أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق قديس - أرواح متلازمة














المزيد.....

أرواح متلازمة


طارق قديس

الحوار المتمدن-العدد: 6432 - 2019 / 12 / 8 - 10:21
المحور: الادب والفن
    


لم أتوقَّعْ يومًا أن أرى نفسي مُضطَّرًا للكتابة في موضوعٍ لطالما اعتبرتُ حُدوثَهُ مُجرَّدَ صُدفةٍ بحتة، والمرورُ عليه بالقلم هَدْرًا للوقتِ والجُهد، وهو تلازُم بعضِ الأشخاصِ في حياتِهِم ووَفاتِهم، بمعنى أن يظلَّ شخصانِ مَعًا أثناءَ الحياةِ، وعندَ وَفاةِ أحدِهِم لا يَلْبَثُ الآخرُ وأن يَلحقَ بالأوَّلِ ويُفارِقَ الدنيا بشكلٍ مُباغِت.

كَثيرٌ من الحالاتِ قَرَأْتُ عنها في الصُّحف، والمواقع الإلكترونية، وجَلْساتِ التَّسامُر: زوجٌ ماتَ بعد وَفاة زوجَتِهِ بفترة، أمٌّ فارقت الوجودَ بأنْ هَدَّتْها وَفاةُ ابنها بأيام، وأخٌ ماتَ في إثر أخيه الذي قضى قبلَهُ. لكنَّ واحِدًا منها لم يَهزُزْني، لم يَجْعَل الألمَ يَرْعى في جَسَدي، ولم يَرْمِ بي في زَحْمَةِ الفُضولِ والتَّساؤل، وافتراضِ أنَّ ما حدثَ كانَ مُقَدَّرًا وليسَ وَليدَ صُدْفَةٍ أو ارتفاعٍ في الضغطِ، أو اشْتِباكٍ مع نَوْبَةِ سُكَّرٍ مُفاجئِةٍ. حتى وَقَفْتُ في زِيارتي إلى شِمالَ فرنسا أمامَ قَبرِ الرَّسام الهولندي فنسنت فان غوخ الذي توفي عام 1890 عن سبعةٍ وثلاثينَ عامًا، وإلى جانبِهِ قبرُ أخيه ثِيو الذي توفي بعده بستَّة أشهر عن ثلاثَةٍ وثلاثينَ عامًا! فالمَعْلومَةُ تَبْدو للوَهْلَةِ الأولى عادِيَّةً، إلا أنَّ ما ألقى بالرّيبَةِ في صَدْري معرفَتي أنَّ ثيو هو من كانَ يَرْعى أخاهُ مُدَّةَ حَياتِهِ، ويَمُدُّهُ بالمالِ لِيَشْتَرِيَ مَعاجينَ الرَّسم المُلَوَّنة، والريشاتِ، ويُؤَمِّنَ له ما يُغَطّي تَكاليفَ مَعيشَتِه في أماكِنِ حِلِّهِ وتِرْحاله، وأنَّه لولاه لما وَجَدَ إبداعُ فان غوخ طَريقَهُ إلى قاعاتِ المتاحِف العالمية كاللوفر في فرنسا، والأرميتاج في روسيا فيما بعدَ، ولا مَرَّتْ فُرشاتُهُ الثائرةُ بالأفكارِ على لوْحَةٍ من اللَّوْحات.

حينَها بَدَأْتُ أرى الأمرَ من زاوِيَةٍ أُخرى، وَوَجَدْتُني أفتَحُ البابَ لاحتمالاتٍ أخرى قد تَكونُ السَّبَبَ في وَفاةِ ثِيو بعد أخيهِ مُباشرَةً، رغمَ أنَّهُ لم يَشْكُ من الأمراضِ المُزْمِنَةِ والعَوَز. ومن تلك الاحتمالات وُجودُ مُتلازِمَةٍ قَدَرِيَّةٍ نَجْهَلُها تمَّ ترتيبُها بحِكْمَةٍ ودِرايَة مُسْبَقة.

حالةٌ ثانيةٌ عزَّز فَقْدُها الصادِمُ تَفَهُّمي لوجودِ سلسِلَةٍ خَفيَّةٍ من الأرواحِ المُترابِطةِ بوُجودِها الحِسِّيِّ على هذه الأرض، وهي حالةُ رحيل الروائي الأردني جمال ناجي، صاحبِ القلَمِ المُتَوَهِّج، والروحِ المرحة، والحُضورِ الأنيقِ في عالمِ الكِتابة العربية. ذاكَ الذي اقتَنَصَهُ الموتُ بَغْتَةً في شهرِ أيّار / مايو عام 2018 بعدَ صراعٍ عنيفٍ مع الألم لم يُبارِحْهُ منذً وفاةِ أخيه جُمْعَة قبلَهُ بِشهرينِ فقط. وغَرسَ فِراقُهُ خِنْجَرًا في صدرِه، وأحالَ القلبَّ النابِضَ بالأمل إلى كتلَةِ نارٍ وَقودُها الحُزْنُ والانكسار تَرْقُدُ في أعماقِه.

حالةٌ أخيرةٌ أدّى انسلالُها من هذا العالمِ إلى اقتناعي بوجاهَةِ وُجودِ هذه الظاهرَة الخَفيَّة للأرواحِ المُتلازمة على هذا الكوكب، وانسحابِها من هذا العالم الدُنيويِّ بشكلٍ مُتتالٍ يدعو إلى الجدل، وهي حالةُ فقدان أحدِ الأصدقاء، وهو سمير حلبي بعدَ تشييعِهِ لأخيهِ جون قبل بِضْعَةِ شهور خَلتْ. وهُما الشَّغَوفيْنِ بالقراءَة والنَّقْد، ومُلْتَصِقَيْنِ بشرنَقَةِ الكِتابِ عن كثب، وهو ما يجعلُ الحديثَ عنهُما ضَرورةً ذاتَ مَعنى وقيمة.

فالمُتَذَوِّقُ للأدبِ جون تَمَتَّعَ بروحٍ مَرِحَةٍ نَشِطَةٍ في القراءةِ جَعَلَتْهُ يَرْهَنُ شبابَهُ وذاته للكتاب فقط، وهو الذي لم تَقْوَ أنيابُ الأمراضِ المُزمنَة في جسمِهِ من أنْ تَضَعَ حَدًّا لنَهَمِهِ بالكتاب طيلةَ حياته. حيثُ كان أخوهُ سمير رفيقًا لَهُ في دربه، وأنيسًا له في وِحْدَتِه، إلى درجةٍ جعلتْ من النادرِ أن ترى أحدَهُما في مَكانٍ بمعزِلٍ عن الآخر. وكأنَّ الحياة التي سلبتْ الأخ الأكبر حَقَّه في الزَّوجة والأولاد منحتهُ العَزاءَ في أخٍ غدا له عُكّازًا له أينما سافرَ أو مَضى.

كالوَمْضَةِ رحلَ الأوَّل، وفي إثرهِ انتهى الثاني، وكأنَّ حَبْلَ السُّرَّةِ الواصِلِ ما بينَهُما يأبى الانقطاع، وقد سرى خَبرُ فِراقِهِما في بدني مَجْرى من صَعَقَهُ تَيّارُ الكهرباء، وقد عَزَّزَ الأمرُ في ذهني ذات التَّساؤُلِ عن سِرِّ هذه المُتلازِمة الغريبة في عالمِ الأرواح، وحقيقةِ وُجودِها، دون أن يكونَ سؤالي مُلزِمُا لغيري بالاقتناع أو الرَّفض. فما استدعائي لما كتبتُ هنا سوى دعوةٍ للتَّأمُّلِ في ظاهرةٍ تسترعي الدِّراسة في حياة الإنسان، ذلك الكائن المسكونِ بالتَّناقُضات اللامُتناهية.

تدقيق: الشاعر رفعت قزيح



#طارق_قديس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تساؤلات في حَضْرَةِ الإله
- سوريا والوجود الروسي
- أحلامٌ تَقَدُّمِيَّةْ
- مُتَخَلِّفونْ
- ثَوْرَة الثروة
- في الطريق إلى باريس
- عازف الناي
- رقصة الكيكي
- الخطيئة الأصلية
- البارحة
- المفسدون
- اللُّغْز
- التجربة الناجحة
- من بكين إلى شنغهاي
- الرحلة البيلوروسية لابن رشيد
- شكراً بوتين
- الفلاسفة المُقنَّعون في المجتمع العربي
- بانتظار ويكيليكس !
- مستقبل الديمقراطية في ليبيا
- شيزوفرينيا العرب


المزيد.....




- وفاة الممثل البريطاني برنارد هيل، المعروف بدور القبطان في في ...
- -زرقاء اليمامة-.. أول أوبرا سعودية والأكبر في الشرق الأوسط
- نصائح لممثلة إسرائيل في مسابقة يوروفيجن بالبقاء في غرفتها با ...
- -رمز مقدس للعائلة والطفولة-.. أول مهرجان أوراسي -للمهود- في ...
- بطوط الكيوت! أجمل مغامرات الكارتون الكوميدي الشهير لما تنزل ...
- قصيدة بن راشد في رثاء الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن
- الحَلقة 159 من مسلسل قيامة عثمان 159 الجَديدة من المؤسس عثما ...
- أحلى مغامرات مش بتنتهي .. تردد قناة توم وجيري 2024 نايل سات ...
- انطلاق مؤتمر دولي حول ترجمة معاني القرآن الكريم في ليبيا
- ماركو رويس ـ فنان رافقته الإصابات وعاندته الألقاب


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق قديس - أرواح متلازمة