أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - رواية يسرا البريطانية (3)















المزيد.....


رواية يسرا البريطانية (3)


احمد جمعة
روائي

(A.juma)


الحوار المتمدن-العدد: 6626 - 2020 / 7 / 23 - 14:49
المحور: الادب والفن
    


في الغرفة رقم 246 بفندق "H " انزلقت لأول مرة في الانسياق وراء فضولها بعد ثلاثة أيام من بدء العمل في الغرف إثر انتهاء فترة التدريب، بتناول جرعة من زجاجة فودكا لا تذكر إن كانت في نصفها أو أقل كانت على طرف طاولة المرآة، الساعة الحادية عشرة عندما بدأت التنظيف وأغرتها الزجاجة وكأنها تدعوها لتفتحها، ورغم أنها وحدها لكنها لا إرادياً التفتت حولها وأخذت الزجاجة معها الحمام وهناك رشفت من غطائها جرعة ثم أسرعت بإعادتها إلى مكانها، كانت سياسة الفندق تقضي بعدم غلق الباب طوال فترة التنظيف إلا عندما تنظف الحمام أو يكون المكان سويت من شأن أي عابر أن يتسلل بغتة، شعرت بنوبة ذعر سرعان ما زالت إثر سريان الشراب في مفاصلها وأمدها بنشوة عابرة، صادفت وجهها فجأة في المرآة وهي تنظفها، فتوقفت عند خطوط رفيعة بارزة أسفل جفنيها فتوجست من أنها بدأت تكبر من دون أن تحقق أي من أحلامها التي طالما راودتها خلال دراستها الجامعية، كانت هذه بداية تورطها السري مع نزلاء الغرف ليتسع الأمر فيما بعد بالتفتيش في كل ما تقع يديها عليه من ممتلكات أو أراق ووثائق، من دون أن تتجرأ على سرقة أي شيء حتى لو كان مرمياً بالزبالة.
الأيام والأسابيع ثم الأشهر، توالت وبدأت تعتاد العمل ويزول التوتر كلما أخذت في الجري وراء فضولها، راحت تتعرف على الأشخاص والجنسيات والميول والعادات التي عليها المقيم، شكل ذلك مصدر إلهاء من القلق المزمن الذي كانت عليه منذ عبرت الحدود لأول مرة، المرة الأولى التي شعرت فيها بالقلق يوم ودعت ما تبقى من أسرتها في البصرة بالعراق وتوجهت لمدينة حلب للالتحاق بالجامعة، هناك رافقها الشعور بالخوف من الوجوه والسيارات العابرة وأصوات البشر ورنين الهواتف ثم بدأ كل ذلك يزول مع بداية اختلاطها بطالبات الجامعة بالإضافة إلى اندماجها في السكن مع العائلة التي ينحدر منها والدها والتي هيأت لها مناخاً أسرياً ساعدها على الاندماج في الحياة اليومية الرتيبة بتفاصيلها المملة التي تبعث على الهروب إلى التدخين سراً وممارسة العادة السرية لتفريغ شحنة التوتر من دون أن يكون لذلك علاقة بتخيل أشخاص أو صور بقدر ما كان لجوء إلى أسهل وسيلة للخروج من حصار الوحدة، هالها فجأة وهي تجد نفسها منجذبة للفتيات أكثر من الرجال من غير ميول مثلية، مع الوقت حاولت طرد تلك المشاعر والهروب نحو عالم الرجال بالتقرب من بعض الشباب الذين شعرت بالميل والثقة نحوهم.

***

ما إن تفتح عينيها في الصباح، تبدأ بفحص مشاعرها قبل أن تنهض وتتجه للحمام، فإن كان شعوراً مقيتاً أو كئيباً تستسلم بضع دقائق في الفراش محاولة تغيير إحساسها تجاه الكون كله والتغلب على الحالة المزرية بإشعال فكرة مضيئة في رأسها تجاه المستقبل وترسل إشارة إلى عقلها الباطن مفادها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وعندها تتغير الحالة وتنهض بعد أن تفرك عينيها وتتناول كأساً ساخناً من الحليب وتفتتح يومها بالعمل مع الغرف بحسب الجدول المعد لها وسط مناخ رتيب تكسره بتبادل الأحاديث مع زملائها من العاملين بنفس المجال، وعندما تدخل أول غرفة لها للتنظيف وقبل أن تبدأ المهمة تلقى نظرة سريعة على المكان تتفحص محتوياته لتكوين فكرة خاطفة عن طبيعة الساكن فيها، ومن خلال ما تتوصل إليه من معلومات تتبلور علاقة غريبة مع المكان بتأثير الروائح والمخلفات والبقايا المتناثرة هنا وهناك، فبعض المقيمين يثيرون فيها الاشمئزاز دون أن يقلل ذلك من مستوى خدمتها للغرفة وإن كانت لا تترك لمسات خاصة أو مميزة على المكان بعكس ما إذا شعرت بارتياح من النزيل، فإنها تترك بعض البصمات المميزة على المكان كأن تثني الفراش بطريقة جديدة وتضع المخدات بصورة فيها إبداع، كما تقوم بتغير أدوات الحمام بأدوات جديدة حتى لو تنفذ الأولى، باختصار يحصل الساكن على امتيازات بسيطة تنم عن تقديرها له ومبعث هذه التفرقة في الخدمة ما يتركه المقيم من بصمات في الغرفة من حيث النظافة أو القذارة، فهناك من يلقى الملاءات وسط مستنقع من الماء على الأرض أو النفايات خارج سلال الزبالة أو ملابسه الداخلية على الأرض وسط الغرفة، وهناك من يقوم بالعكس تشعر معه كأنه في بيته، يعتني بكل شيء يخصه أو يخص الغرفة ويحرص على وضع أدوات الحمام في مكانها ولا يسكب الماء على الأرضية وفوق ذلك هناك من يخفي ملابسه الداخلية المستعملة في كيس من البلاستيك ويضعها بأسفل خزانة الملابس قبل أن يرسلها للمصبغة، مثل هؤلاء كانوا يثيرون إعجابها وتتعاطف معهم، كانت هناك نوعية أخرى من النزلاء تعرفت عليهم من ناحية كرمهم أو بخلهم، فقد لاحظت على بعضهم الثراء في الملابس والبخل في أنواع الطعام، كان هناك ساكن دأبت على رصد ماركات الملابس العالمية التي يرتدي وقارنت بينها وبين أنواع الطعام الذي يجلبه، فوجدته بخيلاً حد التعاسة، فكل ما يجلبه من أطعمة رخيصة ومضرة تكاد لا تشترى وعجبت من إنسان مثله يغمر جسمه من الخارج بالملابس الثمينة ويغطس معدته في أرذل الأطعمة، كما لاحظت أنه لا يستخدم على الإطلاق براد الغرفة، وعندما أتيح لها رؤيته قبل أن يغادر وجدته سمجاً فأيقنت من صحة حدسها.
توقفت ذات ظهيرة من شتاء ديسمبر اكتسحت فيها الثلوج الخارج، وغطت كل ما تقع عليه، عند غرفة 123 بالطابق الأول مقيم بحريني دفعها فضولها في البداية للتعرف عليه من خلال رغبة ملحة في التعرف على أي قادم من البحرين لتقيس حقيقة هذه الجنسية عند شخصية البحريني لتمحو أو تؤكد فكرتها عن زوجها يوسف الجناح، المغتصب الذي هربت منه، فهي لم تعاشر سوى وحش بشري مخادع وممسوخ دينياً، اندفعت مأخوذة بفكرة اكتشاف المجهول في هذا المقيم الذي أول ما أثارها فيه رؤيتها قرص سي دي لأغنية "يا له من عالم رائع" للويس أرمسترونغ، لم تسمع بالأغنية من قبل ولكنها جرت على عادتها في سبر غور الشخص المراد البحث عنه من خلال أشيائه وعاداته الصغيرة المتاحة لها في الغرفة من دون التورط في التفتيش والتقصي المفضوح، وقد أتقنت هذه اللعبة بحرفة خلال سنوات العمل، فبدأت بالبحث عن شخصيته عبر ما خلفه من الأوراق والفواتير والمتناثرة هنا وهناك والمتعلقة بالفيزا، وكذلك ومن بطاقة الشحن لحقيبة السفر الملصقة على مقبض الحقيبة، فأدركت اسمه ومن ثم توصلت إلى أنه لم يكن سوي دبلوماسي من جواز سفره الذي كان بداخل جيب سترته الشتوية وهي تفتشها، استمرت بالتقصي لتتوصل إلى نتيجة مختلفة عن شخصية زوجها وأيقنت أن ثمة خطأ في الكون عندما يصادفك في الحياة إنساناً به خلل من دون بقية البشر المنتشرين في المعمورة بالملايين، فيكون هذا الإنسان من نصيبك، وإن هذا كان مكتوباً عليك في لوح القدر منذ البداية لتسقط في قفصه المحكم كما حدث لها.
حرصت على اقتناص أي فرصة متاحة لتنظيف غرفته المزدوجة والتي رغم مرافقها العديدة لم يتركها يوماً بحالة مزرية، فعلى الأقل كان يحرص على رمي المخلفات في السلة ويضع الكؤوس والزجاجات في مكانها ويخفي ملابسه الداخلية في الخزانة بالإضافة إلى أنه يترك جزءاً من سريره الكبير مرتباً ولا يشغل سوى جزء منه تاركاً أدواته الصغيرة التي لا يحتاج لأخذها معه لدى الخروج مرتبة على منضدة جانبية بقرب السرير بالجهة التي ينام بها، الشيء الوحيد الذي كانت تعاني منه أنه لم يكن لديه توقيت محدد للخروج، فكانت تصادف انتهاء نوبة عملها بالمساء وهو ما زال بالغرفة، وذات يوم بارد وغطت فيه الثلوج النوافذ ولزم الجميع أماكنهم، رأت الغرفة مفتوحة وصوت التلفاز مرتفع على ما بدا لها نشرة إخبارية، فهمت بأنه مدرك للغة الانكليزية بعكس زوجها الذي لم يفقه حرفاً من هذه اللغة رغم يسر حاله، واسترجعت بضعة مرات كان الزوج يحاول التحدث بهذه اللغة مع عدد من الهنود والأجانب بخليط من العربية والانكليزية الرثة مع عجزه عن فهم ما يقولونه له، كانت مقارنتها بين هذا وذاك سر اهتمامها بهذه الشخصية التي تجرأت ووقفت لوهلة عند بابه حالما رأته مفتوحاً لتتمكن على الأقل من التعرف على شكله، مرت لحظات دون أن يخرج أو تسمع له حركة، فزاد فضولها واندفعت بحركة لا إرادية لا ينقصها التمثيل وطرقت الباب، فصعقت حينما طلت من زاوية عبر الممر فتاة بدا من ملامحها أنها من جنسية مختلفة عن الانكليز ونظرات إليها باحتقار لكونها عاملة النظافة ومن دون أن تنتظر سمعتها تقول.
" لا شكرا"
كانت تنوي أن تسأله إن كان يريد خدمة الغرف وهي مهمة متاحة لها، سؤال النزيل إذا صادف والتقت به، ولكنها أسرعت تهرول وقد صدمت في حدسها الذي كانت طوال هذه المدة معتمدة عليه في سبر غور المقيمين، كانت تنظف غرفته شبه يومي ولم تلتقط أي إشارة أو ما ينبئ بوجود نساء معه ولم تعرف بعد طبيعة العلاقة ولا كيفية وصول المرأة المكان رغم أن سياسة الفندق المعتمدة هي منع تسلل المومسات، ولم تصادف خلال تنظيف المكان هذه الفترة أي دليل على وجود نساء، لا مخلفات السلة ولا علب الواقيات مرمية هنا أو هناك كعادة من يجلبون معهم النساء، سواء المتزوجين أو المتسللين خلسة بالليل عبر الممرات والتي تكشفهم الكاميرات ويتم التغاضي عنهم طالما لم يدخلن متسللات، ويتم ذلك عبر بوابة الاستقبال، أما بوجود حجز لهن بالغرف أو من خلال وجودهن بالمطاعم والبارات، شعرت بإحباط وانكسار واستغربت هذا الشعور السلبي الذي ليس له داعٍ، مع مرور الوقت ونتيجة لتوثق الصداقة مع المستر "فلين" مسئول الأمن بالفندق ولدى مرورها بمكتبه بين فينة وأخرى للتحية وشرب الشاي راحت تشاهد بعض المناظر المصورة لتصرفات بعض النزلاء، وخاصة بعد منتصف الليل أو قبل الفجر، وقد حرص أن تكتم الأمر لأنه غير مشروع، وقد سمح لها بذلك، للتقرب منها بشكل غير مباشر وحتى لا يوحي بأي تلميح، وفسرت تردده في ذلك نظراً لكبر سنه، حيث تجاوز السابعة والخمسين، وبدا على وجه التجعد وفقد جزء من شعر رأسه بالإضافة إلى أنه متزوج وله أبناء وبنات في سنها وقد سبق أن أطلعها على صورهم مع بداية الصداقة معه، لهذا كله رأت في نظراته وهي تختلس النظر عندما يحدثها وداً واضحاً ظل يخفيه وراء اهتمامه بها، حيث كان يسرع بمصافحتها في الصباح ويلقي عليها التحية في المساء قبل أن تغادر إلى شقتها القريبة من الفندق، وقد حدث مرات وهو يوصلها بالسيارة عندما يكون الطقس سيئاً، إذ لمحت في نظراته رغبة لتدعوه شرب القهوة أو الشاي كما هي عادة الانكليز عندما تكون هناك بينهم صداقة من نوع ما، ولكنه آثر ألا يفعل لأنه أدرك أنها عربية ولها تحفظها على العادات الغربية.
تقبع شقتها الصغيرة الأشبه باستوديو، في عمارة قديمة تسكنها غالبية عربية من المغرب ومصر وكينيا مع جاليات شرق أوسطية أخرى، تقع العمارة بداخل حي سكني خلفي يبعد عن الفندق حوالي عدة أميال وتنتشر فيها زمر شبابية طائشة ومستهترة وكثيراً ما سمعت عن بعض الحوادث السيئة كالسرقة والتحرش تقع للسكان وخاصة الفتيات واللاجئين، وقد نصحها فلين بالسكن في منطقة "كينغستون" التي تبعد عن "الدوان تاون" حوالي عشرين دقيقة بالقطار وهي منطقة هادئة تطل على نهر التايمز ويقطنها هو منذ سنوات وزاد من تسهيل الأمر عليها بأنه سيقوم بإيصالها يومياً، إلا أن ثمة مشكلة ستطرأ بسبب تباين نوبات العمل وفي جدول الإجازات، وعندما استفسرت عن الأمر علمت بأن السكن هناك مكلف رغم بعد المنطقة عن لندن بالإضافة إلى أنها ستواجه بعد المسافة وسيكلفها كثيراً من الوقت والجهد وهي تخرج في الخامسة على الأقل إذا أرادت تلحق بموعد نوبتها.
أرجأت الأمر للوقت لكونها مشوشة وغير قادرة على التركيز، ما يشغل بالها الآن أبعد من ذلك ولا حدود له، فالمسافات التي قطعتها والدول والمطارات والموانئ والاحتجاز والسجن وكل المحطات المربكة التي مرت بها تقض مضجعها ولا تترك لها خيارات محددة، فكل ما تملكه الآن هو الاستمرار في الحياة بلندن والحصول على فرصة لنيل الجنسية لتضمن الاستقرار الذي افتقدته منذ أن غادرت البصرة مروراً بالحدود التركية ثم البحرين ودبي وأخيراً لندن، كان التفكير في الانتقال إلى "كينغستون" أشبه بالحفرة الهوائية التي تنتظرها إذا لم تتأن هذه المرة، فكل اختياراتها السابقة كانت كارثية وأوقعتها في هوة دفينة ذروتها الزواج من الشيخ يوسف الجناح ولا تضمن هذه المرة أن تنجرف مع فلين في عرضه المغري لأنه قد يكلفها هذه المرة أن تُسجن في حفرة أخرى مع شخص في عمر جدها وليست مستعدة للمغامرة بعد كل تلك المحطات السريعة المفضية للحفر الغائرة، طردت الفكرة رغم مغرياتها وطفقت تنغمس باللهو مع ساكني الفندق وحياتهم المثيرة بالسخرية، ولكنه تبقى هذه القصص الصغيرة ممرات يومية تلهيها عن الغوص في الذات وتعذيبها باسترجاع الماضي وصوره المعتمة، باشرت الغوص في تلك الرحلة من التفاصيل المضحكة المبكية مع زبائن الفندق وتوقفت عند سعاد البشراوي المقيمة بالغرفة رقم 433 التي جاءت من السعودية وتحمل جنسيتها وتتحدث بلكنة لبنانية، وتقبع في بشرة سمراء فاتحة، لا تركب مع اللكنة وتتميز بثراء فاحش ولكنها لا تغادر سويت الغرفة إلا بالليل، دأبت على غير المعتاد بتنظيف المكان بوجودها معها حتى كانت تشاهدها بملابس النوم أو بالاعتكاف في الفراش، شعرت في البداية بالإحراج من العمل كما لو كانت تراقبها ولكنها اعتادت فيما بعد على إجراء بعض الحوارات السريعة المقتضبة عندما راحت الأخرى تمطرها بالأسئلة بعد أن عرفت جنسيتها العراقية، كما إنها حرمت من التلصص عليها أو بالبحث في مقتنياتها أو بتفحص أوراقها وفواتيرها، ولهذا لم تستطع بلوغ المعلومات التي كانت تتوق للحصول عليها واكتفت بقراءة تصرفاتها المعقدة، حامت الشكوك حولها وهي تشاهدها لا تترك الجوال يسقط من يدها وتتحدث مع أشخاص بكافة اللغات ومن دون أن يكون حديثها مباشراً، على الأقل هذا ما خلصت إليه وهي معها حتى كانت ظهيرة حينما فوجئت بها تتناول فطورها المتأخر فهمت بالمغادرة معتذرة ولكن الأخرى أصرت على أن تتناول الفطور معها، فجرت محادثة لم تتوقعها.
" عذرا .. سياسة الفندق تحظر الجلوس و مشاركة الزبائن"
قفزت المرأة من مكانها وهي بالبيجامة الصفراء المخططة بالأسود وقد كشفت عن جسد ناضج متناسق ينضح بالأنوثة ومؤخرة مكتنزة هي لاشك تثير الرجال، هذا ما دار في خلدها، أسرعت وأقفلت الباب وسحبتها من يدها وجلست بمواجهتها بينما هي على الكنبة المدورة بين السرير وطاولة المرآة.
" لن يعلم أحد ما يجري، إلا إن كانت هنا أيضاً كاميرات"
تذكرت بأن عربة التنظيف خارج الغرفة، ولكنها أمسكت عن الكلام، نظرت إليها وهي تضحك وقد لمحت في طرف عينيها ذكاء يخفي الكثير من الأسرار، كانت تشعر لحظها بخوف من المرأة لم تشعر به حتى عندما كانت نازحة على الحدود، جفلت لوهلة وهي مترددة في مد يدها صوب صينية الطعام وكانت حائرة من أين تبدأ حتى بادرتها المرأة قائلة بلهجة صارمة.
" لن آكل شيئاً إن لم تبادري معي"
تناولت حبة زيتونة سوداء وسط ضحكة منفلتة من المرأة اللغز كما أوحى لها خيالها وهي تتأمل حركاتها السريعة المتوترة.
" شبعت؟"
توقفت سعاد البشراوي عن الطعام وسألتها فجأة مغيرة دفة الحديث.
" كم عمرك؟"
" أعتقد سبعة وعشرين"
نهضت البشراوي وهي تنهي الحديث، اتجهت نحو الباب فتحته، واستأذنت منها وهي تودعها بنبرة ودية.
"سنلتقي في زحمة الحياة"
ثم استطردت قبل أن تخرج قائلة بنيرة ذات مغزى كما فهمت منها يسرا.
" سيكون لكي شأناً يوماً ما، صدقيني"
سارت في الممر تدفع عربة التنظيف وهي منشغلة بالمرأة التي تركتها للتو، تعلمت على مر الأيام بأن الأمر الذي لا تفهمه لا تشغل بالك به، وها هي الآن مشغولة الفكر بها وكأنها لم تتعلم تلك القاعدة التي وضعتها لنفسها، كثيراً ما كانت تضع لنفسها قواعد سرعان ما تخرقها وكانت ترجع تلك الحالة للقدر الذي يصنع من حولها الوقائع، وجل ما كانت تفعله وقت خرق القواعد هو الانصياع للقدر من أن تعلن الاستسلام له وهي أشبه هنا بمن يعاني الإنكار.
" دعي الأمور تتعقد فما أسرع ما يزول التعقيد"
واصلت عبور الممر لتلتقي في طريقها بأحد النزلاء، بدا من هيئته بأنه أمريكي الجنسية، فحيته بابتسامة كما هي تعليمات الإدارة، وهي من أصول المهنة التي تلقت عليها التدريب، إذ يمكنك تحية المقيمين بصورة ابتسامة فقط أو عبارة صباح الخير أو مساء الخير، ويحظر فتح حديث مطول إلا فيما يخص العمل والتنظيف والاستفسار عن خدمات الفندق، لم تكن دائماً بمزاج يومي تطبق فيه هذه التعليمات وخاصة في الصباح الذي يصادف فيه وهي تمر بالدورة الشهرية، حيث يتصاعد الشعور بالغضب على الحياة برمتها، وتهاجمها نوبات الذعر مصحوبة بضربات القلب المتلاحقة، تخيفها وتزيد من قلقها فتهاجمها الشكوك في صحتها وهذا أشد ما تتعرض له خلال نوبة العمل، لم تكن هذه الحالة ملازمة لها حتى وهي على الحدود نازحة، اكتسبتها فقط منذ أن تزوجت يوسف الجناح وجاءت إلى البحرين وظلت حبيسة الشقة وحدها طوال الوقت، هنا بدأت معها هذه الحالة التي تكمن وراء مخاوف سوداوية يخيل إليها حينها بأنها ستموت وحيدة في الشقة من دون علم أحد.
طفقت طوال فترة الشتاء التي تبلغ فيها درجات الحرارة تحت الصفر وتغمر الثلوج الشوارع والطرقات، على القراءة ومشاهدة التلفاز رغم برامجه المملة والقديمة، وجدت في مسلسل "فريزر" و" أكوردين تو جيم" تسلية وحيدة بعد انتهاء نوبتها التي تشغل فيها نفسها عن التفكير الذاتي والذي يرغمها عادة على القلق ويدفع بها للتأمل في بعض القرارات المترددة في اتخاذها، مثل إقامة علاقة مع أحدهم أو التعرف على صديقات من خارج نطاق العمل الفندقي، بل تمادت ذات مرة بالتفكير في تجربة تعاطي الحشيش من باب الفضول لتستكشف الشعور الذي تسمع عنه مع زميلاها في العمل، وخاصة ماري التي دأبت تحرضها على تجربته وكانت تصدها باستمرار متعللة بأنها تصلي وهذه من الموبقات، وقد فاجأتها ماري بعد مدة حينما علمت بالتفاصيل، بأن الخمر حرام فلماذا تتجرعه؟ فسرت لها وهي تضحك أن هناك عدداً من علماء المسلمين أفتوا بأن الخمر لم يحرم وإنما غير مستحب وهذا فرق كما قالت لها، فردت الأخرى.
" كريزي"
بعد ساعات من اللقاء وبعد صفاء ذهنها وتغلبها على شكوكها شعرت بأنها ظلت طوال السنوات الماضية المليئة بالشقاء والمعاناة غبية لا تستغل الفرص المتاحة لها من السماء للخروج من محنتها باستغلال الآخرين الذين يحاولون في ذات الوقت استغلالها وتقلب الآية ضد كل من يحاول استغلالها، كما فسرت لعقلها المشوش منذ خروجها من البصرة للدراسة خوفها من المجازفة، فهي تبحث منذ سنوات عن لجوء أو إقامة دائمة أو جنسية بريطانية وهو حلمها الذي سعت إليه منذ أن وطأت قدماها الأرض البريطانية وقد رأت الكثيرين ممن تمكنوا من ذلك بمختلف الحيل والأساليب، ورغم تعرفها على بعض الشخصيات وإعجاب البعض منهم بها ومحاولتهم استمالتها، إلا أنها كانت تغلق الباب في وجوههم كما إنها لا تملك تكاليف توكيل محامٍ كما فعل الآخرون، وليس لها صلة بالمنظمات السياسية والأحزاب التي عادة تمول طالبي الإقامة والجنسية وكل ما نالته، رغم ما بذلته هو إقامة مؤقتة ووعود بدراسة طلبها وسنوات قادمة تحت الاختبار وغير ذلك، لم تنل سوى وظيفة منحطة من وجهة نظرها لا توازي شهادتها الجامعية، التي رأت فيها صورة المرأة التي غادرت حلم الطفولة لتسقط في مستنقع الفنادق، تنظف قذارة النزلاء، ولولا أنها اخترعت فكرة التلصص على هؤلاء لكان حالها أسوء من واقع الأمر، كل ذلك مر ببالها وهي تغادر غرفة سعاد البشرواي المرأة الغامضة التي كان من الممكن أن تتمادى معها وتسايرها لعل ذلك يفتح لها الباب أمام الجنسية البريطانية، فمن يعلم وراء كل امرأة مبهمة في لندن قوة ضغط بمفعول السحر، وهي بحاجة لساحر أو ساحرة، تنتشلها على الأقل من حالة "البدون" فلا جواز تستقر به ولا حياة كريمة تعيش فيها، ولا مستقبل منشود في المنظور القريب.
" أين أتجه؟
أنهت تفكيرها بسؤال من آلاف الأسئلة التي تطرحها على نفسها منذ الفجر حين تستيقظ إلى أن تضع ر أسها على الوسادة بالليل.

****

انتشلها فلين من تركيزها في الجريدة على صورة لامرأة اختطفت وقتلت قريبة من المنطقة التي تسكن بها، مستغلاً الفرصة في إعادة استدراجها للعيش "بكينغستون"، لاحظ نبرة القلق في صوتها وهي تطلعه على الخبر الذي كان محور حديث لندن، وهو عادة، اهتمام لا يدوم سوى يومين أو ثلاثة ثم يطويه النسيان بالانتقال لخبر آخر يطرأ على الساحة، فهمت من نظرته ذات المغزى التي تستدرجها للحديث عن الانتقال إلى "كينغستون"، كان تركيزها اللحظة ما زال في سعاد البشرواي، تظن بأن المرأة التي تعيش في الغرفة 433 تملك مفتاحاً سرياً لكل الأشياء ولو تمكنت منها وسبر غورها ومسايرتها في دهاليز الغموض لعل ذلك يقربها من الإقامة الدائمة، ثم ما تلبث أن تلف على فلين وتخمن، ماذا يمكنه أن يقدم لها بعلاقاته المتشعبة وصلاته المتعددة مع صناع القرار في العاصمة؟ أجرت بحثاً ميدانياً في رأسها المحشور بالعديد من الأفكار والصور والخيارات ولكنها في كل مرة تصل لقرار سرعان ما يجرفها جبنها إلى القاع ويمحي كل ما فكرت فيه، وحدها مشاهد الحدود والنزوح المتبقية طوال الليالي الباردة تذكرها بصقيع العراء الذي عاشت فيه.
جاءت الفرصة تهرول لها ذات صباح باكر وهي تعبر ممر الفندق بعربة التنظيف تستعد ليوم جديد من العمل، وفوجئت بالبشرواي تخرج من المصعد بكامل زينتها وماكياجها وهي تترنح تمسك بيد الحقيبة وبيد كارت الباب، فما كادت تلمحها المرأة حتى قفزت في مكانها تتلوى من الضحك وتصرخ فيها.
" ضبطك"
هزتها الكلمة وحركت أفكار البارحة، ونفضت الغبار عن جبنها، ردت عليها بلطف متناه.
" في خدمتك سيدتي"
" تعالي .. تعالي.."
جرتها من يدها وهي تترنح وكأنها تجر كلبها الصغير وراءها وهي تقهقه من دون مناسبة، ولكنها الثمالة التي تبعث على الضحك في وقت كان فيه الفندق بممراته وصالاته يغرق في سكون رتيب تلفه إضاءة باهتة تنبعث من زوايا المكان كسرته جلبة المرأة وهي تدلف الغرفة المزدوجة وتسحب معها يسرا التي كادت تتعثر في فوضى المكان.
ألقت البشرواي بجثتها الواهنة على الكنبة بقرب النافذة وأشعلت سيجارتها وهي تنظر للأخرى التي كانت تنتظر منها إشارة لعمل أي شيء تطلبه بحسب ما اتخذته من قرار في الليلة الماضية بمجاراتها، ولكن باعتدال ومن دون أن يؤثر ذلك على مكانتها في العمل، حان الوقت لتتخذ خطوات أكثر جرأة تختزل مسافة الوصول للجنسية التي ما انفكت تحلم بها لتتخلص من عفن الماضي الذي لم تعد تحتمل مجرد الانتماء لأي بقعة أرض تكمن في حزام الشرق الأوسط، كان القرار الحاسم بالانفصال عن تلك الخريطة التي تغطيها أكوام الجثث وبراميل الدماء وروائح البارود وعفن الرجال المغتصبين لكل كائن أنثوي وراء الحدود، أو في مجال القناصة الذين سبق وذاقت أزيز رصاصاتهم العشوائية تطير فوق رأسها مرات عدة، لولا ضربات الحظ التي صادفتها وانتزعتها من مرمى الطلقات، كل ذلك جال برأسها وهي تقف بمواجهة المرأة الثملة تنتظر منها أي إشارة كي تبدأ بتطبيق ما رسمته قبل ساعات.
بادرت بالجلوس أمامها وراحت تنزع كعب الحذاء منها وسط نظرة من الأخرى التي بدا من ردة فعلها أنها استحسنت تلك البادرة، فبادرتها من جهتها بأن تركت يدها تمسح على شعرها، وهنا راح الدم يسرع بالتدفق في عروقها ويزيد من دقات قلبها ويثير غريزة شكوكها ولكنها تحملت اللحظة حتى انتهت من خلع كعبي الحذاء وهمت بالنهوض فأمسكتها البشراوي من يدها ورمقتها بنظرة ثاقبة مخيفة سرت في جسدها وتحملت ذلك بصمت واستسلام.
" كم أنت جميلة يا ..."
" يسرا القرمزي؟
أخذتها انفعالاتها مع سعاد البشراوي إلى مغارة الماضي الغائر في الصور القديمة الملطخة بطين الزبير، علقت بذاكرتها أحاديثها مع والدها جبار الشريف وهوسه الدائم بالأصل السعودي وعلاقة الزبير بنجد، وها هي تتواجه مع امرأة من السعودية ذات نفوذ وسلطة كما يبدو من مظهرها، ترى ماذا ستقول لو تقص عليها حكايتها عن الزبير وأصلها النجدي، هل تسعفها تلك العلاقة في الخروج من نفق المتاهة التي عاشتها منذ غادرت البصرة؟



#احمد_جمعة (هاشتاغ)       A.juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الكتابة إثارة...أنت بحاجة إلى العزلة!
- يسرا البريطانية ج (2)
- يسرا البريطانية (1)
- الموجب والسالب في الرواية!
- رحلة في عقل روائي...غارسيا ماركيز
- رواية يسرا البريطانية- من فنادق لندن إلى سجون داعش
- رواية -حرب البنفسج- والتحالف التركي العماني القطري لغزو البح ...
- الكاظمي والساعدي - أين ينتهي المطاف بهما؟
- تفاعلات روائية، جسدية
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (30) انتهت *
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (29)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (28)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (27)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (26)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (25)
- وعي الشعوب من وعي الأمم!!
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (24)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (23)
- -خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (22)
- تجليات روائية، تشيخوفية


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - احمد جمعة - رواية يسرا البريطانية (3)