أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - الله يرحم عمي سليمان















المزيد.....

الله يرحم عمي سليمان


محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)


الحوار المتمدن-العدد: 6481 - 2020 / 2 / 3 - 22:24
المحور: الادب والفن
    


كنا إذا التقينا، فتح لي أحضانه من بعيد، مهرولا ومعانقا، مصرا على أن يلثم جبهتي ويقبل يدي، حتى إذا قلت له "استغفر الله يا رجل"حرك رأسه في عصبية يمينا ويسارا، بعد أن يكون قد شد عليه بكلتي يديه، خوفا على رأسه من السقوط أو محاولة لاسترجاع سواد عينيه الذي اختلط ببياضهما، ثم ضمني إليه كمن يستمد من صدري شيئا أو يريد أن ينفث فيه مما في صدره هامسا في أذني:
ـ أنت من سلالة النبي، وتحمل كتاب الله، واني أعرف عنك ما لا تعرفه عن نفسك. الله يرحم عمي سليمان ـ[ والدي]
كثيرا ما أغراني بالانضمام إلى إحدى الجماعات الإسلامية "شيخها راه صار مول الوقت ومريدوها في حاجة لما يخفيه هذا الصديَّر،هذا راه جهاد في سبيل الله .كنت أرده بالقول ضاحكا:
ـ ما في الجبة إلا الله .. لو كنت راغبا فيما تقول فالأولى أن ألملم أفراد عشيرتي وأحيي طريقة أجدادي، إن الزمان قد تغير، والوطن في حاجة إلى العاملين الفاعلين الذين يخلقون مناصب للشغل، ومعامل لتحريك الاقتصاد ودواليب التنمية ، ذاك زمن ولى،وأفضل جهاد، جهادالنفس ضدأمراض الحياة . كنا نفترق بالأحضان كما نلتقي بالأحضان، أبتعد عنه خطوات وصوته يرن في أذني بعد أن يشيعني بضحكة لا يتقنها إلا هو:
الله يهديك، فكر مزيان، الله يرحم عمي سليمان
صاحبي هذا غاب فجأة، و غابت أخباره مدة ليست بالقصيرة إلى أن صادفت أحد معارفه الذي" نورني" بمساره الجديد فقد ترك جماعته، وانتمى لأحد التيارات السياسية الناشئة، وهو منشغل بالانتخابات مرشحا عن إحدى المدن طامعا في مقعد بالبرلمان .
كنت أعرف عن هذا الرجل أنه يمثل "اهبل تربح،" وقد كان والدي يرحمه الله يطلق عليه"هب الريح"و"براح رجال الله"، فهو حاضر غائب ، حال مرتحل بين الأضرحة والأولياء والصالحين بقدر ترحاله بين الجماعات والطوائف، موجود أنى كانت الزردة وحضر السخاء، وأنى كانت المواسم والعطايا.
أمس تلقيت مكالمة هاتفية من أحد أقاربي بالمدينة القديمة.
ـ ألو..الحاج محمد هذا.. كيف أنت.. أنا..
ـ أهلا، أين أنت يا رجل..الدراري بخير .. مولات الدار...
ـ الله يبارك فيك.. راك موجود ف فاس
"ياك لا باس.."
ـ لا..لباس.. غير معايا سي ... بغى يجي يشوفك
ـ مرحبا..أخيرا هل الهلال..ولَّى برلماني ولا ما زال...
انتظرت صاحبي شهرا بالتمام والكمال بعد تلك المكالمة ـ هبة ريح لا تستقر في مكان ولا تحس بزمان ـ إلى أن كان يوم الجمعة الأخير.كنت خارجا من المسجد بعد صلاة الجمعة، رفعت رأسي لأجد صاحبي من بين المتدافعين للخروج، كانت عيناه مصوبتين نحوي في نظرة لم أعهدها فيه، هي مزيج من زهو وابتسام وكبرياء وتأنيب ،كان بيني وبينه أكثر من رجل، استبقته إلى الابتسام ريثما نتخطى باب المسجد إلى الشارع فيحضنني كما تعود أن يفعل .
كنت المتقدم إلى الخروج، تنحيت جانبا أنتظره، راعتني سمنته الزائدة وشعره المخضب بالسواد،أما لحيته فقد شذبت في أناقة ولم تعد كما كان يصفهاِ" قبضة يد نبوية ".
لم يعانقني أو يلثم جبهتي، ولا هوى بشفتيه على يدي، فقد رفع رأسه في زهو دافعا بطنه الذي انتفخ، فارتفع جلبابه الرمادي من أسفل كاشفا عن سراويل النصارى كما كان يسميه .قال وكأنه يقرأ كلامه من كتاب:
ـ تعمدت ألا آتي عندك، لأني صرت أشك أن تكون أنت ابن عمي سليمان الله يرحمه، ما الذي غيرك ؟
بهت، وقد أحسست أن الذي يكلمني ما عاد وديعا كما ألفته، لربما هي السياسة قد حنكته وأكسبته شجاعة وثقة وقدرة على رفع الرأس والمواجهة، تمالكت نفسي، وحافظت على هدوئي ،فما زال لساني رطبا بذكر الله، وما زالت طمأنينة الصلاة تسري في أوصالي.قلت له بنبرة أحس وقعها:
ـ ألا تعانقني وتلثم جبهتي، حتى يدي ما عاد بعدك يقبلها أحد؟
فاجأه كلامي فانتبه .ترك نصف بسمة ترتسم على محياه ثم قال دون أن يرفع عينيه عن بلغته الزيوانيةالصفراء :
ـ حتى أتيقن من إيمانك الذي ساويته بإيمان اليهود والنصارى ماذا تقول إذا وقفت لرب العالمين؟ وكيف تهدم كل ما بناه سادتنا أجدادك الأولياء الصالحون؟
أدركت ما يعني وعما يتكلم، وبسرعة ربطت علاقة بين هذا الذي أمامي وآخر لا أعرفه ،فصاحبي يتحدث عن مقال كنت قد نشرته في إحدى الجرائد حول مفهوم الإسلام من خلال الأديان السماوية الأخرى. سبحان مبدل الأحوال، فمتى شرع صاحبي يتعاطى قراءة الجرائد وهو من قال لي مرة "احذر هذه السموم راهم كيخرجو على الدين بركة لسيدي غير اللي فصدرو "واتقوا الله ويعلمكم الله"
كنت أعي أن صاحبي أعزل من كل معرفة عميقة، وأن كل زاده عن الإسلام شكليات مروية ،وطقوس متداولة، شطحات ومبالغات من مواسم الأضرحة وبعض رواة السير، يقيني بقصوره الفكري عن بلوغ عمق ما توخيته جعلني أتجاوز عن هجومه وأبادره بالعناق وأنا أقول:
ـ دعني أضمك فنتواصل الرحم وإذا أردت أن أوضح لك ما غاب...
قاطعني في هجومية مطلقة وكأن الحقيقة وحدها ما يقوله ويؤمن به :
ـ لا ليس قبل أن أتأكد مما عزمت على معرفته
كان المسجد قد لفظ كل المصلين، ولم يبق ببابه غير جماعة من المتسولين، غرسوا رؤوسهم في قصعة كسكس، يتعجلون لقماتها الحامية إلى أفواههم. أحسست شهية غامرة للقمة من تلك القصعة، فرائحة السمن التي عبقت المكان أثارت لذة فمي وشهوة بطني، فانشغلت عن صاحبي الذي كان يتكلم دون توقف. شريط مسجل، هو خليط من أقوال الصالحين، مقاطع من البردة والهمزية للبوصيري، أشعار لابن الفارض، توسلات من الملحون... إذ ما غزا أذن صاحبي قول مذ وعى الحياة إلا تقيأه على وجهي وفي مسمعي، يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، يتراجع قدما ثم يتقدم أخرى.
أتعبني الوقوف، فأحسست جفافا في حلقي ويبوسة في فمي، رحى فمه تستمر في الدوران ،تقذف مطحوناتها، بقايا متحف متهاو مُنهار من قدرية ودهرية، ومجسمة ومرجئة وشيعة واسماعلية ... كل ذلك حصنه صاحبي بآيات من كتاب الله و أحاديث نبوية يجترها بلا دليل ولا وعي، كمن يستظل بشجرة لا ظل لها.
مسح المتسولون القصعة بأصابعهم، ثم تفرقوا بحثا عن غنيمة أخرى .
بقينا وحيدين وجها لوجه، وقد ارتفعت حرارة الزوال، وانخفضت حرارة المقال، توهم صاحبي أنه أقنعني وقد اطمأن إلى صمتي، فتربعت بسمة زهو وانتصار كل وجهه الناضح عرقا :
ـ ايه ما رأيك أليس الدين عند الله الإسلام وما عداه باطل ومرفوض ؟
قلت وأنا أحاول إنهاء الحديث،يقينا أني و صاحبي شرق وغرب وهيهات أن يلتقيا
ـ رحم الله عمي سليمان لقد علمني أن رسالة الإسلام تقوم على الألفة بين جميع الرسالات وان كلمة مسلم لا تعني مسلما في ديانة معينة بالذات بل تعني اليهودي والنصراني وكل من خضع لله ووحده ولم يشرك به شيئا، لقد غلبني الجوع ألا تتغذى معي؟
لم تجد دعوتي في نقسه صدى، ومع يقيني أن شريط محفوظاته قد توقف ولم يعد يستطيع المزيد لأنه أفرغ كل زاد الوفاض جددت دعوتي .
زفر من عياء أو من يأس ـ لا أدري ـ ارجع رأسه إلى الوراء، واضعا يديه على لحيته يمسدها في عصبية ظاهرة، سامحا لبطنه أن يبرز أكثر ثم قال:
ـ الظاهر أننا في حاجة إلى وقفات أخرى
توقف قليلا كأنه يفكر فيما سيقول ثم تابع متصنعا الهدوء والانشراح:
ـ زرني في الرباط...أأ..ألا تشاهد جلسات البرلمان في التلفزيون؟
عاجلته برد وأنا أحاول التخلص منه وقد أدركت قصده:
ـ وهل يخفى القمر؟إمارة الدار على باب الدار.إلى اللقاء
أسرعت الخطى إلى منزلي وأذني تلتقط آخر كلماته:
ـ راجع نفسك الله يرحم عمي سليمان
رددت في عمقي:" يرحمه الله ويجعل الجنة مثواه، لقد استوعب دينه ودنياه فعمل لهما معا بشهادة عدلين الكتاب والسنة وما عداهما فكر ورأي "



#محمد_الدرقاوي (هاشتاغ)       Derkaoui_Mohamed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة مخفية
- جدتي
- أهواك
- أرض خصبة لم تكن موعودة
- احزاب...ولكن
- لبيته لن أعود
- نملة
- جف في بيتكم زمزم
- العدة وقلة القبض
- قلب المحارة درة
- شوك صبار
- قهوتي
- ليلة ليلاء
- أعطيني نفسك
- تفاحة
- انزعي عنك غلالة فكر
- فجرت سوق الثرثرة
- وحيدة بين الوجوه
- غلالة ( الجزء الثاني من لهاة مكتوم )
- أحزابنا


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الدرقاوي - الله يرحم عمي سليمان