أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - متحف للدم الحار














المزيد.....

متحف للدم الحار


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6236 - 2019 / 5 / 21 - 14:39
المحور: سيرة ذاتية
    


نجوت من الحواجز وحراس الحدود وغدر البحر والجبال والغابات والمهربين ووصلت، بعد كل شيء، إلى مكان آمن. وما زلت، رغم مرور الزمن، يلازمك اضطراب القلب حين ترى سيارات البوليس هنا، في منفاك أو قل في مفرّك أو مهربك. لكنك تطمئن، بعقلك ووعيك على الأقل، إلى أنك أصبحت خارج مجال تلك الشبكة الرهيبة المنصوبة في كل مكان من بلدك لغرض اصطيادك. يريحك شعور الاطمئنان هذا، ولكنه يحرض فيك، في الحين نفسه، شعوراً آخر مضاداً للرضى الذي تولده التضحية، شعوراً بالهزيمة. يضاف هذا الشعور الثقيل إلى شعور الغربة والانقطاع، وإلى ثقل الشعور باكتمال حرمانك من بلدك، حين يقال لك إنك تستطيع زيارة كل بلدان العالم سوى بلدك.
في المكان الآمن خارج بلدك، أنت تُعرّف بدلالة مأساة. أنت شظية من مأساة، وتكون مطابقاً لذاتك أكثر كلما كنت تحمل عناصر المأساة في شخصك أكثر، في قصتك، في حديثك، في ردود فعلك، في نظرة عينيك، وحتى في ملابسك، أي كلما كانت الشظية المأساوية مشبعة أكثر بعناصر مأساتها الأم. يختفي انتماؤك لسوريا وراء انتمائك للمأساة السورية، أنت ابن المأساة السورية أكثر مما أنت ابن سوريا. لا عمق لك، ولا تنفتح دروبك إلا على النكبة التي أوصلتك إلى هنا وصارت عنوانك الأول. لا تنتسب إلى التاريخ القديم لسوريا أو إلى العراقة المشهودة لدمشق، أنت تذكّر فقط بالمأساة السورية الحية، هي أمك التي نبذتك، وأتاحت لك، في الفعل نفسه، الأمان الذي يشبه ثمن الدم، ثمن عام لدم عام. ثمن يتقاسمه السوريون الذين نجوا. لأن أخوة لهم قُتلوا ويقتلون، ماتوا ويموتون، أصيبوا ويصابون، سجنوا ويسجنون، حوصروا ويحاصرون، فإنهم يكتسبون حقاً شاحباً في الحماية.
في هذا الحال ما يبعث فيك خجلاً ما، أو ظلاً غامضاً من العار. فيه ما يقلل من انتمائك السوري رغم أنه يشدد عليه. تنال حق الحماية لأنك سوري وتخسر شيئاً من سوريتك حين تنال هذا الحق. لعل الشعور العميق بهذه الخسارة هو ما يدفع السوريون إلى تأكيد انتمائهم بصيغ مختلفة تتحول إلى ما يشبه الطقوس الانتمائية.
كلامك عن سوريا بوصفها "مهداً للحضارات" فيه محاولة يائسة لاستعارة قيمة من الماضي السحيق من أجل ترميم قيمة الحاضر المهشمة، أو من أجل التحرر، ولو قليلاً، من عباءة المأساة التي ترميها عليك العيون الأجنبية. كلامك عن "قضية" سورية هنا، لا يبدو أكثر من محاولة تعيسة لوضع قناع رزين على جرح ينزف.
لك أن تضيف "قضيتك" إلى متحف القضايا هنا. الندوات واللقاءات ليست سوى سوقاً أو معرضاً لهواة القضايا، "لسائح يعشق جمع الصور". سوف تجد من يستمع ومن يتأثر ويتعاطف، من يوافق ومن يجادل في المسؤولية الكونية عما يجري، وفي نهاية "العرض" يخرج الجميع كمن يخرج من فيلم، لتبقى قضيتك حيث هي في متحف القضايا. قد تجد هذه القضية الجديدة ترحيباً بوصفها قضية جديدة في هذا المخزن المعتاد على إيواء القضايا "الوافدة" وعرضها في فاترينته، ثم تحويل طاقتها السياسية إلى طقوس احتفالية، كما تتحول الحياة التي يتجاوزها الزمن إلى فولكلور.
مهما كان دم قضيتك حاراً، فإنها هنا مُتجاوَزة، ومن زمن آخر، من زمن فولكلوري. البعد المكاني يعادل بعداً زمنياً أيضاً. الشعر والمسرح والغناء والزي والرايات والأشكال التعبيرية الأخرى المعبرة عن القضية، لها مكانها في الجناح الخاص بقضيتك الأم. ندوات الفكر والتحليل لها مكانها في الجناح أيضاً. قليلون من يشترون قضيتك، إنهم يشترون مأساتك بالأحرى. لا تدخل قضيتك إلى مجال الاهتمام إلا من باب الماساة، أو قل إنها تدخل كمأساة. يصغي إليك المهتمون أو الهواة الممكنون كمن يصغي إلى شكوى من يحتاج إلى مساعدة، وليس كشركاء في مأساة "كونية" اختارت بلدك بؤرة لها اليوم.
لا تعثر على الجسر السياسي الذي يصلك مع هؤلاء "الانسانيين". حين تتكلم عن المسؤولية العالمية في ما يصيب بلدك، تبدو في عيونهم، كغريق يريد التمسك بأحد لينجو به أو يغرق معه. تريد أن تثبت لهؤلاء إنه "بلد واحد هو العالم"، إن هناك جسراً سياسياً يوحد القضايا، يمكن رؤيته مثلاً في الانعكاسات الممكنة لمأساة بلدك على العالم، في نشوء بيئة للتطرف، في التهديد الإرهابي الذي يعبر الحدود، في موجات اللجوء التي تثقل على كاهل الدول "الآمنة"، لكنك تبقى خارجياً وتبقى قضيتك معزولة في "غيتو" القضايا.
تقول في نفسك: حين يضطر شعب للخروج من وطنه تحت ضغط نكبة ما، فإن قضيته تسبقه إلى اللجوء، وتتحول إلى قضية محمية، ولكن في مجمع أو معرض أو متحف "آمن".

كانون ثاني 2018



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أخرج من سوريا كي أعود إليها
- مواطنون وأعداء
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 2
- فلاحو سوريا، التاريخ ما وراء حجاب السياسة 1
- أسئلة عن الثورة السورية
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 4
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 3
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 2
- حوار، في البحث عن سوء تقديراتنا 1
- تمرد المرأة السورية على الأطر السياسية الذكورية
- جرائم شرف في الثورة
- نجاحات ومخاطر في السودان
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 8
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 7
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 6
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 5
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 4
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 3
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 2
- الشبيحة: تشكيلات العنف غير الرسمي في سورية 1


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - متحف للدم الحار