أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوال السعداوي - حينما تتلاشى المسافة بين «البيت الأبيض» وغرفة نومى فى شبرا














المزيد.....

حينما تتلاشى المسافة بين «البيت الأبيض» وغرفة نومى فى شبرا


نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)


الحوار المتمدن-العدد: 6359 - 2019 / 9 / 23 - 09:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




سافرت كثيرا، وصادقت نساء ورجالا من جميع البلاد، فى القارات الخمس، وأدركت أن الإحساس بالغربة هو إحساس عالمى عام. ربما يصح أن نتكلم عن «عولمة الغربة». منذ طفولتى وأنا أفتح عينى على وجوه أمى، وعماتى، وخالاتى، ملامح فقط.

الأصوات التى أسمعها هى أصوات الرجال، يتكلمون دائما وبصوت مرتفع، والنساء صامتات، يستمعن إلى الرجال وفى عيونهن بريق منطفئ، يشبه الألم أو الحزن العميق الممتد عبر السنين.

لم أكن أعرف الكلام بعد. ولا أعرف كلمة ذكر أو أنثى. لكن من عيون أمى، وجدتى عرفت أننى مثلهن، وأننى أنتمى إلى جنس هامشى، ليس له قيمة الجنس الآخر، الذى يسمونه «الذكور». قبل أن أعرف الفرق بين الأنثى والذكر، شعرت بالغربة، وأننى أعيش فى عالم تنكمش به الإناث داخل ملابسهن، وداخل المطبخ، وداخل غرفة النوم. ويخرج جدى إلى العالم الخارجى، ويخرج أبى. يخرج الرجال من البيت إلى عالم آخر واسع لا تعرفه أمى، ولا تعرفه جدتى (أم أمى) ولا خالاتى شقيقات أمى، إلا شقيقة واحدة اسمها «فهيمة» كانت تخرج من البيت إلى المدرسة. عيون الرجال كانت تنظر إلى خالتى، وهى تخفى صدرها بحقيبة يدها، كأنما العيون قادرة على اختراق ملابسها، وكمسارى الترام يرمق المرأة الفلاحة بازدراء حينما فكت بأصابعها عقدة المنديل وأخرجت الملاليم، وبدأت تعد له ثمن التذكرة بأصابعها السمراء, مشققة الأظافر، وسوداء مثل أصابعها. حينما أتحدث عن إحساسى بالغربة فى هذا العالم، لا يمكن أن أنسى تلك المشاهد. إنه عالم عبودى عنصرى شديد التفرقة بين الأغنياء والفقراء، بين الرجال والنساء، بين أصحاب الوجوه البيضاء وأصحاب الوجوه السمراء. ويتضاعف إحساسى بالغربة، حينما أجد نفسى فى حفل كبير، ترتدى النساء فيه الملابس الغالية والفيرير والجواهر، وأنا أرتدى ملابسى البسيطة العادية، بلا خواتم

فى يدى ولا أساور، ولا ماكياج على وجهى، وشَعرى مرسل بطريقة عادية، وحذائى عليه غبار الطريق. وأشعر بالغربة حينما أجد نفسى فى اجتماع رسمى، على مستوى عال، يجلس إلى جوارى رجال من الوزراء، أو المسؤولين فى مناصب مهمة فى جهة ما، ربما الأمم المتحدة، أو ما شابه، أو أدباء وصحفيين، ونقاد، أشعر بالغربة حينما أسمعهم يتكلمون، يستخدمون لغة عربية، بطريقة واحدة، اصطلحات وأكلاشيهات واحدة، رابطة عنق شكلها واحد، حركة أعناقهم واحدة. أبحث فى الكتب عن معنى الغربة. معظم الكتب بأقلام الرجال، انشغلوا بغربة الرجل من المحكومين من الفقراء أو العمال، الأجراء، داخل نظام يسرق عرقهم وجهدهم، يحولهم إلى آلة فى الحقل أو المصنع أو المكتب. تحدث الغربة بين الرجل، وما تصنعه يداه، ينظر إلى ما ينتجه، ولا يعرف أين يذهب. لكن هذا الرجل، يجد فى بيته زوجة تنتظره، تعتنى به نفسيا، وجسديا، فتخفف وطأة الغربة. وهذا لا يحدث مع المرأة، التى تشعر بالغربة فى مكان العمل، حيث لا أحد فى البيت يخدمها ويرعاها، ليخفف غربة العمل. إذن غربة النساء مضاعفة عن الرجال. فى طفولتى، كنت أرى الأطفال وأسمع أصواتهم من نافذة المطبخ، ومن بينهم أخى، يلعب ويمرح وضحكته تملأ الكون، وأنا واقفة أمام النار أطبخ له الطعام، مع أننى أشطر منه فى المدرسة، هو يرسب وأنا أنجح. منذ الطفولة أدركت العلاقة بين الظلم، والإحساس بالغربة. سافرت خارج مصر، ازدادت غربتى. ما إن أتكلم اللغة العربية حتى ترمقنى العيون بنظرة غريبة، وبشرتى السمراء تزداد سمرة وغربة بين الوجوه البيضاء. كأنما أنتمى إلى عالم آخر، يسمونه «العالم الثالث»، مع أننا نعيش فى عالم واحد. كلمة «الثالث» تخرج من بين شفاههم لها كثافة مادية، تنقلب الشفة السفلى الى أسفل، كأننى جئت من عالم سفلى. تزداد غربتى عن العالم، حينما أرى وجه دونالد ترامب، على شاشة التليفزيون فى غرفة نومى، يتحدث عن تشديد العقوبات على إيران، ويهدد بالتدخل العسكرى فى قلب طهران: «نستطيع دخول أى دولة فى العالم اذا أردنا». وقبله كانت تأتينى وجوه منْ سبقوه فى رئاسة الولايات المتحدة، وأسمعهم يقولون تهديدات مشابهة، فى صياغات مختلفة، أدت إلى حرب فعلية وقتل الملايين كما حدث فى العراق، تحت اسم حماية العالم من الأسلحة النووية. لكنهم يتجاهلون الترسانة الإسرائيلية المسلحة والنووية. أليست تشكل تهديدا للسلام العالمى؟ أليست ضد القوانين الدولية؟ أليست استمرارا فى إبادة فلسطين وشعبها؟ يشغلوننا بقضايا وهمية، ويصنعون عدوا وهميا، يضخمون فى خطورته لترويج بيع الأسلحة. المسافة بين البيت الأبيض فى واشنطن تتلاشى على شاشة التليفزيون، يصبح ترامب رئيس أمريكا جسما غريبا يقتحم غرفة نومى فى القاهرة، فى شبرا.

لم يعد العالم كما كان كبيرا. أصبح بحكم ثورة الاتصالات صغيرا مثل القرية الواحدة، يحكمها شيخ القبيلة الذكورى العنصرى الدموى، بالسلاح النووى والقتل الجماعى وتشجيع الفتن الطائفية، يجلس على العرش، مثل الإله، يطلب الخضوع من الجميع، ومنْ يرفع رأسه يُقطع على الفور، باسم حماية الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ونزع أسلحة الدمار الشامل.



#نوال_السعداوي (هاشتاغ)       Nawal_El_Saadawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تكون القراءة النقدية إبداعًا
- فتاة الليل تقتحم عالم الكتابة
- أنوثة الفلاحة في الحقل.. وأنوثة الطبيبة في المدينة
- الكاتبة ورئيسة الحكومة
- حملة شعبية ضد التجارة بالطب
- وتبقى البؤرة الفاسدة المتوارثة دون مساس
- مأساة المفكرة المبدعة في عالم ديني ذكوري
- شهادة الزوج الثاني في المحكمة
- نوال السعداويأمر الله والانفجار السكاني
- الصراع الدامي التاريخي بين الآلهة والبشر
- مذكرات طبيبة بعد 63 عامًا من القهر
- أنت مختلفة.. أنت مختلف موسيقى أو نشاز؟
- ثمن العبودية أفدح من ثمن الحرية
- لجنة القصة بالمجلس الأعلى الدائم
- تجديد الفكر الدينى.. ماذا يعنى؟
- الأنانية الموروثة وروابط الدم
- القدم فوق الرأس والعقل بلا ثمن
- الحجاب والنفط والسلاح ونيوزيلندا
- منابع الإبداع فى عيد الأم المصرية
- تجربتى الذاتية والجدل حول الدستور


المزيد.....




- صديق المهدي في بلا قيود: لا توجد حكومة ذات مرجعية في السودان ...
- ما هي تكاليف أول حج من سوريا منذ 12 عاما؟
- مسؤول أوروبي يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا ويصف لبنان - ...
- روسيا تعتقل صحفيًا يعمل في مجلة فوربس بتهمة نشر معلومات كاذب ...
- في عين العاصفة ـ فضيحة تجسس تزرع الشك بين الحلفاء الأوروبيين ...
- عملية طرد منسقة لعشرات الدبلوماسيين الروس من دول أوروبية بشب ...
- هل اخترق -بيغاسوس- هواتف مسؤولين بالمفوضية الأوروبية؟
- بعد سلسلة فضائح .. الاتحاد الأوروبي أمام مهمة محاربة التجسس ...
- نقل الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للمستشفى بعد تع ...
- لابيد مطالبا نتنياهو بالاستقالة: الجيش الإسرائيلي لم يعد لدي ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوال السعداوي - حينما تتلاشى المسافة بين «البيت الأبيض» وغرفة نومى فى شبرا