها ومع اقتحام ثلاثة رجال المكان محدثين جلبة بأصواتهم الصاخبة، حزمت أمرها وانتزعت شطيرة "السندويش" واستلت زجاجة صغيرة "سكواتش" وأنهت معاناتها.



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية يسرا البريطانية (3)
- في الكتابة إثارة...أنت بحاجة إلى العزلة!
- يسرا البريطانية ج (2)
- يسرا البريطانية (1)
- الموجب والسالب في الرواية!
- رحلة في عقل روائي...غارسيا ماركيز
- رواية يسرا البريطانية- من فنادق لندن إلى سجون داعش
- رواية -حرب البنفسج- والتحالف التركي العماني القطري لغزو البح ...
- الكاظمي والساعدي - أين ينتهي المطاف بهما؟
- تفاعلات روائية، جسدية
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (30) انتهت *
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (29)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (28)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (27)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (26)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (25)
- وعي الشعوب من وعي الأمم!!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (24)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (23)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (22)


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - رواية -يسرا البريطانية- (4)