أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سليمان جبران - شعشبون يعلو الجدران!















المزيد.....

شعشبون يعلو الجدران!


سليمان جبران

الحوار المتمدن-العدد: 6127 - 2019 / 1 / 27 - 10:11
المحور: سيرة ذاتية
    


[من كتاب "ملفّات الذات" الصادر حديثا]
بعد شهر العسل مع المفتّش الطيّب الذكر في حرفيش، جاءنا مفتّش جديد. مفتّش عكس سابقه في كلّ شيء، كما أسلفتُ. مفتّش سيىء الذكر! كنّا جميعا في المدرسة نعرف المفتش المذكور بالاسم فقط. من بعيد لبعيد. اسمه سبقه إلينا سلبا. سمعنا عنه الكثير قبل معرفته شخصيّا. مفتّش ابن عصره! مخلص لمن كانوا السبب في وصوله إلى هذا المنصب. يهمّه رضاهم، ولا شيء يهمّه غير رضاهم. بل كنّا نسمع أنّه يفتّش على المعلّم، بعد تلقّيه المعلومات والتعليمات من أسياده!
إذا توخّيت الصدق فعليّ الاعتراف بأنّي أنا من "تحركش" بالمعارف في أوّل الطريق. واستمرّت العلاقة الحميمة بيننا حتى هذا اليوم! قلتُ في موضع آخر إنّي لم أكن يوما ضدّ كيان إسرائيل أو حقّها في الوجود. كنت أردّد وأدافع بحماس عن الصيغة التي حفّظَنا الحزب غيبا حول النزاع في فلسطين: خلال تطوّر تاريخي معيّن [ولا يناقش هذا "التطوّر" طبعا] غدتْ فلسطين وطنا للشعبين، اليهودي والفلسطيني. ولا حلّ سوى إقامة دولتين في فلسطين، واحدة لليهود، وأخرى بجانبها للفلسطينيّين. مبدأ غير معاد طبعا لليهود، أو لحقّ دولتهم في الوجود والسلام. لكنّه لم يعجب السلطة يومها. لم أعرف يومها لماذا، ولا أعرف اليوم!
كلّ من كان يردّد هذا الشعار ويؤمن به معناه أنه معادٍ للمباي، الحزب الحاكم، "القادر على كلّ شيء". وكلّ عداء، أو معارضة للمباي، كان يعتبر عداء للدولة، ولحقّها في الوجود حتّى. باختصار: كلّ معارضة للحزب الحاكم هي معارضة، وعداء أيضا، للدولة ذاتها. تماما كما تعلّموا في الدول التي قدموا منها!
في الأيّام البعيدة تلك، كنت شابّا في أوائل العشرينات، لا أحسب للدنيا حسابا، ولا أرى منها عرض إصبعين! هكذا جاءني، في أواسط الستينات؟ صديق شيوعي من كفرياسيف، كان هو أيضا معلّما فطردوه لشيوعيّته، وطلب منّي تزكية القائمة الديمقراطية، يعني قائمة الحزب الشيوعي في انتخابات المعلّمين، خشية حرمانها من المشاركة في الانتخابات. لم أتردّد لحظة في تزكية القائمة المذكورة: تسجّل اسمك كاملا، ورقم هويّتك، ومكان عملك، ثمّ تضيف توقيعك. هذا هو معنى التزكية. فعلتها ببساطة، وما كنت لأخشى عواقبها حتّى!
زكّيت القائمة الديمقراطيّة، فلم تقع السماء على الأرض، وظلّت الشمس تطلع من الشرق كلّ صباح. لكنْ يبدو أنّ الشين بيت يمهل ولا يهمل. بل كان كثيرون، من المعلّمين وغير المعلّمين، يخافونه أكثر من الله. فالله مهما تفعل لا يحرمك فورا من تصريح، ولا يطردك من عمل! حتّى شراء جريدة الحزب المرخّصة كان يعتبره الشين بيت عصيانا يستحقّ العقاب، فكيف بتزكية قائمة معادية دونما خوف أو وجل؟!
في يوم ماطر، لم تظهر فيه السماء الزرقاء لحظة، شرّف المفتّش السيّىء الذكر إلى مدرستنا في حرفيش. زيارته في ذلك اليوم كانت في الظاهر روتينية. مفتّش هو، وعمله التفتيش. لكنّي عرفتُ، وعرف كلّ الزملاء معي في المدرسة، أنّ حضرتي المقصود بهذه الزيارة القارسة. تأديبا لي على فعلتي المنكرة بتزكية قائمة المعلّمين الديمقراطيّين. ولماذا في هذا الطقس القاسي بالذات؟ ظنّا منه أنّ المعلّمين في مثل هذا اليوم لا يتوقّعون زيارته، فلا يحضّرون!
دخلت الصفّ الثالث، أذكر، في درس حساب، وإذا بالمفتّش يقرع الباب، فيدخل ليجلس على كرسيّ المعلّم، ويبدأ عمله. لا بدّ له أوّلا من التفتيش على التحضير: فحص الوظيفة، حلّ الوظيفة وشرح الأسئلة الصعبة، شرح الدرس الجديد، وتعيين الوظيفة البيتيّة فيه. هذا كان في عرفهم تحضيرا. فإذا لم يدوّن المعلّم ذلك في يوميّاته فقد ضبطه المفتّش بدون تحضير، وعقابه على ذلك الويل والثبور!
درس حساب كان، لكنّه إذا توخّينا الدقّة درس هندسة؛ عن المخروط. بعد التفتيش على الوظيفة وحلّها، وفقا للمكتوب في اليوميّات، بدأت بشرح الدرس الجديد عن المخروط. رسمتُ للتلاميذ بيدي التي لا تتقن الرسم، مخروطا على اللوح، واستنتجنا معا خواصّه أيضا. ليس المطلوب طبعا معرفة مساحته الجانبيّة أو حجمه. تعرّف خواصّه فحسب. الكتاب المترجَم عن العبريّة، حرفيّا، يذكر "قبّعات بوريم" مثالا للمخروط. إلّا أنّ أحد التلاميذ النجباء رفع إصبعه، فذكر لي وللصفّ، وللمفتّش طبعا، أنّ عاتول زرع الدخّان مخروط أيضا. وافقتُ معه وحمدتُه على فطنته. التلاميذ في القرية لم يعرفوا يومها "قبّعات بوريم"، لكنّهم يعرفون تماما عاتول زرع الدخّان الذي لم يعرفه المفتش، فسألني عنه بعد الدرس.
لم يكتفِ المفتّش الهمام بوجبة الحساب. طلب من التلاميذ إخراج دفاترهم، لكي يُملي عليهم فقرة من كتاب القراءة، لاختبارهم في الإملاء أيضا. كانت نتيجتهم في الإملاء جيّدة أيضا. وإن كان بعضهم كتب القاف كافا، وفقا للفظ المفتّش الهمام. بعد الاختبار في الحساب والإملاء، شكرني المفتّش، منوّها أنّه من أقوى الثوالث التي زارها في المدارس. شكرتُه بدوري على إطرائه مستوى الصفّ، ظانّا أنّ الزيارة كانت موفّقة، ويا دار ما دخلك شرّ!
لكن الشرّ عاد إليّ مرّة أخرى، دونما سابق إنذار. في هذه المرّة وقع المفتّش على مبتغاه، فكتب تقريره الأسود المرجوّ، مرسلا منه نسخة إلى مدير المعارف العربيّة. كانت المدرسة في حرفيش يومها، بيتا لأحد الإقطاعيين من زمن الانتداب. كلّ غرفة في بيت الإقطاعي المذكور جعلوها غرفة تدريس بأربعة وعشرين قيراطا. أمّا الياخور الطويل، مربط المواشي يعني، فقسموه بالفنّير إلى غرف ثلاث، واحدة غرفة معلّمين، وبجوارها غرفتا تدريس!
في تلك الأيام كانوا في المدارس، أذكر، يتّبعون طريقة اسمها "التجميع". يقسمون الصفّين، في الرياضيات واللغات؟ إلى ثلاث مجموعات، ألف باء، جيم، وفقا لمستوى التلميذ في الموضوع. فكان من نصيبي يومها أن أدخل الفرقة جيم في العربيّة. يعني تلاميذ شبه أمّيين، في إحدى غرف الياخور ذاك. وجد المفتّش في الدرس، هذه المرّة، كلّ ما كان يرجوه وأكثر. رفع تقريره الأسود إلى مدير المعارف العربيّة، فوصلتْني من المذكور نسخة تحمل حرفيّا ما نقله إليه المفتّش من نقائص وعيوب في الدرس ذاك: تلاميذ بدون كتب، خطّ التلاميذ مشوّش، التلاميذ لا يجيدون القراءة.. من العيوب الكثيرة الواردة في الرسالة، ما زلتُ حتّى هذا اليوم أحفظ أحدها حرفيا: "شعشبون يعلو الجدران"! وأنا طبعا المسؤول عن كلّ العيوب في هذا الوضع المزري للصفّ! عرفتُ أن الرسالة تلك من مدير المعارف هي المقدّمة لطردي من التعليم، كما حدث لآخرين قبلي. كيف يبقى معلّم في عمله، وقد خرق المقبول والمعقول جهارا، دونما خوف أو حساب؟! لا بدّ من تأديبه بطرده ليتعلّم غيره أيضا!
المفتّش المذكور، وأولو الأمر من فوقه، كانوا ضدّي طبعا. وحضّروا المقدّمات لمعاقبتي بطردي من التعليم. لكنّ القدر كان فيما يبدو إلى جانبي. تخلّصْنا من المفتّش ذاك، وأصبح مديرنا مفتّشا علينا بعده. نعم مديرنا وبلديّاتي ذاك. قدّمت طلب انتقال إلى الكرمل، لألتحق بجامعة حيفا، كما كنت أفعل كلّ سنة، فلبّوا هذه المرّة طلبي. إمّا رغبة في مصلحتي، أو للتبرّؤ من دم هذا الصدّيق!



#سليمان_جبران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في حرفيش.. كلّ شيء تغيّر!
- النتاج الإدبي لا يمكن أن يكون موضوعيّا !
- من أَرَج الشباب
- خيال طبق الواقع
- عارف الماضي: خواطر موسيقيّة بقلم سمّيع غير موسيقيّ !
- .. وهبَ الشعرَ حياته، فضمن له الشعرُ الصدارة والخلود !
- تحقيق المخطوطات دونما مصطلحات !
- صيغة الحداثة في -أباريق مهشّمة-
- القديم والجديد في الصورة الشعرية عند الجواهري
- ظلّ الغيمة؟! قراءة في السيرة الذاتية لحنّا أبو حنّا*
- بناء الذاكرة في كتاب الأيّام
- كيف تحوّلت جزيرة مالطة إلى جزيرة الملوط؛
- توظيفات السجع في-الساق على الساق-
- الصعب والأصعب في رحلة فدوى طوقان
- الغزل احتجاجا؛ قراءة في غزل الجواهري المكشوف
- كاتب عصري !
- المفتّشة اليهوديّة !
- سالم لأنّه ظلّ.. سالما !
- ضحايا -أبو عمر-!
- كيف أتدبّر بعدها ؟!


المزيد.....




- قطر.. حمد بن جاسم ينشر صورة أرشيفية للأمير مع رئيس إيران الأ ...
- ما حقيقة فيديو لنزوح هائل من رفح؟
- ملف الذاكرة بين فرنسا والجزائر: بين -غياب الجرأة- و-رفض تقدي ...
- -دور السعودية باقتحام مصر خط بارليف في حرب 1973-.. تفاعل بال ...
- مراسلتنا: مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في بلدة بافليه جنوبي ...
- حرب غزة| قصف متواصل وبايدن يحذر: -لن نقدم أسلحة جديدة لإسرائ ...
- بايدن يحذر تل أبيب.. أمريكا ستتوقف عن تزويد إسرائيل بالأسلح ...
- كيف ردت كيم كارداشيان على متظاهرة هتفت -الحرية لفلسطين-؟
- -المشي في المتاهة-: نشاط قديم يساعد في الحد من التوتر والقلق ...
- غزةـ صدى الاحتجاجات يتجاوز الجامعات الأمريكية في عام انتخابي ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سليمان جبران - شعشبون يعلو الجدران!