أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - احسان طالب - بنت سيؤل تعشق غبار دمشق















المزيد.....

بنت سيؤل تعشق غبار دمشق


احسان طالب

الحوار المتمدن-العدد: 1538 - 2006 / 5 / 2 - 12:00
المحور: المجتمع المدني
    


1. بنت سيؤل تعشق غبار دمشق
( 1 )
مجموعة من الأوراق المبعثرة و المبهمة كتب عليها بلغة غريبة ،كانت تحملها بيدها النحيلة وتمسك بالأخرى قلما تضعه في ثغرها الباسم ثم تعيده إلى يدها فتظهر أسنانها البيضاء المرصوفة ، تلتفت يمينا وشمالا و لا تستقر في اتجاه خيل إلي للحظة أنها تتصرف بعفوية مبالغ فيها وكأنها تتدرب على حركة استعراض لملابس أو تمثيل أو.. لا ادري !
مابين جامع المعلق و قلعة دمشق يمر فرع رئيسي لبردى يتدفق بغزارة وقوة أواخر الشتاء من كل عام ، وفقت تنتظر العون وتأمل في مساعدة لا تبدو قريبة والحيرة تزداد شدة مع هدر النهر.
لم أكن أسير خلفها أ و أتابع خطواتها ولا أنكر أنها أثارت إعجابي بقامتها الرشيقة وصفاء بشرتها ،بالغت بالنظر إليها ، نعم بالغت ، فشدني جمال عينيها وطول رموشها ، وعندما تحركت بقربي ومالت برأسها نحوي تدلت خصلات من شعرها لتحجب كل شيء سواها وغلبت رائحة عطرها على سيطرة الدخان والغبار في أجواء العاصمة المزدحمة ، لم تدع لي خيارا في عرض مساعدتي لها may I help you ?
لم يكن العرض مفاجئا ، بل كان مرجوا ومتوقعا ، فردت بابتسامة رقيقة سبقتها نظرة تفحص بريئة : نعم من فضلك . أخذت أتفحص الأوراق التي في يدها والخطوط الموجودة فيها ، لم يكن هناك شيء واضح لا من الرسم ولا من الأحرف المكتوبة بلغة بعيدة كل البعد، و بلكنة شرق آسيوية ولغة إنكليزية تواصلنا .
بالنسبة لي كانت الأمور واضحة ، فأنا أعرف دمشق القديمة بتفاصيلها الصغيرة وأعشقها حواريها وأبنيتها وأسواقها ومساجدها ، في تلك اللحظة بالذات رسمت لها في ذهني مخططا لجولة نمر من خلالها على معظم الأماكن الجذابة حول نقطة تواجدنا .
أخشى إضاعة وقتك أو تعطيلك عن عملك
في الواقع لقد أنهيت عملي وما تبقى لا يضره الانتظار للغد
بعد هذا الحوار سرنا باتجاه القلعة وتعارفنا : الاسم إن صن، الجنسية كورية العمر ثلاثة وعشرون تعمل في بنك وتنهي دراستها في إحدى جامعات سيؤل التي تسكن فيها . هذه ليست أول رحلة لها خارج كوريا بل سبقتها زيارات إلى مصر والأردن .
كانت دهشتها واضحة وهي تنظر إلى الحجارة القيمة والحديثة لقلعة دمشق ، ترفع رأسها لتصل بعينيها إلى القمة فيزداد عنقها طولا و ينطلق شعرها إلى الخلف ثم تعود للأسفل تتفحص المشهد برمته . استمرت الرحلة بخطوات بطيئة وتوقف عند كل عامود من أعمدة سوق الحميدية الرخامية السوداء والبيضاء مع تفحص لأسقفية المحلات و معروضاتها من العطورات والماكياجات الألبسة الجذابة . أعين الناس من حولنا تراقب وتنظر وكأنهم غرباء يتطلعون إلى حدث مألوف بطيبة ممزوجة بريبة .
رغم البرد القارص أصرت الآنسة إن صن على أكل البوظة المجمدة المصنعة يدويا من المحل المشهور الذي سمعت عنه من صديقة يا بانية , توقفنا في بهو المحل وهي تنظر إلى الشاب الجميل يرفع ساعديه العاريتين نحو الأعلى ثم يهوي بمدقة خشبية طويلة يكرر حركته بإيقاع موسيقي ووجه باسم بادلته التحية وخرجنا بعد أكل زبدية البوظة بالفستق الحلبي , وأنا أرتجف من البرد ، حاولت حث خطاها لأشعر ببعض الدفء ولكن عبثا ، كانت وقفة طويلة أمضتها وهي تنظر إلى الأقواس الرومانية العالية و المزخرفة في نهاية سوق الحميدية و بداية المسكية . لم استطع عد الآهات و الواوات التي كانت تطلقها كلما لفت نظرها إلى تاج فوق عامود أو قوس منقوش ببراعة مازالت تفاصيله واضحة بعد
آلاف السنين من وفاة الفنان المبدع الذي خلد ذلك الفن .
أمام الجامع الأموي حققت أمنيتها بالدوران حول أركانه الأربعة تتفحص المداخل والأبواب ووجوه الداخلين والخارجين ،
البرد يزداد والوقت يطول و التعب أخذ حقه من جسدي ، رغبت باحتساء كوب كبير من الشاي الساخن جدا في قهوة النوفرة الشهيرة . جلسنا قرب النار نفرك أيدينا الباردة فوق منقل الفحم غير عابئين بالشرر المتطير نحو وجوهنا وملابسنا . كانت العودة من أمام الباب الشرق الشرقي للمسجد مرورا بسوق القباقبية وما حواه من فنون ومقتنيات تراثية وحديثة في غاية الروعة بالنسبة ل إن صن
( 2 )
لم تتوقف الكاميرة الياباينية التي كانت تعلقها برقبتها عن التصوير إلا نادرا وبعد خروجنا من سوق الحميدية سرنا باتجاه جامع السنجق دار طلبت منها الوقوف أمام تمثال صلاح الدين وهو يمتطي حصانه ويشهر سيفه فاعتذرت بلباقة وقالت انه غير واضح ويرمز إلى الحرب ، حاولت درء الشبهة فلم تترك لي الوقت الكافي فلقد أدركها الجوع .
ولما كنت أريد لها تجربة مميزة دعوتها إلى المنزل للقاء العائلة وتذوق طبخنا الدمشقي ، فاستجابت بحرارة بالغة لعله الجوع أو الرغبة في الدفء ، فالبرد غدا غير محمول و الشمس مازالت مصرة على حجب أشعتها فبل الغروب بقليل .
خشيت إلا يعجبها طعامنا وأخذت أسألها بعض الأسئلة عما تحب وما لا تحب ، فأجابت بكلمة قاطعة : أنا آكل كل شيء. ممتاز إذن لا تمانعين في أكلة شيخ المحشي مع الرز المفلفل . رفعنا المائدة سوية وعرضت المساعدة في المطبخ وانسجمت مع زوجتي وأولادي أيما انسجام خاصة وأن معظم الأدوات الكهربية و الالكترونية في منزلنا من صنع كوري . جلسنا في المساء قرب التلفاز و كأننا عائلة وحدة لا يسمع من أصواتنا سوى الضحكات ونحن نشاهد أحد المسلسلات الكوميدية الأجنبية المنتشرة في كل أرجاء العالم .
رغبت في إسماعها بعض الموسيقى العربية فأخذت أحد الأقراص ووضعته في المسجلة وأخذنا نستمع سوية إلى أغان لعمر دياب و أصالة ،و الجميل أنها تجاوبت مع اللحن و أحبت الأصوات .
عند منتصف الليل اصطحبتها إلى الفندق الذي تقيم فيه وهي تحمل هدية قدمتها لها زوجتي وهي ( كنزة ) من الصوف مشغولة باليد ، كادت الدموع تنهمر من عيني إن صن عندما كانت زوجتي تطيل أكمام الصوف ببعض الفرو ، فإن صن أطول من غيرها , وخلال ساعة تقريبا كانت تراقب باهتمام وتحاول أن تتعلم شغل اليد و لم تنسى أخذ العديد من الصور المشتركة مع العائلة . تقبلت الهدية بسرور شديد وفرح بالغ و لفتها بعناية فائقة وضمتها لصدرها بحنان .
طيلة العام السابق على رحلتها كانت إن صن تعمل و تدخر من مصروفها وتجمع المال من أجل السياحة ، وهي تكرر العملية كل عام وإلى بلدان مختلفة و تتمنى زيارة دمشق في الصيف لكن التكاليف ترتفع كثيرا في المواسم السياحية . عند باب الفندق ودعتها وطلبت منها الاعتناء بنفسها فقالت لي ضاحكة : الحرارة في مدينتي الأم تنخفض إلى عشرين درجة تحت الصفر .
عدت إلى المنزل وأنا أتسأل عن سر التواصل بين أناس من أعراق مختلفة وأجناس وعقائد متباينة ، أتسأل عن قوة الموسيقى وقدرتها السحرية في الاستيلاء على المشاعر ، عن الفن يجمع حوله العالم من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب ، عن روعة التراث الإنساني المنتشر في كل بقاع الأرض ، ذلك الجمال الذي يدفع فتاة بعيدة كل البعد تقطع آلاف الأميال متنقلة من مطار إلى آخر ومن رحلة إلى أخرى حتى تصل إلى مكان تزور فيه حضارة جديدة وأخرى غابرة ، ترغب فيه بتناول حلوى اشتهر بها و تتجول في أمكنة جديدة عليها تتواصل مع أهلها وكأنها تعرفهم لسنين .
إنه الإرث الحضاري الإنساني الجميل , إنها ثقافة التواصل بين الشعوب والأفراد إنه قبول الآخر بكل اختلافاته وتميزه وتنوعه . لقد تعلمت من تلك الفتاة الكثير ، من عفويتها وبساطتها و سعة صدرها .
في اليوم التالي اتصلت لتعلمنا بوصلها إلى حلب ومنها إلى تركيا ووعدت بمراسلتنا عند عودتها إلى كوريا ، والبقاء على اتصال .



#احسان_طالب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الارهاب العشوائي ووحدة الخطاب
- صلاة لرجل شرقي
- بغداد لم ولن تموت
- النووي الإيراني – نجاد على خطا صدام
- قبل أن تغادرني
- إلى الذين يدافعون عن صدام
- الاغتيال السياسي و الإرهاب الطائفي
- هل تصلح العطار ما أفسد ......
- إعادة الاعتبار لإعلان دمشق
- السجون السورية تخرج المبدعين
- سيدة يغتصبها آلاف الحاقدين!!
- التشدد الديني و الإسلام السياسي – دراسة من أربعة أجزاء: الجز ...
- يطبق عليهن الحد!
- التشدد الديني و الإسلام السياسي - دراسة من أربعة أجزاء: الجز ...
- الكاتب السوري مظلوم تنتابه الهواجس
- التعديل الوزاري في سوريا يكرس المواجهة
- الإعلام العربي من عصر الجاهلية إلى جاهلية ما بعد الإسلام: ضر ...
- حماس بين استحقاقات الداخل و ورطة الخارج
- الأسد نجاد: دعم السلطة الأبدية بالسلطة الإلهية
- دعوة إلى لقاء الرياضَيْن


المزيد.....




- إيران: أمريكا لا تملك صلاحية الدخول في مجال حقوق الإنسان
- التوتر سيد الموقف في جامعات أمريكية: فض اعتصامات واعتقالات
- غواتيمالا.. مداهمة مكاتب منظمة خيرية بدعوى انتهاكها حقوق الأ ...
- شاهد.. لحظة اعتقال الشرطة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري ال ...
- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...
- 8 شهداء بقصف فلسطينيين غرب غزة، واعتقال معلمة بمخيم الجلزون ...
- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - احسان طالب - بنت سيؤل تعشق غبار دمشق